مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

أطعمة ومأكولات أهل الرقة والجزيرة الفراتية في العصر العباسي

الدكتور محمد عبد الله العزو

مقدمة :

  يتحدّث علماء الآثار في العراق عن رقيم مسماري من العصر الآشوري المتأخّر، اكتشف في منطقة الموصل “نينوى” القديمة، يتضمّن نصاً حول أنواع الأطعمة التي قدمت على مائدة أحد الملوك الآشوريين، وكانت القائمة مدون فيها أسماء هذه المأكولات بالتفصيل الممل، منها السمك، وكافة أنواع اللحوم والخضروات، وحتى أصناف متعددة من الكبب، وفي المقابل هنا في “الرقة” عثر الآثاريون في بداية ثمانينيات القرن الماضي على جرة فخارية، كانت معروضة في متحف “الرقة” قبل نهبه، في الطابق العلوي المخصص كصالة لمكتشفات العصر العباسي.

كانت هذه الآنية الفخارية، وهي عبارة عن نموذج قدر من الفخار، مليئة بمواد متأكسدة، وبعد مرور زمن على خضوع هذه المواد للتحليلات المخبرية في كل من “دمشق” و”برلين”، تبين أنها بقايا أطعمة مطبوخة، وضعها الطاهي بعد الانتهاء من تناول الطعام في أحد القصور، وعلى ما يبدو لم تتح الفرصة لهذا الطاهي من تنظيفها، فوصلت إلينا كما وصفت.. وقد حفلت مائدة “الرشيد” بألوان الطعام، حتى قيل أنّ طهاته كانوا يطهون ثلاثين لوناً في اليوم، وأنه كان ينفق على طعامه عشرة آلاف درهم في اليوم

هذه الحالة تعطينا صورة واضحة على أنّ الناس في “الرقة” وفي البقاع الجزرية قد عنوا بتنويع الطعام، وخاصة الأثرياء منهم، وكان الخليفة “المنصور” باني “الرقة” يُكثر من تنوع الأطعمة، ويؤكد المؤرخون أنه ما كان يمتثل لنصائح الأطباء، حتى كان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى ضعف صحته ووفاته.

كان الثرود سيّد المأكولات في الرقة، وفي كافة أنحاء الجزيرة، وكان قصر “الرشيد” في “الرقة” يشكل حالة مميزة في احتوائه قسماً كبيراً، وهائلاً من المطابخ، وكانت دائماً تتوضع في الجهات الغربية الشمالية من قصوره المنتشرة في “الرقة” بكثرة. وقد حفلت موائد “الرشيد” بكافة أنواع المأكولات الجافة والمطبوخة. ويؤكد الدكتور “حسن إبراهيم حسن” في كتابه (تاريخ الإسلام)، الجزء الثاني، ص/424/، طبعة عام /1964/ ميلادي بقوله: «…وقد حفلت مائدة “الرشيد” بألوان الطعام، حتى قيل أنّ طهاته كانوا يطهون ثلاثين لوناً في اليوم، وأنّه كان ينفق على طعامه عشرة آلاف درهم في اليوم». علماً أنّ قصر “الرشيد” آنذاك كان يعج بالزوار من كافة شرائح المجتمع “البغدادي” والجزري و”الرقي” يومياً..

يروي المؤرخ “المسعودي” في كتابه (مروج الذهب)، في الجزء الثاني، ص /279ـ 280/، أنّ “إبراهيم المهدي” قال: «… استزرت “الرشيد في “الرقة” فزارني، وكان يأكل الطعام الحار قبل البارد. فلما وضعتْ البوارد، رأى فيما قُربَ إليه منها الجام قريض سمك، فاستصغر القطع وقال: صغر طباخك تقطيع السمك فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه ألسنة السمك، قال: فيشبه أن يكون في هذا الجام مائة لسان، فقال مراقب خادمه: يا أمير المؤمنين فيها أكثر من مائة وخمسين، فاستحلفه عن مبلغ ثمن السمك، فأخبره أنه قام بأكثر من ألف درهم، فلما حضر المال أمر أن يتصدق به وقال: أرجو أن يكون كفارة لإسرافك في إنفاقك على جام سمك ألف درهم»؛ ولما تزوج الخليفة “الرشيد” من السيدة “زبيدة” بنت جعفر”، أقيمت في قصره المنيف وليمة، يقال أنه أنفق عليها الكثير من الدراهم، ودعا إليها كافة شرائح المجتمع.

كانت “الرقة” وأرض الجزيرة في عصر “الرشيد” ذات مزارع كبيرة، وكانت الرقة حصراً تحيط بها المزارع من كل الجهات، وكانت المزارع تعج بزرائب الحيوانات من بقر وغنم وماعز وخراف، وتكثر في سهولها عانات الغزلان، وتعيش فيها الخدر والأرانب، وكانت غلالها وافرة من قمح وشعير وذرة بيضاء، وكافة أنواع البقوليات والخضروات  وشتى أصناف الفاكهة، من تفاح ورمان وعنب وكرز، لذلك تنوعت فيها الأطعمة على قدر ما يزرع فيها من الخيرات، وما يربى فيها من أنواع الحيوان الذبوح.

وبالعودة إلى الإناء الفخاري الذي مر ذكره فيما تقدم من كلام، فإنّ التحليلات المخبرية التي أجريت على المواد المتأكسدة في داخله، تشير القائمة إلى ما يلي: خبز، لحم بارد، لحم دجاج، بيض، لحم جدي، لحم خروف، لحم غزال، لحم عجل، لحم جمل، وسمك، إلى جانب بعض بقايا الخضار والفواكه، وفي مقاربة لهذه القائمة، يذكر المؤرخ والرحالة “ياقوت الحموي” في كتابه (معجم البلدان)، وكذلك “المسعودي” في (مروج الذهب)،الجزء الثالث: «… لما زار عمه “عيسى بن علي” في “الرقة” في أربعة آلاف، قدم لهم من ألوان الطعام ما يلي: الخبز، ولحم الجدي، ولحم الدجاج، والبيض، واللحم البارد المجفف، والحلوى على نحو ما نراه في أيامنا هذه.

وكان الخليفة “المأمون” مثلما كان في”بغداد”، كان في “الرقة” أيضاً ينفق آلاف الدنانير يومياً على مطابخه، التي حفلت بشتى أنواع الأطعمة ذات المذاق الطيب. مثل ذلك كان الأثرياء والميسورون في “الرقة” والجزيرة يتفننون بطبخ الأطعمة الشهية، وكانوا يسرفون الكثير من الأموال في اجتلاب أنواع الطعام في غير موعدها، من صيد وخضروات وفاكهة، وكان أهل “الرقة” يصيدون الطير في البوادي القريبة، لذلك كثر صيد الطيور، مثل صيد طير التدرج، والقطا، والفري، والحمام البري، وفرخ الزاغ، ومثل هذه الطيور ما زال تواجدها في بوادي “الرقة” والجزيرة بكثيرة، وما زال الناس يصيدونها في أيامنا هذه. ومثلما “الرقة” وبلاد الجزيرة الفراتية هي الآن مشهورة بصناعة الجبن والزبادي، كانت في العصر العباسي أيضاً مشهورة في صناعة مشتقات الحليب. يذكر “الطبري” في كتابه (الأخبار)، الجزء الثاني، ص /52/: «… أنّ الأغنياء من أهل “بغداد”، وسواهم من مدن الخلافة الأخرى، كانوا يجلبون من بلاد “فارس”، ومن “عمان”، ومن “الهند”، ويقول “بختشيوع” طبيب “الرشيد”، إنّ مائدة “الرشيد” كانت تخلو من شراب النبيذ، وكان يضع على مائدته ماء “الفرات” وماء “دجلة”، كما كان يفعل جده “المنصور”»، وبهذا الخصوص يذكر “الطبري”، أنه أيام الخليفة “المنصور”، لم يسمح الكثير من “بني العباس” بتناول النبيذ على موائدهم .

وفي حادثة ذات الصلة بالموضوع يقول “الطبري”: «إنّ الطبيب “بختيشوع”، لما قدم على “أبي جعفر المنصور” من “السوس”، ودخل عليه في قصره بـ”باب الذهب” بـ”بغداد” أمر له بطعام يتغذى به، فلما وضعت المائدة بين يديه قال: أين الشراب الذي لا غنى عنه، فأُخبِرَ “المنصور” بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا شرب على مائدة أمير المؤمنين، الشراب هو ماء “دجلة”، وشرب منها، فلما كان من الغد نظر إلى مائه فقال: ما كنت أحسب أن شيئاً يجزي من الشراب، فهذا ماء “دجلة” يجزي من الشراب». على هذا المنوال أيضاً سار الخليفة “الرشيد” في “الرقة”، فلم يسمح بتناول النبيذ على موائده.

لقد عثر المنقبون في تلول الزجاج، والبلور في الرقة وفي مواقع أخرى من أرض الجزيرة، على لقى زجاجية كثيرة ومتنوعة، ونجد اليوم معروضات كبيرة للقى زجاجية في متحف “الرقة”، مثل الفناجين، والصحون الخزفية، التي عثر عليها في القصور، والدور الأهلية، وكذلك كؤوس الشراب، وجرار سقي الماء، وغيرها من المكتشفات التي كانت تستعمل في المطابخ، وهذه الانواع من الأواني الزجاجية والفخارية، هي متعددة الاستعمال، وأنواعها تشير إلى أنّ المطابخ في “الرقة” كانت غنية بمحتوياتها، وبأنواع الأطعمة الساخنة مثل الحساء الحار، والمرق وغيرها. وكان الأهالي يطبخون “السنبوسة”، ويشوون “الكباب”، ويقلون السمك، ومثل هذه الأطعمة لا بد أنها كانت تُقدم بأطباق زجاجية، لأنها أكثر انسجاماً مع شكل المائدة، وكان العامة من الناس في “الرقة” والجزيرة يطبخون المأكولات الشعبية، مثل “الثريد”، وقال أحد الشعراء:

  • دع الأيام تفعل ما تريد  وكن شهياً إذا حضر الثرود

ومن أنواع الأطعمة الشعبية الأخرى، الكبة بالزيت، والحبيَّة من القمح، ولم نعثر على ذكر لمادة الأرز، وكان العامة من الناس يصطادون السمك من نهري “الفرات” و”دجلة”. وبشكل عام كانت هناك أنواع من الأطعمة المشتركة بين كافة أطياف المجتمع الرقي والجزري في العصر العباسي.. وتعدّ الأطعمة في هویتها الثقافية  أحد ملامح الثقافة المادیة لکل شعب وقد شهد العصر العباسي تفاعلا حضارياً بین الشعوب المنصهرة في المجتمع الإسلامي من فارس والترك وغيرهما من الجنسيات فأدّی هذ التثاقف إلی نقل مجموعة واسعة من المعالم الثقافیة  من علوم وآداب وثقافة انصهرت في القوالب الأدبیة في العصر الذهبي فقد ظهر أنَّ العصر العباسي الأول قد اتّسم بطابع الحضارات الوافدة والمنصهرة فیه وتجلیاتها و ازدهر ذلك العصر لما حصل في هذا العصر من التمازج والتفاعل والتثاقف.

وبناءً علی مبدأ التعارف ،فإنه یصنع الحضارة الراقیة ویجعلها في مسیرة التطوّر والتنامي نحو الکمال ولا توجد حضارة راقیة إلا وهي کانت تتواصل مع الحضارات الأخری وتتفاعل وصارت الأطعمة إحدی مواد الشعریة والأدبیة في لوحاتهم الفنیة وصورهم الشعریة فبات مناط الاهتمام للشعراء والأدباء معبّرین فیها فن التذاهم الفائق واستخدامهم لها مادة في الصور والأخیلة و وبذلك التفاعل اتسعت نطاقات الصور وقد تمّ رصد هذه الملامح والأثر الفارسي في مادة الأطعمة .وفي مجال الأطعمة والأشربة لقد دخل کثیر من الأطعمة والأشربة وأدواتها الفارسیة في الثقافة والأدب العباسي في العصر الذهبي من أهمها :(کالسکباج والخشکنان والسمیذ واللوزینج والجوزینج والنیمبرشت والدوشاب والداذي والدستفشار والطرجهارة وغيرها).. ممّا یدلّ علی سعة الأثر الفارسي في هذا المجال علی الثقافة .

 

كاتب

التعليقات مغلقة.