مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

أصول الفكر الإرهابي لجماعة الإخوان المسلمين

أصول الفكر الإرهابي لجماعة الإخوان المسلمين

د. أنمار نزار الدروبي

أنمار الدروبي
أنمار الدروبي

أثار تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر على يد حسن البنا في عام 1928 العديد من التحولات والتطورات على المستويين الحركيّ والفكريّ، الذي امتد تأثيرهما إلى بعض البلدان العربيّة والإسلاميّة إذ كان لمؤسس الجماعة حسن البنا الأثر الكبير في صياغة فكر التنظيم من خلال رسائله وكتاباته التي تمثل الحلقة الأبرز في عملية التنشئة داخل الجماعة. حيث كان للفكر الوهابيّ السلفيّ تأثيرٌ مباشرٌ على أفكار حسن البنا في السنوات الأولى من تأسيس الجماعة إذ  كان نشاطهم يتركز على العمل الإسلاميّ الإصلاحيّ الذي يقوم على فكرة الإصلاح الدينيّ ومعارضة التغريب، ذلك التغريب الذي أعدته الجماعة السبب المباشر في عرقلة عملية الاستقلال والتحرر، ومن هنا” كان ظهور جماعة الإخوان المسلمين في تلك الفترة نوعاً من الاستمرارية التاريخيّة لأن هذه الفترة هي فترة توجّه إسلاميّ عام ضد التغريب، وهي جزء من الصراع الحضاريّ الذي يتضمن في وجوده صراع ضد الاستعمار من أجل الاستقلال والتحرر”([1]).

ولعل من أبرز الأسباب والعوامل التي كان لها الأثر في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتفككها وإلغاء الخلافة الإسلاميّة عام 1924، تلك الخلافة التي كانت تمثل المرجعية السياسيّة والرمزية الإسلاميّة، وكذلك مجموعة من الأسباب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بالإضافة إلى دور رشيد رضا في نشر الفكر الوهابيّ السلفيّ المتطرف في مصر وبدعم من المملكة العربيّة السعوديّة ومحاولته لتحويل مصر من التدين السُنيّ الصوفيّ المعتدل إلى الفكر الوهابيّ السُنيّ المتطرف وتحديداً التأثير في أفكار حسن البنا الذي كان يلجأ إلى الترقية الروحيّة بممارسات وطرق صوفية.

سيركز الباحث على جذور العقيدة الوهابيّة وانعكاساتها على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكيف انسحبت تلك الأفكار المتطرفة لإخوان نجد في السعوديّة على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فإخوان نجد هم” الدعوة النجدية أو الدعوة الوهابيّة التي تأسست في نجد في القرن الثامنَ عشرَ الميلاديّ على يد محمد عبد الوهاب، وكانت سمعتهم في القتل والتدمير ترعب الدول التي من حولهم، فالإعداد الفكريّ الذي كان فقهاء الوهابيّة يعدونه لشباب الأعراب النجديين بأن يتحول به الشاب الأعرابي إلى مقاتل عنيد يرى الجهاد في استحلال قتل كلّ من ليس وهابيًّا”([2]). وبالتالي انسحبت تلك الأفكار المتطرفة لإخوان نجد على جماعة الإخوان المسلمين في مصر في وَحدة النظريّة مع قدر من التنوع في التطبيق، وفي هذا السياق يمكن أن نسجل أوجه التشابه بين إخوان نجد في السعوديّة وجماعة الإخوان المسلمين في مصر كما يلي:

  1. الحركتان تعملان معاً على نشر الوهابيّة وتعميمها كممثل للإسلام.
  2. الوهابيّون السلفيّون وجماعة الإخوان المسلمون يناضلون من أجل إقامة الدولة الدينيّة.
  3. نجحت الوهابيّة في السعوديّة في إقامة دولة دينية تحكم طِبقاً للحاكمية التي هو نوع من الاستبداد كانت تعرفه أوروبا بمبدأ الحق الملكيّ المقدس. في الوقت نفسه نشرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر ثقافة الاستبداد الدينيّ المنتمية للعصور الوسطى.
  4. سعت الحركتان إلى إخضاع الفرد والمجتمع لمبدأ السمع والطاعة بدون مناقشة لوليّ الأمر، فالأمر والطاعة تمثل لهما عقيدة دينية وسياسيّة
  5. صاغت الحركتان الفكر الوهابيّ في شعارات سياسيّة، مثل الإسلام هو الحلّ، وتطبيق الشريعة ([3]).

6.الالتزام بالمظهر الدينيّ: لقد حرصت الجماعتان في مصر والسعوديّة على الالتزام بالمظهر الدينيّ، كإطلاق اللحية وحلق الشارب، ومنع لبس الحرير والذهب.

7.ظاهرة العنف والتكفير وكراهية الآخر: اشتركت التجرِبتان في سمة العنف وظاهرة الإرهاب، وقد اعتمدت الجماعتان على مبدأ تكفير الآخرين ومصادرة الإسلام لحسابهم الخاصّ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حكم محمد عبد الوهاب بكفر الشيعة، وأعدّ بلادهم بلاد حرب.

  1. العقليّة السلفيّة ونظرية الجهاد: دعت الجماعتان إلى العودة بالإسلام إلى أصوله الصحيحة التي كان عليها في عهد النبوة والسلف الصالح. كما أخذت الجماعتان بمبدأ الجهاد، وأعدُّوا التخلي عن الجهاد ردة وكفر، فلا يكفي أن تؤمن بمبادئهم بل يجب أن تجاهد من أجلها.

9.الموقف المعادي من الحضارة الغربيّة: كما رفض إخوان نجد المخترعات الحديثة، نلحظ أن جماعة الإخوان في مصر رفضوا أيضاً النظريّات العلميّة والفلسفيّة، وكذلك رفضوا الديمقراطيّة السياسيّة والليبرالية الفكريّة.

  1. شكل المجتمع الإسلاميّ: لقد حرّمت الجماعتان الربا والقمار والخمر ومنعتا الاختلاط، واهتموا بتعليم الدين واللغة العربيّة.
  2. التشابه في الاسم: وهو اسم الإخوان المقتبس من رابطة الإخوة الإسلاميّة.

.12قضية الصراع:

فإذا كان الصراع بين الدولة السعوديّة وجماعة الإخوان الوهابيّة في نجد في أواخر العشرينيات أدى إلى صدام دمويّ أسفر عن القضاء على إخوان نجد عام 1931 فهو ذات الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر ومؤسسات الدولة المدنيّة الذي وصل ذروته في الأربعينيات من القرن الماضي إلى عمليات العنف المتبادلة بين الطرفين التي أدت إلى حوادث اغتيال بين الجماعة والدولة، وقد أسفرت عن مقتل رئيس الوزراء المصريّ النقراشي باشا عام 1948، وقتل حسن البنا عام 1949 ([4]).

لقد برز تأثير الفكر الوهابيّ وسيطرته على الجماعة بشكل كبير في مرحلة سيد قطب، وأصبح أكثر وضوحاً من عهد حسن البنا، وذلك لأن سيد قطب قد أحدث تحولات راديكالية في أفكار حسن البنا السياسيّة والدينيّة. وبالرغم من وجود قطب ومحمد عبد الوهاب مؤسس الوهابيّة في سياقين تاريخيّين مختلفين تماماً، فإن كلًّا منهما أعدّ المجتمعات المسلمة في عصرهما مجتمعاتٍ جاهلية. فمن وجهة نظر محمد عبد الوهاب كان السبب الرئيس لجاهلية المجتمع هو تفشي المعتقدات والممارسات الدينيّة المنحرفة والمناقضة لمسألة التوحيد، أما سيد قطب، الذي ينتمي إلى حِقبة ما بعد الاستقلال، فإنه يرى أن من مقتضيات الإيمان بالله والتوحيد، أنه يجب أن تكون النُّظم السياسيّة والاجتماعيّة متوافقة مع إرادة الله المتمثلة في شريعته. في الوقت نفسه انتقد قطب المجتمعات المسلمة لأنها احتفظت بالنظم السياسيّة والتشريعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الغربيّة بدلاً من النظم الإسلاميّة. ومن هذا المنطلق يقول قطب:” إن المسلمين في عصره قد عادوا إلى حالة الجاهليّة، بل ينصّ على أن وجود الحياة الإسلاميّة والأمة الإسلاميّة بل وجود الإسلام ذاته قد توقف منذ فترة طويلة”([5]).

لكن في النهاية فإن هناك العديد من التشابهات بين الحركة الوهابيّة وأيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين بنسختها (البنّاوية والقطبية) إذ اعتبرت الحركتان أن الإسلام قد وصل إلى حالة كبيرة من التردّي في عهدهما، ويجب عودةُ المسلمين إلى الإسلام الصحيح، كما أن الوهابيّة وجماعة الإخوان المسلمين كان لهما موقفٌ سلبيٌّ مشتركٌ من علماء الدين التقليديّن واتهامهم بالمسؤولية عن أزمة الإسلام الراهنة ([6]).

ونتيجةً لذلك فقد أسهمت العقيدة الوهابيّة في تغيير أفكار حسن البنا وكذلك في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إذ نقلت الجماعة من الإطار الصوفيّ الذي يعطي أولوية للجانب الروحيّ إلى الإطار السلفيّ الوهابيّ الذي يغلب عليه الاهتمامُ بالفكر العقائديّ وما يفرضه ذلك من صدام وممارسات متطرفة ضد كل من يختلف معهم في آرائهم وأفكارهم، ومن ثَم امتد هذا الفكر السلفيّ الوهابيّ، واجتاح جماعة الإخوان المسلمين منذ أوائل الخمسينيات، وتعزز هذا المد مع اشتداد الحملة الناصريّة على التنظيم وفرار عدد من كبار قيادات الجماعة واستقرارهم في دول الخليج العربيّ، ثم اشتد أكثر في حِقبة السبعينيات التي شهدت أقوى انطلاقة للتيار الوهابيّ داخل الجماعة بعد انتهاء المشروع القوميّ الناصريّ وهزيمة يونيو/ حزيران عام 1967، ثم موت جمال عبد الناصر عام 1970. ومن هنا يمكن أن نلحظ تحولا ًكبيراً في المنظومة الإخوانيّة على مدار أكثرَ من نصف قرن ([7]).

وتأسيساً لما تقدم أصبحت جماعة الإخوان المسلمين الواجهة الرسميّة للأيديولوجية الإسلاميّة التي اجتاحت مصر والعالم العربيّ التي كان شعارها إقامة الدولة الإسلاميّة، وهو شعار كان يستقطب بريقهُ قطاعاتٍ وشرائح وأعمار بالغة التنوع والاختلاف إذ أن الأيديولوجية نفسها كانت تجذب إليها المتمردين ذوي النزاعات الثوريّة الراغبين في المواجهة العنيفة. لكن في الوقت نفسه طرأت تحولات عديدة وتغييرات في فكر الجماعة، كان أهمها الدخول البراغماتي الكثيف للإخوان في السياسة مما أدى إلى تخليهم عن الكثير من مبادئهم، مثل إقامة الدولة الإسلاميّة، وكذلك الخلافة الراشدة، والوحدة السياسيّة الجامعة لكل الأمة الإسلاميّة، بالإضافة إلى غياب مفاهيم أهل الذمة ([8]).

لقد كان لانتشار جماعة الإخوان المسلمين في دول عديدة له سياقات مختلفة، السبب في ظهور نسخ متعددة من أيديولوجيا الإخوان، فبالإضافة إلى النسخة الراديكاليّة لسيد قطب في مصر هناك النسخة الاشتراكيّة لمصطفى السباعيّ المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريَّا، والنسخة الليبرالية الديمقراطيّة للقياديّ الإخوانيّ التونسيّ راشد الغنوشيّ. ومن هنا فقد شملت أفكار جماعة الإخوان المسلمين ومعتقداتها على عدة اتجاهات فكرية، على العكس من الحركة الوهابيّة التي ظلت إلى حد كبير حركة محلية متحجرة عقائديًّا ([9]).

 

التجنيد والهوية والأيديولوجيا داخل جماعة الإخوان المسلمين

تُعدّ جماعة الإخوان المسلمين حركة جماهيرية لديها نظام عضوية شديد التعقيد بحيث لا يُلحق العضو بالجماعة كبقية الحركات الاجتماعيّة الأخرى، بل يتم انتقاؤه عبر عملية معقدة يُطلق عليها (صيد الفريسة). فالجماعة تتبع تكتيكات معينةً في مرحلة الاستقطاب معتمدة على الدُّعاة باعتبارهم أهمّ الأدوات الحيوية لتجنيد الأعضاء الجدد، بالإضافة إلى أن عملية الانتقاء داخل الجماعة تقوم على أساس الفحص والتمحيص للأعضاء قبل دعوتهم للالتحاق بها، وذلك لاختبار قيم الولاء والالتزام اتجاه الحركة وقياداتها.

وتنقسم عملية الاستقطاب إلى ثلاث مراحل، تتمثل المرحلة الأولى في نشر الدعوة التي تقوم على أساس تحسين صورة الجماعة في الأوساط السياسيّة، وتعتمد هذه المرحلة على الحملات الإعلاميّة، والخطب في المساجد والمحاضرات العامة. أما المرحلة الثانية فتقوم على نشر فكرة الإخوان المسلمين من خلال التركيّز على الأصدقاء والأقارب والجيران، ورفاق العمل، بمعنى أنها تعتمد على العَلاقات الشخصية للدوائر الصغيرة المحيطة بالعضو. وأخيراً المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الدعوة الفكريّة التي ترتكز على عدة خطوات، أهمها تغيير سلوك الفرد تدريجيًّا، والانتقال من المستوى الشخصيّ في الاقناع إلى المستوى الدينيّ، ومن ثم الاقناع بفكرة شمولية المنهج الإسلاميّ، وتعزيز الشعور بالواجب نحو المسلمين المستضعفين في شتى بقاع العالم، والعمل الجماعيّ من خلال المشاركة في الفعاليات، كالتظاهرات والحملات الانتخابيّة التي تدعو لها الحركة.

أما مسألة التنشئة وترسيخ الهوية الإخوانيّة داخل الجماعة فقد اتبع التنظيم أسلوباً خاصًّا في تشكيل الهوية الإخوانيّة للفرد إذ سُمّيت هذه المرحلة ب (نموذج الحضانة) التي تقوم على” الدمج بين عمليتي الاستقطاب والتنشئة والتلقين إذ تنفرد الجماعة عن بقية الحركات الأخرى بعملية التربية التي تهدف من خلالها إلى إعادة بناء المعتقدات الفردية للعضو بما يضمن تشكيل تصوره ورؤيته للعالم من حوله”([10]).

أمّا عملية البناء الأيديولوجي داخل التنظيم فقد أفرد لها البنا عدة مبادئَ كان أهمها البيعة، وهي مفهوم يتعلق بالحكم، والطاعة التي تفرضها الجماعة لرفع غطاء الشرعيّة عن التيارات المعارضة داخل التنظيم، وكذلك الاقتناع والتمسك بأيديولوجية الجماعة، بالإضافة إلى مبدأ الالتزام باعتباره الأساس الذي يحكم العَلاقة بين الأفراد. وأخيراً الانتماء والولاء الذي يقوم على الإيمان بالمشروع الإسلاميّ والانتماء إلى الفكرة الإسلاميّة وَفق رؤية الجماعة ومنهجها ([11]).

 

البناء العقائديّ لجماعة الإخوان المسلمين

تُعد فكرة شمولية الإسلام كونها ديناً ودولةً من أهم الأسس التي قامت عليها الجماعة، ففي المرحلة الأولى حيث مثّل الإسلام لدى الجماعة عقيدة وعبادة وعملاً، بالإضافة إلى مصحف وسيف، لذا فهي رفضت أن تكون تعاليم الإسلام مقتصرة فقط على الناحية العبادية دون غيرها من النواحي، لذلك تمسكت الجماعة بفكرة الخلافة الإسلاميّة.

لقد استخدم البنا فكرة المحاسبة في اليوم والليلة ليكون أداة تضبط مدى التزام أعضاء الجماعة بواجباتهم سواء في العبادات أو الدعوة. لكن بعد ذلك تراجع العمل الدعويّ والتربويّ، وبدء التوغل في الحياة السياسيّة وتحديداً بعد تأسيس النظام الخاصّ أو الجهاز السريّ، وبالتالي فقد تحول العمل السياسيّ للجماعة إلى العمل العسكريّ.  ثم بعد البنا جاء دور سيد قطب، ذلك الدور البارز والعلامة الفارقة في تأسيس المرحلة الثانية من أيديولوجيا الجماعة إذ تبلور دور سيد قطب في تركيزه على مفهومين أساسيين أصبحا قاعدة ملزمة لجماعة الإخوان المسلمين، وهما مفهوم الجاهليّة ومفهوم الحاكمية ([12]).

من هنا بدأت عملية إعادة بناء التنظيم وإعادة بنائه الفكريّ العقائديّ على ضوء أفكار السيد قطب. وفي هذا الصدد يوضح (علي عشماوي) القياديّ البارز في جماعة الإخوان المسلمين وآخر قادة التنظيم الخاصّ للجماعة أن سيد قطب سعى إلى إعادة بناء التنظيم وإعادة بناء الفكر العقائديّ له وَفقاً لما يُريد ترتيبه هو، وبالأسلوب الذي يراه، أي بمعنى أنه وجّه الجماعة إلى البناء العقائديّ الجديد الذي يقرره هو، فدعا قطب جماعة الإخوان المسلمين إلى وجوب تصحيح الاعتقاد أولاً، وبعد ذلك تأتي باقي الأمور الدينيّة والدنيوية، وأن تصحيح العقيدة من وجهة نظر قطب لا تكون إلا بمعرفة حقيقة مهمة، وهي أنه هو الله الرب، وأنه لا عبادة إلا لله، ولا يكون في أمر العباد إلا ما يُريد رب العباد.

بمعنى أن تعبد الله وتخلع ما يُعبد من دونه، فإذا كانت هذه هي الحالة مع الله والرب، فلا ولاء ولا خوف ولا عبادة إلا له وحده. ومن هنا سوف يتحرر العباد من عبادة العباد، ويردّهم إلى عبادة الله وحده، فتحمست الجماعة لهذه الأفكار، واتخذتها في صلب عقيدتها، وسارت على دربها، واتجهت في بنائها العقائديّ الذي يقع على أمرين أساسين، وهما، الأول: أن الاعتقاد الإسلاميّ يقوم على الفهم الحقيقيّ والدقيق لمعنى التوحيد الوارد في كلمة لا إله إلا الله. والأمر الثاني: أن رحلة الأنبياء من أول نوح إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) تتلخص في أمرين، الأول: هو الدعوة إلى إسلام الأمر بالله، والأمر الثاني: أن الدين هو الإسلام. وبالتالي فقد ترتب على هذا الأفكار أمور خطيرة جداًّ، أهمهما أن جماعة الإخوان المسلمين اتهمت الناس بأنهم قد بعدوا عن دينهم، وأنهم ليسوا بمسلمين، بل وصل الأمر إلى اتهامهم المجتمعَ بالكفر، ويجب عدم الأكل معهم أو الزواج منهم واعتزالهم.

ومن هذا المنطلق يعتقد الإخوان المسلمون” أنهم يعملون على إقامة الدين وإقامة جماعة إسلاميّة على الأصول الشرعيّة، فلا بد أن يُقيموا الحد، أي أن يجلدوا الزاني أو يرجموه إن كان متزوجاً، وإن يجلدوا شارب الخمر، وغيرها”([13]). لكن كل هذه الإجراءات من وجهة نظر الجماعة لا تتحقق إلا بعد سيطرتهم على أرض المسلمين، وإلغاء الحدود بين الدول المسلمة، لكي يقيموا حكومة إسلاميّة ([14]).

اتخذت جماعة الإخوان المسلمين بعض الشعارات، مثل الله زعيمنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أمانينا. فالله زعيمنا تعني بمفهوم الجماعة أن زعامة الله أفضل من زعامة البشر. والرسول قدوتنا تعني أن البشر جميعاً ناقصون، والرسول هو القدوة في حياته وسُنته، والقرآن دستورنا تعني الضيق بدساتير البشر التي تُعبر عن إرادة الحاكم. أما الجهاد فهو يُعد بالنسبة لهم السبيل ضد الخضوع ومصالحة الأعداء، وعدم الرضا بالذل، ورفض عقد أي معاهدات تضر بمصالح البلاد، فالجهاد أفضل طريق لتغير المجتمع ونيل الحقوق بحسب رأيهم.

من هنا كان قطب قد أكد على ضرورة تغيير المجتمع جذريًّا وبناء الجماعة المؤمنة الفريدة التي تنفصل عن هذا المجتمع باعتباره مجتمعاً جاهليًّا من وجهة نظره على أن يكون هذا التغيير بكل الوسائل التي تراها الجماعة مناسبة سواء كانت بالطرق السلميّة أو غير السلميّة بمعنى حتى لو كان التغيير باستخدام القوة ([15]). فهو يقول في هذا الصدد” لا ينشأ المجتمع المسلم، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة، وهي قوة الاعتقاد، وقوة التنظيم والبناء الجماعيّ، وقوة البناء النفسيّ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهليّ، ويتغلب عليه”([16]).

وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، وبعد تسلم الرئيس السادات السلطة في مصر، حدث تطورٌ في موقف جماعة الإخوان المسلمين من الدولة والعمل السياسيّ، لكنه لم يكن تحولاً فكريًّا حقيقيًّا بل هو إعادة البناء التنظيميّ للإخوان بعد خروج أغلب قياداتهم من السجون إذ حاول السادات حينها إطلاق يد جماعة الإخوان المسلمين لمواجهة المد الشيوعيّ والتيار الناصريّ. إذن كانت تلك المرحلة تمثل مرحلة التكيف مع الواقع باستخدام التقية السياسيّة للجماعة الذين كانوا يعملون، ويخططون سرًّا لقتل السادات. وسنأتي في المطالب اللاحقة لشرح تفصيليّ عن مرحلة الصدام بين السادات وجماعة الإخوان المسلمين.

 

أهداف جماعة الإخوان المسلمين ووسائل تحقيقها

لجماعة الإخوان المسلمين عدة أهدف، منها أهداف خاصة بالأمة الإسلاميّة نفسها، وأخرى أهداف عامة للبشرية كافة. فأما الأهداف الخاصّة بالأمة الإسلاميّة فقد جاءت وبحسب رأي الجماعة نتيجة لأن الأمة المسلمة بواقعها الحاليّ أفراداً وأسراً ومجتمعاتٍ بعيدةٌ كل البعد عن حقيقة الإيمان بربها وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر بخيره وشره. كما أن الأمة بعيدة كل البعد عن حقيقة الإسلام المتمثلة في صلاتها وزكاتها وصومها وحجها كعبادة، وأنها بعيدة أيضاً عن أحكام الإسلام وتعاليمه شريعة وقانوناً.

وعليه يجب توحيدُ الأمة المسلمة من أقصاها إلى أقصاها لتكون كتلة واحدة في وجه معسكر الكفر والشرك والنفاق بحسب تعبيرهم، ويجب بناء الأسرة الإسلاميّة أفراداً وأسراً والعودة إلى حقيقة الدين الحنيف. ثم تنتقل بعد ذلك إلى البشريّة كافةً لتعرض عليها الإسلام، وتطالبها بالدخول في الإسلام أو تخضع لأحكامه. وفيما يخص الأهداف العامة والشاملة لكل البشريّة فقد دعت الجماعة إلى أن تعبد البشريّة كلها ربًّا واحداً، وأن تأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الهدف الأخطر من بين كل هذه الأهداف العامة فهو قتال الناس كافةً حتى يشهدوا شهادة الحق، ويذعنوا لله تعالى في كل شؤونهم.

فالقتال بالنسبة للجماعة يُمثل فرضاً وواجباً على الأمة كافةً، لا تعلنه إلا قياداتها، فهو الفريضة القائمة إلى يوم القيامة في معتقداتهم. بمعنى الجهاد إلى يوم القيامة بمراتبه الثلاثة: بالقلب، واللسان، واليد ([17]).

 

الإخوان المسلمون ومنهج العنف

شكلت البنية الثقافيّة والعقائديّة لجماعة الإخوان المسلمين الأثر المباشر في ممارستهم للعنف، في الوقت نفسه تميزت الجماعة باستخدامها العنف كوسيلة سياسيّة. لقد أعدّت الجماعة خيانة زعماء مصر (العلمانيين) للثقافة والدين بنفس قدر خيانتهم السياسيّة.

وفي رأي الجماعة أن مقاومة الاستعمار تُمثل مقاومة لحملة صليبية جديدة خاصةً بعد أن استولت الجماعة على بعض الأسلحة من الجيش البريطانيّ في أثناء الحرب العالميّة الثانية إذ قاموا بتدريب أعضائهم على كيفية استخدام تلك الأسلحة، وهذا ما أكده (عمر التلمسانيّ) المرشد العام الثالث للجماعة إذ يقول في هذا الصدد:” إن حسن البنا سعى إلى بناء منظمة من الكوادر تتلقى تربية وإعداداً خاصًّا وتُعد لتكون ميليشيا مسلحة، مهمتها أن تستولي على الحكم بتحرك انقلابيّ”([18]).

وباعتراف التلمسانيّ هذا يصبح كل ما ذكره حسن البنا في بداية دعوته عن عدم جواز فكرة الثورة هو مجرد كلام ليس أكثر لكي يُبرّئ جماعته من أي استخدام للعنف. لكن في الحقيقة ووَفقاً لهذه المعطيات يُعد المنهج الانقلابيّ هو جوهر فكر الجماعة. فعلى سبيل المثال لا الحصر إنهم يبررون الاغتيالات السياسيّة والخروج على الحكام بجميع اشكاله سواء كان خروج قتال أو تظاهر وعصيان بأنها ثورة ضد الظلم والطاغوت.

في الوقت نفسه فهم لا يغامرون بأنفسهم دائماً، بمعنى أنهم في بعض المواقف الاحتجاجية لا يخرجون على الحكام بصورة مباشرة، بل يكون عن طريق غيرهم، وذلك بالتهيج والإثارة، لكن عن طريقهم فقط يتم أسلوب الاغتيالات السريّة. الجدير بالذكر أن الجماعة تخرج ضد الدولة عندما يتعرض بعض من قادتهم للاعتقال ([19]).

لقد وصل العنف لدى جماعة الإخوان المسلمين بتبريرهم قتل المسلمين مستشهدين بروايات وقصص قد حدثت في صدر الإسلام. فبحسب رأي الجماعة أنه يجوز قتل المسلم الذي يثبت تعاونه مع الأعداء. ونتيجةً لهذ أصبح قتل المسلم الخائن في نظرهم جهاداً يُثاب عليه القاتلُ بدخوله الجنة، خاصة وأن قضية الجهاد هي التي كانت سائدة بين الجماعة، وأعطت التنظيم صفته المميزة، وبات الجهاد من الفضائل الأساسيّة لدى أعضاء الجماعة. وهذا ينطبق تماماً على ما أكده مؤسس الجماعة حسن البنا مراراً وتَكراراً بأنهم يمثلون جيش التحرير، وأنهم كتائب الخلاص لتحرير الأمة، وبأنهم جنود الرحمن. وعليه فاعتمد الإخوان العنف منهجاً في سياساتهم العملية ([20]).

وتأكيداً لفلسفة العنف في منهج الإخوان المسلمين ما قاله حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس” وفي الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جُهزت كُلٌّ منها نفسيًّا وروحيًّا بالإيمان والعقيدة، وفكريَّا بالعلم والثقافة، وجسميًّا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله”([21]).

 

موقف الإخوان المسلمين من الحضارة الغربيّة

كان نقد الإخوان المسلمين للغرب وللحضارة الغربيّة قاسياً جدًّا، وهذا يرجع لأصول الفكر المتشدد لمؤسس الجماعة حسن البنا وكذلك أفكار سيد قطب من منطلق الصراع الاجتماعيّ والثقافيّ بين الغرب والإسلام إذ ترى الجماعة أن الأمم الأوروبيّة قد اتصلت بالإسلام وشعوبه في الشرق بالحروب الصليبية، وسار ذلك جنباً إلى جنب مع نشأة الدولة القوية، وامتدّ سلطانها إلى كثير من البلاد والأقطار، فكان طبيعيًّا بعد ذلك أن تقوم الحياة الأوروبيّة والحضارة الغربيّة على قاعدة إقصاء الدين من مظاهر الحياة الاجتماعيّة، وطغيان النظرة الماديّة وجعلها المقياس في كل شيء. وتبعاً لذلك صارت مظاهر هذه الحضارة مظاهر مادية بحتة تهدم ما جاءت به الأديان السماوية، وتناقض كل تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف بحسب رأيهم.  وترى الجماعة أن أهم المظاهر التي لازمت الحياة الأوروبيّة هو الإلحاد، والشك في الله، وإنكار الروح، ونسيان الجزاء الأخرويّ، بالإضافة إلى الإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز، وبهذا فإن الغرب اتبعوا الشهوات بالإضافة إلى تجهيز المرأة بكل صنوف المفاتن والمغريات، والإغراق في الموبقات إغراقاً حطم الأجسام والعقول الذي قضى على نظام الأسرة. ونتيجةً لذلك فإن المظاهر الماديّة البحتة في المجتمع الأوروبيّ هي التي قد انتجت فساد النفوس، وضعفت الأخلاق والتراخي في محاربة المفاسد، فكثرت المشكلات، وظهرت المبادئ الهدامة، فتمزقت الدول، وتناحرت الشعوب على المطامع والأحقاد، وقد أثبتت هذه المدنيّة الحديثة عجزها التامّ عن تأمين المجتمع الإنسانيّ، وإقرار الطمأنينة والسلام فيه، وفشلت في إسعاد الناس رغم العلم والمعرفة التي يمتلكونها. وفي مقام آخر بيّن الإخوان أن الأصول السياسيّة للدولة الغربيّة تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصاديّة تجتاحها الأزمات، وأصولها الاجتماعيّة تقضي عليها المبادئ الشاذة. وهكذا فإن بسبب هذه الحضارة الغربيّة وسياساتها الجائرة الطامعة أصبحت الإنسانيّة كلها معذبة وشقية وقلقة ومضطربة. إذن فهي بأشد الحاجة إلى تطبيق سور الإسلام الحنيف ضد الماديّة الأوروبيّة بحسب رأي الجماعة ([22]).

فكر المرشد مصطفى مشهور:

يشرح (عبد الحميد الغزاليّ) عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين والمستشار السياسيّ للمرشد العام السابع (مهدي عاكف) أنه كان لفكر مصطفى مشهور المرشد الخامس للجماعة تأثيرٌ كبيرٌ في عمل تنظيم الإخوان المسلمين ومسارهم، فقد كان مصطفى مشهور يرى أن سبب ضعف الأمة العربيّة والإسلاميّة وما تشهده من ضياع ودمار وانهيار الفرد، وانهيار الأسرة، وانهيار المجتمع، فانهيار الدولة، وما ترتب عليه من التبعية الذليلة وانتشار العلل والأمراض، إنما يعود سببه إلى تخطيط أعداء الإسلام بذلك، فهو يقول: “إن أبناء التيار الإسلاميّ يرفضون هذه الروح الاستسلاميّة، فقد ربّى فيهم الإسلام كل معاني العزة والكرامة، وروح التضحية والفداء، وبعث فيهم الأمل وعدم اليأس أو القنوط من رحمة الله وفي تأييده ونصره”([23]).

ومن هذا المنطلق يُقدم مشهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر على أنها جماعة ذات بناء قويّ ومتين يقوم على أساس منهاج الله وشريعته السمحة العادلة، وهو منهاج رب الناس للناس الذي يتصف بالكمال والشمول وتحقيق العدالة والأمان والمساواة والسعادة لأنه من عند الله. في الوقت نفسه رفض مصطفى مشهور كل المشاريع الاقتصاديّة أو ما يسمى بالخطة الخمسية في مصر، لأنها من وجهة نظره تهتم بالعمران الماديّ. لكنه دعا إلى الاهتمام في إعداد الرجال المؤمنين، وبناء المواطنين الصالحين على أساس القيم الدينيّة من خلال تسخير أجهزة الدولة التعليمية والإعلاميّة والاجتماعيّة وغيرها، معتبراً أن كل من يعمل في حقل الدعوة الإسلاميّة هم الرجال الذين سيُقابلون المحن والمصاعب بالثبات والصبر، لأن عقيدتهم ثابتة وراسخة، لا يُغيرها ولا يُرهبها الممارسات القمعية والإرهابيّة من قِبل الحكومة، بل إن تلك الممارسات الحكومية لا تَزيدهم إلا إصراراً على المضيّ في مناصرة الله والدعوة ولو كلفهم ذلك أرواحهم. في الجانب الآخر برر مشهور الممارسات الإرهابيّة وفكر التكفير لدى الجماعة بأنه ثمرة طبيعية وردة فعل عكسية لشدة التعذيب التي تعرض لها أبناء التيار الإسلاميّ في السجون والمعتقلات ([24]).

 

أفكار جمعة أمين عبد العزيز وطروحاته

جمعة أمين عبد العزيز أحد أهم مفكري جماعة الإخوان المسلمين والمؤرخ الرسميّ لها، ونائب المرشد العام للجماعة، وله الكثير من الأطروحات السياسيّة والعديد من المؤلفات والأفكار التي انعكست وبقوة على فكر جماعة الإخوان المسلمين. لقد دعا أمين عبد العزيز الجماعة إلى محاربة ما أسماه بالمظاهر الغربيّة، أو مظاهر الفساد التي كانت منتشرة في المجتمع المصريّ، كالبغاء والعري والسفور والخمور والميسر، وكذلك مظاهر انحراف الشباب وتفشي الفقر والبؤس والتسول والرشوة، بالإضافة إلى تدهور الحالة الصحية وغيرها، فهو مؤمن جدًّا بأن جهود الإخوان المسلمين ستنجح في محاربة هذه المفاسد.

ويرى أمين، بالرغم من أن مصر هي زعيمة العالم الإسلاميّ وفيها الأزهر الذي يمثل أكبر وأقدم جامعة تاريخيّة في العالم، لكن في الوقت نفسه فإن كرامتها وعفتها ملطخة بوصمة الفواحش والرذيلة المنتشرة فيها. وعليه يجب أن تغضب جماعة الإخوان المسلمين وتنتفض للإسلام وحماية شريعة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لأن هذه المظاهر هي التي سلبت العرض، ونهبت الشرف من وجهة نظره.

وتأسيساً لذلك فقد سعت الجماعة إلى محاربة ما أطلقت عليه بمظاهر الفساد والانحلال في المجتمع المصريّ بكل ما أوتوا من قوة حتى كتب أحد أعضاء الجماعة إلى نائب المرشد جمعة أمين في حينها مستنكراً الأوضاع الاجتماعيّة في مصر قائلاً” نبئني في أي بلد نعيش، وفي أي قارة نسكن، أنحن في باريس بلاد الفجور والتهتك أم نحن في أمريكا بلاد التمثيل والسينما؟ أخبرني أين الشرف؟ أين الفضيلة؟ أين النخوة؟ أين الرجولة؟ أين الدين؟ أين الإسلام؟ قد ضاعت الأخلاق، وانتهكت الحرمات، وارتكبت المآثم جهاراً نهاراً تحت سمع الحكومة وبصرها في بلاد المسلمين”([25]). ومن هذا المنطلق لم تكتف جماعة الإخوان المسلمين في محاربة ما يُعد فساداً من وجهة نظرهم بكتابة المقالات أو إلقاء الخطب والكلمات في المساجد أو في الأندية العامة، وإنما اتبعوا مختلف الوسائل والطرق إذ وجّهت الجماعة نقداً لاذعاً للحكومة المصريّة على إباحة مظاهر الفساد في البلاد، متهمين الغرب بمحاولة نشر مظاهر الفساد والانحلال في مصر وفي جميع البلاد العربيّة والإسلاميّة، مؤكدين بذلك على أن خصوم الشرق قد نالوا من الشرق، وعاثوا فيه فساداً، وأذلوا أبناءه. ولهذا أعدّت جماعة الإخوان المسلمين الغرب مخادعين محتالين، استطاعوا بدهائهم أن يخدعوا الشرق عن دينه وعرضه ([26]).

 

شهادة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح

يعدّ عبد المنعم أبو الفتوح أحد أهم القيادات الطلابية الإخوانيّة في حِقبة السبعينيات من القرن الماضي، وعضواً سابقاً في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في مصر حتى عام 2011م. لقد بينَ أبو الفتوح في شهادته التي تخص انضمامه وعمله في جماعة الإخوان المسلمين، أنه بدأ العمل الإسلاميّ وهو في مرحلة الدراسة الجامعية مع مجموعة من شباب الجماعة، ويؤكد أنهم قد تأثروا في هذه المرحلة تحديداً بشيوخ جماعة أنصار السُنة والتيار السلفيّ الوهابيّ.

يقول أبو الفتوح ” كنا نأخذ وننهل من مراجع فكرية وشرعية مختلفة بل متناقضة، لكننا انفتحنا مبكراً، وقرأنا الكتابات الثوريّة للشهيد سيد قطب والأستاذ أبي الأعلى المودوديّ التي طالما ألهبت عواطفنا ومشاعرنا، وغذتنا بروح الثورة والتمرد”([27]).

ويوضح أبو الفتوح أن جيلهم من التيار الإسلاميّ وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وتحديداً ممن تأثروا بالفكر الوهابيّ، كانوا يؤمنون بجواز استخدام العنف بل وجوبه في بعض الأحيان، وذلك من أجل نشر الدعوة وتطبيق فكر الجماعة بالقوة، مبيناً أن العنف بالنسبة لهم كان مُبرراً بل شرعيًّا.

ويقرُّ أبو الفتوح بوجود خلاف بين الجماعة وباقي الفصائل الإسلاميّة آنذاك، ذلك الخلاف كان في مسألة توقيت استخدام العنف ومدى استكمال عدته، لأن الفكر الذي كان مسيطراً على الجماعة في وقتها كان عدم استخدام القوة، وإنما يُعدون أنفسهم لاستخدامها حين تقوى شوكتهم ويصبحون قادرين على القضاء على النظام الحاكم في مصر.

لقد ميز أبو الفتوح في شهادته هذه بين جماعة الإخوان المسلمين في تحركاتهم وتوجهاتهم عن الجماعات الأخرى التي مارست العنف وخاصة جماعة الجهاد التي مارست العنف الإرهابيّ بتعجُّل وبدون حسابات من وجهة نظره. ويوضح أبو الفتوح أن الجماعة كانت تسعى إلى إقامة الدولة الإسلاميّة وعودة الخلافة الإسلاميّة، وهذا يتم من منطلق عقائديّ بحتٍ وليس من منطلق سياسيّ، لأنها تخضع لحسابات عقائديّة وأخلاقية إذ إن الدولة التي تحلم بها الجماعة هي دولة الشريعة التي تُقيم الحدود والعقاب. ولهذا فإن كل مؤسسات الدولة في نظر الجماعة تمثل خروجاً عن روح الإسلام، ويجب أن تُزال ويقام بدلاً منها نموذج إسلاميّ باعتراف أبو الفتوح. أما كيفية السيطرة على الدولة من قِبل أبناء التيار الإسلاميّ فإنها تقوم على ذلك الفكر الانقلابيّ البسيط والساذج بحسب تعبير أبو الفتوح، وهذا الوصف جاء انعكاساً لما قام به بعض من شباب التيار الإسلاميّ وتحديداً من (تنظيم الفنية العسكريّة) وكما ذكرنا آنفاً في محاولة للاستيلاء على الحكم إبّان فترة الرئيس السادات، وقد فشلت تلك المحاولة. لكنها كانت تجرِبة حقيقية لإقامة الدولة الإسلاميّة، وبالرغم من أنها فشلت ولم توفق، لكن الجماعة لم ترفضها في ذلك الوقت بحسب رأيه ([28]).

الخلاصة:

أثبتت الوقائع والأحداث أن أغلب الفصائل الإسلاميّة المتطرفة قد تأثرت بأفكار جماعة الإخوان المسلمين وأيديولوجيتها، ومن أبرز هذه الأفكار عدمُ اعتراف الجماعة بأي نظام حكم لا يرتكز على أساس الإسلام، ولا يستمد منه تشريعاته وقوانينه، إضافة إلى ذلك فهم لا يعترفون بالأحزاب السياسيّة، ولا بالأشكال التقليديّة التي هي في رأيهم قد أُرغموا عليها من قِبل أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها. ومن هنا فإنهم يسعَون وبكل قوة إلى إحياء نظام الحكم الإسلاميّ بكل مظاهره وتكوين الحكومة الإسلاميّة على أساس هذا النظام. ووَفقاً لهذه الأفكار والطروحات المتشددة فقد تولدت العَلاقة السلبية ما بين الشباب المسلم والدولة. وبالنتيجة هي حالة تنافر وعدم قبول بين الفرد المنتمي لهذه الحركات والجماعات الإسلاميّة وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين وبين المجتمع الذي يعيش فيه. وبما أن الجماعة تُعدّ نفسها هي من تمثل الإسلام، وفي الوقت نفسه ترفض أن تضعها الدولة في أي شكل قانونيّ، إذن فهي تنتظر اللحظة التي ينتهي فيها وجود الدولة للاستيلاء عليها وتغييرها حسب رؤيتهم. وحين ننظر إلى إيديولوجية الجماعة فإنها تتجسد بأفكار محددة، مثل تحرير الوطن الإسلاميّ من كل استعمار أجنبيٍّ، وذلك حق طبيعيّ لكل إنسان لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر، وإقامة دولة الإسلام، وبالتالي فإن هذه الأفكار تصلح لتفسير كل أنواع الاشتباك مع المحيط الوطنيّ والمحيط الإقليميّ والدوليّ. ومن أهداف الجماعة أيضاً فكرة استعادة الخلافة، ثم استعادة الأراضي التي أخذت من المسلمين، ولكن الفجوة بين جماعة الإخوان المسلمين وهذه الأهداف واسعة جدًّا وبكل المقاييس، فتحرير الوطن الإسلاميّ يعني خروج المستعمر منه، والحصول على الاستقلال القانونيّ أمر متوقع حينها، وليس بجهد الإخوان ولكن بكفاح الشعوب وحركات التحرر المنتشرة في ذلك الوقت.

ووَفقاً لما تقدم فإن عقيدة الإسلام في رأي مفكري الجماعة ومنظريها عقيدة انقلابية شاملة لا ترضى أن تعيش على الهامش، بل من شأنها أن تسود الحياة كلها، وتصبغ وجه المجتمع كله بصبغة الإيمان وصبغة الله. ومن هنا طالبت جماعة الإخوان المسلمين الحكوماتِ المصريّة المتعاقبة بضرورة تطبيق الشريعة الإسلاميّة وإلغاء كل القوانين الغربيّة وخاصة الفرنسيّة التي انتشرت في أكثر الدول العربيّة وفي مقدمتها مصر وتحديداً في الفترة الأولى من عمر الجماعة وبدايات تأسيسها. وكذلك القضاء على التقاليد الغربيّة التي أصبحت تحكم مجتمعات المسلمين وخاصة الطبقات العليا فيه. لقد جاء رفض الجماعة للقوانين الغربيّة والمطالبة بإلغائها انعكاساً لأفكار مؤسس الجماعة حسن البنا الذي كان مؤمناً بفكرته المتشددة التي تُعدّ أن الحياة الغربيّة استطاعت أن تهدم أهم أركان الحياة الإسلاميّة، وهي الحكومة، والأمة، والأسرة، والفرد، وأنه لا وجود لقيم الله في مصر، بمعنى أن الدولة المصريّة في وادٍ وحكم الله في وادٍ آخر.

 

 

 

([1]) البشري، طارق، الحركة السياسيّة في مصر 1945-1952، الناشر، دار الشروق، القاهرة، ص41

([2]) صبحي، أحمد محمود، جذور الإرهاب في العقيدة الوهابية، الناشر، دار النصر، القاهرة، 2008، ص36

([3]) المصدر نفسه السابق، ص122 ص123 ولاحقا

([4]) للمزيد راجع، أبو الاسعاد، محمد، السعودية والإخوان المسلمون، الناشر، مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، القاهرة، سنة الطبع، بلا، ص83ص84 ولاحقا

([5]) قطب، سيد، معالم على الطريق، الناشر، دار الشروق، القاهرة، 1979، ص91

([6]) للمزيد راجع، عفان، محمد، الوهابية والإخوان: الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية السلطة، الناشر، دار جسور، لبنان، 2016، ص110ص11 ولاحقا

([7]) للمزيد راجع، تمام، حسام، تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم، الناشر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2010، ص97ص98 ولاحقا

([8]) للمزيد راجع، تمام، حسام، تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم، مصدر سابق، ص7ص8 ولاحقا

([9]) للمزيد راجع، عفان، محمد، الوهابية والإخوان: الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية السلطة، الناشر، دار جسور للترجمة والنشر، لبنان، 2016، ص100ص101 ولاحقا

([10]) العناني، خليل، من داخل الإخوان المسلمين: الدين والهوية والسياسة، الناشر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، القاهرة، 2018، ص134

([11]) المصدر نفسه السابق، ص132ص133 ولاحقا

([12]) للمزيد راجع، إبراهيم، ماجد موريس، الإرهاب: شهوة الدم ولغز الانتحار، الناشر، دار النهضة العربية، بيروت، 2018، ص38

([13]) عشماوي، علي، التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين: مذكرات علي عشماوي آخر قادة التنظيم السري الخاص، الناشر، مركز أبن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة، سنة الطبع، بلا، ص172

([14]) المصدر نفسه، ص159ص160 ولاحقا

([15]) للمزيد راجع، شاهين، عماد الدين، الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسيّ في العالم العربي، الناشر، مركز الأمارات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2002، ص76ص77 ولاحقا

([16]) قطب، سيد، معالم في الطريق، مصدر سابق، ص88

([17]) للمزيد راجع، جابر، حسين بن محسن بن علي، الطريق إلى جماعة المسلمين، الناشر، دار الوفاء، مصر، 1990، ص121ص122 ولاحقا

([18]) قاعود، إبراهيم، عمر التلمساني شاهدا على العصر: الإخوان المسلمون في دائرة الحقيقة الغائبة، الناشر، دار المختار الإسلامي، القاهرة، 1985، ص64

([19]) للمزيد راجع، الوصيفي، علي السيد، الإخوان‌ المسلمون‌ بين‌ الابتداع‌ الديني‌ والإفلاس‌ السياسيّ، الناشر، دار المشارق الإسلامية، القاهرة، سنة الطبع، بلا، ص291ص292 ولاحقا

([20]) للمزيد راجع، يوسف، السيد، الإخوان المسلمون وجذور التطرف الديني والإرهاب في مصر، الناشر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006، ص209ص210 ولاحقا

([21]) البنا، حسن، مجموعة رسائل البنا، الناشر، دار الدعوة، الإسكندرية، 1982، ص149

([22]) للمزيد راجع، القرضاوي، يوسف، الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد، الناشر، مكتبة وهبة، القاهرة، 1998، ص168ص169 ولاحقا

([23]) الغزالي، عبد الحميد، الفكر الاقتصادي عند الإخوان المسلمين، الناشر، دار النشر للجامعات، القاهرة، 2007، ص81

([24]) المصدر نفسه السابق، ص80ص81 ولاحقا

([25]) عبد العزيز، جمعة أمين، أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين: الإخوان والمجتمع المصري والدولي في الفترة من 1928-1938، الجزء الثالث، الناشر، الدار الإسلامية، القاهرة، 2003، ص109

([26]) المصدر نفسه السابق، ص107ص108 ولاحقا

([27]) أبو الفتوح، عبد المنعم، شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر 1970-1984، الناشر، دار الشروق، القاهرة، 2010، ص67

([28]) المصدر نفسه السابق، ص67ص68 ولاحقا

كاتب

التعليقات مغلقة.