مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

العلاقات الكردية العربية في الإسلام (الجزء الأوّل) حتّى نهاية العصر العبّاسي

الباحث/عبد الله شكاكي

عبدالله شكاكي
عبدالله شكاكي

تعود جذور العلاقات الكردية – العربية إلى مراحل تاريخية سابقة للعصر الميلادي، خاصة عند قيام أسلاف العرب بتشييد الممالك الآرامية على تخوم كردستان، ومنها مملكة “آرام نهرين” بعد انهيار الدولة الميتانية في بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، واستمرت حتى القرن الثامن قبل الميلاد عندما وقعت تحت السيطرة الآشورية، وكذلك قيام مملكة بيت عديني بين القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد في المنطقة الواقعة بين نهري البليخ والخابور ومركزها تل الأحمر، ثم مملكة بيت زماني بين القرنين التاسع والعاشر في أطراف “آمد”، حيث قضى عليها العاهل الآشوري آشور ناصر بال، وفي عهد الدولة الساسانية منذ القرن الثالث الميلادي وحتى ظهور الدعوة الإسلامية كان الكرد تحت سلطتها، وكان للعرب إمارة الحيرة بقيادة المناذرة في جنوب العراق وشرق الخليج العربي على تخوم الكرد، ومن المؤكد حدث تواصل بين الكرد والعرب في ظل الدولة الساسانية.

أما في العصر الإسلامي فكان الصحابي الجليل “سلمان الفارسي[1] وهو كردي لقب بأبي عبد الله، كما دعي “سلمان المـحمدي ابن الإسلام” بعد إسلامه، قال فيه محـمد (ص): “سلمان منا أهل البيت”، هاجر بلاده في طلب العلم والدين ـ وهو صبي ـ وآمن بالنبي (ص) قبل أن يبعث، وعرفه بالصفة والنعت لما هاجر إلى المدينة، وشهد معه غزوة الخندق وهو من أشار إليه بحفر الخندق، تولى حكومة المدائن- طيسفون- في زمن عمر، وتوفي بها سنة (34) للهجرة، وقد روى كثيراً من الأحاديث عن النبي لعشرات التابعين، وأورد له “بقي بن مخلد” ستون حديثاً في مسنده، وأخرج له البخاري أربعة أحاديث ومسلم ثلاثة أحاديث، وورد في “أسد الغابة” لابن الأثير.

الصحابي الآخر يدعى جابان أبو ميمون الصردي[2] الكردي ورد في “تجريد أسماء الصحابة” للحافظ الذهبي، وكان تاجراً كردياً من الموصل أقام في مكة ويثرب، وابنه ميمون من التابعين، عاصر جابان النبي وروى عنه عدة أحاديث الأحاديث المنقولة عنه قليلة لأنه كان يخاف أن يبدل حرفاً واحداً من الحديث، فيحدث التأويل[3].

بعد وفاة محمد (ص) بدأت “الفتوحات” العربية تحت راية الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية، بغية توسيع رقعة الدولة، والحصول على الغنائم الحربية تحت مسمّى نشر الدين الإسلامي، مع أن الدين الإسلامي أعلن صراحة “لا إكراه في الدين”، و “إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء”، لكن أبا بكر لم يكن لديه متسع من الوقت للقيام بالحملات خارج الحدود، بسبب ظهور معارضة معظم القبائل العربية أو ما سميت حركات الردة، باستثناء قبائل: قريش و ثقيف[4]، كما ظهر وقتها عدداً من المدّعين بالنبوّة، ولما فرغ أبو بكر من حروب الردة بدأ بتجهيز الحملات العسكرية إلى العراق وبلاد الشام، لكن الغزوات- الفتوحات العربية الإسلامية التي استهدفت السيطرة على كردستان، تمت في عهد عمر بن الخطاب، الذي تولى الخلافة في العام الثالث عشر للهجرة.

نحاول في بحثنا هذا تسليط قبس من الضوء على واقع العلاقات التاريخية بين الكرد والعرب، وليس هدفنا من ورائه توضيح سلبيات النظم العربية أو التشهير بالشعب العربي، إذْ أنّ فرْض الظلم والقتل ونهب الثروات ليست من قيم الشعوب عامة، فالشعب العربي تعرض للظلم بقدر الشعب الكردي في المرحلة العثمانية، لكن في المراحل التي كانت السلطة بيد عناصر أو طبقات عربية كان الظلم المطبق على الكرد أشدّ وطأة قياساً مع الظلم المطبّق على العرب، وقد حان الوقت أن يستيقظ الشعب العربي من غفلته وكذلك الشعب الكردي لإيصال ثورته إلى النصر المؤزّر، وبناء وطن ديموقراطي مشترك تحظى في ظله جميع الشعوب والثقافات التي تعيش على هذه الجغرافية المقدّسة على حقوقه الطبيعية والإنسانية، ودون حدود مصطنعة بينهم ليتابعوا المرحلة المقبلة بسلام ووئام، بعيداً عن النزعات القومية التي ولّى عهدها ولفظتها البشرية التقدمية، وجاء دور أخوّة الشعوب والأمم الديمقراطية.

الحملات العربية الإسلامية على كردستان

كلّف عمر لقيادة حملة بلاد الشام وكردستان أبا عبيدة بن الجراح، ويساعده عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة وخالد بن الوليد وميسرة بن مسروق الفهري، وذلك سنة15  هـ (636) م، وبعد الاستيلاء على دمشق وحمص وبعلبك من أيدي هركليوس (هرقل) ملك الروم، توجهت حملته نحو قنسرين وحلب، فصالحهم أهلها على دفع الجزية، ثم سار أبو عبيدة نحو انطاكية التي تحصّن فيها خلق كثير من قنسرين وحلب، واقتحم الجيش العربي الإسلامي المدينة بقسوة مما اضطر أهلها إلى الاستسلام و قبول الصلح، ودفع الجزية، ثم غادرها أبو عبيدة بعد أن ترك فيها قوات مرابِطة، ثم توجّهَ نحو منطقة عفرين واحتل قرى الجومة، وحاصر قلعة خوري (قورس- نبي هوري) فخرج رهبانها يطلبون الصلح، حيث صالحهم أبو عبيدة على صلح أنطاكية بدفع الجزية، “وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس”[5].

تابع الجيش الإسلامي زحفه نحو مدينة أعزاز واحتلها أيضاَ، ومن ثم كلف أبو عبيدة عياضَ بن غنم بمتابعة الغزو والتوجّه صوب دولوك (عينتاب)، حيث اضطر أهلها إلى الاستسلام أيضاً، عندما تيقنوا أن لا جدوى في المقاومة، وذلك على الصلح ودفع الجزية، ومن جهة أخرى كلف ابن الجرّاح جيشاً بقيادة حبيب بن مسلمة لغزو مدينة جورجوم (گورگوم- مراش)، فاحتلها أيضاً وفرض عليها الجزية وأن يكونوا عوناً للمسلمين، ثم احتلها ثانية لصدور ردّات فعل الأهالي ورفض الاحتلال، وفي السنة نفسها أعاد خالد بن الوليد الهجوم عليها من جديد، وتم تدميرها وتهجير سكانها، وانتشروا في جبال الكرد و الأمانوس حتى جبال لبنان، حيث تعود جذور طائفة الجراجمة إلى مراش- مرعش، وطائفة الموارنة إلى جبل الكرد وفيها ولد وتوفي رئيسهم “مار مارون” ولا زال ضريحه في جبل الكرد قرية براد، وقد شكلت الطائفتان في لبنان تياراً سياسياً باسم تيار المردة.

وفي الجبهة العراقية- الكردستانية انتصر سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية بعد اشتباكات عديدة مع الجيش الساساني، حيث اندحرت قوات “يزدگرد الثالث” آخر ملوك ساسان وقتل الملك في أرض المعركة، واضطر الفرس إلى قبول الإسلام كارهين، حيث كان اعتماد الجيش الساساني على الكرد الذين كانوا يدينون بالزرادشتية، وبعد قبول الفرس للدين الجديد رفض معظم الكرد التخلي عن دينهم وقاوموا الجيش الإسلامي، وقد تابع سعد ابن أبي وقاص زحفه نحو المدائن (مدينة طيسفون) عاصمة الدولة الساسانية، واستولى عليها سنة 16 هـ (637) م، ثم تابع حملته باتجاه بلاد كردستان يرافقه سلمان الفارسي والقعقاع بن عمرو وعاصم بن عمرو، حيث تم احتلال جلولاء، وحلوان، وخانقين، وهمدان، والدينَوَرْ، وبلاد ميديا، وفي تلك البلدان ارتكب القعقاع أعمالاً فظيعة بحق الأهالي، منها أنه سبى كثيراً من النساء، وأرسلهن إلى هاشم بن عمرو، إضافة إلى غنائم لا تحصى قدرت بثلاثة ملايين ديناراً ذهبياً، حيث قسمت بين القادة، وأرسل خُمْس الغنائم إلى الخليفة عمر، إضافة إلى كمية من المعادن الثمينة والجواهر أخذت من خزائن كسرى وبيوت النار ومن الأهلين، وفي السنة نفسها تم احتلال نينوى والموصل (الحصن الغربي والشرقي)، والقرى الإيزيدية: باعدرى وداسن وبازبدي وغيرها في جبل شنگال، ثم توجَّهَ صوب جزيرة بوتان.

أما حملة الاستيلاء على الجزيرة فقد ترأسها عياض بن غنم، يساعده سهيل بن عدي، حيث توجّهت الحملة بداية نحو مدينة “حران”، وقد اضطر أهلها إلى الاستسلام ودفع الجزية، ثم تابعت الحملة زحفها نحو “الرها- أورفا” وقد قاوم أهلها بشدة، وبسبب قلة العتاد اضطروا أخيراً إلى الاستسلام والصلح ودفع الجزية، وقد كلّف أبو عبيدة بن الجراح حبيب بن مسلمة على تولية كرد الجزيرة، وكان أبو موسى الأشعري قد استولى على مدينة نصيبين، وفي السنة نفسها تم الاستيلاء على بلدتَي “سروج” و “سامساط” على الفرات، أما في “رأس العين- سري كانيه” فقد لقيت جيوش المسلمين مقاومة شديدة من أهلها، فاضطرت القوات العربية إلى تركها والتوجه صوب تل موزان (واشوكاني- العاصمة التاريخية للميتانيين)، حيث تم فيها الصلح على دفع الجزية.

استأنفت الحملة العربية الإسلامية زحفها التي كان قوامها عشرة آلاف جندي، نحو مدينة آمد (ديار بكر) المشهورة بأسوارها العظيمة، ونشب قتال ضارٍ بين الآمديين والعرب دون إحراز أي تقدم، ومن ثم قام الجيش العربي الإسلامي بمحاصرة المدينة من الجهات الأربع وبشكل محكم، لمدة 83 يوماً، حيث رابط عياض بن غنم على الباب الجنوبي (باب ماردين)، ومعاذ بن جبل على الباب الشمالي (باب الجبل- خارݒيت)، ورابط خالد بن الوليد على الباب الشرقي (باب دجلة)، أما على الباب الغربي باب الروم (باب الرها) فقد رابط سعيد بن زيد، وقد بدأ الهجوم على المدينة وأسوارها من الجهات الأربع، وأبدى أهل آمد مقاومة باسلة في ظل حصار محكم، لكن دون جدوى، وقد أصيب العرب بالإحباط جراء مقاومة الآمديين، وأخيراً تمكنت قوات خالد بن الوليد من التسلل عبر قناة الصرف الصحي إلى داخل المدينة ليلاً، واشتبكت القوات المتسلّلة مع المدافعين ثم اجتازت السور، وفتحت أبواب المدينة، وذلك في أيار سنة 639 م، ومن ثم بدأت عمليات القتل والحرق ونهب الممتلكات، والتنكيل بالأهالي، وقد تمكنت رئيسة البلدية “مريم دارا” بصعوبة أن تنجو بنفسها بمساعدة الأهالي من خلال نفق تحت السراي وهربت إلى خارج المدينة.

ثم استولى عياض بن غنم على “دير مار توما” وحوّله إلى مسجد، وفرض على كل شخص غرامة مالية بأربعة مثاقيل من الذهب، وفي اليوم التالي تجاوز خالد بن الوليد الحدود المألوفة لقواعد الحروب عامة والإسلامية خاصة، عندما أفلت جنوده ثانية وقاموا بارتكاب أبشع الجرائم بحق الأهالي، من قتل وسلب وحرق وانتهاك أعراض، ومن ثم دخل حماماً وشرب واستحم “وتدلّك بغسلٍ فيه خمر”[6]، وقد وصل الخبر إلى أسماع الخليفة عمر بن الخطاب إضافة إلى انتهاكات كبيرة أخرى، فاضطر إلى عزله وحجز مغانمه وممتلكاته في المدينة، ولكي  يطمئن  عمر ولا يعود سكان آمد ثانية إلى المقاومة، قام بنقل قبيلة بني بكر العربية وإسكانها في المدينة وجوارها، وسمّى الولاية باسم “ديار بكر”، وفعل الشيء نفسه مع ولاية الرها- أورفا، إذ دعاها “ديار مضر” بعد أن قام بتوطين القبائل القيسية- جيس والمضرية من بني عقيل وبني نُمير وبني سُليم فيها، إضافة إلى ولاية الموصل (الموصل- نصيبين) دعاها “ديار ربيعة”[7]، بعد توطين قبيلة ربيعة بن نزار فيها.

استأنفت الحملات العربية الإسلامية زحفها للاستحواذ على باقي مناطق كردستان وجمع المزيد من الغنائم، ووصلت إلى مدينة “نهاوند” حيث جرت فيها اشتباكات حامية ومقاومة مشهودة دفاعاً عن دينهم وبلادهم، وقد يئس العرب من تلك الواقعة وتراجعوا عنها عدة مرات، حيث قتل فيها خلق كثير، وأخيراً استولى العرب المسلمون على بلاد الكرد وفرضوا عليها الدين الجديد، ثم تابعوا سيرهم نحو المناطق المتبقية والظفر بالمزيد من الغنائم والسبايا.

استمر تقليد تلك الأعمال طيلة المرحلة الراشدية، واستعملت مصطلحاتها في مختلف مراحل دول الخلافة الإسلامية، باسم الفتح وبحجة نشر الدين الإسلامي، لكن جوهرها كانت المصالح العشائرية والقومية ولم تكن لها علاقة بنشر الإسلام والعدل، حيث نشر الدين يتم من خلال الدعوة والتبشير والإقناع، وننوه أن المناطق الكردية الجبلية مثل إقليم ديرسم وشمال آمد وملاطية ومراش استعصى على العرب فتحها وبقيت على دينها، إلى حين ورود دعاة “علي” الذين تمكّنوا من إقناعهم بالحسنى على تبني الإسلام، ولذلك فهم يدينون بالمذهب العلوي حتى اليوم، ومن ثم بدأ الكرد دخول الإسلام رويداً رويداً منهم بالإقناع وآخرون للتخلص من دفع الجزية، وبمرور بعض الوقت تحسّن إسلامهم وأصبح أغلبهم يدينون بالإسلام واندمجوا مع المجتمع الإسلامي.

وفي المرحلة الأموية وبعد انتصار معاوية على علي بن أبي طالب، سقط مشروع “الجمهورية” الإسلامية المبنية على “الشورى” – المصطلح الإسلامي المكافئ للديمقراطية – الذي وضع محمد (ص) قواعده، وانتصرت الارستقراطية العربية القرشية وآلت إلى تأسيس “الملكية” الدنيوية العربية الوراثية، بقيادة معاوية بن أبي سفيان وإقصاء الشعوب المسلمة الأخرى، وقد قال الأخير صراحة “كنا سادة في الجاهلية ونحن اليوم سادة في الإسلام”، وعين ابنه يزيد ولياً للعهد، وأصبحت معظم بلاد كردستان تحت الحكم الأموي، وباشروا بالسلب والنهب باسم الخراج والصدقات والزكاة أو الجزية، ولما رفض أهل الكوفة في عهد يزيد واستدعوا الحسين بن علي لمبايعته خليفة للمسلمين، كانت نتيجته مأساة “كربلاء” وجزّ رأس الحسين وعرضه في شوارع الكوفة سنة 608م، وإفناء أهل البيت وسبي نسائهم وهنّ حفيدات محمد، وأرسلت السبايا بشكل مشين مع قافلة الأسلاب ومعها رأس الحسين ليقذف به بين يدي يزيد في دمشق، ويعتبر هذا العمل مثالاً للتطرّف واعتداءً على أقدس القيم، وظهر تأثيرها في المراحل التاريخية اللاحقة، من خلال القطيعة الأبدية بين القرشيين وآل بيت النبي، وتمثّلت في ظهور الشيعة كحزب طائفي وسياسي دائم، ولا زال أهل الشيعة يحيون ذكرى مقتل الحسين، بإقامة المآتم والأحزان بشكل مهيب تخليداً لذكراه حتى اليوم، ويجددون عهدهم بالانتقام.

استمرت مسيرة “الملكية الأموية” تسعةً وتسعين عاماً، وفيها استمرت عملياتهم العسكرية لتوسيع رقعة الدولة باسم “الفتح”، وشيّدوا حضارة مادية، لكنهم ابتعدوا كثيراً عن جوهر الإسلام وخالفوا مبادئه السامية، فقد نفرت منها شعوب كردستان وفارس وعموم آسيا الإسلامية ومصر، وأخذ الفرس يدّعون أنهم أرقى من العرب، ولا يطيقون سلطة بلاد الشام.

كان آخر ملوك الأمويين مروان بن محمد، الذي لًقّب بـ”مروان الحمار”، حيث جاهد لإعادة مجد الدولة الأموية، لكنه لم يفلح في مسعاه، لأن العائلة المالكة لم تعترف بسلطته كونه استولى على الحكم عنوة ولأن الدم الجاري في عروقه لم يكن دماً عربياً نقياً، حيث ولد مروان من أمٍ كردية، وقيل أنه كان ينوي نقل مقر السلطة من دمشق إلى حران موطن أخواله الكرد، وأخيراً قتل في مصر وبمقتله انتهت الدولة الأموية، ويبدو أن العرب فضّلوا انهيار الخلافة الأموية الإسلامية على أن لا يشغل كرسيها رجل لا ينحدر من أصلٍ شريف!، وبالتالي دفنت الأخوّة الإسلامية ومعها العدل والمساواة.

أما المرحلة العباسية التي مهّد لها نظرياً “إبراهيم الإمام” كبير البيت العباسي، واستغل مشاعر المسلمين غير العرب، خاصة أهل خراسان المتصفين بالشجاعة ونزعة الحرية، وكانوا يميلون إلى الجناح الثوري (الخوارج) في الإسلام، ففي رسالة وجّهها إبراهيم الإمام داعي الدعوة العباسية والأخ الأكبر لأبي العباس السفاح وأبو جعفر المنصور، إلى أبي مسلم الخراساني[8] (المؤسس الفعلي للخلافة العباسية)، يقول فيه: “أبا مسلم، إنك رجل منا أهل البيت، احفظ وصيتي: اتّهِم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب للدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تبقي في خراسان من يتكلم العربية فافعل، وأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله”[9]، فقد دفعه هاجس السلطة والجلوس على عرش الملوكية، إلى التضحية ليس بالأمويين فقط وإنما بجميع العرب، وقد غرّر برسائله عدداً من العائلات المنحدرة من أصول غير عربية ومنهم الكرد، مثل آل خراساني، وآل برمك، الذين كانوا نخبة ثقافية ومتنفّذين في نهاية العصر الأموي، ويمتلكون مهارات في الأمور العسكرية والإدارية والسياسية والثقافية.

ولما آل الأمر إليهم وجلس أبو العباس الذي لقب بـ”السفاح” لكثرة سفكه الدماء على كرسي “الخلافة”، ثم تبعه أبو جعفر المنصور أعظم خلفاء بني العباس، فقد مسح اسم الأمويين من التاريخ بقتلهم جميعاً، ولم تسلم منه حتى قبورهم، حيث نبشوها وحرقوا عظامهم، وقد جار على الشعب بشكل يصعب تصديقه، حيث أثقل عليهم بجباية الضرائب والخراج وغيرها، وفيه قال أحد الشعراء:

يا لقـومي ما لقينا           من أمير المؤمنينا

قسـّم الخمسة فينا           وجـبانا الأربعـينـا[10]

كما عمد أبو جعفر المنصور إلى التخلص من أبي مسلم قتلاً بالسيف، من خلال مكيدة في داخل قصره، وقد ألقى “أبو دلامة” شاعر بلاط المنصور قصيدة في مقتله، عرفنا من خلالها أنه ينحدر من أصول كردية مطلعها:

أبا مجــــرمٍ ما غــــيَّر الله نعـمـة     على عبده حتى يغيّــِرها العـبد

أفي دولة المنصور حاولت غدره     ألا إن أهل الغـدر آباؤك الكرد

لعب قتل أبي مسلم الخراساني دوراً سلبياً بمقدار قتل الإمام علي والحسين، حيث كان علي وأبو مسلم يمثلان حسب تقييم السيد أوجلان: “تيار العدالة المرتبط بمبادئ الإسلام، الذي يحمي الفقراء، والذي لم يكن فيه أي تعصب قومي”[11]، لكن الغريب أن المنصور ذكر في وصيته لابنه المهدي، لما شعر باقتراب أجله: “أوصيك بأهل خراسان خيراً لأنهم بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، وما أظنك تفعل”[12].

أما هارون الرشيد (808-786) م، الذي يعتبر أشهر وأعظم خلفاء بني العباس، والذي جلس على العرش العباسي بمعية يحيى بن خالد البرمكي الكردي وزير الخليفة الهادي، حيث أراد الأخير عزل أخيه “هارون” عن ولاية العهد وتنصيب ابنه ولياً للعهد بدلاً عنه، لكن يحيى البرمكي بحكمته ومهارته الدبلوماسية جعله يعدل عن رأيه ويبقي هارون الرشيد ولياً للعهد، وعندما آل الأمر للرشيد وأصبح خليفة المسلمين ترك أمور الحكم وديوان الخاتم وتدبير شؤون البلاد بداية للوزير يحيى البرمكي وولديه جعفر والفضل، وكان كل من جعفر وهارون ينادي أب الآخر “يا أبتِ” ورضع كلٌّ منهما من أم الآخر، حيث كان جعفر من أخص ندماء هارون، ويجلس معه كل مساء لقضاء الليل معه إلى جانب أخته العباسة بنت المهدي، ويبدو أن جعفر والعباسة قد حدث بينهما قصة حبّ على طراز ألف ليلة وليلة، وكان مفتي الخلافة قد أوصى في وقت سابق بعدم شرعية جلوس جعفر مع العباسة، ولأن هارون لا يستطيع العيش دون جعفر لذلك وافق على تزويجهما شكلاً بناء على التوصية شريطة أن لا يلتقيا إلا بوجوده، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان نتيجة الإفراط في الشرب في إحدى الليالي، حيث قادته العباسة إلى غرفتها وحملت منه وأنجبت العباسة ولداً، ولخوفها من العقوبة المنتظرة أرسلت الرضيع إلى عمتها في المدينة لتشرف على تربيته، ولما علم هارون الرشيد بالأمر بناء على وشاية من زوجته “زبيدة”، استشاط غضباً وأمر “مسرور” كبير جلاديه بقتل العباسة، ففعل ودفنها في قصره، ثم أمر بقتل البرامكة فأبادهم عن آخرهم واستولى على أموالهم، كما فعل المنصور مع أبي مسلم.

ويجدر ذكره أن البرامكة كانوا مهرة في العلوم وإدارة أمور الدولة، حيث شجعوا العلماء على البحث والكتابة والترجمة، وأن “الفضل” بن يحيى البرمكي كان وزير هارون، وهو أول من أدخل الورق إلى البلاد الإسلامية تشجيعاً للكتابة، حيث بنى معملاً للورق في بغداد سنة 794م، وكان يكتب سابقاً على الحجر أو الرقم الطينية أو على جلود الحيوانات، ومن بعده دخل الورق إلى مصر سنة 800 م، وإلى اسبانيا سنة 950م، وإلى القسطنطينية سنة 1100 م، وإلى إيطاليا سنة 1154 م، وإلى ألمانيا سنة 1228 م، أما إنكلترا فلم تدخل إليها الورق إلا بعد سنة 1309م[13].

أما بقية الخلفاء فلا حاجة لذكرهم لأنهم لم يتركوا أثراً نافعاً وكانوا يقضون أوقاتهم مع الجواري والغلمان، حيث دخلت البلاد في فوضى عارمة، وكثرت الصراعات المذهبية والأثنية، وانعدم الأمن من كثرة اللصوص والأشقياء، وكان كل خليفة بمثابة ألعوبة إما بيد الفرس، أو الترك، يسيّرون الأمور كما يشاؤون، ففي عهد الخليفة المستعين بالله مثلاً كتب أحد الشعراء:

خـليفـة في قـفـص               بين وصـيف وبغـا

يقـول ما قـالا لــه               كما تـقـول الببّـغــا [14]

أما الخليفة المقتدر، ففي عهده قلّد وزيره أبو علي محمد بن يحيى في منصب ولاية الكوفة سبعة عمال (ولاة) في مدة عشرين يوماً، وفيه قيل:

وزيرٌ قد تكاملَ في الرّقـاعـة       يولّي ثم يَعـزِلُ بَعـدَ سـاعَـهْ

إذا أهل الرشى اجتمعوا لَدَيْهِ        فَخير القوم أوفرهم بضاعَهْ[15]

وبعد مرورنا بشكل مقتضب جداً على التاريخ الإسلامي في مراحله الثلاثة الأولى (الراشدية والأموية والعباسية) وبما يخص العلاقات العربية- الكردية، نلاحظ أن الخلفاء وضعوا نصب أعينهم تقوية دولتهم، ورفع مستواها إلى مصاف الإمبراطوريات العظمى، ولم يكن همٌّ لهم سوى السلطة والجاه، تاركين أمور الشعب وحاجاتهم، أما العقيدة الإسلامية فلم تكن سوى مساحيق تجميلية ليسهل لهم سبل الاستغلال، فقد عمدوا إلى الاستيلاء على أراضي الشعوب المجاورة، ونهب ثرواتهم، وقتل وأسر شعوبها وتحويلهم إلى عبيد أو سبايا، لدرجة أن أحد الخلفاء وهو “المتوكل” بلغ عدد سباياه ومحظياته وزوجاته أربعة آلاف ومائة امرأة، ومن أجل بلوغ السلطة ومجد الدولة تركوا رعاياهم في الفقر والجهل، وإن قول عمر ابن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” كان مضمونه فارغاً من محتواه، لعدم تلازم القول مع الفعل، أي العلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق التي كانت تؤرق الانسان منذ القدم، ولولا ذلك لما أشار القرآن الكريم في قوله: “يا أيها الذين آمنوا، لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

لذلك فإن معظم الخلفاء وخاصة العثمانيين منهم قُتِلوا، أو قَتلوا أصحابهم أو إخوتهم أو آباءهم، ففي حين لم يلحظ مصطلح “الكهنة”[16] قولاً وفعلاً في عهد محمد (ص) فقد زادت أعدادهم عن أعداد كهنة سومر واليهود والمسيحية وأصبحوا أكثر قسوة واستغلالاً  منهم.

ولما شعر “الفاتحون” بتهديد الأنظمة غير الإسلامية لهم، وخاصة في الأطراف الشمالية (الروس، الخزر، الـﮕرج، اللان، بيزنطة والأتراك)، خففوا من ضغطهم على الكرد بغية تحويلهم إلى حراس للحدود وسمّوا بلاد الكرد بـ “بلاد الثغور” بدءاً من عفرين وحتى جبال القوقاز، ولذلك تجنبوا “التدخل في الكيان المستقل للأغوات الكرد”[17]، وكان هذا أحد الأسباب الأساسية التي “دفعت الكرد إلى الترحيب بالدين الجديد والإخلاص له والتفاني من أجله، وإن احتفاظ الكرد بخصائصهم القومية وبلغتهم في ظل الإسلام وحضارته، وتحولهم إلى عنصر فاعل لكليهما، لهو درس بليغ من التاريخ كان يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار”[18]، إضافة إلى أن الكرد رحبوا باللغة العربية بوصفها لغة القرآن، لكن ذلك بقيت ضمن حدود أداء الفرائض لرجال الدين الكرد مع تمسكهم بلغتهم القومية وكانوا محقين في ذلك، حيث لم يرَ رجال الدين تعارضاً بين إيمانهم وإخلاصهم للغتهم، في حين عمد الفرس ومن بعدهم الأتراك إلى أداء الفرائض والطقوس الدينية بلغتهم منذ بداية العصر العباسي.

[1] هو كردي واسمه الحقيقي “روزبه” من حي يدعى “جي” بمدينة أصبهان الكردية في إيران وكان والده واليها، ودليلنا على كرديته أنه ينتمي إلى قبيلة “موﮒ” (موغ- mog) وهي قبيلة زرادشت ومنها كهنة الزرادشتية وكانت أسرته سدنة بيت النار ومنهم روزبه نفسه، ومكانة عشيرة “موﮒ” لدى الكرد تعادل بني هاشم لدى العرب والمسلمين من حيث المكانة الدينية، ترك قبيلته وأهله بحثاً عن حقيقة الدين، اتفق مع قوم من بني كلب لينقلوه إلى بلاد العرب فغدروا به وبيع ليهودي من بني قريظة، وعند الهجرة التقى بمحمد (ص) وأعلن إسلامه وأعانه محمد وأصحابه في عتقه من اليهودي.

[2] الصردي من “صَرْدْ- صارد- سارد- سار” بمعنى “بارد” بالكردية ورد هذا المصطلح لدى البلدانيين المسلمين في إشارة إلى البلاد الباردة والمقصود بلاد الكرد يقابله بلاد الجروم (مفرده جَرْمْ – ﮔرم germ) بمعنى البلاد الحارة والمقصود بلاد العرب (معجم البلدان)، كما ورد في معجم البلدان “سَرْدَروذ” اسم قرية من قرى همذان (عاصمة ميديا) في إقليم الجبال من بلاد الكرد.

[3] جاء في “الإصابة في تمييز الصحابة” لابن حَجَر العَسْقلاني الخبر عنه كما يأتي: “جابان والد ميمون: روى ابن مَنْـده، من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن أبي خالد: سمعت من ميمون بن جابان الصردي، عن أبيه، أنه سمع النبي غير مرة حتى بلغ عشرًا، يقول: من تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق، لقي الله وهو زانٍ”، كما ورد ذكره في كتاب “سيرة الصحابي جابان الكردي وابنه التابعي ميمون” للدكتور دحام الحسناني طبع ونشر في مكتبة التفسير بأربيل سنة 2018، كما ورد عن العلامة الآلوسي في تفسيره روح المعاني أن جابان كردي.

[4] الكامل في التاريخ مجلد 2 ص 342.

[5] الكامل في التاريخ مجلد 2 ص 496.

[6] الكامل في التاريخ – ابن الأثير جزء 2 ص 536.

[7] للاستزادة يرجى مراجعة “الرها المدينة المباركة” لمؤلفه ج. ب. سيـﮕال، دار الرها- حلب 1988.

[8] هو مؤسس الدولة العباسية ولد في ماه البصرة مما يلي أصفهان (يعني أن أموال الزكاة والخراج لتلك المناطق كانت تسلم للبصرة) سنة 718 م وقتل بسيف أبو جعفر المنصور سنة 755 م، قال فيه الخليفة المأمون “أجَلُّ ملوك الأرض ثلاثة: الاسكندر، أردشير، وأبو مسلم الخراساني” (مشاهير الكرد وكردستان ، محمد أمين زكي ج2 ص 17).

[9] تاريخ الإسلام ، حسن إبراهيم حسن ، ج 2 ص 17.

[10] كان المنصور قد عمل للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً وأراد أن يوزع للعاملين عطاء بمقدار خمسة دراهم لكل شخص، ولما علم أن المبلغ الموزع كبير أمر بجباية أربعين درهما من كل منهم! .

[11] من دولة الكهنة السومريين نحو الحضارة الديمقراطية ، مرجع سابق ص 196.

[12] الكامل في التاريخ ، ابن الأثير ج 6 ص 19.

[13] قصة الحضارة ، ويل ديورانت مجلد 13 ص 170.

[14] وصيف وبغا قائدين تركيين – المسعودي ت 957- مروج الذهب ومعادن الجوهر ، جزء 4 ص 145.

[15] الكامل في التاريخ ، ابن الأثير جزء 8 ص 64 .

[16] الكهنة: مجموعة رجال الدين يحترفون مهنة  الأمور الدينية، ففي الإسلام مثل: الدعاة وأئمة المساجد والخطباء والمؤذنين وأهل الفتوى والمنشدين ومنظمي عقود الزواج وتجهيز الأموات للدفن وغيرها لقاء أجر.

[17] المقدم الشيخ عبد الوحيد، تاريخ الشعب الكردي منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر ص 95.

[18] مظهر د. كمال أحمد مرجع سابق ص 16.

كاتب

التعليقات مغلقة.