مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

طَبيعةُ الصّراعات الدّوليّة واتّجاهاتها

فوزي سُليمان

توالت الأحداث خلال الفترة المنصرمة، وخصوصاً مع بداية العام 2021، وتشابكت لدرجة جعلت المتتبّع

لها تختلط عليه الأوراق ويتوه في دهاليز الفوضى العارمة التي تجتاح العالم ككُلّ، والتي يفضّل الكثيرون

تسميتها بـ(الفوضى الخلاقة…!).

بادئ ذي بدء لا يختلف اثنان على أَّن أغلب الصراعات العالميّة تتمحور حول السّوق ومصادر استمرارها

وديمومتها، وبطبيعة الأحوال السَّيطرة عليها حتّى ولو على حساب الأمم الأخرى، وهي كذلك على

الأغلب، ومع كُلّ أسف أضحى ذلك من البديهيّات أو المسلّمات. ويمكننا هنا الاستشهاد بمقولة ونستون

تشرشل – الفظَّة – والتي في الوقت عينها تلخّص حقيقة السّياسة العالميّة ككُلّ: “ليس هناك أصدقاء دائمون،

ولا أعداء دائمون، إنَّما هناك مصالح دائمة”. فهذه المقولة تُعبّر عن حقيقة التوجّهات العالميّة الجديدة –

القديمة والتي بدأت فعليّاً ترسم ملامح المرحلة المقبلة وتتّضح خلال قمّة G7 الصناعيّة والتي تَمَّ إلحاقها

مباشرة بقمّة للناتو، حيث أكَّدَ فيها الرَّئيس الأمريكيّ على رصِّ الصفوف لمواجهة العدوّ الرّوسيّ والصّينيّ.

وبغضِّ النَّظر عن تقليديّة انعقاد هكذا قمم، إلا أنَّ القمّتين الآنفة الذّكر عُقِدَت لتوجّه رسائل بعينها ليس إلى

روسيّا والصّين فحسب؛ بل إلى العالم أجمع، ألا وهي أنَّنا مقبلون على تغييرات جذريّة في شكل وجوهر

العلاقات وحتّى التكتّلات الكلاسيكيّة المعروفة، العسكريّة منها والاقتصاديّة، ليتّجه العالم نحو الانقسام إلى

أقطاب متعدّدة وفي جوهرها متناحرة حتّى ضمن القطب الواحد، وذلك يعكس حقيقة الأزمة التي تعصف

بالعالم.

إنَّ دلالات الأزمة بدأت مع انسحاب بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ. ليس هذا فحسب؛ بل وصلت الأمور

إلى درجة نشوب الحرب والتي كانت قاب قوسين وأدنى بين أعضاء الحلف الواحد؛ أي حلف النّاتو،

فالخلافات بين اليونان وتركيّا، وتركيّا وفرنسا، وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، وفرنسا وإيطاليا، ماهي إلا

تعبير مكثّف لعمق الأزمة العالميّة والتي انعكست إلى ساحات أخرى لتصفيتها فيما بينها. وبمعنى أدقّ؛

نقلت تلك الصراعات نحو ساحات أخرى – الشَّرق الأوسط والأدنى وأفريقيا – وفي الوقت عينه التوجّه

نحو تحالفات جديدة، وتحالف (أوكوس) المُستحدث بين أستراليا وإنكلترا والولايات المتّحدة الأمريكيّة في

مثلّث المحيطين الهندي والهادئ ما هو إلا خيرُ مثالٍ على ذلك، والذي يُعتقد بأنَّ كُلّاً من الهند واليابان

وقوى أخرى سيتجّهون نحو الانضمام له وأخذ مكان لها ضمنه، ووصفه العديد من المراقبين بأنَّه حلف

عسكري، وان لم يكن بديلاً في الوقت الحالي عن النّاتو فهو رَديفٌ له..!.

إذاً فالأحداث على الأرض كُلُّها تُنذر بالتَّصعيد، وفي كافّة المجالات الاقتصاديّة والسّياسيّة والعسكريّة،

وذلك للحدِّ من طموحات القوى النّاشئة التي تبحث لها عن موطئ قدم في الأسواق العالميّة، وفي الكثير

من المواقع تَمَّ اقتحام الفضاءات التقليديّة للقوى المُهيمنة في العديد من الدّول، وحتّى بين الأصدقاء ذاتهم

تَمَّ تجاوز ما هو مُتعارف عليه بالنّسبة لمناطق النّفوذ. فتحوّل الصفقة الفرنسيّة للغوّاصات مع أستراليا

لصالح أمريكا وإنكلترا، يؤكّد مقولة “ونستون تشرشل”، والتي وصفته فرنسا بأنَّها “خيانة” لها، وتؤكّد

مرّةً أخرى أنَّ التّوازنات القديمة وخاصّة بعد الحرب العالميّة الثّانية لم تَعُدْ صالحةً، أو على الأقلّ لم تعد

مجدية لمواجهة المتغيّرات العالميّة، وخصوصاً بعد المستوى الذي وصلت إليه الصّين من تطوّرٍ، وفي

كُلّ المجالات، والتي يعتبر اقتصادها من أقوى الاقتصاديّات في العالم. وكذلك الأمر بالنّسبة إلى روسيّا

التي استطاعت بشكل من الأشكال – وخصوصاً في المجال العسكريّ – ترميم ما تمخّض عن انهيار

الاتّحاد السّوفياتي، لتتّجه مرَّةً أخرى إلى فرض نفسها في العديد من الملفّات.

وإذا ما أخذنا التوجّهات العلنيّة للقوى (الصديقة…!) نحو الأسواق الشَّرقيّة المحظورة أمريكيّاً وغربيّاً

كامتلاك تركيّا لمنظومة الصّواريخ “S – 400” الرّوسيّة ومناطحتها لأسيادها في البحر المتوسّط وليبيا

وقبرص وأفريقيا، يُفسّر التشنّجات في الخطاب الفرنسيّ – التركيّ، فالأمر ليس كما يَتُمُّ التَّرويج له، من

قبيل تحويل كنيسة آية صوفيا إلى مسجد، أو مسألة مساندة فرنسا بهذا الشكل أو ذاك لقوّات سوريّا

الدّيمقراطيّة، أو مسألة الاعتراف بمجازر الأرمن، بل إنَّ الأمر يتعدّى ذلك، وذا أبعادٍ أكثر عمقاً. فتركيّا

تمدّدت خلال العقد المنصرم إلى ساحات تُعَدُّ امتداداً للمصالح الفرنسيّة، معتمدة في ذلك على التنظيمات

الإسلاميّة المتشدّدة كمنظّمات القاعدة والإخوان المسلمين، مستخدمة إيّاها مطيّة في تحقيق أهداف ذات

أبعاد طورانيّة استعماريّة بحتة، وكُلّ هذه التطوّرات مرتبطة بشكل وثيق مع قرب انتهاء مئة عام على

اتّفاقيّة لوزان المشؤومة، والتي تُعَدُّ تركيّا من أكثر الدّول التي تحيا فوبيا هذه الاتّفاقيّة، والتي كانت على

حساب تهميش وإنكار حقوق شعوب بأكملها.

كما أنَّ ريادة تركيّا المعسكر “السُنّيّ” – إن صحّ التعبير – قادها إلى تعميق الخلافات والشّروخ بينها وبين

دول المنطقة، وخاصّة السُّعوديّة، التي تعتبر نفسها القائدة التَّقليديّة لهذا المعسكر، وبلا منازع. فإن اقتنعنا

بأنَّ تركيّا تلعب دوراً “وظيفيّاً” في خلق الصراعات في المنطقة، بناءً على نظريّة “الفوضى الخلّاقة”،

ولكنّها دون شكّ سترتدُّ عليها سلباً، وفق مقولة إنَّ “طبّاخ السمِّ ذائقٌ له دون بُدّ”. فالأزمات المتلاحقة

الاقتصاديّة والمجتمعيّة التي تمرّ بها تركيّا، إنّما تعكس في حقيقتها جوهر الدّور الذي تضطّلع به خارجيّاً.

فتدخّلها السّافر في سوريّا واحتلالها لأجزاء واسعة من أراضيها، إنَّما عمّقت من أزمة النّظام التركيّ،

وليس كما يتصوّرها البعض أنَّ تركيّا صدّرت أزماتها إلى الخارج. وإن كانت تبحث عن مساحات إضافيّة

من الجغرافيّة السّوريّة والشَّرق أوسطيّة لتنفيذ مشروعها الطورانيّ “الميثاق الملّي”، فإنَّها في ذات الوقت

مُحاطة بكم هائل من الجيران الأعداء، ما يستحيل تنفيذ مشروعها، خاصّةً بعد أن أثبتت الأيّام فشل

الإستراتيجيّة التي طرحها هُدْهُدُ السّياسة الخارجيّة التركيّة السّابق أحمد داود أوغلو “سياسة تصفير

المشاكل”، لتنقلب إلى صفر حلفاء. في حين أنَّ المراوغة التركيّة بين القُطبين “الأمريكيّ والرّوسيّ”، لم

يَعُدْ لها جدوى، خاصّة أنّنا بدأنا نشهد ارتدادات هذه السّياسة عليها سلباً، من خلال التَّصعيد الرّوسيّ ضُدَّها

في سوريّا، مقابل تدخّل تركيّ مباشر في أوكرانيا، والتي تعتبرها روسيّا أنَّه يمسُّ “الأمن القوميّ الرّوسيّ”

بالدّرجة الأولى.

فرُغم إيحائها – أي تركيّا – بأنّها تسعى إلى إعادة تدوير (أمجاد…!) الإمبراطوريّة العثمانيّة البائدة، والتي

هي ضربٌ من ضروب الخيال والمستحيل، إلا أنَّ الحقيقة هي أنَّها تحاول بشتّى السُبُل الحفاظ على الأمور

كما هي عليها، أو كما جاءت في سايكس بيكو، وهذا الأمر أيضاً أصبح في خبر كان. فالتطوّرات على

أرض الواقع تنبّئ عكس ذلك. فتركيّا أقحمت نفسها في وضع لا تُحسد عليها. فرغم سياسة الابتزاز المَقيتة

التي تتبنّاها في أكثر من ملفٍّ، وخصوصاً في ملفّ المُهجّرين، ضُدَّ أوروبا، وكذلك ابتزاز أمريكا في

مسألة أنَّها ستتوجّه نحو المعسكر الآخر، وبالإضافة إلى أطماعها التوسُّعيّة في أكثر من ساحة، وخصوصاً

دول البلقان وآسيا، جعلتها في عزلة دوليّة تامّة ومعرَّضة لكافّة الاحتمالات؛ أفضلها هي انتكاسات على

الصُعُد كافّةً، وتحجيم قدراتها في أطر ضيّقة ومحدودة، وعدم لعب دورٍ يتجاوز الدَّور المنوط والمرسوم

لها. وهذا ما نشهده فعليّاً على أرض الواقع، وذلك يُثبِت أنَّ تركيّا فقدت مكانتها ودورها المعروف كمخفر

متقدّم لحلف النّاتو وخصوصاً بعد الحرب العالميّة الثّانية، وجاءت الضربة القاضية لها مع فشل وهزيمة

تنظيم الإخوان المسلمين وسياساته البعيدة عن روح العصر في أكثر من ساحة، مصر وتونس والمغرب

والسّودان، والتي كانت بالنّسبة لتركيّا بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير.

وتأتي إيران أيضاً على رأس أولويّات القوى المتناحرة، لما لها من مكانة جيوسياسيّة واقتصاديّة، وخاصَّة

أنَّها قطعت أشواطاً مُهمّة في عمليّات تخصيب اليورانيوم. ورغم اتّجاهها مؤخَّراً نحو منظّمة شنغهاي، إلا

أنَّها هي الأخرى تواجه ملفّات عديدة، داخليّة وخارجيّة. ولا يخفى على أحد اعتمادها المطلق على النَّزعة

المذهبيّة في توجّهاتها السّياسيّة، وهي ليست أفضل حالاً من تركيّا، فهي الأخرى عملت على تصدير

أزمتها الدّاخليّة نحو الخارج، وهي في ذات الوقت معرّضة لدخول نزاعات قد تأتي على الأخضر واليابس،

خصوصاً بعد الانسحاب الأمريكيّ من أفغانستان الذي أبقى الأبواب مُشرَعَةً أمام تطوّرات على أكثر من

صعيد، والحشود العسكريّة الإيرانيّة على تخوم أذربيجان والتوتّر الحاصل فيما بينهما رغم التَّصريحات

المغلّفة بـ”الطبيعيّة”، إلا أنَّها في حقيقة الأمر بمثابة دقّ طبول الحرب، وكُلّ المؤشّرات تشير إلى أنَّ

الخاسر الوحيد فيها ستكون إيران.

بناءً على ما تقدّم، يتبادر إلى أذهاننا ما ستؤول إليه الأمور…؟! وأين هو الحَلُّ في هذا السّرد

الدّراماتيكيّ…؟! في هذه النُّقطة بالذّات يتطرّق المفكّر والفيلسوف عبد الله اوجلان إلى أنَّ “توزيع القوّات

والإمكانات في ساحات عديدة من العالم؛ لا يُعبّر عن القوّة والسَّيطرة، بل على العكس يُعبّر عن عمق

الأزمة والوهن”. والملفّات في مجمل السّياسات آنفة الذّكر، تشير إلى توجّه جميع القوى نحو التَّصعيد

والعسكرة والاستحواذ على الأسلحة بشكل مُرعب جدّاً. ورغم فشل سياسة القطبين، وكذلك القطب الواحد؛

فإنَّه من الحتميّ أيضاً أنَّ سياسة الأقطاب المتعدّدة ستفشل. وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من تغييرات جذريّة

في مجمل السّياسات العالميّة، والتوجّه نحو إنقاذ كوكبنا الذي تعصف به الأوبئة والتغييرات المناخيّة التي

تُهدّد الحياة بعينها، وإيجاد الحلول العادلة لقضايا الشُّعوب؛ وعلى رأسها قضيّة الشَّعب الكُردستانيّ.

كاتب

التعليقات مغلقة.