مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الحداثة الرأسمالية ودورها في إبادة شعوب الأناضول وميزوبوتاميا

 

عبد الله أوجلان

أفضى ولوجُ ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ تحت نيرِ الهيمنةِ الرأسماليةِ إلى نتائج كارثيةٍ بصددِ الوقائعِ والحقائقِ الاجتماعية. ذلك أنّ التضادَّ مع ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ يحتلُّ المكانةَ الأهمَّ في منطقِ إنشاءِ الهيمنةِ الرأسمالية. كنا قد تناوَلنا سابقاً كيف أنّ الإسلامَ – الذي هو آخرُ ثقافةٍ شرقِ أوسطيةٍ كبرى – شَكَّلَ تهديداً كبيراً على أوروبا (من القرنِ الثامنِ إلى القرنِ السادسِ عشر)، سواءً من الغربِ عن طريقِ إسبانيا وسيشيليا، أم من الشرقِ عن طريقِ بلادِ الأناضول. وقد طُوِّرَت الهيمنةُ الرأسماليةُ رداً على هذا الخطرِ المحدق. وبإضافةِ تناقضِ الشرقِ – الغربِ التقليديِّ أيضاً إلى ذلك، سيُدرَكُ كَنَهُ هيمنةِ الغربِ الجديدةِ وفحواها بنحوٍ أفضل. إذ ما كان للهيمنةِ الرأسماليةِ الغربيةِ أنْ تتصاعدَ أو تترسخ، من دونِ النهشِ في ثقافةِ الشرقِ الأوسط. وما الحروبُ التي شَنَّها نابليون على مصر وموسكو في مستهلِّ القرنِ التاسعِ عشر، سوى أولُ تجربةٍ جادةٍ لحملةِ الهيمنةِ تلك. أما الإمبراطوريةُ الإنكليزيةُ التي انتزَعَت زمامَ ريادةِ الهيمنةِ مع هزيمةِ نابليون، فقد بسطَت نفوذَها على ثقافةِ الشرقِ الأوسط، وعزَّزَتها مع مرورِ الوقت. وقد كانت هذه الحملةُ أكبرُ غزوٍ حقَّقَه نظامُ المدنيةِ الغربيةِ على الشرقِ عموماً والشرقِ الأوسطِ على وجهِ التخصيص، منذ عهدِ الإسكندر، بما في ذلك غزواتُ العهدَين الرومانيِّ والبيزنطيِّ أيضاً. وقد صُيِّرَت الرأسماليةُ بذاتِ نفسِها هيمنةً راسخةً بُغيةَ التمكينِ لهذا الغزو. محالٌ علينا تحليلُ مجرياتِ القرنَين الأخيرَين في الشرقِ الأوسط، ما لَم نَقرأْ التاريخَ بعينٍ سليمة. فما جرى لَم يَكُ فتحاً شبيهاً بفتوحاتِ العثمانيين أو الإيرانيين أو جنكيزخان، أو أيةِ مدنيةٍ أخرى على وجهِ الإيجاز. حيث تستندُ إلى نظامِ المدنيةِ المركزيةِ المتمأسسِ مجدَّداً أيديولوجياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. موضوعُ الحديثِ هنا هو إحكامُ أوروبا الغربيةِ قبضتَها على نظامِ المدنيةِ المركزية، بناءً على تشييدِها إياه وفق الطرازِ الرأسماليّ، وتأسيسِها هيمنتَه (اعتباراً من القرنِ السادسِ عشر)؛ وذلك بَعدَ محاولاتٍ حثيثةٍ دامت ألفَ سنةٍ بحالِها (بدءاً من أولى الحروبِ الصليبيةِ في 1906 إلى الحربِ العراقيةِ الأخيرةِ في 2003).

لا تزالُ كيفيةُ غزوِ ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ خلال القرنَين الأخيرَين موضوعاً بعيداً عن الاستيعابِ والفهم (الجملة في النص التركي مبهمة، ولا تشير إلى مَن يتعسر عليه الفهم. أعتقد أن الجملة بحالتها المكتوبة أعلاه صحيحة). وبوِسعِنا استخلاصُ ذلك بأكثرِ حالاتِه شفافيةً من مأساةِ صَدّام حسين. فما يُزعَمُ أنها “حروبُ الاستقلال”، والتي دارت رَحاها في غضونِ القرنَين الأخيرَين، سواءً باسمِ الإسلامويةِ (السَّلَفِيّة) مجدَّداً، أم باسمِ القومويةِ العلمانية؛ هي في حقيقتِها حروبٌ ترمي إلى تطويرِ الهيمنةِ الرأسمالية، لا غير. حيث طُوِّرَ هذان الأسلوبان (الإسلاموية، القوموية) كنسختَين مشتَقَّتَين من الأيديولوجيا الاستشراقية، واستُخدِما تأسيساً على احتلالِ الذاتِ بالذات تحت اسمِ الرأسمالية. أي أنّه، وفيما خلا بضعةٍ من الحروبِ الريادية، فقد حقَّقَ النظامُ المهيمنُ توسعَه ونموَّه في واقعِ الأمرِ بِيَدِ الشرائحِ النخبويةِ في ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ بذاتِ نفسِها، عن طريقِ تلك الأجهزةِ الأيديولوجيةِ والسياسية (السلطة). هذه النقطةُ عاليةُ الأهمية. ومن دونِ فهمِها كما ينبغي، لن يَكُونَ بالمقدورِ تحليلُ أو حلُّ الوضعِ الراهنِ للشرقِ الأوسط. أو بالأحرى، فسيُبقى على المنطقةِ تتخبطُ في معمعانِ الفوضى عبر مشاريعِ النظامِ المهيمن (الشرق الأوسط الكبير)، سعياً إلى تفكيكِها وإعادةِ بنائِها على خلفيةِ المصالحِ الجوهريةِ للنظام.

لن نستطيعَ تحليلَ التطوراتِ الطارئةِ على الواقعِ الكرديِّ خلال القرنَين الأخيرَين، إلا على ضوءِ هذه المتغيراتِ الجاريةِ عالمياً وإقليمياً. حيث عُمِلَ على تضييقِ الخناقِ على كردستان تدريجياً في مطلعِ القرنِ التاسعِ عشر، من قِبَلِ الإمبراطوريةِ الإنكليزيةِ جنوباً عبر العراق، ومن قِبَلِ روسيا القيصريةِ شمالاً. في حين كانت الإمبراطوريةُ العثمانيةُ تخوضُ غمارَ حربِ الوجودِ أو العدمِ في سبيلِ الصمودِ والوقوفِ على قدَمَيها تحت ظلِّ حصارِ كِلتا القوتَين لها أيضاً. وما مساعي سليم الثالث  ومحمود الثاني الإصلاحيةُ سوى بهدفِ تأخيرِ الانهيار. أما محاولاتُ والي مصر محمد علي باشا في تبديلِ الأسرةِ الحاكمة، فما كان بالمقدورِ إيقافُها، إلا بالتنازلاتِ المُقَدَّمةِ إلى الإمبراطوريتَين الإنكليزيةِ والروسية. وبينما كانت الحربُ الملليةُ تُبَعثِرُ الإمبراطوريةَ وتُشَتِّتُها، فقد وُجِدَ في الالتحاقِ بالنظامِ الغربيِّ عن طريقِ الإصلاحاتِ حلاً تُعقَدُ عليه الآمالُ في عرقلةِ الاضمحلال. وما ميثاق التحالف ، إلغاءُ الانكشارية، تأسيسُ الجيشِ النظاميِّ الجديد، فرمانُ الإصلاحِ والتنظيمات، المَلَكِيّةُ الأولى والمَلَكِيّةُ الثانيةُ سوى لهذا الغرض. وحصيلةَ تلك الإصلاحات، تحققَ الالتحامُ تماماً بالنظامِ الرأسماليِّ المهيمن. وهذا ما آلَ بدورِه إلى انفتاحِ بوابةِ ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ على مصراعَيها أمام حملاتِ النظامِ القائمِ في الغزوِ والصَّهرِ مادياً ومعنوياً في آنٍ معاً. وتيارُ النزعةِ العثمانيةِ المُؤَسَّسُ لهذا الغرض، والتحديثُ البيروقراطيُّ الرامي إلى تحقيقِ ذلك؛ ليسا في جوهرِهما سوى بهدفِ وقفِ انهيارِ أجهزةِ السلطةِ التقليديةِ المُسَلَّطةِ على الشعب، وتصعيدِ الهيمنةِ الرأسمالية. وقد كانت إنكلترا المُوَجَّهَ الرئيسيَّ في هذا الشأن. في حين كان تأثيرُ فرنسا وألمانيا وروسيا أيضاً سيزدادُ طردياً.

عندما نَعكفُ على تحليلِ تمرداتِ القرنِ التاسعِ عشر وحركاتِه الاستقلالِ فيه، فمن الواجبِ الإدراكُ على أتَمِّ وجهٍ لحالةِ المَرَضِ الذي أَلَمَّ بالإمبراطورية، وأنّ الحُكّامَ الفعليين لها هم القوى الرأسماليةُ المهيمنة. فقد كان السلطانُ العثمانيُّ وبيروقراطيتُه يَحكمون الإمبراطوريةَ ظاهرياً، في حين أنّ هذا الحُكمَ لَم يَكُ يتميزُ بأيِّ معنى أكثر من كونِهم دُمىً. لَم يقتصر الأمرُ على الإمبراطوريةِ العثمانيةِ فحسب خلال القرنَين الأخيرَين، بل إنّ اللاعبين الأُصَلاء المتلاعبين بالإمبراطوريةِ الإيرانيةِ أيضاً هم قوى النظامِ المهيمنة، وما عداها كانوا رموزاً صُورية. ذلك أنّ الاحتلالَ والغزوَ والاستعمارَ المباشرَ كان يُكَلِّفُها باهظاً من جهة، ولا داعي له على صعيدِ مآربِها من جهةٍ أخرى. فبلوغُ المآربِ المهيمنةِ بِيَدِ الرموزِ الصّورية، كان يتطلبُ أقلَّ التكاليف، ويتحققُ بأوطدِ الأشكالِ على حدٍّ سواء. لكنّ جميعَ الشعوبِ (بما فيها الأتراكُ كأثنيةٍ مسيطرة) باشرَت بالانتفاضِ في وجهِ هذا النظامِ المهيمنِ الجديد. ما جرى حينها كان ردودَ فعلٍ عارمةً ومقاومةً شاملة. فقامَ النظامُ بتطويرِ مختلفِ الأساليبِ بغيةَ قمعِها ودَرءِ خطرِ الانشقاق. والاستشراقيةُ وحملاتُ التبشيرِ والنزعةُ الإصلاحيةُ كانت أساليباً رئيسيةً في هذا المضمار. كما أُضيفَت إليها التياراتُ المناديةُ بالمَلَكيةِ الدستوريةِ (المشروطية) والقومويةِ أيضاً. أما نزعةُ أمةِ الدولة، وكمحصلةٍ لجميعِ الأساليبِ المذكورة، فقد شادت دولاً قوميةً صغيرةً في المنطقة، وأعادت إرفاقَها بالنظامِ القائم. وإلى جانبِ كونِ الحركاتِ المناهِضةِ للنظام، والمتصاعدةِ على أرضيةِ ثورةِ أكتوبر، قد أَحرزَت مكاسباً ذاتَ شأن؛ إلا أنّ عجزَها عن تجاوُزِ الحداثةِ الرأسماليةِ وتطويرِ عصرانيةٍ جديدة، قد انتقلَ بها إلى أزمةٍ عميقة. هكذا، وبين أُرفِقَ فريقٌ بالنظامِ القائم، بات الباقون معارِضين مشلولي التأثير.

الدافعُ الأوليُّ وراءَ تركيزي العميقِ على المدنيةِ عموماً، وعلى الحداثةِ الرأسماليةِ خصوصاً في المُجَلَّداتِ الأربعةِ الأولى من مرافعتي، كان يرمي إلى القدرةِ على صياغةِ تحليلٍ سوسيولوجيٍّ لهذه النكباتِ الكبرى المُعاشةِ واحدةً وراء الأخرى؛ أي إلى رفعِ الكابوسِ الهابطِ على الحقيقةِ الكرديةِ خلال القرنَين الأخيرَين، وبعثرةِ الغيومِ السوداءِ التي تَعلوها. كما إنّ الشعبَين والثقافتَين الأعرقَ في المنطقة، واللتَين عاشتا بالتداخلِ مع الكردِ على طولِ التاريخِ الحضاريّ، وتَرَكَتا إمضاءاتِهما وبصماتِهما على أرقى ثقافاتِ المنطقة؛ قد أصبحتا قرباناً للإبادةِ الجماعية في عصرِ النكباتِ الكبرى تلك، فتَعَرَّضتا إلى التصفيةِ والزوال. حيث قُضِيَ كلياً على الثقافةِ الهيلينيةِ المُعَمِّرةِ ثلاثَ آلافِ سنةً بأكملِها في بلادِ الأناضول. وغدا الكردُ بأنفسِهم وجهاً لوجهٍ أمام الإبادةِ والزوالِ على يدِ الحربِ الخاصةِ الدائرةِ على ركيزةٍ ثقافيةٍ مستورةٍ من ركائزِ التطهيرِ العرقيّ. أما القوى المُبقى عليها دولاً قوميةً مسيطرة، فكأنها أَذابَت شعوبَها العربيةَ والفارسيةَ والتركيةَ وصَهَرَتها في بوتقةِ فاشياتِها البيضاءَ والسوداءَ والخضراء. كنتُ سعيتُ في مرافعتي المسماةِ بـ”سوسيولوجيا الحرية” على وجهِ الخصوصِ إلى التبيانِ بأنّ الحداثةَ الرأسماليةَ هي المسؤولُ الأصلُ عن هذا السياق. هذا وثمة الكثيرُ والقليلُ مما يجب إضافتُه إلى هذا المؤلَّف. لِنعملْ على إتمامِه من بعضِ النواحي حسبَ الأوضاعِ ووفقَ وجهاتِ النظر.

القوةُ المهيمنةُ المُعَيِّنةُ في غضونِ القرنَين الأخيرَين، هي الدولةُ القوميةُ الإنكليزيةُ وإمبراطوريتُها. فبينما قامَت هذه الإمبراطوريةُ بإرهاقِ وإنهاكِ القوى الكبرى في أوروبا عبر تأليبِها على بعضِها البعضِ، وجرِّها إلى الاشتباكِ داخلَ البرِّ الأوروبيِّ خلال القرونِ الثلاثةِ الأخيرة؛ فقد بَسَطَت نفوذَها على مستعمَراتِ تلك القوى وطرقِها التجارية، بعدَ أنْ كَسَرَت شوكَتَها خارجياً. في حين أَحكَمَت سيطرتَها على ما تبقى منها. كما أَخضَعَت أمريكا وشرقي آسيا وجنوبَها الشرقيَّ لرَقابتِها بنفسِ الأساليب، لتغدوَ إمبراطوريةً لا تغيبُ عنها الشمس. هذا وشَتَّتَت ثقافةَ الشرقِ الأوسطِ أيضاً بأساليب مشابهة خلال القرنَين الأخيرَين، وقَسَّمَتها إلى دُوَيلاتٍ قومية، لتَربطَها بعجلةِ احتكارِها اقتصادياً وأيديولوجياً. في حين دَأَبَت الإمبراطوريتان الإيرانيةُ والعثمانيةُ على الاستمرارِ بالحياةِ حسبَما يُسَمّى طيلةَ هذَين القرنَين. وانقَسمَ العربُ والإيرانيون والأتراكُ لاحقاً إلى دولٍ قوميةٍ كثيرةٍ سُمِّيَت بالمستقلة، ليواصلوا استقلالَهم. بينما إذا ما حُلِّلَ الوضعُ بكلِّ أعماقِه، فسيُلاحَظُ في واقعِ الأمرِ وبكلِّ سهولة، أنّ جزءاً من السيادةِ الممنهَجةِ للنظامِ المهيمنِ الوحيد، والمنتشرةِ في كافةِ أرجاءِ العالَم، قد نُشِّطَت وسُوِّقَ لها ضمن الشرقِ الأوسطِ أيضاً. وكنتُ رمَيتُ إلى كشفِ النقابِ عن هذا الواقع، عندما عالجتُ نظريةَ المدنيةِ المركزية. لا يُمكِنُ لأحدٍ التفكيرُ بالتاريخِ على أنه أجزاءٌ ثابتةٌ ومنفصلةٌ عن بعضِها بعضاً، إلا إذا كان عقلُه قد مُزِّقَ شرَّ تمزيق. والحقيقةُ هي نقيضُ ذلك. أي أنّ التاريخَ الكونيَّ حقيقة، وهو كحلقاتِ سلسلةٍ مترابطةٍ ببعضِها البعضِ إلى يومِنا الراهن، أو إنه يَسيلُ متدفقاً دون انقطاعٍ كالنهرِ الأمّ. ولا تبرحُ إنكلترا قوةً مُنشِئةً لنظامِ المدنيةِ المركزية، ومُؤَمِّنةً سيرورتَه بوصفِها القوةَ المهيمنةَ فيه، ولو ليس بالمستوى الذي كانت عليه سابقاً.

إنّ تقييمَ الدولَ القوميةَ في الشرقِ الأوسطِ بأنها ولاياتٌ ضمن هذا النظام، سوف يُقَرِّبُنا أكثر بكثير إلى الحقائقِ الاجتماعية. وكَونُ الولاياتِ جمهورياتٍ مستقلةً أو مَملَكة، لن يُغيرَ من جوهرِها شيئاً. أما القولُ بقليلٍ من التبعيةِ وكثيرٍ من الاستقلال، فهو محضُ هُراءٍ وتُرَّهات. ومَن لا يستوعبُ هذه الحقيقة، لن يستطيعَ فهمَ الانهيارِ الحاصلِ في روسيا السوفييتيةِ بعد سبعين عاماً، ولا إدارةَ الفاشيةِ البيضاءِ في الجمهوريةِ التركية، ولا الفاشيةَ السوداءَ في الدولِ القوميةِ العربية، ولا الفاشيةَ الخضراءَ في كلٍّ من إيران وباكستان وأفغانستان. كما وسيظلُّ قاصراً في تحليلِ حالاتِ الانهيارِ المباغِتِ وتغييرِ اللونِ لدى الدولِ المسماةِ بالمستقلةِ تماماً في أرجاءِ المعمورةِ قاطبةً، وكذلك تحليلِ كيفيةِ تحوُّلِ قوةٍ عملاقةٍ كالصين إلى قوةٍ رئيسيةٍ تَضخُّ روحَ الحياةِ في الرأسمالية.

لَم تُشَيَّدْ الدولُ القوميةُ في الشرقِ الأوسطِ بالثورات، بل شُيِّدَت بدعمٍ وسَوقٍ من النظامِ المهيمن. والهدفُ الأوليُّ لهذه الدول، هو استعمارُ شعوبِها باسمِ هذا النظامِ وبأشدِّ الأشكالِ صرامة. وكانت ناجحةً في هذه الناحية. والسياقُ عينُه يَسري في عمومِ أصقاعِ العالَمِ أيضاً. هذا وتتخفى هذه النُّظُمُ الاستعماريةُ خلف وضعِ الفوضى العارمةِ المتجذرةِ في الشرقِ الأوسط، والتي لا يُمكنُ الاستمرارُ بها إلا بنحوٍ وحشيٍّ مُريع. وسنستطيعُ فهمَ هذا الواقعِ بمنوالٍ أفضل، عند التمحيصِ في مجرياتِ عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ الأخيرِ النيوليبراليّ، والذي يُسَلِّطُ البطالةَ الشاملةَ على شعوبِ المنطقةِ جمعاء، ويَستهلكُ مواردَها، ويقضي على البيئةِ فيها. وفي نهايةِ المطاف، فسيطرةُ فريقٍ يُشَكِّلُ عشرة بالمائة من نسبةِ السكان، ويَكسبُ المالَ من المالِ في ظلِّ هذا النظام، وتَحَكُّمُه بجميعِ حقولِ الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والثقافية، وإبقاؤُه التعصبَ القومويَّ والدِّينَويَّ في الأجندةِ دوماً بغيةَ التسترِ على تَحَكُّمِه؛ كلُّ ذلك لا يُبرهنُ نماءَ البلدانِ أو استقلالَ أُمَمِها. إذ، وبينما تحيا الشعوبُ أفظعَ مراحلِها سوءاً، يُقامُ بصهرِ البقايا المتبقيةِ من الثقافةِ الاجتماعيةِ ضمن عجلةِ الدولةِ القومية. إننا نوَدِّعُ آخرَ أطلالِ كرامةِ الفردِ وعِزّته، في عصرٍ يُقالُ أنه عصرُ الحقوقِ والحرياتِ الفردية. بمقدورِنا النجاحُ في ذلك أثناء تحليلِ مصطلحِ الإبادةِ الجماعية، بالوصولِ إلى جوهرٍ أكثرَ نظاماً وأعمَّ نطاقاً (لم أفهم ما المراد من هذه الجملة، وما علاقته بالجملة السابقة). تُولى العنايةُ الفائقةُ لِلَفظِ “الفريد” إشارةً إلى الإبادةِ الجماعيةِ بحقِّ اليهود. بينما الحقيقةُ عكسُ ذلك. أي، ما من إباداتٍ جماعيةٍ “فريدة”. بل ثمة إباداتٌ جماعيةٌ بين صفوفِ كلِّ مجتمعٍ أو شعبٍ أو دولةٍ قومية، قليلةً كانت أم كثيرة. حيث تُنَفَّذُ في بعضِها جسدياً، بينما تتحققُ بالأغلبِ ثقافياً وبنحوٍ مستور. أما فرضُ التجرُّدِ من التاريخِ والاقتصادِ والإدارةِ والذهنية، فهو مؤثرٌ وتعسفيٌّ جائرٌ بقدرِ الإباداتِ الجسديةِ والثقافيةِ بأقلِّ تقدير.

يجب تحَوُّلُ الصناعويةِ ورأسِ المالِ الماليِّ إلى احتكار، كي يتمكنَ قانونُ الربحِ الأعظمِ من الدخولِ قيدَ التنفيذِ بوصفِه شكلاً رأسمالياً استغلالياً. أما التحولُ الاحتكاريّ، فيتطلبُ بدورِه سيادةَ الدولةِ القوميةِ الهادفةِ إلى بناءِ مجتمعٍ نمطيٍّ مُندرجٍ تحت رقابةِ أجهزةِ السلطةِ ورَصدِها إياه حتى أدقِّ أوعيتِه الشعريةِ في ظلِّ هيمنةِ الأيديولوجيا القوموية. هذا ويُنشَأُ الاحتكارُ الصناعويُّ واحتكارُ رأسِ المالِ الماليِّ على أرضيةِ الاقتصادِ بالتداخلِ والدعمِ المتبادَل مع احتكارِ الدولةِ القومية. وبتأسيسِ الاحتكارِ القومويِّ في الحقلِ الأيديولوجيّ، يَكُونُ قد اكتمَلَ السياق، وتَحَقَّقَ المجتمعُ المتجانسُ المأمول. وهذا ما مفادُه بالتالي انتصارَ الفاشية. أما اختزالُ الفاشيةِ إلى ممارساتِ هتلر وموسوليني، واعتبارُها وكأنها ظواهرٌ فريدةٌ للفاشية؛ فهو أحدُ أهمِّ تحريفاتِ الأيديولوجية الليبرالية.

المجتمعُ النمطيُّ مجتمعٌ مارٌّ من الإبادةِ الجماعية. فبالتنميطِ يُبتَرُ المجتمعُ من تاريخِه الحقيقيّ، ويُقضى على جميعِ الثقافاتِ المختلفةِ فيه عبر تصوراتٍ أيديولوجيةٍ وهميةٍ جوفاء (دين تصوريٌّ أجوف). هكذا، وفي الحينِ الذي يُطَبَّقُ فيه قانونُ الربحِ الأعظميِّ على ميدانِ الاقتصاد، يَكُونُ احتكارُ الدولةِ القوميةِ قد طُبِّقَ على السلطةِ أيضاً. ما تحقَّقَ مع الحربِ العالميةِ الثانية، هو بسطُ هيمنةِ إنكلترا وأمريكا وروسيا تجاه هيمنةِ ألمانيا واليابان وإيطاليا. أي إنه تَغلُّبُ أحدِ القطبَين المهيمنَين الاحتكاريَّين على الآخر، وليس انتصاراً للديمقراطيةِ ضد الفاشيةِ مثلما ادَّعَت الليبرالية. حيث هُزِمَ المعسكرُ الألمانيّ، لكنّ الفاشيةَ باعتبارِها شكلَ سلطة، قد وَلَجَت عصرَ توسُّعِ سيادتِها عالمياً. يَكتملُ عصرُ ازدهارِ الحداثةِ الرأسماليةِ وهيمنتِها مع عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ المتأخر (السيادة المُحكَمة على الاقتصادِ بعد سبعينياتِ القرن العشرين)، والذي يكتملُ بدورِه مع عصرِ تسليطِ الدولةِ القوميةِ على المجتمعِ المُنَمَّط (المارّ من الإبادةِ الجماعية). لَم تتقدمْ هذه المرحلةُ على خطٍّ مستقيم، دون ريب. بل بالمستطاعِ تقييمُها ارتباطاً بسياقِ ظهورِ الاتحادِ الأوروبيِّ إلى الوسط (بعد الستينيات)، وانهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ (بعد التسعينيات)، وانهيارِ الحداثةِ الرأسماليةِ عموماً والدولتيةِ القوميةِ الفاشيةِ على وجهِ الخصوص. وما العصرُ المسمى بما وراء الحداثةِ في حقيقتِه، سوى انهيارُ الحداثةِ الرأسماليةِ المتأخرةِ الصائرةِ فاشيةً، ودخولُها حالةَ الفوضى. من هنا، فبقدرِ تحديثِ الحداثةِ الرأسماليةِ لنفسِها، بمقدورِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ أيضاً النفاذ من الفوضى وهي تتحلى بقوةٍ كبيرة. ما سيُحَدِّدُ السياقَ ويرسمُه هنا، هو قوةُ المعنى والممارسة، والتي سيتسلحُ بها الطرفان المعنيان على الصُّعُدِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والأخلاقيةِ والفنية. وفي آخرِ المآل، سوف تتقابلُ قُوَّتان للحقيقة وجهاً لوجه، وستكافحان ضد بعضِهما بعضاً. وحسبَ الوضع، إما أنْ تتجذرَ الفوضى وتستمر، أو أنْ يتغلبَ أحدُ الطرفَين. لكنّ الصراعَ بهذه الأشكالِ سيأخذُ سنيناً، بل وربما قروناً مديدة.

وفي هذا السياق، يتميزُ الجوابُ الذي سيُعطى رداً على سؤالِ: ما الذي تَحَقَّقَ في أراضي الأناضولِ وميزوبوتاميا؟ بأهميةٍ كبرى بالنسبةِ لموضوعِنا. ذلك أنّ هذه الأراضي كانت استراتيجيةً بالنسبةِ للإمبراطوريةِ الإنكليزيةِ التي هي قوةٌ مهيمنةٌ في الحداثةِ الرأسمالية (وكذلك بالنسبةِ لألمانيا وروسيا المتصاعدتَين كندَّين لها)؛ وذلك نظراً لكونِها أراضياً شَهِدَت نشوءَ نظامِ المدنيةِ المركزيةِ العريقِ، الذي أَمَّنَ ديمومةَ وجودِه عليها مدى آلافِ السنين. كما وكانت تُحَتِّمُ إخضاعَها للسيطرةِ الأكيدةِ من أجلِ التحكمِ بالشرقِ الأوسطِ وبلادِ القوقاز وآسيا الوسطى والهند. لذا، تنتهلُ هذه الأراضي أهميتَها التاريخيةَ والمرحليةَ على حدٍّ سواء، من هذا الواقعِ القائم.

لا يُمكنُ صياغة تحليلٍ صائبٍ بشأنِ الكيانَين المُسَمَّيَين بـ”حركة تركيا الفتاة” و”جمعية الاتحاد والترقي” (أي، بشأنِ الأيديولوجياتِ القومويةِ والبنى السلطويةِ الحديثةِ المبتدئةِ من عهدِ الإصلاحِ الاجتماعيِّ عام 1840 إلى يومِنا الراهن)، إلا بناءً على علاقاتِهما مع حساباتِ الحداثةِ الرأسماليةِ في الهيمنة. ومثلما ذُكرِ سابقاً، فالإمبراطوريتان العثمانيةُ والإيرانيةُ اللتان تحتضِران، وانطلاقاً من حساباتِ الموازَنة في الهيمنة، كانتا قد وقعَتا في حالةٍ أَشبَهُ ما تَكُونان فيها بمستحاثاتٍ لا تعيش، بل سُمِحَ لها بالعيش. والسبيلُ الوحيدُ أمام بيروقراطياتِ الإمبراطوريةِ من أجلِ البقاءِ في السلطة، كان الاستمرارَ بوجودِها اعتماداً على قوةٍ أو عدةِ قوى مهيمنة. وتأسيساً على ذلك، شرعَت نخبٌ سلطويةٌ جديدةٌ بالانفصالِ والتمايزِ عن بعضِها بعضاً ارتباطاً بالقوى المهيمنةِ على المناطقِ الآنفةِ الذكر، أي إنكلترا وألمانيا وروسيا وجزئياً فرنسا. من هنا، كان تقليدُ تلك النخبِ للحداثةِ الرأسماليةِ أمراً لا مفرّ منه. فمثلما أنه ما كان لها أنْ تعيشَ بالثقافةِ الإمبراطوريةِ القديمة (لأنّ ثقافةَ الحداثةِ الرأسماليةِ كانت قد غَزَتها منذ زمنٍ بعيد)، فقد كان محالٌ عليها أيضاً التطلعُ إلى خَياراتِ الشعبِ الديمقراطية. أي، كان من غيرِ المتوَقَّعِ أبداً انتظارُ انطلاقةٍ ديمقراطيةٍ من البيروقراطياتِ التي تبني وجودَها على أرضيةِ نهبِ وسلبِ ثقافةِ الشعب، ومن الشريحةِ العليا التي تَبثُّ الروحَ فيها (فيما عدا حالات الاستثناء). إذ لَم يَكُن هناك أيّةُ فرصةٍ أمام هؤلاء سوى الالتحاقُ بقوى الهيمنةِ الجديدةِ كمُرفَقاتٍ تابعة. وما يتبقى من الأمرِ كان نقلَ تقليدِ الحداثةِ الرأسماليةِ كما هي عليه، من خلالِ تنورٍ بيروقراطيّ. هكذا، فقد وَلَجَت البيروقراطيةُ العثمانيةُ أيضاً هذا الطريق، مثلما كانت الحالُ في العالَمِ أجمع (في أوروبا إبان الثورةِ الفرنسيةِ قبلَ ذلك). فـ “حركةُ العثمانيين الشباب”، تَليها “حركةُ تركيا الفتاة” التي تحولَت إلى “جمعية الاتحادِ والترقي” اعتباراً من أعوامِ 1890، ليستا سوى خطوتَين حرجتَين مخطوّتَين على هذا الطريقِ بعدَ عهدِ باشواتِ الإصلاحِ الاجتماعيّ. وأيديولوجياً، فالتحولُ البادئُ أولاً بالنزعةِ العثمانوية، والمستمرُّ بنزعةِ الجامعةِ الإسلامية Panİslâmizm، كان قد انتهى إلى نزعةِ التركياتية. فبينما كان يجري التطلعُ من خلالِ النزعةِ العثمانويةِ إلى خلقِ دولةٍ قوميةٍ مبنيةٍ على جميعِ الأنقاضِ المتبقيةِ من الإمبراطورية، فقد جرَت المحاولاتُ بالمقابل للاستمرارِ بالإمبراطوريةِ عبر كيانٍ مؤلفٍ من الشعوبِ المسلمةِ (وخاصة بما يشملُ العربَ أيضاً) تأسيساً على الجامعةِ الإسلامية، وذلك إزاء ميولِ الانفصالِ التي تبدَّت لدى ذوي الجنسيةِ المسيحية. ومع تعزُّزِ نزعةِ الانفصالِ بين صفوفِ العرب، بَرَزَ تيارُ التركياتيةِ إلى المقدمة. وبينما كانت تجربةُ المَلَكيةِ الدستوريةِ (المشروطية) الأولى من طموحاتِ “حركة العثمانيين الشباب”، فقد كان طابعُ الأيديولوجيتَين الإسلامويةِ والتركياتيةِ في المشروطيةِ الثانيةِ هو السائد.

تحولَت أيديولوجيةُ التركياتيةِ إلى أيديولوجيا رسميةٍ في الدولةِ والأحزابِ المتمحورةِ حول الدولة، بدءاً من عامِ 1913 وحتى يومِنا الحاليّ. ولقوى الهيمنةِ نصيبُها في جميعِ هذه الميولِ والنزعات، قليلاً كان أم كثيراً. والأهمُّ أنه ثمةَ تسلُّلٌ ماسونيٌّ جادّ. حيث آزَرَ الماسونيون كافةَ الحركاتِ القومويةِ العلمانيةِ منذ أيامِ الثورةِ الفرنسية؛ وكأنّ ذلك ضربٌ من المحاسبةِ بين المنادين بالمجتمعيةِ المدنيةِ البورجوازيةِ وبين موالي السلطةِ الثيولوجية. وقد بَسَطوا نفوذَهم إلى أبعدِ حدٍّ في التياراتِ الثلاثةِ البارزةِ خلال السياقِ المبتدئِ بعهدِ الإصلاحِ الاجتماعيّ، وشَكَّلوا النخبةَ الحاكمةَ الأصلَ في نشوءِ جمعيةِ الاتحادِ والترقي وفي سلطتِها. هذا وكان للصهيونيةِ أيضاً تأثيرُها في تلك التياراتِ الثلاث. فالصهاينةُ الذين أعلَنوا أنفسَهم رسمياً كممثلي القومويةِ البورجوازيةِ اليهوديةِ عامَ 1896، كانوا مندفعين وراء إعادةِ تشييدِ الدولةِ الإسرائيليةِ اليهوديةِ القديمةِ بحيث يَكُونُ مركزُها القدس. والسبيلُ إلى ذلك كان يمرُّ من مدى نفوذِهم في الإمبراطوريةِ العثمانية. أما الجهازُ المساعدُ على ذلك، فكان جمعيةَ الاتحادِ والترقي. لقد كانت الجمعيةُ من حيث المضمونِ بنيةً أيديولوجيةً وسياسيةً معقدةً للغاية، على الرغمِ من إقرارِها بالتركياتيةِ كأيديولوجيةٍ رسميةٍ تزامُناً مع انقلابِ كانون الثاني 1913. والتركياتيةُ هنا كانت تُعَبِّرُ عن خليطٍ معقدٍ متألفٍ من حُثالةِ ورُسابةِ الأعضاءِ من شتى أنواعِ المِلَلِ والأقوامِ بدلاً من الأتراك، أكثر مِن ارتكازِها إلى ظاهرةٍ سوسيولوجية. وهذا الكيانُ الآنفُ الذِّكرِ كان مفتقراً لأيةِ خلفيةٍ طبقيةٍ أو أثنية، في هذه المرحلةِ التي طَغَت عليها حساباتُ بحثِ المؤسساتِ البيروقراطيةِ عن مستقبلٍ واعد، وعلى رأسِها الجيش. أي أنّ التركياتيةَ بجانبِها هذا كانت رُسابيةً واصطناعيةً مزيفةً في البداية. ثم عمِلَت على إعدادِ أرضيةٍ اجتماعيةٍ لذاتِها بعدَ انتزاعِها عرشَ السلطة، إذ دارت المساعي لتكوينِ طبقةٍ بورجوازيةٍ من أحشاءِ البيروقراطية. أما سلطاتُ الجمهورية، فقد جهدَت للاستمرارِ بهذا البرنامجِ مُطَوِّرةً إياه وصولاً إلى يومِنا. هذا وقد ظلَّت مبادئُها الأيديولوجيةُ عينَها على الدوام، على الرغمِ من انقسامِها مع الزمنِ إلى فريقٍ مركزيِّ الوِجهةِ وآخر إنسانيِّ المركز.

ما كان للبورجوازيةِ التي كانت ستُنَمّيها تلك النخبةُ السلطويةُ والأيديولوجيةُ المجرَّدةُ من الأرضيةِ الاجتماعيةِ والطبقيةِ في انطلاقتِها؛ ما كان لها إلا أنْ تنشَأَ عن طريقِ رأسماليةِ الدولة. ورأسماليةُ الدولةِ هي أكثر أشكالِ الرأسماليةِ رجعيةً وافتقاراً إلى الإبداع. بالتالي، فإما أنها كانت ستتصاعدُ بالاغتذاءِ والتطفلِ على الخارج، أو ستُؤَمِّنُ وجودَها بالاستيلاءِ على فائضِ القيمةِ من خلالِ تسليطِ الإرهابِ التعسفيِّ على المجتمعِ داخلياً. الحاجةُ إلى الدعمِ الخارجيِّ خلَقَت دوماً الأجواءَ المناسبةَ لتسللِ رأسِ المالِ اليهوديّ. بَيْدَ أنّ اليهودَ كانوا مسيطرين للغاية في عصرِ ازدهارِ الهيمنةِ الرأسماليةِ منذ عهدِ السلاجقة، وبالأخصِّ بعدَ أعوامِ 1550. فبعدَ طردِهم وسَبْيِهم من إسبانيا (1492)، تَخَندقَ فرعٌ منهم في أمستردامِ هولندا، بينما جَعلَ فرعُهم الهامُّ الثاني من خطِّ إزمير – سلانيك – إستنبول مركزاً له. ولَطالما تواجَدَ رأسُ المالِ اليهوديّ تقليدياً في الأناضول. أي أنّ اليهودَ كانوا شريحةَ الرأسماليين والمستثمرين الأكثر انتظاماً داخلياً وخارجياً على السواء. ورؤوسُ الأموالِ هذه دفَعَت اليهودَ إلى التركيزِ في حساباتِ الاستيطانِ بدايةً على روسيا، بولونيا، ألمانيا، هولندا، والجزيرة البريطانية. كانت ألمانيا البلدَ الذي دارَت حولَه الحساباتُ أكثر من غيره. وكان دورُ اليهودِ الأيديولوجيُّ والسياسيُّ والاقتصاديُّ حثيثاً في نشوءِ بورجوازيتِها، إذ رادوا أكثرَ النزعاتِ الألمانيةِ مثاليةً على الإطلاق، ولعبوا دوراً خَلاّقاً في تأجيجِ النعراتِ القومويةِ الألمانيةِ، وتصعيدِ رأسماليتِها بِيَدِ الدولةِ بتَعاطٍ يتشبَّهُ بالمَلِكِ أكثرَ من المَلِكِ نفسِه. هكذا أَبرزوا نزعةَ الهيمنةِ الألمانيةِ إلى الأمامِ في وجهِ ميولِ الهيمنةِ الروسيةِ والفرنسيةِ والإنكليزية. في حين كانت الصهيونيةُ نزعةً تَبَدَّت بالأغلب لدى البورجوازيةِ اليهوديةِ الألمانيةِ – النمساوية. كان يهودُ إنكلترا وروسيا أيضاً فعّالين. لكنّ البورجوازيةَ اليهوديةَ الألمانيةَ كانت دوماً في المقدمة حتى عامِ 1918، أي حتى انهيارِ الإمبراطوريةِ الألمانية.

بَرزَت التبعيةُ لرأسِ مالِ الدولةِ الألمانيةِ إلى المقدمة، حصيلةَ حساباتِ الموازَنةِ المتطورةِ في الإمبراطوريةِ العثمانيةِ مع السلطان عبد الحميد الثاني .فالتأثيرُ الألمانيُّ الحصينُ أصلاً في جمعيةِ الاتحادِ والترقي، لَم يَكُ في جوهرِه سوى نفوذَ رأسِ المالِ اليهوديّ. وبإضافةِ تأثيرِ الماسونيين ورأسِ المالِ اليهوديِّ المحليِّ إليه، فإنّ القومويةَ اليهوديةَ مَوضَعَت ورَسَّخَت الصهيونيةَ الأناضوليةَ التركيةَ بنحوٍ منيعٍ قبل الصهيونيةِ الإسرائيلية. لقد كانوا أصحابَ الدورِ الأصلِ في كلٍّ من: إعلان المَلَكيةِ الدستورية، انقلاب الأول من شهرِ كانون الثاني 1913، سياق التحرر الوطني فيما بين 1919 و1922، وإنشاء الجمهورية. ولهذا السببِ بالتحديد، أدَّت الأيديولوجيةُ التركياتية، أو استُخدِمَت لأداءِ دورِ السِّتارِ الأمثلِ لحجبِ حقيقتِهم وإخفائِها. لذا، فالتحليلاتُ التجريديةُ السطحيةُ والمارّةُ مرورَ الكِرامِ على نشوءِ الرأسماليةِ التركية، وبدلاً من أنْ توضحَ الأمور، فإنها تلعبُ دورَ التعميةِ والابتعادِ عن توضيحِ التطورِ الملموسِ كما هو، وتُحَقِّقُ تحريفَ المعنى. ذلك أنّ رأسَ المالِ اليهوديّ يَسري في الرأسماليةِ التركيةِ بتأثيرٍ ساحق، وبالأخصِّ في سياستِها الخارجيةِ وبُنيةِ الجيشِ والمؤسساتِ الأيديولوجيةِ والثقافية؛ بل وبما يُضارعُ منزلتَه داخلَ كافةِ البنى الأيديولوجيةِ والثقافيةِ وداخلَ أجهزةِ السلطةِ في الرأسماليةِ الألمانية، ويزيدُ عليها كثافةً وتحكماً. أي، ما من بورجوازيةٍ تركيةٍ في الوسط. بل هناك التركمانُ المقهورون والأنصارُ المسيحيون وحشودُ القرويين بوصفِهم جميعَهم جماهيرَ التركياتيةِ الحقة. وهناك بورجوازيةُ يهوديةُ ورأسُ مالٍ يهوديّ يتقمصان دورَ البورجوازيةِ التركيةِ بشكلٍ يُخَلِّفُ أفضلَ “أفلامِ يشيل جام ” وراءَه. وبمجردِ التمعنِ في حكايةِ وهبي كوج وشركتِه القابضةِ المهيمنةِ باعتبارِه الرجلَ الأولَ في بورجوازيةِ الجمهوريةِ التركية، نَكُونُ قد قَرأنا جميعَ حكاياتِ بورجوازايةِ تركيا. لا يُقالُ هنا أنّ البورجوازيةَ التركيةَ لَم تتشكلْ، ولَم تتواجدْ أبداً. بل ما نرمي إليه هو ضرورةُ النظرِ إلى كيفيةِ نشوئِها ميدانياً وعملياً، وتحليلِها بموجبِ ذلك.

لا يُمكنُ لأحدٍ أنْ يُشَكِّكَ في قوةِ رأسِ المالِ اليهوديٍّ بصفتِه قوةً بِنائيةً أساسيةً في عصرِ الحداثةِ الرأسمالية. كما ومن المحالِ أيضاً التشكيكُ في قوتِه الفكريةِ والثقافيةِ أيضاً. وفي الوقتِ نفسِه، ما من ريبٍ إطلاقاً بشأنِ الدورِ الرياديِّ الذي تكفَّلَ به المتنورون اليهود وكادحوه بين صفوفِ حركاتِ المقهورين الأيديولوجيةِ والميدانية. إننا لا نرمي هنا إلى تأجيجِ المشاعرِ المناهِضةِ للساميّة، بل إلى التحديدِ السليمِ للتخندقِ التاريخيِّ والاجتماعيِّ لكلٍّ من الرأسماليةِ والحركاتِ المناهِضةِ لها على حدٍّ سواء.

مع انهزامِ الإمبراطوريةِ الألمانيةِ عامَ 1918، برزَ رأسُ المالِ اليهوديِّ المتمركزُ في إنكلترا وهولندا إلى المقدمة. أو بالأصح، خَرجَت إنكلترا منتصرةً دوماً في نهايةِ كلِّ مطافٍ من صراعِ قوى الهيمنةِ في كِلا الطرفَين اللذَين كانا على تنافسٍ قوميٍّ منذ القرنِ السادسِ عشر (الإمبراطورية الإسبانية أولاً، ثم الإمبراطورية الفرنسية، وأخيراً الإمبراطوريات الألمانية والروسية والعثمانية). ودورُ رأسِ المالِ اليهوديِّ في إحرازِ هذا الانتصارِ بالغُ الأهمية؛ تماماً مثلما الحالُ في تشييدِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ التي كانت سابقاً مستعمَرةً إنكليزية، وفي النهوضِ بها إلى منزلةِ القوةِ المهيمنة. هذا وينبغي البحثُ في هذا الواقعِ عن أسبابِ ودافعِ ظهورِ هتلر والنازيين. فرأسُ المالِ اليهوديِّ الذي لعبَ دوراً استراتيجياً في تأسيسِ رأسماليةِ دولةٍ احتكاريةٍ شوفينيةٍ متقمصاً القناعَ الألمانيّ، اعتُبِرَ هو المسؤول عن هزيمةِ ألمانيا في 1918. كان حزبُ هتلر يتكونُ من صِغارِ البورجوازيين ذوي الآفاقِ المحدودةِ والآراءِ الضيقة. والأيديولوجيا الشوفينيةُ التي تَرعرعوا عليها، كانت تُثيرُ لديهم بغضاً ومقتاً شديدَين إزاء اليهودِ المتوارين خلف القناعِ الألمانيّ. وقد انتهى بهم هذا الحقدُ البغيضُ إلى الإبادةِ الجماعية. ذلك أنهم كانوا يُلقون مسؤوليةَ توسعِ السيطرةِ الإنكليزيةِ وتشييدِ روسيا السوفييتيةِ أيضاً على عاتقِ اليهود. زِدْ على ذلك أنّ العديدَ من الاشتراكيين ذوي الأصولِ اليهوديةِ من أمثالِ روزا لوكسمبورغ، كانوا لعبوا دوراً طليعياً في الحربِ الداخلية. هذا وكان كارل ماركس أيضاً يهوديَّ الأصل. من هنا، ولدى وضعِ كلِّ هذه العواملِ جنباً إلى جنب، فستتوضحُ حقيقةُ الرأسماليةِ والإبادةِ الجماعيةِ بنحوٍ أفضل.

حقيقةٌ أخرى هامةٌ ينبغي إضافتها، ألا وهي الفرقُ بين نزعتَي القومويةِ اليهودية (الصهيونية) والكونيةِ اليهودية. فعلى الرغمِ من المنزلةِ ذاتِ الشأنِ لإسرائيل، وبالتالي للقومويةِ اليهودية؛ إلا إنّ اليهودَ القائلين بالكونيةِ أيضاً تمتعوا بالنفوذِ في كلِّ الأوقات، سواءً دولياً، أم في معسكراتِ الكادحين. وبينما تتركزُ أنباهُ اليهودِ القومويين في إسرائيل، فإنّ دقةَ اليهودِ العالميين تتجهُ (عبرَ الشركاتِ العالمية) صوب احتكاراتِ الاقتصادِ والسلطةِ في الدولِ القوميةِ المحلية، ونحو تمَوقُعِها الوطيدِ في هذه الأماكن، بالإضافةِ إلى دورِها الراسخِ بصددِ الشركاتِ الدوليةِ والأجهزةِ الإعلاميةِ والأنشطةِ الثقافية.

من هنا، فكلُّ أيديولوجيةٍ وثقافيةٍ قومويةٍ ودولتيةٍ قومية، لا تَتْبَعُ رأسَ المالِ هذا ظاهرياً فحسب، بل وجوهرياً أيضاً. وفي النزعةِ الاحتكاريةِ لكلِّ دولةٍ قوميةٍ أيضاً أصابعُ رأسِ المالِ اليهوديِّ العالميّ، تماماً مثلما الحالُ في نزعةِ الاحتكارِ الاقتصاديّ؛ وطِبقاً للدورِ الكونيِّ الذي يلعبُه اليهودُ الاشتراكيون في حركاتِ المسحوقين المضطَهَدين المناديةِ بالحريةِ والمساواة.

وانطلاقاً من أسبابٍ استراتيجية (إسرائيل التي ستُشادُ في فلسطين)، تتميزُ أراضي الأناضولِ بدورٍ تاريخيٍّ بالنسبةِ لليهودية، دخولاً كان أم خروجاً. وقد ظلَّ هذا الدورُ الاستراتيجيُّ سارياً منذ أيامِ البابليين والآشوريين والعربِ والرومِ والبيزنطيين. فطريقُ الخروجِ والدخولِ من وإلى القدس (وميزوبوتاميا قِسمياً)، يمرُّ من بلادِ الأناضول. لذا، فالأناضولُ بالنسبةِ إلى إسرائيل تُعَدُّ أهمَّ عتبةٍ للانطلاق، ومحطةً استراتيجيةً في نظرِ الصهاينة. عِلماً أنّ خطَّ إزمير – مانيسا وسلانيك – أدرنة اعتُبِرَ مدةً طويلةً من الزمنِ بمثابةِ وطنٍ أمٍّ من قِبَلِ مجموعةٍ من اليهود. ولهذا، فقد طَوَّرَت هذه الأماكنِ وحَثَّت على تنميتِها.

وارتباطاً بذلك يتسمُ انقلابُ الأولِ من كانون الثاني 1913 بأهميةٍ ملحوظة، والذي أنجزَه أنور باشا الذي اتَّخَذَ من النموذجِ الألمانيِّ أساساً (هذا وكان قامَ قبل ذلك بحملةٍ شبيهةٍ من أجلِ إعلان الحُكمِ الدستوريِّ أيضاً). لقد كان شأنُ الكوادرِ اليهودِ في عِزِّه آنذاك داخل ألمانيا. ومن أمثالِ هؤلاءِ الكوادرِ ليمان فون ساندرس وغولتز باشا، اللذَين درَّبا أنور باشا ومجموعتَه. أما انهيارُ الإمبراطوريتَين الألمانيةِ والعثمانية، فقد انتقلَ بزمامِ الريادةِ إلى الكوادرِ اليهودِ الموالين لإنكلترا. والصراعُ العنيفُ على القيادةِ في حربِ التحريرِ على علاقةٍ بهذا الانتقال. وبالرغمِ من كونِ خروجِ مصطفى كمال باشا إلى سامسون بمصادقةٍ من إنكلترا حقيقةً قائمة، إلا إنّ دورَه في تمردِ الأناضولِ كان مبنياً على الاستقلالِ والروحِ الوطنية. اتَّخذَت إنكلترا إجراءَين اثنَين، احتياطاً لهذا الوضعِ الذي أدركَته: دعمُ احتلالِ اليونان خارجياً، وقمعُ التمرد؛ وإلا، فالتحكمُ بمصطفى كمال داخلياً عن طريقِ عصمت إينونو وفوزي جاقماق. ومع هزيمةِ اليونانيين (البورجوازيةُ اليونانيةُ المتواطئةُ مواليةٌ تقليدياً لإنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية)، بات الشغلُ الشاغلُ منحصراً في تعزيزِ شأنِ عصمت باشا وفوزي باشا. ومثلما أنه لَم يَكُ لهذَين الشخصَين دورٌ في زعامةِ التمردِ أو البتِّ فيه، فإنّ كِلَيهما كانا على رأسِ مهامِّهما المُوكَلةِ إليهما، في الجيشِ الذي بقيَ في إستنبول تحت حاكميةِ إنكلترا وحلفائِها. ثم انخرطا، أو بالأحرى أُرسِلا فيما بعد إلى صفوفِ حركةِ التمرد، دون اتخاذِ أيّةِ تدابير. وبناءً عليه، وارتكازاً إلى حججٍ متغايرة، فقد سُوِّيَ أمرُ أربعةِ باشواتٍ من أصل الباشواتِ الخمسةِ المتزعمين للتمرد (كاظم قره بكر، علي فؤاد جبسوي، رؤوف أورباي، ورأفت بالا”. أما مصطفى كمال باشا المتبقي من بين هؤلاء، فقد حافظَ على مكانِه، سواءً بسببِ منزلتِه الاستراتيجية، أم بدافعِ سياسةِ التوازنِ التي زاوَلَها. أما النظامُ الذي بمقدورِنا إطلاقُ تسميةِ “الفاشيةِ التركيةِ البيضاء” عليه، والذي دخلَ على شكلِ برنامجٍ سياسيٍّ حيزَ التنفيذِ مع سلسلةِ مؤامراتِ عامِ 1925 المبتدئةِ بتلك المُحاكةِ ضد الشيخ سعيد؛ فعلى الرغمِ من تعريفِه لذاتِه بكونِه نظاماً تركياتياً علمانياً متزمتاً، إلا إنه مضموناً دينٌ جديدٌ ميتافيزيقيٌّ أكثر إرهاباً ودوغمائيةً بأضعافٍ مضاعفة. إنه الدينُ الجديدُ الذي فَصَّلَته الأيديولوجيا اليهوديةُ الضليعةُ تاريخياً في هذا المضمارِ من أجلِ الجمهوريةِ التركيةِ الراهنة. فما تأليهُ مصطفى كمال، وتصييرُ إينونو نبياً وفوزي جاقماق قيادياً (مثل يشوعا وداوود)، سوى من دواعي الميثولوجيا اليهودية. وبالرغمِ من الغالبيةِ الساحقةِ للمجتمعِ التركيّ، إلا إنّ التركياتيةَ التي غدَت أيديولوجيةَ الدينِ الجديدِ المُعلَنِ والصائرِ منهاجاً سياسياً، تُشَكِّلُ الشيفرةَ الوراثيةَ في تطبيقِ وممارسةِ الإرهابِ والإباداتِ الجماعيةِ والاستغلالِ حتى يومِنا الراهن.

لقد عُمِلَ على شلِّ تأثيرِ مصطفى كمال عبر محاولةِ اغتيالِه في إزمير. وجُرَّ إلى الاستفزازِ بإثارةِ العصياناتِ الكردية. وأُحيلَ صديقُه المقَرَّبُ إليه فتحي أوكيار من منصبِه في رئاسةِ الوزراءِ لهذا السبب (حيث كان غيرَ موالٍ لقمعِ التمرداتِ الكرديةِ بالدم)، وأُجلِسَ عصمت باشا محلَّه. وتُرِكَ الجيشُ بأكملِه أيضاً تحت إِمرةِ فوزي باشا. هكذا أصبحَت مكانةُ مصطفى كمال عبارة عن ضربٍ من ضروبِ الأَسْرِ في جانكاياÇankaya، مع الحظيِ بلقبِ رئيسِ الجمهوريةِ الرمزيّ. هذا ويُقالُ أنّ إنكلترا أيضاً هُزِمَت في حربِ التحريرِ الوطنية. إنه افتراءٌ ما بَعدَه افتراء. فكأنّ دورَ إنكلترا بات مجزوماً به في أيِّ تحريرٍ وارد، اعتباراً من 1922. وقد نالَت مرامَها مع الجمهوريةِ التركيةِ التي رَفَعَت يدَ الدعمِ عن اليونانيين منذ زمنٍ بعيد (وقد سَحَبَت إنكلترا السلطانَ وحيد الدين أيضاً)، والتي باشرَت بتشييدِ دولتِها القوميةِ بكوادرِها الخاصةِ بها، وانحَسَرَت من كونِها إمبراطوريةً عظمى إلى جمهوريةٍ محصورةٍ في الأناضولِ فقط. والبرهانُ الآخرُ على ذلك أيضاً، هو الإبقاءُ دوماً على الجمهوريةِ كالسدِّ الحاجزِ أمام روسيا السوفييتية. ولهذا السببِ فإنّ المجازرَ التي بُوشِرَ بها مع مصطفى صبحي، قد دامت بِحَقِّ الاشتراكيين حتى راهنِنا. أما إبادةُ الأرمن، فكانت مجردَ بداية، لا غير. في حين لا تزالُ الإبادةُ الثقافيةُ المُسَلَّطةُ على الكردِ مستمرةً إلى الآن. أما السريان والتركمانُ والأقلياتُ والثقافاتُ الأخرى، فأُجبِرَت على التخلي عن عفويتِها وذاتانيتِها من خلالِ الإباداتِ الصغيرةِ المُرَوِّعةِ منها والمعقَّدةِ من قِبَلِ النزعةِ التركياتية.

من هنا، فتساؤلُ: وما علاقةُ كلِّ ذلك باليهودِ القومويين والعالَميين وبرأسِ المالِ اليهوديّ؟ ليس عبثاً، بل هو السؤالُ الحَرِجُ والأوليُّ لأجلِ فهمِ تاريخِ التركياتيةِ خلال القرنِ الأخير. فتاريخُ التركياتيةِ التي لا تحتوي على الأتراك، هو تأسيسٌ أيديولوجيّ؛ وإعدادٌ بنسبةِ خمسين بالمائة لإسرائيلَ تمهيديةٍ سَبّاقةٍ لفلسطين، نظرياً كان أم عملياً. ولولا سياساتُ المُوازَنةِ التي سَلَكَها مصطفى كمال (بين الاتحادِ السوفييتيِّ وإنكلترا خارجياً، وبين مختلفِ الطبقاتِ والشرائحِ داخلياً)، لَما كان بمستطاعِ أيةِ قوةٍ إخراجُ الكياناتِ الجديدةِ في الأناضولِ من تحت سيطرةِ أنور باشا وكوادرِ الاتحادِ والترقي، ولا كبحُ جِماحِ التركياتيةِ من التصاعدِ إلى مستوى فاشيٍّ شوفينيٍّ يُخَلِّفُ الفاشيةَ الألمانيةَ وراءه. وهذا ما كان مفادُه بالتالي انهيارَ الجمهوريةِ قبلَ بلوغِ الحربِ العالميةِ الثانية (وهل كانت ستُشادُ الجمهوريةُ حينها؟ هذا أيضاً سؤالٌ آخر). أما وفاةُ مصطفى كمال عشيةَ الحربِ العالميةِ الثانية، تنافُسُ إنكلترا وألمانيا على تركيا وبلادِ الأناضول فيما بين عامَي 1938 و1945، الجزمُ بالهيمنةِ الأمريكيةِ بعدَ عامِ 1945، وإضفاءُ تركيا الطابعَ الرسميَّ على ترجيحِها لِكَنَهِ نظامِها بدخولِها حلفَ الناتو؛ كلُّ ذلك بمثابةِ امتدادٍ لأحداثِ عامِ 1922. في حين أنّ “حزب الشعب الجمهوريّ CHP” – الذي هو حزبُ الجمهورية – كان بمثابةِ ضمانٍ للنظامِ القائم. والاسمُ الآخرُ لهذا النظامِ المستمرِّ بالانقلاباتِ والمؤامراتِ حتى مطلعِ أعوامِ الألفين، هو “الفاشيةُ التركيةُ البيضاء”. المقصودُ من لك هو التركياتيةُ المُصطَنعة، وتَنميطُ المجتمعِ بالإرهابِ وفقاً لهذه التركياتية؛ بالإضافةِ إلى عدمِ الاعترافِ بحقِّ الحياةِ لأيٍّ كان أو أيةِ ثقافةٍ كانت، ما دامت خارجَ إطارِ هذا التعريف.

أما فريقُ الرأسماليةِ التركيةِ المنزلقةِ من الأبيضِ إلى الأخضرِ مع نظريةِ “الحزام الأخضر” للهيمنةِ الأمريكية، والذي تظاهرَ بالنزعةِ الأناضولية، والتَحَفَ الرداءَ الإسلاميّ؛ فكان منذ البدايةِ يَهرعُ وراء تحقيقِ الانطلاقة. واليسارُ التركيُّ وحركةُ حريةِ كردستان قد أتاحا له فرصةَ ذلك. ذلك أنّ إصابةَ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء بالإنهاكِ والعُزلةِ حصيلةَ الحربِ التي خاضَتها ضد اليسارِ وحركةِ حريةِ كردستان، قد قَوَّى شوكةَ جناحِ النزعةِ الأناضولية. هكذا، فالحركةُ الإسلاميةُ القومويةُ التي أَطلَقَت أمريكا عِنانَها ضد شعوبِ المنطقةِ من جهة، وضد توسعِ روسيا السوفييتيةِ من الجهةِ الأخرى، قد تَكَرَّسَت في أوساطِ تركيا عبر الائتلافاتِ أولاً، ثم بمفردِها بعد حلولِ أعوامِ الألفين. وبقدرِ ما كانت القومويةُ الصهيونيةُ اليهوديةُ نافذةً في الفاشيةِ التركيةِ البيضاء، فإنّ رأسَ المالِ اليهوديِّ العالميِّ نافذٌ بالمِثلِ في الفاشيةِ التركيةِ الخضراء أيضاً. وآخِرُ حزبٍ بَتَّ هؤلاء فيه كصمّامِ أمان، هو حزبُ العدالةِ والتنمية AKP. وبقدرِ ما كانت القومويةُ اليهوديةُ الصهيونيةُ مؤثرةً في ولادةِ البورجوازيةِ البيروقراطيةِ التركية، فإنّ رأسَ المالِ اليهوديِّ العالميِّ (الكرمشاكي) أيضاً مؤثرٌ بالقدرِ نفسِه في تطوُّرِ بورجوازيةِ الأناضول واعتلائِها دفةَ الحكم (هذا وتُسمى أيضاً برأسِ المالِ الليبراليِّ الخصوصيّ).لقد سعى كلٌّ من أنور باشا ونهال آتسز وألب أرسلان توركيش  وحزب الحركة القومية MHP (يُرجِعُ هذا الحزبُ تأسيسَه إلى “الحزبِ الوطنيّMillet Partisi” الذي أسسه فوزي جاقماق) تمثيلَ الفاشيةِ من النوعِ الهتلريّ. لكنّ هزيمةَ ألمانيا خَفَّضَت من احتمالِ اعتلاءِ هذا الفريق، الذي نستطيعُ تسميتَه بـ”الفاشيةِ التركيةِ السوداء”، عرشَ السلطة. هذا وتُعَدُّ الأجنحةُ الثلاثةُ للفاشيةِ امتداداً للقوى المهيمنةِ الخارجية. وأيةُ قوةٍ منها تضعُ يدَها على النظامِ القائم، فإنّ امتدادَها هو الذي يجلسُ على كرسيِّ السلطةِ الداخليّة.

سياقُ القرنَين الأخيرَين من تاريخِ تركيا، ليس مستقلاً عن القوى المهيمنةِ الخارجية؛ بل إنها بمنزلةِ “ولايةٍ خاصةٍ” مُنشَأةٍ بعنايةٍ فائقةٍ ضمن أواصرِ تَبَعيةٍ وثيقة. أي أنّ مكانةَ تركيا في نقطةِ التقاطعِ الحرجة، تَجعلُ من الانعكاسِ الخاصِّ لتوازنِ الهيمنةِ الدوليةِ أمراً ضرورياً. فبالرغمِ من مزاعمِها في الاستقلالِ القاطع، إلا إنها البلدُ والوطنُ والدولةُ القوميةُ التابعةُ للنظامِ المهيمنِ الذي يتحكمُ بها بالأكثر، ويتوخى الدقةَ العليا كي لا تتزعزع. من هنا، محالٌ صياغةُ تحليلٍ صائبٍ بصددِ تركيا، ما لَم يُحَلَّلْ نظامُ الهيمنةِ الرأسماليةِ بمنوالٍ صحيح. والعكسُ صحيح. أي أنّ الحلَّ الكونيَّ للنظامِ القائم، هو حلٌّ لتركيا. وهكذا يَغدو ممكناً التحليلُ السليمُ لحقائقِ الإبادةِ أيضاً.

أما الإرهابُ المُسَلَّطُ على الشعوبِ المسيحية، وتجاربُ الصهرِ والإبادةِ المُطَبَّقةُ بحقِّ كلٍّ من الأرمنِ والسريان والبونتوس بالإضافةِ إلى المسلمين من مختلفِ الثقافات؛ فلن يَسَعَنا تحليلُها، إلا بناءً على ممارساتِ الحداثةِ الرأسماليةِ الجاريةِ في بلادِ الأناضولِ وأراضي ميزوبوتاميا. ذلك أنّ عَزوَ إبادةِ الأرمنِ إلى الفاشيةِ التركيةِ البيضاء وحسب (أي إلى جمعية الاتحاد والترقي والأيديولوجيا الرسمية لـCHP، وحركته السياسية الممنهجة)، يُعَدُّ تناوُلاً ضيقاً. ففي جذورِ هذه الإبادةِ يتخفى تاريخٌ ضاربٌ في القِدَمِ وعواملٌ اجتماعيةٌ أكثر تعقيداً. حيث تحتلُّ الشريحةُ العليا من القبائلِ الأرمنيةِ أيضاً مكانةً متميزةً وهامةً في تكوينِ رأسِ المالِ في الثقافةِ الشرقِ الأوسطية، حتى ولو ليس بالقدرِ الذي هو عليه رأسُ المالِ اليهوديّ. فاتخاذُ الأرمنِ من المدنِ مركزاً لهم بنحوٍ مبكر، مهارتُهم في المِهَنِ الحرة، ومزاياهم التجاريةُ المتفوقة؛ كلُّ ذلك جعلَ منهم مستثمِرين وأصحابَ رأسِ مالٍ منذ أيامِ الدولةِ الحثية. ونخصُّ بالذِّكرِ أنهم كانوا بمنزلةِ العنصرِ الأوليِّ في بروزِ النزعةِ المدينيةِ في الأناضولِ وميزوبوتاميا. ومع مجيء المسيحية (في أعوامِ 300 م)، اختلفَ دورُهم هذا بشكلٍ أكبر، وبرزَ حضورُهم في الميدانِ أكثر، مُحَقِّقين بذلك نوعاً من الولادةِ الباكرةِ للرأسماليةِ في الشرقِ الأوسط. مقصدُنا من الباكرةِ هنا هو الولادةُ الممنهجة. وإلا، فالتراكمُ الرأسماليُّ كان يتحققُ منذ عهدِ السومريين على يدِ العناصرِ الهامشيةِ في كلِّ ثقافة. لكنّ البورجوازيةَ الأرمنيةَ صَيَّرَت هذا التراكمَ مؤثراً ونظامياً لأولِ مرةٍ مع المسيحية. حيث إنّ نفوذَهم في الحِرَفِ الحرةِ والتجارةِ كان يُمَكِّنُهم من ذلك. لَطالما أثارَ تكديسُ رأسِ المالِ حفيظةَ ومقتَ المجتمعاتِ العشائريةِ والقبائليةِ ذاتِ النظامِ المشاعيّ، وأدى إلى مناهضتِها إياه في كلِّ الأزمان؛ نظراً للتخريباتِ التي يتسببُ بها دوماً في ثقافاتِهم المفعمةِ بروحِ المساواة، ولأنه يؤولُ إلى التناقضاتِ المؤسساتيةِ تزامُناً مع تطويرِ كياناتِ المدينةِ والطبقةِ والدولة. من هنا، ينبغي وضعُ وجودِ هكذا تناقضٍ في الحُسبانِ دوماً في جذورِ إبادةِ الأرمن.

إنّ القرنَ السادسَ عشر، الذي يُعَدُّ بدايةَ عصرِ تصاعُدِ الحداثةِ الرأسمالية، هو قرنٌ شَهِدَ صُعودَ البورجوازيةِ الأرمنيةِ أيضاً. حيث كانت تؤدي دوراً رئيسياً في صناعاتِ المانيفاكتورات (المصانع اليدوية) وتجارتِها ضمن كلٍّ من الإمبراطوريتَين الإيرانيةِ والعثمانية. كما وكان لها نصيبُها الوافرُ في الاحتكاراتِ التجاريةِ الناشطةِ في مساحاتٍ واسعةٍ تمتدُّ من مدينتَي بندر عباس وأصفهان  في إيران، لتطالَ أوروبا والأراضي الآسيويةَ في الشرقِ الأقصى عن طريقِ إستنبول وإزمير. وكان ثمة أحياءٌ أرمنيةٌ راقيةٌ في العديدِ من المدنِ الرئيسية. أي أنّ البورجوازيةَ الأرمنية، الصغيرةَ منها والكبيرة، كانت أساساً ذاتَ وزنٍ في الحقلِ الاقتصاديِّ حتى القرنِ التاسعِ عشر. هذا وكانت تتميزُ بدورٍ متقدمٍ في الفنِّ المعماريِّ أيضاً، بحيث تَرَكَت توقيعَها على الكثيرِ من المنجزاتِ المعماريةِ في الشرقِ الأوسط. لذا، كان اكتسابُ الأرمنِ إلى صفِّهم المَرامَ الأولَ للمبعوثين المسيحيين الغربيين، أثناء شروعِهم في تسييرِ أنشطةٍ دؤوبةٍ داخل الإمبراطوريةِ العثمانيةِ مع حلولِ القرنِ التاسعِ عشر. وبينما اعتمدَت الكنائسُ السريانيةُ والرومانيةُ على الاكتفاءِ الذاتيّ، كانت الكنائسُ الأرمنيةُ تمرُّ بأوضاعٍ حرجة. ذلك أنّها كانت تتموقعُ في أماكنَ متبعثرةٍ إلى آخرِ حدٍّ بين صفوفِ الشعوبِ الإسلامية، في حين كانت الأراضي التي تَقطنُها غالبيةٌ أرمنيةٌ محدودةً للغاية. ونخصُّ بالإشارةِ هنا وحداتِ الاستيطانِ الخليطةَ كميزةٍ أساسيةٍ للبنيةِ الديموغرافيةِ داخل بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا، وذلك ضمن إطارِ تقسيمِ العملِ بين المدينةِ والريف.

لَم يَكُ ثمة مَهرَبٌ من أنْ تُسفِرَ القومويةُ الأوروبيةُ خلال القرنِ التاسعِ عشر عن تداعياتٍ تحريضيةٍ واستفزازيةٍ قويةٍ على المجتمعِ الأرمنيّ، من خلالِ المدارسِ التي افتَتَحَها مَبعوثوها والأنشطةِ الدعائيةِ التي مارسوها. والأهمُّ هو أنّ البورجوازيةَ الأرمنيةَ المتواطئةَ مع رأسِ المالِ الأوروبيِّ بالتزامنِ مع أولِ حملةِ عولمةٍ له، قد تَشَرَّبَت بتأثيراتِ القومويةِ المتمحورةِ حول الدولةِ القوميةِ الناشئةِ في أوروبا، مثلما الحالُ في عمومِ أصقاعِ العالَم. وأصبحَت السوقُ الوطنيةُ التي تُمَكِّنُها من استثمارِ رأسِ مالِها هي بمنوالٍ مضمونٍ وآمنٍ همَّها الشاغل. وباتَ مطلبُ وطنٍ للأرمنِ حديثَ الساعةِ بنحوٍ ملفتٍ ومثير، تماماً مثلما بَحَثَ رأسُ المالِ اليهوديِّ عن وطنٍ له. لقد كان المجتمعُ الأرمنيُّ شعباً آهلاً عريقاً، لكنه كان يفتقرُ إلى الغالبيةِ الكثيرةِ والتجانسِ النمطيّ. بالتالي، فطموحُه في الدولةِ القوميةِ كان مَراماً يحتضنُ مستجداتٍ خطيرةً بين طواياه.

كانت أولى التنظيماتِ القومويةِ المتناميةِ في النصفِ الثاني من القرنِ التاسعِ عشر، تتطلعُ إلى مشاركةٍ سياسيةٍ داخل الإمبراطوريةِ بما يتماشى وتعدادَها ورؤوسَ أموالِها. لقد كان هذا منهاجاً أكثرَ واقعيةً وقابليةً للتطبيق. وقد أحرزوا نجاحاتٍ موفقةً للغاية في المشروطيتَين الأولى والثانيةِ على السواء. لكن، ومع صعودِ القومويةِ القمةَ في نهاياتِ القرنِ التاسعِ عشر ومطلعِ القرنِ العشرين، انعكفَت تدريجياً نحو مطلَبِ دولةٍ قوميةٍ مستقلة. وكانت الأراضي التي يَشمَلُها هذا الطلبُ تحتضنُ العديدَ من الثقافاتِ المختلفةِ التي تقطنها، وعلى رأسِها الكردُ والأتراك. ولو كان ثمة كيانٌ شبيهٌ بـ”حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي” حينذاك، لَربما كان أسلوبُ الحلِّ الأكثرَ معقوليةً يتمثلُ في التطلعِ إلى تأسيسِ نظامٍ فيدراليٍّ في كنفِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ تأسيساً على ثوراتٍ أَقربُ ما تَكونُ إلى ثورتَي 1905 و1917 الروسيتَين. إلا إنّ اليسارَ واليمينَ على حدٍّ سواء بَقِيا قاصرَين في تخطي مكانتِهما بكونِهما تنظيمَين قومويَّين ضيقَين ومتصلبَين، وكأنّ الأولَ أَشبَهُ بـ”حزب الهنشاق”، والثاني بـ”حزب الطاشناق”.

كانت القومويةُ الأرمنيةَ عاملاً تاريخياً هامّاً آخر متستراً وراء المأساةِ المُعاشة، إذ تأثرَت بالمسيحيةِ أيضاً، ونَمَّت عن تداعياتٍ مضادة. ذلك أنّ تأثيراً مشابِهاً للتداعياتِ المناهِضةِ للساميّة، والتي أدت إليها القومويةُ اليهوديةُ في أوروبا، كان يَجِدُ صَداه في المجتمعاتِ الإسلامية. والأنكى من ذلك كان تنافُسَها مع نفوذِ رأسِ المالِ اليهوديِّ في الإمبراطوريةِ العثمانية. وقد تأججَ أكثرَ فأكثر هذا التناقضُ الذي طفى على السطحِ بين المستثمِرين اليهود والمسيحيين عموماً منذ سنواتِ تأسيسِ الإمبراطوريةِ وفتحِ إستنبول، وبالأخصِّ أثناء تَمَركُزِ اليهودِ المنفيين من إسبانيا في إستنبول وسلانيك بالأغلب. حيث إنّ تأثيراتِ رأسِ المالِ والثقافتَين الرومانيةِ والأرمنيةِ ضمن الإمبراطورية، تَعُودُ إلى عهودٍ أقدَم، وتتميزُ بالسيرورةِ والكثافة. بَيْدَ أنّ مجالاتِ الأنشطةِ الماليةِ والصناعيةِ والتجاريةِ داخلَ الإمبراطورية، كانت تتشاطرُها تلك الأثنياتُ الثلاثُ وهذان الدينان والمِلّتان (كانا يُطلَقُ اسمُ “المِلّة” عليها في النظامِ العثمانيّ). لذا، كان لا مفرّ من التنافسِ فيما بينها. أما تَحَوُّلُ الرأسماليةُ الأوروبيةُ إلى قوةٍ مهيمنة، وبسطُ نفوذِها على الإمبراطورية؛ فقد زادَ من حِدّةِ هذا التنافس. من هنا، لَم تتصاعدْ خلال القرنِ التاسعِ عشر مطالبُ تلك المجموعاتِ الأثنيةِ الثلاثِ وطموحاتُها العنفوانيةُ في اقتسامِ السلطةِ وحسب، بل وتنامَت أيضاً بحوثُها عن أوطانٍ لها. هذا وكانت تلك البحوثُ أيضاً على تنافُرٍ فيما بينها، وتُحَرِّضُها على التنافس. علاوةً على أنّ تَسَبُّبَ اليهودِ المتواطئين مع والي روما في صَلبِ سيدِنا عيسى أثناء ولادةِ المسيحية، كان قد أَفضى إلى مشاعرٍ من البغضِ والتشدُّدِ والحقد الدائمِ بين المسيحيين واليهودِ عموماً. وباتحادِ كلِّ هذه العواملِ مع بعضِها البعض، يَغدو المستثمِرون اليهود قد احتلوا مكانةً أعلى، نظراً إلى علاقاتِهم الماليةِ الأوطد ضمن القصورِ العثمانيةِ وبيروقراطيتِها.

أُسِّسَت جمعيةُ الاتحاد والترقي وطُوِّرَت بدعمٍ قويٍّ من اليهود، وبمساهمةٍ أيديولوجيةٍ (نشاطات التركياتية) وماديةٍ (كانوا المصدر الرئيسي المُغذّي للتركياتية) منهم على حدٍّ سواء. فمُعظمُ الضباطِ والباشواتِ الألمان، الذين دَرَّبوا الجيشَ العثمانيَّ الحديثَ الذي بُوشِرَ بإعادةِ إنشائِه تَمَثُّلاً بالطرازِ العسكرتاريِّ الألمانيِّ، كانوا من أصولٍ يهودية. كما إنّ الكوادرَ اليهوديةَ اتصفَت بدورٍ استراتيجيّ، وأدت دورَها هذا بنجاحٍ فائق، سواءً في إعلانِ المَلَكيةِ الدستوريةِ الثانية، أم في قمعِ انقلابِ 31 آذار المضادّ، أم في حربِ التحريرِ الوطنيّةِ المتصاعدةِ إبان الحربِ العالميةِ الأولى. فضلاً عن أنّ جميعَ الآثارِ الأساسيةِ كانت تُنجَزُ ولأولِ مرةٍ من قِبَلِ المتنورين اليهود (أمثال وامباري، كوهن). لقد كانوا المبدعين الحقيقيين للأيديولوجيةِ التركياتية. وعلى الرغمِ من عيشِ سَوادِ المجتمعِ التركيِّ وغالبيتِه الساحقةِ واقعاً مناقِضاً لهذه الأيديولوجيا، إلا إنه بقيَ مشلولَ التأثيرِ بسببِ جهلِه وتشرذُمِه، ليلعبَ هؤلاء الكوادر دورَهم مرةً أخرى كنواةٍ محوريةٍ في إعادةِ تشييدِ الدولةِ أيضاً (عن طريقِ جمعيةِ الاتحادِ والترقي وحزب الشعب الجمهوريّ). ومقابل هذا التفوقِ البارزِ لليهود، كانت فرصةُ تأثيرِ الأرمنِ والرومِ المسيحيين في تكويناتِ الدولةِ الجديدةِ متدنيةً للغاية. بل إنّ حضورَهم القويَّ في المجالِ الاقتصاديّ، كان يؤدي إلى استهدافِهم أكثر من قِبَلِ منافسيهم المتربعين بالمقابل على عرشِ السلطة (المُقاوِلون اليهود، وطبقة الرأسمالية الجماعية الدولتية التركياتية التي شَكَّلوها). وهكذا، كان لن يبقى لهم شيئاً كثيراً لدى إعلان الجمهورية.

تُشَكِّلُ إبادةُ الأرمنِ القِسمَ الأكثر مأساويةً ضمن هذه اللوحةِ العامة. فعندما انتفضوا في سبيلِ الدولةِ القومية (قبل 1914، وفي أولِ سنةٍ من الحرب)، وَجدوا أنفسَهم وجهاً لوجهٍ أمام الهجومِ المضادِّ لإدارةِ “الاتحاد والترقي”، بناءً على قرارِها المُذَيَّلِ بتاريخِ 24 نيسان 1915.فطُرِدوا من وطنِهم الأمِّ الذي قطَنوه آلافَ السنين، وأُبيدوا في طرقاتِ النفي، في حين حُكِمَ على الباقين منهم بحياةِ الشتات مدةً طويلةً من الزمن. أي أنّ أرمنَ الشتات واقعٌ قائم، ولكنه واقعٌ سَوداويٌّ مُحَطَّمٌ ومنهار. فالدوَيلةُ القوميةُ الأرمنيةُ المُشادةُ ربما كانت ستغدو منبعاً للسلوان. هذا ولا يجري الحديثُ عن دورِ البورجوازيةِ التركياتيةِ فحسب في الإبادة، بل وعن نصيبِ الإقطاعيين الكردِ أيضاً فيها. الأمرُ لا يقتصرُ على إبادةِ الأرمنِ وحسب، بل إنّ هؤلاء كانوا بمثابةِ العناصرِ المجرمةِ الأصليةِ في إباداتِ الكردِ أيضاً، والمُطَبَّقةُ في الفتراتِ نفسِها وبأشكالٍ متغايرة (وخاصةً في الألويةِ الحميدية). ولا يزالون مواظبين على أداءِ دورِهم اللعينِ هذا بوصفِهم “حماةَ قرى” في الإبادةِ الكرديةِ التي لا تنفكُّ قائمةً إلى الآن. إذ يُضاعفون أموالَهم وأملاكَهم مقابل إنكارِ الكردايتية، وقد يتظاهرون بالكردايتيةِ الزائفةِ إن تطلبَ الأمر.

ما مِن مثالٍ بمقدورِه الإشارةُ بنحوٍ مفيدٍ وواعظٍ إلى كَونِ الدولتيةِ القوميةِ نظامَ إبادةٍ وتطهيرٍ عِرقيّ (ونظامَ رفضٍ وتفنيدٍ للتاريخ، وقضاءٍ على الثقافةِ المحليةِ والاقتدارِ الديمقراطيِّ بوجهٍ عامّ)، مثلما هو عليه صراعُ الدولةِ القوميةِ التركياتيةِ مع الأرمن. تنبعُ مأساةُ الشعبِ الأرمنيِّ من احتضانِه بورجوازيةً مُتَرَسمِلَةً بشكلٍ باكر، وامتلاكِه مستوىً من الرقيِّ الثقافيِّ المتفوقِ على جيرانِه؛ ومن الألاعيبِ التعسفيةِ للهيمنةِ الرأسمالية (تضحيتها بثقافةٍ مُعَمِّرةٍ آلافَ السنين، مقابل منفعيةٍ يوميةٍ صغيرة).

كانت إبادةُ السريان – الكلدان أيضاً ستُطَبَّقُ من قِبَلِ الآليةِ عينِها، ولكنْ في قلبِ جنوبي كردستان هذه المرة. كما إنّ حكايةَ زوالِ هذه الثقافاتِ المسيحيةِ الثلاثِ المتبقيةِ من الآشوريين والبابليين والأكاديين (مع الوضعِ في الحسبان أنّ المحلميين في ماردين يُرجِعون أصولَهم إلى الأكاديين)، وكذلك قصةُ فناءِ مشتقاتِها الأخرى أيضاً مأساويةٌ إلى أبعدِ درجة. فهذه الشعوبُ التي عاشت في يومٍ من الأيامِ ثقافةَ ثلاثِ إمبراطورياتٍ ماردة (الأكادية، البابلية، الآشورية)، لَربما كانت أولى الأقوامِ التجاريةِ والحِرَفِيةِ في التاريخ. فقد كانت نَشَأَت مع المدينة، وتَرعرَعَت معها. وكانت عايشَت سحرَ وجاذبيةَ الميثولوجيا والدينِ والفنِّ من الأعماق، ونقَلَت الثقافةَ السومريةَ إلى أصقاعِ المعمورة. إنها الأقوامُ التي كانت نَقَلَت الحضارةَ والمدنيةَ إلى أرجاءِ العالم. وكأنه لَم يَبقَ من هذا التاريخِ البهيِّ الممتدِّ خمسَ آلاف سنة سوى إرثٌ متحفيّ: قليلٌ من أطلالِ كنائسٍ حزينة، بضعةٌ من المِهَنِ الحرة، قليلٌ من المنجزاتِ المعمارية، ولمساتٌ من فنِّ الموضة. حكايتُهم تشبهُ حكايةَ الأرمن. إذ كانت مزاياهم العريقةُ تتجسدُ في كونِهم أولَ مستثمِرين لرأسِ المالِ المبتدئِ منذ أعوامِ 2000 ق.م، وأصحابَ أولى القوافلِ التجارية، وأولَ من افتتحَ ورشاتِ العمل Kârhane (العمل Kâr = القاروم Kârum، أي الوكالة في العصورِ الأولى).إنهم كانوا أولَ مؤسِّسي المستوطناتِ التجارية، والقائمين على تجارةِ المنسوجاتِ البهية. كما كانوا روادَ مِهنةَ الصياغةِ التخريمية ، وأَروعَ صائغي ومُزَركِشي الفضةَ والذهب. وكانوا مُدَوِّني المحاسباتِ التجاريةِ والرسائلِ على الآلافِ من لوحاتِ وأقراصِ الآجُرّ. إذن، فإنّ وجهَ التاريخِ الآخرَ الباعثَ على الحزنِ والأسى قد تماشى دوماً وبالتداخلِ مع وجهِه الباعثِ على الفخرِ والتباهي.

كانت إنكلترا من بين القوى المهيمنةِ الأوروبيةِ منساقةً وراءَ العثورِ على عناصر تابعةٍ لها، في سبيلِ ضمانِ الخطِّ الممتدِّ من مصر إلى بلادِ الهند. وكانت تَجهدُ لتأمينِ ذلك بِيَدِ السلاطين العثمانيين (عبر سياساتِ القمعِ والابتزازِ التهديديّ) من جهة، وعن طريقِ تعزيزِها بالعناصرِ المحليةِ أيضاً من الجهةِ الثانية. وكان السريان يُعتَبَرون في مقدمةِ العناصرِ المناسِبةِ لهذه السياسة. حيث بوِسعِهم لعبُ دورِهم في التحكمِ بالخليجِ والعراق. هذا وكانت روسيا القيصريةُ أيضاً تلعبُ اللعبةَ نفسَها في الشمالِ عن طريقِ الأرمن. أما القومويةُ المبكرةُ المتكرسةُ من خلالِ المسيحيةِ والتحولِ الرأسماليِّ الباكرِ ومهنةِ التبشيرِ كمؤثراتٍ داخلية؛ وكيفما جَرَّت الأرمنَ وراء الفواجع، فقد زَجَّت بالسريان والكلدان أيضاً في سياقِ نكباتٍ كارثية (الإبادة الجماعية). أي أنّ الآليةَ القائمةَ في إبادةِ الأرمن، قد عَمِلَت بالمنوالِ ذاتِه من أجلِ السريان والكلدان أيضاً. ومثلما استُغِلَّت الألويةُ الحميديةُ في الفاجعةِ الأرمنيةِ في شمالِ كردستان، فإنّ قوى الإماراتِ الكرديةِ أيضاً استُخدِمَت ضد السريان في جنوبِ كردستان، وبالتحديدِ في إقليمَي بوطان وبهدينان، وبنحوٍ أبكَر، أي خلال أعوام 1840. هكذا حصلَت مجازرُ السريان. وفي المحصلة، فلا “الحركةُ الكرديةُ” الواقعةُ في فخِّ الاستفزازِ بزعامةِ الأميرِ بدرخان، ولا “الحركةُ السريانيةُ القوميةُ” بزعامةِ البطرياركِ تخلصَتا من الزوالِ والتصفية. حادثةُ الاستفزازِ والتحريضِ هذه، قد أفضَت إلى تصعيدِ وترسيخِ كلٍّ من السلطنةِ العثمانيةِ وبيروقراطيتِها في كردستان، والهيمنةِ الإنكليزيةِ في العراق. هكذا، لَم يستطِعْ السريان الصحوةَ ولَمَّ شملِهم مرةً أخرى بعدَ هذه المجزرة، بل مَضَوا على قَدَمٍ وساقٍ سائرين على دربِ الشتاتِ والتشتت.

كان الإسلامُ السُّنِّيُّ نظامَ نهبٍ وسلبٍ منذ عهدِ الأمويين بالنسبةِ للشعوبِ المسيحية. إذ كان لا يَسمحُ لها العيشَ بكرامةٍ وعِزّة. والقضاءُ على المسيحيةِ كانت بالنسبةِ إلى الشرقِ الأوسطِ تشيرُ إلى عهدٍ مُرَوِّع، سواءً من الناحيةِ الثقافية، أم على صعيدِ الغِنى. ذلك أنّ خسارةَ هذه الثقافاتِ كانت تعني خسارةً ذهنيةً عظيمة، وفُقداناً كبيراً للغِنى الماديّ، وتراجُعاً فنياً ملحوظاً. إنّ القوةَ المسؤولةَ أساساً عن إجراءِ هذه الإباداتِ والتصفيات، هي الحداثةُ الرأسمالية. بينما المتواطئون المسلمون يلعبون دوراً من المنزلةِ الثانيةِ في هذا الصدد. من هنا، حَريٌّ بالذين يخوضون كفاحَ الوجودِ والحريةِ باسمِ شعوبِهم، أنْ يُدركوا على أكملِ وجهٍ أنه بوِسعِهم الحفاظُ على إرثِهم الثقافيِّ المتبقي، وإضفاءُ طابعِ الحريةِ عليه من خلالِ صياغةِ تحليلٍ تاريخيٍّ واجتماعيٍّ سديدٍ بوجهةِ نظرِ العصرانيةِ الديمقراطية.

قصةُ القضاءِ على الهيلينيين القاطنين في الأناضولِ أيضاً تَحملُ آثاراً مشابهة. فالكولونياتُ الأيونيةُ المبتدئةُ في أعوامِ 1000 ق.م، كانت قد تغلغَلَت خلال أعوامِ 600 ق.م إلى المناطقِ الداخليةِ والشواطئ، وعلى رأسِها شواطئُ بحرِ إيجه؛ راصفةً بذلك الأرضيةَ لحضارةٍ جديدة. لقد كانت هَضَمَت الثقافةَ الشرقيةَ بنجاحٍ مظفَّر، وصَعَدَت مسرحَ التاريخِ وفي جُعبتِها تركيبةٌ جديدة؛ تاركةً بصماتِها على عهدٍ بهيٍّ وزاهٍ في حقولِ العلمِ والفلسفةِ والفن. إنها كانت غَدَت السياقَ الحضاريَّ الثانيَ الأعظمَ بعدَ الحضارةِ السومرية. وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، فهذه الحضارةُ لَم تَكُن تنبعُ من أثينا أو المدنِ الأخرى في شبهِ الجزيرة. بل بالنقيض، فالحضارةُ المزدهرةُ على شواطئِ بحرِ إيجه، كانت قد حوَّلَت الشريطَ الساحليَّ الممتدَّ من أثينا حتى مَرسيليا  على البحرِ الأبيضِ المتوسطِ الشماليِّ والبحرِ الأسودِ إلى مستوطنات. ومع غزواتِ الإسكندرِ انتقلَت هذه الحضارةُ من شواطئِ بحرِ إيجه حتى بلادِ الهند. هكذا كان انفتحَت صفحةُ عصرٍ سُمِيَّ بالعصرِ الهيلينيّ (300 ق.م – 250 م). وكانت روما وبيزنطة تنامَتا على خلفيةِ هذه الثقافةِ التي أثرَت في الساسانيين أيضاً بدرجةٍ كبيرة. كما وكانت قد تُرجِمَت إلى الثقافةِ الشرقِ أوسطيةِ على يدِ السريان، مُشَكِّلةً بذلك إحدى الشرايين الأساسيةِ التي غَذّت الإسلامَ ونَمَّتَه على دربِ الولادةِ والحِكمة (الفلسفة). بيزنطة بذاتِ نفسِها كانت ضرباً من ضروبِ إمبراطوريةٍ مسيحيةٍ– إغريقية. وإلى جانبِ دخولِهم مرحلةَ الجَزرِ والحسرِ تزامُناً مع الإسلام، إلا إنّ الهيلينيين كانوا يواظبون على بسطِ قواهم السياسيةِ إلى حينِ فتحِ إستنبول. حيث خَسِروا نفوذَهم السياسيَّ مع فتحِ إستنبول. لكنه، كما الأرمن، لَم يتوانَوا عن عيشِ وتنميةِ قواهم الاقتصاديةِ والثقافية. هذا واحتلوا حيزاً هاماً في تَكَوُّنِ الإمبراطوريةِ العثمانية، وفي مجالاتِ المِلاحةِ والتجارةِ والمِهَنِ الحرة. وثابروا على الاحتفاظِ بمنزلتِهم هذه حتى تشييدِ الدولةِ القوميةِ اليونانية (1829).

ثم بدأَ التاريخُ يغدو مؤلماً بالنسبةِ لهم أيضاً بعد ذلك. وفي مستهلِّ القرنِ العشرين كانوا ينزفون دماً شيئاً فشيئاً. وبعدَ حروبِ البلقانِ  والحربِ العالميةِ الأولى، استعصَت أوضاعُهم أكثر فأكثر. أما التحالفُ الذي أَبرَمَته جمعيةُ الاتحاد والترقي مع المستثمِرين اليهود، فنَشَطَ على حسابِهم وعلى حسابِ جميعِ الشعوبِ المسيحية. لقد دفعوا ثمنَ مُوالاةِ الإنكليز في الحرب، واضطروا لتركِ الكثيرِ من المدنِ والقرى، وفي مقدمتِها إستنبول. أي أنّ السياسةَ المُطَبَّقةَ عليهم شبيهةٌ بما مُورِسَ بحقِّ الأرمنِ والسريان. حيث أُرغِموا بعد حربِ التحريرِ الوطنية، وعن طريقِ المُقايضة، على التخلي عن موطِنِهم الذي مَكَثوا فيه ثلاثةَ آلافِ عام. ذلك أنّ منفعةً بسيطةً للإنكليزِ كانت قد مهَّدَت الطريقَ أمام القضاءِ على إحدى أهمِّ الثقافاتِ والحضاراتِ التي عرفَها التاريخ. ومَن تَبَقّى منهم رُمِيَ بهم جميعاً على وجهِ التقريبِ من بلادِ الأناضولِ عبرَ إرهابِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء. لقد اختُتِمَ وجودُهم بخاتمةٍ تُضاهي وتُعادِلُ في وطأتِها مأساةَ الأرمنِ والسريان. وعاقبةُ الشعوبِ القاطنةِ على شواطئِ البحرِ الأسودِ أيضاً كانت مماثلة، حيث تشاطرَت المأساةَ عينَها. علماً أنّ هؤلاء أيضاً (البونتوس) كانوا أحيَوا وطوروا حضارةً عمَّرَت آلافَ السنين في هذه البقاع.

كان الجورجيون بوصفِهم شعباً مسيحياً قد طَوَّروا في شمالِ شرقيِّ الأناضولِ وعلى شواطئِ البحرِ الأسودِ الشرقيةِ حضارةً عريقةً في غابرِ الأزمان (كانوا معروفين منذ أيامِ الحثيين). وازدادَت حضارتُهم نضوجاً ورُقياً في عصرِ المسيحية. هم أيضاً تشاطروا مصيراً شبيهاً بما آلَ إليه الأرمن. حيث فقَدوا جزءاً كبيراً من مواطنِهم لصالحِ الإسلامويين التوسعيين، وانحصروا هم في رقعةٍ ضيقة. ولسياساتِ روسيا القيصريةِ أيضاً نصيبُها في ذلك. إنّ هذا الشعبَ الذي صارعَ المشقاتِ العُضال، لم يُنقِذْ نفسَه بَعدُ من هَولِ الصدماتِ التي تلقاها.

ومثلما أَسلَفنا في الذِّكر، فيهودُ الأناضولِ كانوا على تحالفٍ مع الشريحةِ القَبَلِيّةِ التركيةِ العليا منذ عهدِ سلجوق بيك (الدولة الخَزَرية اليهودية في أعوامِ 900 ميلادية). هذا وثابروا على هذا التحالفِ بأشكالٍ مختلفةٍ في كلٍّ من القوقازِ وشبهِ جزيرةِ القرمِ  وأوروبا الشرقيةِ والأناضولِ أيضاً. حيث أَمسَت بلادُ الأناضولِ مأوىً آمِناً، بعدما نُفوا وطُرِدوا من إسبانيا. وكان لمكانتِهم التي لا يَشغَلُها شاغرٌ في ماليةِ الإمبراطوريةِ دورٌ هامٌّ في ذلك. لقد كانت عُراهم مع السلطانِ العثمانيِّ وبيروقراطيتِه تتوثقُ طردياً في وجهِ الشعوبِ المسيحية، حتى صاروا يتحكمون بالقصورِ العثمانيةِ إلى درجةٍ كبيرةٍ خلال أعوامِ 1550 – 1600، وباتوا القوةَ الحقيقيةَ الخفيةَ للإمبراطوريةِ في نهاياتِ القرنِ التاسعِ عشر وبداياتِ القرنِ العشرين. هذا وكانوا قاموا أيضاً بدورِ القيادةِ الاستراتيجيةِ في كلٍّ من عهدِ المَلَكيةِ الدستوريةِ الثانية، انقلابِ الأولِ من تشرين الثاني 1913، الحربِ العالميةِ الأولى، وحربِ التحريرِ الوطنية؛ وأدَّوها بشكلٍ غيرِ مرئيّ وبنجاحٍ بائنٍ بالتقنُّعِ بقناعِ التركياتية. لقد كانوا المُبتكرين والمشيدين الحقيقيين للقومويةِ (الفاشية) التركيةِ البيضاء. وكانوا رواداً لكافةَ التطوراتِ المؤسساتيةِ الهامةِ ذهنياً وبنيوياً على السواء، من الاقتصادِ إلى الثقافة، ومن الحقلِ العسكريِّ إلى السياسةِ الخارجية. ولا ينفكُّ هذا الدورُ مستمراً إلى الآن (بالرغمِ من ظهورِ بعضِ التناقضاتِ والمشادّاتِ بينهم وبين بورجوازيةِ الأناضولِ التركيةِ المسلمة). وفي نهايةِ المآل، فالجمهوريةُ وُلِدَت كثمرةٍ من ثمارِ التحالفِ القائمِ بين البورجوازيةِ التركيةِ البيروقراطيةِ والرأسمالِ اليهوديِّ في وجهِ الشعوبِ المسيحية، وما فتئَت مستمرةً بماهيتِها هذه حتى يومِنا الراهن (ولو أنّ رأسَ المالِ اليهوديِّ انسحبَ نسبياً بعد تأسيسِ إسرائيل). لذا، لن نتمكنَ من تحليلِ كيفيةِ القضاءِ على الشعوبِ المسيحية، ولا كيفيةِ تصاعُدِ النخبِ السلطويةِ والاقتصاديةِ والأيديولوجيةِ التركية؛ من دونِ أنْ نضعَ في الحُسبانِ دورَ الثقافةِ اليهوديةِ في الاحتكاراتِ السلطويةِ والاقتصاديةِ والأيديولوجيةِ داخل بلادِ الأناضولِ منذ عصرِ السلاجقة. وبالأصل، محالٌ علينا فهمُ ممارساتِ التنكيلِ والتأديبِ والصهرِ والإبادةِ المُسَلَّطةِ على الكردِ منذ سنةِ 1925، ما لَم نُحَلِّلْ هذا التحالف.

هذه التقييماتُ المسرودةُ على شكلِ مسودة، ترمي إلى كشفِ النقابِ عن الوجهِ الحقيقيِّ لتاريخِ السنواتِ الألفِ الأخيرةِ للأناضول، ضمن إطارِ مبدأِ الحمايةِ والدفاع. هناك عَمىً كبيرٌ وشوائبٌ عالقةٌ بوعيِ التاريخِ في هذا المضمار. ومن دونِ تخطي ذاك العَماءِ وتطهيرِ تلك الشوائب، لن يَكُونَ بمستطاعِنا إبداءُ الفهمِ السديدِ لقيمةِ الإرثِ الثقافيِّ للشعوبِ عموماً، وللشعوبِ المجترةِ مخاضاتِ المأساةِ بصورةٍ خاصة؛ مثلما لن يَسَعَنا أيضاً العيشُ بصوابٍ في الحاضر، ولا الانتقالُ إلى مستقبلٍ واعد، ولا إضفاءُ الحريةِ على مستقبلِنا، ولا النجاحُ في العيشِ حياةً متآخية.

إنّ نعتَ أراضي الأناضولِ وميزوبوتاميا بموزاييكِ الثقافاتِ يُعَدُّ اصطلاحاً مناسباً، إلا إنّ الموزاييكَ الخارجَ من باطنِ الأرضِ رثٌّ للغايةِ – وللأسفِ الشديد – مثلما الحالُ على وجهِها. فبسببِ مشروعِ الدولةِ القوميةِ في خلقِ مجتمعٍ نمطيٍّ متجانس، صُيِّرَ هذا الموزاييكُ الثقافيُّ إلى حالةٍ أَشبَهُ ما تَكُونُ بالحَصى الصغيرةِ؛ ومُورِسَت الإبادةُ بحقِّ وجودِ مُكَوِّناتِه. إنّ الموجوداتِ الثقافيةَ إرثٌ تاريخيٌّ يتوجبُ صونُه والحفاظُ عليه بكلِّ تأكيد، مهما كانت في مرتبةِ الأقلية. أكثرُ ما تنعكسُ عليه ماهيةُ الإبادةِ والتطهيرِ للدولةِ القومية، هو السياساتُ التي مارسَتها بشأنِ تلك الثقافات. ذلك أنها تُشَكِّلُ الجزءَ الأهمَّ على الإطلاق من بينِ ما مارسَت الحداثةُ الرأسماليةُ الإبادةَ بحقِّه في جميعِ أرجاءِ العالَم. فبالإضافةِ إلى ممارسةِ العنفِ عليها، حُرِّمَ عليها عيشُ ذواتِها لدرجةٍ تكادُ تَكُونُ مستحيلة، بَعدما عُمِلَ على خفضِ قيمتِها اقتصادياً أيضاً. وكأنّ القاعدةَ التاليةَ باتت سارية: إذا استمريتَ على العيشِ ضمن ثقافتِك، ولَم تستسلمْ لثقافةِ الغالبيةِ الرسمية؛ فسوف تبقى جائعاً وعاطلاً عن العمل! بمعنى آخر، فاتخاذُ مكانٍ داخل المجتمع، وتحقيقُ التقدمِ والتطورِ من دونِ الانضمامِ إلى ثقافةِ الدولةِ القوميةِ الرسمية، ومن دونِ تحويلِ هذا الانضمامِ إلى استسلامٍ مبنيٍّ على التخلي عن الثقافةِ الذاتية؛ إنما يَغدو مستحيلاً بزرعِ ألفِ عائقٍ وعائقٍ على دربِه. وهكذا تصبحُ عضويةُ المجتمعِ المتجانسِ أمراً لا مفرّ منه.

فَرَضَت تجربةُ الفاشيةِ المُعاشةُ في أوروبا خلال الحربِ العالميةِ الثانيةِ على الحداثةِ أنْ تُعيدَ النظرَ ثانيةً في مشروعِ المجتمعِ النمطيّ. فعُمِلَ عن طريقِ مشروعِ الاتحادِ الأوروبيِّ على الرجوعِ إلى التعدديةِ الثقافيةِ كبديل. وإلى جانبِ تشاطُرِ ما وراء الحداثةِ للتعدديةِ الثقافيةِ كقيمةٍ أساسيةٍ مضموناً، إلا إنها بعيدةٌ عن أنْ تَكُونَ بديلاً للحداثةِ الرأسمالية. أما جميعُ الثقافاتِ التي تحيا خارجَ نطاقِ الهويةِ الثقافيةِ الرسمية، فيُفرَضُ عليها في نهايةِ المطافِ أنْ تصبحَ هامشيةً وتُواجِهَ حقيقةَ التصفيةِ والاضمحلال تلقائياً أو الزوالِ بالإبادةِ والتطهيرِ بنحوٍ غيرِ مباشر، من خلالِ أساليبِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليّ، أو عبرَ سياساتِ الدولةِ القوميةِ في خلقِ مجتمعٍ متجانسٍ رسميّ. والسبيلُ الأصحُّ للوقوفِ في وجهِ ذلك، ولصَونِ وجودِها الثقافيِّ وجعلِه حراً طَليقاً؛ هو تَبَنّي مفهومِ الهويةِ الثقافيةِ المنفتحةِ الأطراف، وتوحيدُها مع الثقافاتِ الأخرى في تركيبةٍ جديدة، وصياغةُ مشاريعِ حياةٍ مشتركةٍ ذاتِ مستوى أرقى وأرفع. وتُعَدُّ الأمةُ الديمقراطية، المواطَنةُ الدستورية، الجمهوريةُ الديمقراطية، ومفهومُ الثقافةِ التعدديةِ والوطنِ التعدُّدِيِّ بِضعةٌ أساسيةٌ من هكذا مشاريع. أما أساليبُ السياسةِ الديمقراطيةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهي وسائلُ التطبيقِ الأساسيةُ لتلك المشاريع. من هنا، فحلُّ العصرانيةِ الديمقراطيةِ حاجةٌ ماسّةٌ ومصيرية، سواءً للحفاظِ على الثقافاتِ التقليديةِ وتأمينِ حريتِها، أم في سبيلِ عيشِها على شكلِ تركيبةٍ جديدةٍ مع الثقافاتِ العصرية.

 

*هذا النص مأخوذ من كتاب “مانيسفتو الحضارة الديمقراطية” – المجلد الخامس “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” تأليف: عبد الله أوجلان

 

كاتب

التعليقات مغلقة.