مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

دورس المذابح والإبادة.. ما يجمع بين الأرمن والكرد

روشن مسلم

روشن مسلم
روشن مسلم

تمهيد:

تُكّون العلاقات الأثنية بين الشعوب منطقة الشرق الأوسط بقوميّاتها متعدّدة الأعراق، ومختلفة الأديان، ومتنوعة العقائد، والمذاهب، سجلاً مهماً في التاريخ الحديث والمعاصر لعمقها التاريخي، ولما أحاطها من تعقيدات، وأزمات، وصراعات محتدمة، وصلت حدّ محاولة إلغاء إحداها الأخرى، وإنهاء وجودها، بل  أخذت وتيرتها تتزايد وتتصاعد ضمن معادلة سياسية استمرّت طوال القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وارتبطت هذه المعادلة بضعف الدولة العثمانية، وتقلّص نفوذها، وانحدار سلطاتها مع ازدياد نفوذ الدول العظمى، ومنها بريطانيا، فرنسا، وروسيا، واتساع مصالحها في الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى.

وبحسب ما استقر عليه التاريخ من البحوث العلمية الحديثة، والاكتشافات الأثرية بات من الضروري التعرف على شعوب المنطقة، ليس فقط بدافع الاهتمام، أو البحث عن الحقائق التاريخية، بل بحكم الجغرافية، والتعامل الاجتماعي بين مكوّنات المجتمعات التي تعيش متجاورةً في منطقة واحدة.

إن دراسة الحالة الأرمنية، وفتح صفحة معاناة هذا الشعب، وخصوصاً جريمة الإبادة الجماعية التي حدثت ضد الشعب الأرمني مرتبطة ارتباطاً كبيراً بمبدأ حق الشعوب في الحياة، ويعطينا دراسة هذه الحالة شرط نحن كشعب كردي رؤية، وهدف استراتيجي هو أن نعي دورس الحالة الأرمنية، وننطلق منها للحافظ على الهوية الكردية، ولا نسمح باستمرار هكذا مذابح لا على الأرمن، ولا على أي شعب، وأن نناضل من أجل ألّا تتكرر هذه المآسي من تهجير، وإلغاء الهوية، وضمان حق أي شعب، وفي مقدمتهم شعبنا الكردي، فلقد علمتنا دروس التاريخ أنّ العدو، والسارق واحد، وان اختلف شعارهُ في كل فترة.

 

أهمية البحث:

إنّ هذا البحث يضع يده على ضرورة الحاجة الملحة إلى احترام حقوق الشعوب في التمسك بتاريخه، وهويّته، ورؤيته السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والمطالبة بدعم دولي لوضع حدّ نهائي لإنكار هذه الممارسات، مع إدانة كافات الممارسات الفاشية التي استهدفت، وتستهدف حق الشعوب في الحياة، ويشير البحث أيضاً، أنّ هذه الممارسات، وعدم يقظة المجتمع الدولي لن يساعد في استقرار منطقة الشرق، بل ستكون سبباً في اندلاع حروب قد تصل نيرانها إلى العالم.

 

أهداف البحث:

نهدف من خلال البحث التعرف على حقوق الشعوب المضطهدة انطلاقاً من حق جميع الشعوب في أن تكون مختلفة، وأنّ هذا الاختلاف يساهم في تنوع، وثراء الحضارات، والثقافات التي تشكل تراث الإنسانية المشترك، والسعي لكشف حقيقة موقف النظام التركي الحالي كما يقول عن نفسه – بأنّه وريث الامبراطورية العثمانية – هذا الموقف الذي ينكر حدوث إبادة جماعية للقومية الأرمنية، والقوميات الأخرى رغم هذا الجرم الكبير الذي حدث بين عامي ١٩١٥ و١٩١٧م، على يد الحكم العثماني، والذي أدى إلى مقتل نحو مليون ونصف أرمني، وتشريد، وتهجير عشرات الآلاف خارج مناطقهم.

 

منهج البحث:

ولعل هذا البحث يتبلور في صفحة من تاريخ الأرمن، وتوزعهم في العالم التي تعددت عبر التاريخ بين الوثائق، والدراسات، والبحوث المختلفة منذ استيلاء الدولة العثمانية على المناطق الأرمنية التي سميت بأرمنية العثمانية عبوراً بانبثاق الطموحات السياسية الأرمينية، ووصولاً إلى تحول المسألة الأرمنية إلى قضية دولية عقب مؤتمر برلين ١٨٧٨م، وما نتج عنها من ردود أدت إلى مجازر ضد الأرمن، وميلاد أول جمهورية أرمنية في التاريخ الحديث عام ١٩١٨م، وننهيها برسالة من التاريخ، ألا وهي ما يجمع بين الشعبين الأرمني والكردي ، وكيف يستلهم الكرد بتاريخهم العريق نضال الأرمن من أجل البقاء، والحفاظ على الأرض والهوية.

 

المبحث الأول:

أولاً- صفحة من التاريخ:

وفقاً لوقائع التاريخ أنّ الشعب الأرمني، كقومية تعرض بشكل مستمر للقهر القومي، رغم أنّه من الشعوب التي ساهمت في التطور الثقافي، والاجتماعي في محيطه الجغرافية، والعالمي، ولقد حاول البعض إهمال العديد من المظاهر الأساسية لتاريخ الأرمن، وحضارتهم، وتعايشهم مع الشعوب القديمة، والحديثة على مدى القرون. وكان ذلك واضحاً في الفترات التاريخية في حياة أرمينا، وشعبها، والنماذج كثيرة: كأرمينيا وحكم الفرس (الأسرة الأخمينية عام ٥٥٠ -٣٣١ قبل الميلاد، الأسرة اليروانتية عام ١٨٩-٣٣١ قبل الميلاد تحت نفوذ السلوقي، أرمينا والأسرة الأرداشيسية ١٨٩ قبل الميلاد – حتى العام الأول من التقويم الذي شاهد قيام الإمبراطورية الأرمنية وديكران الثاني، أرمينا وحكم الملوك الأجانب ١-٦٦م. أرمينا والأسرة الأرشاغونية عام ٦٦- ٤٢٩م، أرمينيا بعد سقوط الأسرة الأرشاغونية وحتى الغزو العربي عام ٤٢٩- ٦٤٠م، والأسرة الباقرادونية ٨٨٥- ١٠٧١م، الأسرة الروبينية (كيليكيا ١٠٨٠- ١٣٧٥م).

وهنا لا بد من طرح سؤال يكون نقطة انطلاق، لفهم الإطار التاريخي لتطور الحضارة الأرمنية منذ مطلعها للوصول إلى النتائج لتبيان التواصلات أوالانفصامات، وتزداد أهمية هذا السؤال في تقديرنا، بمقدار ما يظهر لنا أنّ التوحيد السياسي لأرمينيا يمكن أن يتحقق الآن، بعد أن ظل هذا الحلم بعيد المنال، إلا أنّ الوحدة الوطنية الأرمنية لا زالت في طور التكوين بسبب استمرار حملات العداء، وانشغالهم بالدفاع عن حق الوجود الإنساني. لقد غابت الحقائق الأرمنية عن أغلب الباحثين في معظم أنحاء العالم بسبب مشاغلهم اليومية، لكنّ الجهود التي بذلت من البعض الآخر أدّت إلى ولادة وجدان عالمي مُتعاطف مع القضية الأرمنية. أما هويتهم الاجتماعية فقد تشكلت على مدى عصور ما قبل التاريخ مما ينفى عنها الطابع الوراثي، فالهوية الأرمنية تنتمي إلى شعوب الهندو أوروبية الآسيوية، وبحسب رواية المؤرخ موسيس الخوريني، فإنّ الأرمن من أبناء يافث بن نوح، حيث تناسل من يافث جومر ( توغرومة )، ومنه يتراس، ثم هاييك، والذي يعتبر أبو الأرمن، ويذكر أنّ هاييك تمرد على ملك بابل (بيل)، الذي خرج بعشيرته الأرمنية من بابل (العراق)، متجهاً إلى إقليم آرارات شمالاً، وانتصر هابيك في معركة مع ملك البابليين، وبنى قرية عاش فيها أبناؤه، وعشيرته، وسمّي باسم هايوتس دزور HAYOTS DZOR أي ( وادي الأرمن ). كما وسميت هذه الأمة بـ هايي  HAi، نسبة إلى مؤسسها هايك نفسه، وأخير سمّى الأرمن بلادهم (أي أرمينا) هويسان، أي بلاد هابيك. جرى هذا كله عام 2107 قبل الميلاد، كما تحدد الأسطورة. ١

وهناك حقيقة أخرى، وهي أنّ الأرمن انقسموا إلى مجموعتين أثناء هجرتهم: المجموعة الآسيوية، استقرت على حدود الهند، وإيران، وأرمينيا، ومناطق من تركيا، ثم انتشرت شمالاً، حتى وصلت إلى القفقاس، وجورجيا، وشكلت رغم عرقها الواحد المشترك، شعوباً مختلفة، كالهنود، والفرس، والميديين، والبارثيين، والساسانيين، ومجموعة الهندو- أوروبية: وهي استقرت نهائياً في قارة أوروبا، وتوزعت فيها، لتشكل شعوباً مختلفة، كالجرمان، والأنكلوساكسون (الإنكليز، السويديين)، والسلاف.

من هنا لا يبدأ تاريخ الأرمن من لحظة معينة، ولذا لم يكن بدّاً من الاختيار، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون بعض الكيفية، ومهما يكن من أمر فإن أسباباً عديدة تحمّلنا على تحديد نقطة الانطلاق هذه بالأصول العرقية للأرمن، وهي أسباب تساعدنا بالإضافة إلى ذلك على أن نفهم من هم الأرمن، وكيف تأسست جمهورية أرمينيا.

وأكثر ما يفسر تاريخ الشعب الأرمني هو الموقع الجغرافي، والاستراتيجي بين أوروبا، وآسيا الذي استقرت ضمن حدوده أراضي الدولة الأرمنية، حيث كان للموقع الجغرافي، وما يترتب عليه من اهتمامات استراتيجية دور في تقرير مصير الشعوب التي تستوطنها.

لقد غدت أرمينا مسرحاً للعمليات الحربية بين الدولتين المتصارعتين التركية العثمانية السنية (١٣٠٠- ١٩٢٤)، والفارسية الصفوية الشيعية ( ١٥٠٢ – ١٧٣٦)، ممّا أسفر عن تقسيم أراضيها فيما بينهما، وخضعت أرمينية كلها للدولة الصفوية بين عامي ١٥٠٢ – ١٥١٤م، لكن تمكن السلطان العثماني سليم الأول ( ١٥١٢ – ١٥٢٠م )، من الاستيلاء على غربي أرمينية بعد هزيمة الصـفـويين في معركة جالديران عام ١٥١٤م .

وفي عام ١٥١٦م استولى نفس السلطان على أرمينية الصغرى (قيليقية) الواقعة تحت حكم سلاطين المماليك بمصر منذ عام ١٣٧٥.

ومنذ عام ١٨٢٨م استولت روسيا القيصرية (١٩١٧-١٥٣٣)، على أرمينية الشرقية، وصارت تسمى أرمنية الروسية. ٢

إن التشتت الداخلي خلال القرون التي خضعت أرمينيا لنفوذ هذه الدول، قد سدّد ضربة قوية لحضارة أرمنية، ولم يكن ضياع الوطن الأرمني الكارثة الوحيدة التي ألمت بهذا الشعب، بل جاءته آلام جديدة أمرّ، وأقسى بدأتها روسيا القيصرية ببعض الانتهاكات للأرمن ثم توسعت تركيا العثمانية إلى حدود غير معقولة بتنفيذها مخطّطات الإبادة الجماعية، واضطروا إلى هجرة ملكيات آبائهم، ودمّروا اقتصادهم في نفس الوقت، ممّا أدّى إلى زوال هذه الدولة بمفهومها القومي من الخريطة السياسية، إلّا أنّ الروح القومية بقيت موجودة في الوجدان الأرمني.

 

ثانياً_ الطموحات السياسية الأرمنية:

كان وضع الأرمن خلال حرب ١٨٧٨م، بين روسيا والدولة العثمانية صعباً للغاية، وكانت تركيا بلداً متأخّراً حضارياً، فلم تكن تملك طرقاً معبدةً، ولا وسائل النقل البخارية، والتي كانت منتشرة على شكل شبكة تربط القارة الأوروبية.

واستخدم الأتراك بالعنف نحو ما يقارب ٢٠ إلى ٣٠ ألف من الأرمن في نقل المدافع، والموءن إلى الجبهة، ولم يتطوع أحد من الأرمن في الجيش الروسي، وانصبّ دور الأرمن بشكل عام على خدمة المجهود الحربي العثماني رغماً عنهم، ومع ذلك تعرّض الأرمن للظلم، والانتقام، حيث قام الجنود العثمانيون بتخريب المدن الأرمنية، ونهب أملاكهم، وسبي نسائهم، ودمرت القرى، والمدن، والكنائس في ظل حالة من الخوف، والإرهاب نشرها الأتراك في نفوس الأرمن، وفي ذلك الوقت هرب بطريارك الأرمن في الآستانة “نيرسيس اياستفانوس “، ولجأ إلى القائد الروسي” نيقولا نية ولافيج”، مستنجداً به، وشرح له الأوضاع السيئة التي يعيشها الشعب الأرمني خلال هذه الحرب طالباً منه انقاد شعبه من الكارثة.

وبعد ذلك عقدت معاهد سان ستيفنسون بين روسيا، والعثمانيين، وضمنت المادة ١٦ منها بعض الإصلاحات لضمان سلامة الأرمن.

في الوقت ذاته كانت إنكلترا مهتمة بمنع طريق الهند، والشرق أمام روسيا، وخاصة بعد انتصار روسيا على العثمانيين، فاضطرت أوروبا إلى تبديل معاهدة سان ستيفنسون بغيرها في مؤتمر خاص انعقد في برلين في ١٣ حزيران ١٨٧٨م، هذا المؤتمر شاركت فيه ألمانيا، وروسيا، وتركيا، وإنكلترا، وفرنسا وإيطاليا، وكان برئاسة المستشار الألماني بسمارك، وقد كانت حقيقة هذا المؤتمر هي اقتسام غنيمة روسيا في حربها مع العثمانيين، وكان إلحاق ولاية البوسنة، والهرسك بالنمسا، بمثابة فتح طريق الشرق أمام الألمان، لقد تم استبدال المادة ١٦ من معاهدة سان ستيفنسون بمادة ٦١ من معاهدة برلين، إلا أنّه في الحقيقة لم يكن هذا التغيير سوى حبر على الورق، حيث لم تهتم الدول الموقعة بالقضية الأرمنية مطلقاً، ولقد أوضح خرميان هـايريك ( أبو الأرمن) الذي كان رئيساً للوفد الأرمني إلى مؤتمر برلين عندما قال: “لقد طبخت الحرية في برلين، ولكننا لم نتمكن من أكلها بملعقة من الورق”، لذلك ناشد أبو الأرمن الشعب الأرمني، ألا ينتظروا شيئاً من الدول الكبرى قائلاً: “يا أولادي لا ترجوا شيئاً منهم، فالأمل لا يملكه الأجانب بل نملكه نحن، وعلينا تدبير أمورنا بأنفسنا”، فكان ذلك نذيراً بالثورة التي أشعلها أبناء الشعب الأرمني بعد ذلك.٥

انبثق فجر حركات الأرمن بتأسيس أحزاب، وجمعيات أرمنية ثورية داخل الدولة العثمانية، وخارجها، ومن أهم الشخصيات الثورية المغذية للثورة خرميان هايريك رئيس الوفد الأرمني إلى برلين ، ومكردیج برتقاليان ورافي، فتشكلت في مدينة وان سنة ١٨٧٨م، جمعية الصليب الأسود الأرمنية، وفي عام ١٨٨٠م، أرسلت الجمعيات الأرمنية التي كانت تحت السيطرة الروسية في أرمينستان السلاح إلى أرمن الأناضول، ثم في مدينة أرضروم تأسست سنة ١٨٨١م، جمعية “المدافعون عن الوطن الأم”، وفي نهاية عام ١٨٨٥، شكّل تلاميذ برتقاليان القدماء الجمعية السياسية (الاتحاد الوطني)، في مدينة وان، وأرضروم، وفي عام ١٨٨٧م، أسس في مدينة جنيف الأرمن الشيوعيين حزب هنجاق الثوري، وكان من مطالبهم الاستقلال الذاتي، وتشكيل فيدرالية أرمنية مع أرمن روسيا، وأرمن إيران، ثم تأسست في مدينة تيفليس عام ١٨٩٠م، فيدرالية الثورة الأرمنية / طاشناق ستيون كان هدفه النضال الثوري لتحقيق استقلال أرمينيا، وبالرغم من الخطورة التي بلغتها تلك الحركات في حينها، وما تركته في النهاية من الأثر في مصير الشعب الأرمني، فلا يمكن اعتبارها إلا جهاداً ناجماً عن الآلام التي يقاسيها الشعب الأرمني في سبيل حريته، واستقلاله، لأنّها كانت نتيجة لمساعي جماعات ثورية مدفوعة بقوة طموحهم العظيم أو إيمانهم الصادق بقضيتهم.

 

المبحث الثاني:

أولاً_ مجزرة الأرمن:

بعدما انتهت الحرب الروسية العثمانية ١٨٧٨م، تم عقد مؤتمر برلين، وبات على عبد الحميد الثاني أن ينفذ الإصلاحات التي تشملها المادة 61 من مؤتمر برلين بخصوص المناطق الأرمينية، إلا أنه كان يرفض هذه الإصلاحات، ويعتبر الأرمن عصابات انفصالية متمردة تهدف إلى تقسيم الأراضي العثمانية، وتخوف من هذه الإصلاحات التي تعني في القاموس السياسي (امتيازات، وحقوق، ومؤسسات)، معتبراً ذلك بذرة أولية لمنح الحكم الذاتي للمسيحيين في الدولة العثمانية، لهذا الأمر لم يلتزام بمقررات مؤتمر برلين، وخصوصاً المادة 61 وعدم تنفيذ بنوده الإصلاحية، وقال مقولته المشهورة: “إنني أفضل الموت على أن أقبل بهذه الإصلاحات التي ستقود شرقي الأناضول إلى الانفصال”.6

ثم قام بإلغاء الامتيازات الممنوحة لهم سابقاً من قبل أسلافه، ووضع رقابة شديدة على الطباعة، وأغلق المسارح الأرمينية، كما شكل فرق الفرسان الحميدية، وهي عدد من الفرق غير النظامية غالبيتها من المسجونين، والمحكومين بجرائم القتل، والنهب، والسلب، والتدمير، وكان يهدف بهذه الخطة إلى تخريب القرى الأرمنية بأيدي الشراكسة، والقوميات الأخرى، وإرغام الأرمن على ترك بلادهم، وهجرتهم من جميع المناطق الأرمنية الواقعة ضمن حدود العثمانية التركية، وتوطين الشراكسة، والعرب، والكرد، وغيرهم من القوميات في مناطق الأرمن، واستطاع أن يظهر للدول الخارجية بأنّ الأرمن متمردون، ويسعون إلى الانفصال. في الوقت الذي كانت روسيا، وإيران قلقتَين من تشكيل فرسان الحميدية، حيث قام الضباط، والدبلوماسيون الروس، والأرمن بتنظيم دعاية واسعة بين العشائر الكردية إلى عدم الانخراط في صفوف الحميدية، إلّا أنّ العشائر لم تتحمس بميلها نحو إيران أو بارتباط مصالحها (كعشيرة الجاف الكبيرة) لرفضها أساسا فكرة فرسان الحميدية، كما أنّ خزينة الدولة كانت لا تساعد على صرف الأموال، وتأمين الخيول لهذه الفرق، فكان المنضمّون إلى الفرق الحميدية من المشاة لا من الفرسان.

لقد كانت قضية مذابح الأرمن عبارة عن عمل نظم بدقة، واشتركت في إعداده أطراف مختلفة، ولدوافع كانت في الغالب متباينة. لم يكن بوسع الحكام العثمانيين أن يحلّوا المشكلة الأرمنية، وكانوا في الوقت نفسه يخشَون من أن تفلت أرمينيا من قبضتها، كما أفلت البلقان من قبل.

تلك هي البؤرة الأساسية للمذابح التي صار قسم قليل من الشعب الكردي إحدى الأدوات التي استخدمت في تنفيذها، بل إنه بالنسبة للمرحلة الأولى من هذه المذابح، والتي سعى السلطان عبد الحميد، وأعوانه كثيراً لإلقاء المسؤولية عنها على عاتق الشعب الكردي، هناك وثائق تاريخية تثبت بوضوح أن الباب العالي هو الذي نظمها، وعلى عاتقه تقع مسؤولية أحداثها المفجعة.

ففي بعض المناطق كانت المذبحة تبدأ على أيدي الجنود والجندرمة وتنتهي على أيديهم، فقد كلف ٣٠ ألف جندي، ودركي في أورفه، و١٦٠٠ آخرون في عربكير للقيام بإبادة الأرمن الموجودين فيهما.7

“وكما يذكر الأستاذ عبد العزيز ياملكي، فإن المسؤولين كانوا يجلبون سجناء من مناطق أخرى ويلبسونهم الزي الكردي ويرسلونهم أفواجاً إلى مدينتي أرضروم، وديار بكر للاشتراك في عملية الإبادة الجارية هناك. وخلال المذبحة الأولى أرسل المسؤولون جنوداً بملابس كردية لأداء الدور نفسه”. 8

صحيح أنّ قسماً من المسؤولين كانوا يحاولون إخفاء جرائم السلطة، إلا أن معظمهم كان يتباهى بها علناً. وفضلاً عن ذلك فهناك عدة وثائق مهمة سرية تدلنا على جريمة السلطة، ومسؤولياتها من كل الوجوه.

ننقل في البداية برقية لوزير الداخلية طلعت باشا أرسلها إلى والي حلب، وقد جاء فيها ما يلي بالنص: ” لقد أبلغتم من قبل أنه تقرر نهائياً، حسب أوامر الجمعية، إبادة الأرمن الذين يعيشون في تركيا، والذين يقفون ضد هذا القرار (يقصد من المسؤولين- ك. م.) لا يسعهم البقاء في وظائفهم. ومهما تكن الإجراءات التي ستتخذ شديدة وقاسية، ينبغي وضع نهاية للأرمن. لا تلقوا بالاً، بأي صورة، للعمر والوجدان والرجال والنساء”.9

نُفذت عملية الإبادة على مرحلتين، وقد أمر بها الباشاوات الثلاثة محمد طلعت باشا الصدر الأعظم، ووزير الداخلية إسماعيل أنور باشا وزير الحربية، وأحمد جمال باشا وزير البحرية بصفتها جزءاً من سياسية التتريك المفروضة بالقوة.

في المرحلة الأولى قُتل الذكور البالغون جماعياً، في المرحلة الثانية، أجبرت النساء، والأطفال، والشيوخ، حسب قانون التهجي على المشي في مسيرات موت حتى بادية الشام في عامي ١٩١٥و١٩١٦م، حيث تعرضوا لعمليات نهب، واغتصاب، وقتل دورياً، وتشير التقديرات إلى أنّ عدداً ممّن أجبر على هذه المسيرات يتراوح بين ٨٠٠ ألف حتى ٢ ،١مليون أرمني، وبأن ٢٠٠ ألفاً منهم على الأقل كانوا لا يزالون على قيد الحياة في نهاية العام ١٩١٦م.

وفق بعض التعريفات، فإن الإبادة تمتد أيضاً لتشمل عمليات القتل الجماعي لعشرات الآلاف من المدنيين الأرمن خلال الحرب التركية الأرمنية في عام ١٩٢٠م. 10

تتراوح تقديرات الوفيات حول العدد الإجمالي للضحايا الأرمن الذي قضوا نتيجة لسياسات الحكومات العثمانية والتركية بين عامي ١٩١٥ وحتى عام ١٩٢٣م، بين ٨٠٠ ألف إلى أكثر مليون نسمة.

إنّ قضية الأرمن كانت وستظل دائما قضية عادلة، وكان يتعين أن تكون قضية الغرب كله، ولو كان الغرب قد تدخّل إلى جانب الأرمن لكان هذا التدخل بمثابة دفاع عن النفس، وليس إحساناً، إن أمريكا، ورغم كل انشقاقاتها الداخلية، ما تزال مجتمع التعددية الثقافية الأكثر نجاحاً عبر التاريخ، والبلدان الأوروبية تصبح بصورة متزايدة مجتمعات تعددية عنصرية، وعرقية، وإذا ما حالفها الحظ ستصبح مجتمعات تعددية ثقافية أيضاً.

 

ثانيا_ ميلاد أول جمهورية أرمنية في التاريخ الحديث:

احتلت روسيا القسم الأكبر من المقاطعات الأرمنية، وعندما اندلعت الثورة الكبرى في روسيا في عام ١٩١٧م، عمّت الفوضى ممّا جعل المقاطعات الأرمنية دون حماية، وعلى إثره تشكّلت حكومة مؤقتة في بتروغراد التي عمدت إلى فصل المقاطعات الأرمنية عن روسيا، وأعلنتها مقاطعات أرمنية محتلة، وعينت عليها حاكماً من أصل أرمني وهو الدكتور زافريان، ثم أصدرت قراراً آخر اعترفت بموجبه بحق تقرير المصير للشعب الأرمني.

خاض الأرمن معارك شرسة مع تركيا استمرت ثمانية أشهر ثم اضطرت للتراجع إلى الحدود الروسية التركية القديمة، ثم ما لبثت أن ألحقت الهزيمة في منتصف شهر أيار عام ١٩١٨م، بالجيش التركي، وفي هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ الأمة الأرمنية بالذات وجه القائد نازار إلى جنوده النداء التالي: (إذا لم نثبت أنّنا أمة نذود عن حمى بلادنا، وندافع عن شرفنا، وحريتنا، وسلامتنا بأيدينا فإننا نبرهن للعالم أجمع أنّنا أمة لا تستحق البقاء)، وفي نفس الشهر تم إعلان استقلال أرمينيا، وسميت الجمهورية الأرمنية.11

عانت أرمينيا من مجموعة نزعات داخلية، وخارجية حيث نشأت أزمة إنسانية في أعقاب الإبادة الجماعية للأرمن، والتي أدت إلى استقرار عشرات الآلاف من اللاجئين الأرمن، واستمرت جمهورية أرمنية لأكثر من عامين، وشاركت خلالها في العديد من النزاعات المسلحة الناتجة عن خلاف الأراضي الإقليمية، وفي أواخر عام ١٩٢٠م، غزا الجيش الأحمر السوفيتي أرمينيا، وانتهى استقلاها في تموز عام ١٩٢١م، وحلت محلها الجمهورية الاشتراكية السوفيتية الأرمنية التي أصبحت جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وذلك بموجب الدستور السوفييتي  الذي أسماها، اعتبارا من عام ١٩٢٦م، جمهورية أرمينيا السوفييتية. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، استعادت الجمهورية استقلالها لتصبح جمهورية أرمينيا الحالية في عام ١٩٩١م.

 

رسالة من التاريخ ما بين الأرمن والكرد:

هكذا كانت قصة محاولات إبادة الشعب الأرمني منذ عقود طويلة، لقد تكرر هذا الأمر مع شعوب كثيرة، وفشلت القوة الاستعمارية في كل مكان، وزمان في إبادة أي شعب. دائما ما يثبت التاريخ أنّ إرادة الشعوب هي القادرة على البقاء، والاحتفاظ بهويتها، وثقافتها، وأنّ القوى الفاشية، ستهزم في النهاية.

لقد كان الأرمن نموذجاً حيّاً لأكبر محاولة لإبادة شعب، وكذلك الكرد الذين تعرضوا لنفس مخطط الإبادة، وإلغاء الوجود، ومحاولات التغيير الثقافي، والهوية القومية، ورغم المذابح، والتشتت، والتهجير في كل بقاع العالم، احتفظ الأرمن، كما احتفظ الكرد بهويتهم، وتاريخهم، وشخصيتهم، واستطاعا الحفاظ على هويتهما القومية.

هذا ما يجمع بين قوميتين تقاربا جغرافياً، وإنسانياً وتوحدا في مأساة متشابهة… نعم، لقد حاول البعض الإساءة لكرد، وزعم عن دورهم في مذابح الأرمن، والحقيقة إن المحتل العثماني استخدم بعض العناصر من القوميات الأخرى في الانتقام من الأرمن، فاستخدم بعض من الشراكسة، والعرب، والكرد في حملات الإبادة، وحروبه الاستعمارية.

لقد انتبه الأرمن، والكرد إلى طبيعة المؤمرة التي تحاك ضدهم معاً، واكتشف أنّ ما يجمعهم من تاريخ نضالي، وأهداف واحدة أكثر ممّا يفرّقهم.

فقضية الهوية، والحفاظ على الوجود، واسترداد الحقوق يجمع بين القوميتين إلى جانب مناطق العيش المشتركة، والجذور الثقافية، لهذا فإنّ الرسالة التي يمكن أن تصل الآن إلى القوميتين اللتين عاشتا منذ قرون في نفس الإطار الجغرافي المتقارب، هي ان مآسينا مشتركة، وقضيتنا واحدة، ونضالنا واحد، وعلينا أن نتكاتف في رباط رفاقي مشتركة حتى يصبح الوجود الكردي مرتبطاً بالوجود الأرمني، والعكس صحيح، إن ما بين الكرد والأرمن، والأرمن والكرد رفقة سلاح لمشروع الاستقلال، والدولة الوطنية، وبناء المستقبل.

………………

الهوامش:

  • راجع كتاب الأرمن عبر التاريخ/ ص ١٠٠
  • راجع كتاب القضية الأرمنية في الدولة العثمانية / ص ١٥
  • https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9_%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%8A%D9%86
  • راجع كتاب تاريخ الأمة الأرمنية ص/ ٢٧٨
  • راجع كتاب القضية الأرمنية/ ص ٢٧٩
  • راجع كتاب الأرمن والدولة العثمانية/ ص ٩٤
  • راجع كتاب كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى/ د. كمال مظهر أحمد / ص ٢٨٤ ١٠- المصدر نفسه / ص ٢٨٩
  • راجع كتاب كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولي/ د. كمال مظهر أحمد/ ص ٢٨٥
  • المصدر السابق
  • https://ar.m.wikipedia.org/wiki %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9_%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%B1%D9%85%D9%86
  • راجع كتاب الأرمن عبر التاريخ / ص ٤١٦

كاتب

التعليقات مغلقة.