مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

مخطط تاريخي لسوريا

مخطط تاريخي لسوريا

المؤلّف روس بيرنز

ترجمة حسين إبراهيم محمّد

 

المقال ترجمة لمقدمة كتاب روس بيرنز

(Monuments of Syria An Historical guide)

“أوابد سوريا دليل تاريخي”

روس بيرنز هو مؤلف أربعة أعمال عن علم آثار وتاريخ سوريا والمنطقة. نُشر  كتاب أوابد  سوريا لأول مرة في عام 1992 ومنذ ذلك الحين تم نشره في سلسلة متوالية من الطبعات ذات الغلاف الورقي والمنقحة بما في ذلك طبعة باللغة الفرنسية. في عام 2009 نشرت دار نشر I B  Tauris في لندن طبعة إنجليزية ثالثة منقحة. وفي عام 2005 ، تم نشر كتاب دمشق – تاريخ في دار نشر (روتليدج ، لندن) – وهو الشرح الوحيد المطول في كتاب باللغة الإنجليزية لهذه العاصمة العربية الرئيسية. هذا الكتاب متوفر الآن في طبعة غلاف ورقي. كما  نشرت  دار نشر (روتليدج ، لندن) كتاب حلب، تاريخ في عام بعنوان- أصول شوارع الأعمدة في مدن الشرق الروماني.

عمل روس لسنوات عديدة في السلك الدبلوماسي الأسترالي وقام بالعديد من المهام في الشرق الأوسط. كما رافق عدد من الجولات إلى سوريا ولبنان والأردن كمحاضر لصالح شركة السفر البريطانية مارتن راندال وشركة ملبورن الأسترالية للدراسة في الخارج. أكمل درجة الدكتوراه في المناظر الطبيعية الحضرية في الشرق الأدنى الروماني في جامعة ماكواري في سيدني في عام 2011. تبحث هذه الدراسة في دور السمة المميزة اللافتة للنظر التي تميز العديد من مدن المقاطعات الرومانية الشرقية – الطرق الطويلة المستقيمة التي تصطف على جانبيها الأعمدة التي تحدد شكل المدينة بأكملها في منظور واحد مسيطر.

 

مخطط تاريخي لسوريا

مقدمة

بالكاد تعطي سوريا الانطباع، وهي قطعة أرض تمّ الصراع من أجلها لآلاف السنين، بأنها جائزة مجزية. في الشكل، سوريا الحالية عبارة عن شكل رباعي مشوه، تم دفعه إلى الشمال الشرقي للاستيلاء على جزء صغير من نهر دجلة. والخط الساحلي قصير ومحصور بين تركيا ولبنان. يتصف جزء كبير من الأرض بأنه قاحل أو شبه قاحل تضاف إليه الصحراء السورية الوسطى (وهي عبارة عن سهوب صخرية، يتراوح ارتفاعها بين  700 و1000 متر) تنفتح نحو الصدع التاريخي الكبير في الصحراء العربية الواقعة إلى الجنوب. وعلى طول ضفّتي وادِيي العاصي والفرات، توجد بعض المراعي، لكن الكثير من المنطقة القريبة من الساحل التي تستفيد من أمطار البحر الأبيض المتوسط الشتوية، تشغلها الجبال شديدة الانحدار والصخرية، ممّا يخلف مساحة صغيرة للسهول الساحلية.

ومع ذلك، تقع سوريا داخل الهلال الذي أنجز معظم الإنجازات العظيمة في الحياة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية التي أعطت زخمًا للتغييرات التاريخية الرئيسية التي حدثت في الستة آلاف سنة الماضية. يمتد هذا الهلال الخصيب من أراضي العراق المروية شرقاً إلى وادي النيل جنوباً ليأخذ في امتداده أطراف بلاد التلال في الجنوب الشرقي. يمتدّ هذا الهلال الخصيب من الأراضي المروية في العراق شرقاً إلى وادي النيل جنوباً، آخذاً في امتداده أطراف الريف الهضابي في جنوب شرق تركيا والجبال التي تعانق ساحل البحر الأبيض المتوسط بين أنطاكية والقدس. تقع المراعي والبساتين وحقول الحبوب في سوريا في  الوسط منه.

إذا كانت هذه الأرض، والتي تعاني من إنهاك فرط التاريخ، تبدو اليوم في بعض الأحيان قاتمة وعنيدة، فإنها تحتل موقعًا استراتيجيًا ذا قيمة لا تضاهى.

ففي سوريا توجد بقايا آثار العديد من طرق القوافل، والطرق الرومانية، ومسارات الحج، والطرق السريعة التي تشهد على دورها كممر للتجارة بين الشرق والغرب. وعبر سهولها، كان نظام وادي دجلة والفرات الغني يرتبط بالعالم الخارجي الذي كان يبدأ بالبحر الأبيض المتوسط. فعبر هذه السهوب، ومع تطور الاستقرار والتجارة الآمنة، كان يتم تبادل البضائع من مناطق بعيدة كالصين والهند. عندما حطمت الفتوحات الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد الحواجز بين الشرق والغرب إلى حدٍّ أبعد، عبر الإسكندر المقدوني سوريا في جهد منه لتطوير نظام جديد يقوم على مزيج من اليونانية والشرقية. وأصبحت سوريا خلال العصر الروماني والبيزنطي النقطة المحلية في الجهود المبذولة للإبقاء على إمبراطورية عالمية.

كانت السيطرة على سوريا أمرًا ضروريًا لأيّة قوةٍ ترغب في السيطرة على شرايين التاريخ. لكن المهمة كانت معقدة لأن سوريا تمتلك القليل من الحدود الطبيعية لضمان أمنها. فإلى الشرق، يعتبر نهر الفرات طريقًا سريعًا إلى بلاد ما بين النهرين لم يقم بإزعاج المعتدين المحتملين أبدًا. وإلى الجنوب الشرقي، كانت الصحراء العربية الضخمة تاريخياً توجه طاقاتها الزائدة باتجاه سوريا إلى الجنوب الشرقي، الأمر الذي تسبب في تغييرات سكانية ميّزت العديد من عصورها التاريخية. وعلى نحو مماثل، كانت السهول الشمالية نقطة جذب للمتضرّرين، الذين همشتهم التغييرات المتتالية في تركيا. ركز الكثير من التوجيه التاريخي للقوات على شمال غرب سوريا في النقطة التي يمتد فيها الممر الطبيعي بين أوروبا وآسيا على السهول بعد عبور  الأراضي المرتفعة ساحل آسيا الصغرى الملتف. هنا أقام الإغريق والرومان مركزهم الحضري الرئيسي، أنطاكية (والتي هي الآن مقاطعة هاتاي في تركيا).ِ وهنا هزم الإسكندر جيوش داريوس المحتشدة وأدرك الصليبيون أولاً ما الذي حصلوا عليه في تحديهم السيادة الإسلامية.

لكن باستثناء الممرّ الطبيعي في الشمال الغربي، فإن سوريا أرضًا مفتوحة من دون أبواب. لقد تعلمت البقاء على قيد الحياة بالاعتماد على ذكائها من خلال التجارة والكفاءة السياسية بدلاً من الانغلاق على نفسها كأرض حصينة. لقد كانت بمثابة الحاجز الكلاسيكي، وإن لم يكن ذلك الحاجز يعني وجود القليل من التماسك الجوهري الخاص بها، وبالتالي فإنها كانت على الدوام تحت رحمة الآخرين. لقد تعلمت نقل الموجات العرقية الأولى من السهوب والصحراء التي تقع إلى الجنوب بدلاً من منعها، وتعلمت تمرير الموضوعات والأفكار العظيمة التي انتقلت بين الشرق والغرب، كما تعلمت توفير موطئ قدم بين التيارات الدينية التي اجتاحت المنطقة.

نظرًا لأن هذه الدراسة معنية بالمباني والآثار التي لا تزال في حالة يمكن التعرف عليها، فسوف نعرج على دور سوريا في عصور ما قبل التاريخ ودورها المركزي في نشوء أساليب الزراعة، وتدجين الحيوانات، وتطوير الحياة الحضرية التي أخرجت هذه المنطقة لأول مرة من ظلام حضارة ما قبل المدن.

 

العصر البرونزي المبكر (3100-2150 قبل الميلاد)

عندما ظهرت أقدم السجلات المكتوبة في العصر البرونزي المبكر(الألفية الثالثة قبل الميلاد)، شاركت سوريا في تطوير دول المدن التي نشأت في الأراضي السومرية التي تقع إلى الشرق، على طول نظام دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين. على الرغم من اختلاف الأصول (السامية) عن السومريين، إلّا أنّ سكّان مدينة ماري في أواسط الفرات، أقاموا بناهم الاجتماعية على أنظمة مماثلة. فمعرفة القراءة والكتابة من خلال تطوير نظام الكتابة المسمارية (وهي علامات على شكل إسفين في الطين الطري)، حفّزت المهن القانونية والتجارية المعقّدة، إذ كانت تعتمد سلطة الحكام المحليين على فعّالية سيطرتهم على الري والتجارة. تزامنت نهاية مرحلة مملكة ماري المبكرة مع صعود الإمبراطورية الأكادية بين 2340 و 2150 تحت قيادة سرجون الذي وصلت غزواته من بلاد ما بين النهرين باتجاه الخليج الفارسي، وقد قام ابنه نارام سن بتعزيز ساحل البحر الأبيض المتوسط.

وإلى الغرب، كانت ماري تتمتع بعلاقات وثيقة مع مركز تجاري آخر له أهمية كبرى ألا وهو إيبلا. كان سكانها ساميّون وبحلول عام 2400 قبل الميلاد، أقامت شبكة معقّدة من الروابط السياسية عبر معظم شمال سوريا، على الرغم من أنها كانت تفتقر إلى الأساس الذي كانت تمنحه السيطرة على الري لدول المدن الأخرى. احتفظت ماري تحت الحكم اللاحق لسلالة أور  بدرجة من الأهمية في ظل سلالة شكاناكو بينما أصبحت إيبلا دولة فرعية.

 

العصر البرونزي الوسيط (من 2150   إلى 1600 قبل الميلاد)

بحلول عام 2100 قبل الميلاد، أصيبت التجارب المبكرة في المجتمعات الحضرية بحالة من الاضطراب بسبب التحركات السكانية الجديدة التي جلبت الأموريين (وهم من أصل سامي) من الصحراء السورية إلى الأراضي المستقرة في الهلال الخصيب. أدت فترة التدهور والاضطراب الحضري في بادئ الأمر إلى وضع حد لكثير من نمط التجارة الإقليمية الذي ازدهرت إيبلا فيه وفقدت المدينة أهميتها. بعد الاضطراب الأولي الذي تسبب به غزو الأموريين، استوعبت العديد من المدن السكان الجدد وتم استئناف تطوير الحضارة المدنية. فأصبحت مملكة يمحاض (حلب) قوة رئيسية في هذه الفترة، وجعلت إيبلا تدور في مدارها. وتمتعت إيبلا ببعض الاستقلال في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد كمدينة عمورية. حكم الزعيم البابلي حمورابي في الجنوب، (وهو حاكم سامي آخر حكم في الفترة الممتدة من عام ١٧٩٢ إلى ١٧٥٠) بحماسة إصلاحية في الداخل (إذ أنه أصدر نظامًا قانونيًا مقنّنًا حمل اسمه) لكن هذا لم يشتت انتباهه عن تطوير رغبة في الغزو مما دفعه إلى الغزو، فهدم ماري حوالي عام 1759 قبل الميلاد، وبذلك أنهى عملية التوازن غير المستقرة التي حافظ عليها حاكم ماري زمري ليم (حكم من 1775 إلى 1760) بين بابل وحلب.

حمل هذا العصر الذهبي الجديد معه ازدهارًا التجارة الدولية (في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد) إلى جزء كبير من شمال سوريا. إذ تمكنت الممالك الأمورية في الشمال من مقاومة الحكم البابلي المباشر ولكنها تاجرت على نطاق واسع إلى الشرق مع مملكة- يمخاض، وألالاخ ( تل العشارنة في سهل العمق شرق أنطاكية) (حران) وقطنا (شمال المشيرفة شمال حمص).

 

العصر البرونزي المتأخرc1600-1200 BC)  )

جاء التغيير الرئيسي التالي في لعبة القوى الإقليمية من الشمال الغربي.  كان الحثيون (وهم يرجعون في أصولهم إلى الهندو أوروبيون) قد نصّبوا أنفسهم  وسط الأناضول ووضعوا حدًا للسلطة البابلية عام 1595 ق.م. وإلى الجنوب، دخلت مصر في حالة من الفوضى لمدة قرنين أو أكثر نتيجة للآثار الثانوية لهذه الحركة. وتمّ دفع الهكسوس، وهم شعب لا تزال جذوره مجهولة ولكن ربما كان مرتبطا بالأموريين أو الكنعانيين سكان الجبال الساحلية في سوريا  وفلسطين جنوبًا بسبب الضغط الهندي الأوروبي.

في تلك الأثناء كان هناك شعبٌ ساميٌ شمالي يدعى الحوريون وهو شعب (تربطه صلات بالهندو أوروبين) يتحرك إلى سوريا بأعداد كبيرة من الشمال. وسرعان ما وصلت موجة أخرى مماثلة، وهي عبارة عن شعب ميتاني، للاندماج مع الحوريين كي يشكلوا اتحاد للإمارات الحورية، مملكة ميتاني (القرنين السادس عشر إلى الرابع عشر قبل الميلاد)، وتمركزت في المحافظة الشمالية الشرقية الحالية حول نهر الخابور وكانت تربطها صلات بـ “أرض أمورو” إلى الشرق. ضغطت منطقتهم (ومن ضمنها تلك الممالك التابعة لمملكة يامخد وألالاخ) ضد منطقة سيطرة الحثيين في الشمال الغربي. لقد نصبوا أنفسهم بثبات كافٍ كي يشكلوا جزءًا من مثلث القوى الذي قاتل من أجل الهيمنة على سوريا في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد – مصر، والحثيين، والميتانيين – حتى أصبحوا دولة تابعة للحثيين بعد سلسلة من مصاهرات التحالف التي تمّت في أواخر القرن الرابع عشر.

سعت مصر بشكل مبدئي منذ أيّام المملكة الوسطى إلى توسيع نفوذها في سوريا خاصّة لتشجيع المدن الساحلية للوصول إلى مصادر الخشب الداخلية المهمّة لبناء السفن. وبعد الاضطراب الذي حدث في فترة الهكسوس، عاد الفراعنة في ظلّ ذرائع أكبر قدمتها المملكة الحديثة في حملات تحتمس الثالث الكبرى (أوائل القرن الخامس عشر)، وتحتمس الرابع (أواخر القرن الخامس عشر)، وست الأول، ورمسيس الثاني (أوائل إلى منتصف القرن الثالث عشر). وبحلول القرن الرابع عشر، كان خصمهم الرئيسي في سوريا هو الإمبراطورية الحثية التي هيمنت على دول المدن المحلية ( حيث تم الاستيلاء على دمشق عام 1360) والتي كانت تبذل قصارى جهدها، مع ذلك، كي تمارس القوة ضد بعضها البعض. ساعدت فوضى فترة العمارنة في مصر على تحقيق هدفهم. في النهاية، حتى رمسيس الثاني المغرور التقى بنظيره عندما نصب كمين لسلاح الفرسان الحثي بقيادة حتوسيليس الثاني في قادش c1288.

في ذلك الوقت تقريبًا وإلى الجنوب، كانت قبيلة الإسرائيليين تتحرك إلى فلسطين من الشرق مع عواقب لم يتم حلها بعد 3000 عام.

تمتع ساحل البحر المتوسط بالإجمال بحياةٍ مزدهرةٍ وغير مضطربة بالاعتماد على طرق التجارة البحرية التي بناها الفينيقيون- وهم  شعب من أصل سامي انتقل إلى المنطقة في بداية الألفية الثانية وأسس ثقافة مزجت بين تأثيرات بلاد ما بين النهرين والأناضول و بحر ايجة ومصر. تُركت المدن الساحلية أوغاريت، وجبالة (جبلة) وأرواد في هذه المنطقة من الازدهار النسبي ،لتباشر أعمال جني الأموال. ونجحت بعض الجيوب المنتشرة وعلى نحوٍ خاص أوغاريت، والتي استفادت من تجارة النحاس مع جزيرة قبرص المجاورة، في العمل لصالح كل من مصر والحثيين وضد بعضها البعض أو ضد طرف ثالث. حملت روابطها التجارية معها اتصالات على نطاق أوسع بما في ذلك مع ميسينا (بعد 1500) ومع بحر إيجه. وواصل التقليد في الألفية التالية أحفادهم الكنعانيين في الجنوب، الفينيقيون، والذين عملت مستعمراتهم الخمسين المنتشرة حول البحر الأبيض المتوسط على نشر الأبجدية في العالمين السامي واليوناني.

 

العصر الحديدي(1200-539 ق.م)

ومع ذلك، فإن رقعة الشطرنج العرقية والسياسية في سوريا تمت بعثرتها بوصول شعوب البحر حوالي عام 1200 ق. م. أدى غزو شعوب البحر التي انتقلت من الغرب، ربما من بحر إيجه، إلى إنهاء مرحلة الأوج التي وصلت إليها أوغاريت وكذلك إنهاء الإمبراطورية الحثية، ولم يتم إيقافها إلا عند ضفة النيل من خلال حملات رمسيس الثالث البرية والبحرية حوالي 1198-1166 قبل الميلاد.

في ظل الارتباك الذي خلفه عبور شعوب البحر، وصلت حركة سكان  سامية إضافية من الجنوب على شكل الآراميين 3، وهم شعب بدوي تمركز في الشمال على نحوٍ خاص حيث نشأت حوالي عشرين إمارة سميت با”الحثيين الجدد” – حلب، وأرباد (30 كم شمال حلب)، وتل برسيب، تل حلف، حطينة، وحماة. وإن نحن استثنينا بعض الاستمرارية في اللبس واللغة، فلم يكن هناك، في الواقع، أي صلة بين الإمبراطورية الحثية والإمارات، والتي كانت قيادتها الأصلية ربما تتحدث اللغة اللووية (مصدرها جنوب آسيا الصغرى). وأدى وصول الآراميين من الصحراء إلى مزيد من المزج. يعكس فن شمال سوريا في الفترة التي أعقبت 900 ق.م تنوع الأصول في محاولة خرقاء لمنافسة القوة الضخمة لخصومهم الآشوريين في الشرق. وفي الجنوب، قادت مدينة-دولة أرام- دمشق تحالفًا من القوات الذي كبح أطماع مملكتي إسرائيل ويهودا. وعلى الساحل، نجت المدن الفينيقية من عصر الظلام الذي تلى غزوات شعوب البحر وواصلت العمل كقناة للمنتجات والأفكار بين اليونان ومصر والبر الرئيسي الآسيوي. لكن، لم تفلح الدول الآرامية المجزأة من الحفاظ على استقلاليتها في مواجهة قوى جديدة وقوية من الشرق. سيطرت الإمبراطورية الآشورية (1000-612) بقيادة شلمنصر على نحو دائم على أجزاء من شمال سوريا وفينيقيا بدأً من عام 856 وقام تحالف الدول الآرامية بموجهتها في معركة قرقار عام 853. وتحت حكم تيغلاث بيلاسر (744-727 قبل الميلاد)، توغل الآشوريون بقوة أكبر في سوريا وأنهوا استقلال دمشق عام 732 ق.م. لكن تطلب الأمر المزيد من الإجراءات التي قام بها سرجون الثاني (حكم في الفترة الواقعة بين 721و705 قبل الميلاد)، بعد تجدد الاضطرابات في سوريا وفلسطين، للتأكيد على خضوع دمشق.

فرض الآشوريون إدارة هيكلية في أراضيهم الغربية حيث كانوا يشعرون بالرضى إلى حد كبير للمكاسب النفعية ولعمل العبيد. زينت الغنائم والجزية التي كانت تأتي من غاراتهم قصور نينوا وخورش آباد التي فتنت علماء الآثار التاسع عشر إلى حد بعيد. وحتى أن مراكز مثل “أرواد” وصيدا في جنوب لبنان لم تستطع تجنب عنف طموحات الآشوريين المتأخرين، رغم أن صيدا قاومت حتى عندما انقض عليها آشور بانيبال ” كذئب الحظيرة” سنة 668. وفي نهاية الأمر سقطت صيدا، لكنها لم تسقط بيد الآشوريين، ولكنها سقطت في 587 بيد نبوخذ نصر أحد أوائل حكام الكلدان الذين أعقبت هيمنتهم قصيرة الأمد في سوريا (605-539) هزيمتهم للآشوريين (استولوا على نينوى في (620) بعد فترة طويلة من التنافس في أرض الوطن المشتركة في شمال بلاد ما بين النهرين.

 

الفترة الفارسية (519-333 قبل الميلاد)

قام الفرس الأخميدين بضم جزء كبير من سوريا كنتيجة لتحركهم غربًا وهزيمتهم للبابليين الجدد باستيلاء قورش على بابل عام 539.  جعل الإخميديون سوريا مرزبانيتهم أو مقاطعتهم الخامسة (أبار نهارا – ما وراء النهر) ولربما كانت عاصمتها تقع في دمشق. ولقد أدركوا الانتشار الواسع للغة الآرامية والخط الفينيقي الجديد واعتمدوها كلغة مشتركة لإمبراطورتيهم، مما ضمن بقائها بحالة جيدة إلى الفترة الرومانية. جلب الفرس إلى مقاطعاتهم الـثلاث وعشرون نظامًا إداريًا منتظمًا وخيرًا نسبيًا، لكن قبل كلّ شيء، أدى اندماج الساحل السوري في شبكة من التبادلات التي كانت تربط شرق البحر الأبيض المتوسط باليونان إلى أول اشتباك كبير بين الشرق والغرب. ركز الفرس جهودهم على سوريا لإيجاد مجال نفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط، فواجههم الإغريق بمشقة (على سبيل المثال معركة ماراثون في عام 490)، وأولى الفرس سوريا التركيز في جهد منهم للسيادة خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، الأمر الذي جلب عنصر فارسي فريد إلى الأرض والذي لم يتبق منه سوى القليل من الآثار (*عمريت).

الفترة الهلنستية (333-64)

تمّ حسم المنافسة اليونانية الفارسية في المعارك الكبرى (جرت الأولى في أسوس عام 333) والتي هزم فيها الإسكندر الأكبر قوات داريوس الثالث. تقع إيسوس إلى الشمال من الممر الذي يقع في جبال الأمانوس (جنوب شرق تركيا) والتي تسمى البوابات السورية. بعد وفاة الإسكندر في بابل عام 323، استغرق الأمر بعض الوقت لتسوية تقسيم أراضيه بين الجنرالات. كانت سوريا محط نزاع، حيث سقط شمال سوريا بيد سلوقس الثاني نيكاتور (والذي كان قد تم تعيينه بالفعل في بلاد ما بين النهرين) بعد انتصاره على أنتيجونوس في معركة إبسوس (فريجيا) عام 301. استولى بطليموس الأول سوتر، والذي كان قد تولى قيادة مصر بالفعل‘ على الجنوب (بما في ذلك دمشق) ومناطق لبنان وفلسطين. بدأت المملكة السلوقية على أساس منظم وعقلاني لكنها لم تنجح في القيام بلحم سوريا كقاعدة آمنة للسلالة المقدونية. بتطبيق مبادئ الحكومة والإدارة والتي كانت موجودة في أماكن سيطرة  الإسكندر، تم إنشاء مقر ولايات جديدة- أنطاكيا، سلوقيا ( الآن السويدية شمال نهر العاصي في تركيا) *أفاميا و لأوديسا ( اللاذقية) كانت المراكز الرئيسية. شملت المراكز الفرعية المستقرة: “سيرهوس، وشالسيس، وبلوم (قنسرين)، وبروية (حلب)، وأرادوس (أرواد)، وهيرابوليس (ممبج)، و” دورا أوروبوس “، وكان الهدف من هذا المركز الأخير الدفاع عن الصلة بين المجالين السلوقيين الرئيسيين: سوريا وبلاد ما بين النهرين.

وفي حين أنه لم يتجاوز عدد الجنود اليونانيين 50,000، فإن عملية إضفاء الطابع الهيلنيستي على المنطقة كانت قد بدأت. ومع ذلك، حافظ العديد من دول المدن على درجة من الاستقلالية، وعلى الرغم من أن دول المدن تلك قد تخلت عن سلالاتها الحاكمة المحلية كي تصبح جمهوريات تابعة للمملكة السلوقية، إلا أنها احتفظت بدرجة متزايدة من حرية المناورة وترافق ذلك مع ضعف السيطرة السلوقية على سوريا في القرن الثاني قبل الميلاد. وبحلول عام 198 قبل الميلاد فقد البطالمة سيطرتهم على جنوب سوريا عندما سقط في يد الملك السلوقي أنطيوخس الثالث ميغاس (الكبير) (حكم  في الفترة بين 223و 187قبل الميلاد). كان هذا الأمر بمثابة بداية عودة مؤقتة للسلالة السلوقية التي نجم عنها قيام الرومان (أسياد اليونان الجدد) بفحص قوات أنتيوكوس في مغنيسيا مما ألزمه بموجب شروط معاهدة أفاميا التي ووقعت عام (188) قبل الميلاد بالتنازل عن جميع فتوحاته التي قام بها عبر طوروس. تم إجبار خلفه، أنطيوخوس الرابع إيبيفاني، (حكم في الفترة الواقعة بين175و164 قبل الميلاد) على الانسحاب من مصر، ومرة أخرى بعد التدخل الروماني (168 قبل الميلاد). أدت محاولات فرض سياسة الهيلينستية على اليهود (بما في ذلك تدنيس معبد القدس من خلال إنشاء بديل عنه لزيوس – وهي قضية “الرجس” المشار إليه في دانيال 9.7) إلى مقاومة شرسة شملت بما في ذلك دور المكابيين في رعاية عودة ظهور دولة يهودية في فلسطين بعد عام 166 قبل الميلاد. ومع اقتراب القرن الأول قبل الميلاد، كانت سوريا السلوقية تتدهور بشدة بفعل غزوات الأرمن من الشمال، والبارثيين من الشرق، والأنباط العرب إلى الجنوب.

 

سوريا الرومانية (64 ق.م – 395 م) (خريطة المواضيع)

أصبح الرومان، والذين أبدوا اهتمامهم بمصير سوريا منذ غزوهم لليونان، منخرطين بشكل متزايد بشؤونها. ففي عام 64 قبل الميلاد، ألغى المندوب الروماني، بومبي، المملكة السلوقية رسمياً وأنشأ المقاطعة الرومانية وكانت مدينتها الرئيسية (المدينة الكبرى) مقرها في أنطاكية. ولبعض الوقت، أصبحت سوريا جزءًا من الإعداد لصراع رهيب على القيادة أدى في نهاية المطاف إلى زوال الجمهورية الرومانية. لعبت المراكز الرئيسية لعبة تبديل الولاء بين أغسطس قيصر ومارك أنتوني  باستمتاع  ومع تغير الأحوال.  فلقد استفادت سوريا من السلام الذي فرضه أوغسطس وفترة التعزيز والازدهار التي أعقبته بأن أصبحت واحدة من الولايات الرئيسية للإمبراطورية، وظلت تحت سلطة الإمبراطور، الذي يمثله محليًا مندوب يحمل رتبة قنصلية. ازدهرت أنطاكية بشكل خاص لتصبح المدينة الإمبراطورية الثالثة بعد روما والإسكندرية، لكن المراكز الأخرى مثل دمشق، وحلب، والمركز التجاري تدمر استفادت إلى حد كبير أيضًا. في عهد أغسطس، كانت تمركز أربعة فيالق في سوريا، وكان مستوى التهديد أقل بكثير، وعلى سبيل المثال، كان عدد الفيالق أقل من ألمانيا التي كان يعسكر في حاميتها ثمان فيالق.

تقسيمات المقاطعات الرومانية

يلخص الجدول التالي التقسيمات الإدارية التي حكمت منطقة سوريا الأعم في العصرين الروماني والبيزنطي. لم تتضمن  مقاطعة سوريا الأصلية عددًا من الإمارات أو دول المدن التي سمح الرومان بالاستمرار فيها داخل حدود مقاطعاتها بما في ذلك مدن ديكابوليس (كاناتا (قنوات) ودمشق الوقت الحاضر في سوريا وإميسا. تم استيعاب الإمارات ودول المدن تدريجيًا تحت حكم أغسطس المباشر بدءا من الدائرة التي تدعى (برنسبيت) “principate”1 حتى دمج تروجان للمملكة النبطية عام  106

 

التاريخ    الامبراطور                        المقاطعات              العواصم

64 BC   الجمهورية                         سوريا                  أنطاكيا

AD 69   فيسبنيان                           سوريا                  أنطاكيا

يهودا

قيصرية

106        تروجان                          سوريا                  أنطاكيا

يهودا1                 ايوليا كابيتولينا

شبه الجزيرة العربية               بصرى

194  سيبتيموس سيفيروس                  كويل سوريا  لاوديسا 194-202

لاحقا أنطاكية

سوريا فينيقيا2     صور

شبه الجزيرة العربية     بصرى

سوريا فلسطين            ايوليا   كابيتولينا

بلاد ما بين النهرين         نصيبين

295  دقلديانوس                 شبه الجزيرة العربية       بيترا

أوغوستا لبناني                      بصرى

فينيقية                         صور

سوريا كويل                  انطاكية

أوغوستا الفرات               سيروس

أوسروين                       إديسا

بلاد ما بين النهرين         نصيبين

حوالي 395 أركاديوس        سوريا الأولى                 انطاكية

سوريا الثانية3                   أفاميا

فينيقيا البحرية                   صور

فينيقيا اللبنانية4                   دمشق/ إيميسا

فلسطين                         ثلاث مقاطعات

شبه الجزيرة العربية           بصرى

بلاد د ما بين النهرين

الفرات                         سيروس

أوسروين                       إديسا

في حالات كثيرة، كانت المقاطعات تغطي أجزاء محدودة من سوريا يومنا هذا

ملاحظات: تم تغيير اسمها إلى سوريا في 135 عندما أصبحت القدس (أيوليا كابيتولينا) العاصمة. (2) شملت المدن الرئيسية في جنوب سوريا – دمشق ، إميسا ، تدمر (3) أنشأ جستنيان (منتصف القرن السادس) مقاطعة سورية ثالثة (ثيودورياس تكريماً لزوجته) خارج المنطقة الساحلية حول لاودكية. (4) كانت المدن الرئيسية دمشق وإيميسا وهليوبوليس (بعلبك) وتدمر.

 

حازت الإدارة الرومانية في سوريا تدريجيًا على المزيد من السيطرة المباشرة على دول المدن شبه المستقلة سابقًا مثل أرادوس وإميسا (حمص) وأعضاء الاتحاد الفضفاض الذي كان يسمى ديكابوليس (المدن العشر) (مثل أبيلا ودمشق وكاناثا (قنوات) والتي خضعت بهدوء للحكم المباشر بحلول أوائل القرن الأول الميلادي. كانت العملية بطيئة الحركة في فلسطين حيث سمح مجلس الشيوخ للحشمونيين اللذين أبدوا تعاونًا باقتطاع مملكتهم تحت الحماية الرومانية جزئيًا على حساب الأنباط في جنوب سوريا. (تم طرد الأنباط أيضًا من دمشق وتراجعوا إلى وضع شبه مستقل في ,وضع البتراء الحصين (في جنوب الأردن)، واحتفظوا بالسيطرة الكاملة شمالًا حتى بصرى). تبع  الحشمونيون خط هيرودس العظيم الأكثر صخبًا (ملك من 39 إلى 4 ق.م) لكن الرومان استغلوا فرصة موت ورثة هيرودس، أغريبا الثاني في 92/3 لدمج فلسطين في مقاطعة سوريا.

ازدهرت سوريا من الناحية الاقتصادية وأصبحت ليس فقط منطقة تجارية ذات أهمية مركزية في تجارة  الكماليات بين الشرق والغرب (من الصين والهند وافغانستان وبلاد فارس)، ولكنها أصبحت أيضًا منطقة زراعية كانت حبوبها ونبيذها يزودان السوق الروماني بقسط وافر. ولخدمة هذه التجارة، تم تنظيم الطرق التجارية من خلال بناء الطرق، ومن ضمنها الطريق الشمالي / الجنوبي عبر ماريس وطريق نوفا تراينا والطريق الشرقي / الغربي عبر تدمر مما وفر الكثير من الوقت والجهد بالمقارنة مع الطريق الشمالي الذي كان يسير مع نهر الفرات. وتم دفع الأنشطة الاستيطانية والزراعية إلى مناطق جديدة مثل أفاميا، وتدمر، ولاودكية اتي تقع على البحر (اللاذقية)، وتمت معاملة قنوات وبصرى معاملة مماثلة. تم إعادة تخطيط المنطقتين الأخيرين بعد أن أدت سياسة تراجان التي اتسمت بعدوانية أكثر تهدف للسيطرة المباشرة إلى ضم حوران في 106 وإنشاء مقاطعة الجزيرة العربية (في المنطقة الواقعة جنوب دمشق وغرب فلسطين). اعتبرت روما سوريا مقاطعة ثمينة وكان يعتبر منصب المندوب بمثابة تعيينٍ قيم. جلبت زيارات العديد من الأباطرة مزايا خاصة إلى مدن مثل بصرى (عاصمة مقاطعة الجزيرة العربية الجديدة).

سوريا الرومانية – الطرق والجير

استندت السيطرة الرومانية على سوريا إلى نظام متطور للغاية من الطرق والحصون الحدودية التي كانت تعكس الاحتياجات الدفاعية والتجارية. بعد منتصف القرن الثاني، تمت إعادة تخطيط المحاور الرئيسية على نحو شامل ودقيق.

 

المسيحية

عندما اعترف الإمبراطور قسطنطين رسميا بالمسيحية بعد عام 313، وشجعها على نحو متزايد على أنها دين الدولة، كانت سوريا حقًا (وعلى وجه الخصوص أنطاكية) منطقة نشاطٍ مسيحيٍ مكثف يعود إلى إرساليات القديس بولس في منتصف القرن الأول. كانت المسيحية بمزجها بين التأثيرات اليهودية واليونانية في البداية عنصرًا إضافيًا لكنه كان عنصرًا قويًا في بوتقة الانصهار السورية. فقبل أن تصبح المسيحية جزءًا من الحياة العامة في القرن الرابع، كانت الكنائس مجرد مساكن معدلة (كما هو الحال في الكنيسة المنزلية التي تم اكتشافها في دورا أوروبوس). وبعد الاعتراف الرسمي بالمسيحية، اتخذت الكنائس شكل وحجم المباني العامة الرومانية. وانتشرت ظاهرة الحج التي رعتها والدة قسطنطين، القديسة هيلين، في وقت لاحق في سوريا بزيارتها للأماكن المقدسة في القدس في 324، وتم استكمال ذلك بوصول تقليد الرهبنة (من مصر) وتبجيل الأماكن المرتبطة بالزاهدين والقديسين. وبحلول القرن الخامس / السادس، كانت سوريا تطفح بالقرى والكنائس الرهبانية ومراكز الحج الكبرى كتلك المخصصة لتكريم الزاهد، والقديس سمعان أو القديس سيرجيوس في شمال سوريا.

لكن المكونات المتنوعة للكنيسة السورية لم تكن أبدًا في حالة وئام تام مع بعضها البعض. إذ أصبح الجدل الفلسفي حول الموضوعات غامضًا، غموض الانقسام بين الطبيعة الجسدية للمسيح وطبيعته الإلهية، من المواضيع المهيمنة التي قسمت الكنيسة إلى شرقية وغربية (الوحدانية الشرقية مقابل الأرثوذكسية الغربية)، غالبًا ما كانت تصبح على ما يبدو جدالات مشفرة تخفي تحتها تيارات سياسية واجتماعية عميقة.

 

العصر البيزنطي (395-636)

إن اتخاذ بيزنطة كعاصمة ثانية للإمبراطورية تحت حكم قسطنطين والتي أعيدت تسميتها لاحقًا باسم (القسطنطينية) أنذر بالانتقال النهائي للعاصمة الرومانية إلى الشرق في عام 396، والذي يعتبر بمثابة بداية العصر البيزنطي. تحت وفي ظل حكم ثيودوسيوس الثاني (حكم من 408 إلى 450)، جلب السلام الذي استمر لمدة 100 عام مع الساسانيين بعض الهدوء من الحروب الشرقية التي أنهكتهم، لكنها أصبحت مصدر تشتيت كبير للقوى مرة أخرى بحلول منتصف القرن السادس، واستنزفت الكثير من موارد عهد جستنيان (حكم من 527 إلى 565). وبرغم الاضطرابات على الحدود والانقسامات العميقة التي شقت الكنيسة (بدعة الأريوسية في القرن الرابع، والنسطورية في القرن الخامس، والجدل الذي كان يدور حول الأحادية والذي استمر من القرن الخامس إلى القرن السابع)، فقد شهدت سوريا ازدهارًا مستمرًا في الأجزاء من سوريا التي كانت تشهد استقرارًا أكثر. استمرت المنطقة الكلسية التي تقع غرب حلب (والتي أطلق عليها الرومان اسم بيلوس) في الازدهار، اعتمادًا على صادراتها من زيت الزيتون، وتم استغلال حوران بشكل مكثف؛ وظلت المدن مزدهرة. ازدادت المشاريع الكنسية وأديرة الرهبان وطور البناؤون السوريون مجموعة من الأساليب التي تكيفت مع النماذج الحضرية والكلاسيكية الجديدة ومزجتها مع عناصر من الشرق في كثير من الأحيان لبلوغ مزيج محلي غريب إلى حد ما والذي لا تزال بقاياه جلية بوضوح. في حقيقة الأمر، لا توجد منطقة في عالم البحر الأبيض المتوسط ​​تحتوي على مثل هذه الثروة من الأدلة على هذه الفترة كتلك التي يمكن العثور عليها في العديد من الكنائس والقرى والرهبانيات في سوريا.             برغم كل جهوده لمزاوجة العناصر الشرقية والغربية في المجتمع السوري، ومواصلة العملية التي بدأت حتى في ظل حكم الإسكندر، فإن الحكم البيزنطي بدأت تعوزه الحلول بحلول القرن السادس. أصبح الجدل حول الأحادية عنصرًا مزعجًا يثير استياءًا محليًا شديدًا ضد فرض القسطنطينية للأرثوذكسية. قام الفرس الساسانيون بغارات متزايدة في سوريا، وتخللت غاراتهم المدمرة سلسلة مدمرة من الزلازل. وعلى الرغم من جهود جستنيان والأباطرة اللاحقين لتحقيق الاستقرار على الحدود الشرقية بحلول أوائل القرن السابع، لم تكن سوريا قادرة فعليًا على مقاومة احتلال كسرى الثاني الذي دام لفترة طويلة والذي بلغ وجوده في أنطاكية ذروته بذبح 90 ألف شخص. من سكانها. حاول البيزنطيون الدبلوماسية تحت حكم موريس (ص 582-602) لكنهم انقسموا فيما بعد بسبب صراعهم على القيادة. وعندما حشدوا أنفسهم لاستعادة سوريا في (626)، كانت الحرب والمجاعات والزلازل والأوبئة ترهق البلاد التي بدت غير مكترثة بمصيرها تقريبًا. فبعد قرون من الحروب، وصل القتال بين العالمين الروماني والفارسي إلى طريق مسدود.

 

الفتح العربي (632-661)

ملأت جيوش الإسلام الأولى هذا الفراغ. فبعد وفاة النبي محمد عام 632، شجع خليفته في قيادة المؤمنين (الخليفة) أبو بكر قواته على القيام بالمزيد من الخطوات التي تجاوزت الحركات المترددة التي بدأها محمد نفسه لإيجاد منافذ جديدة في الشمال للطاقات العسكرية، والدينية، والتجارية للقيادة العربية الجديدة. أبدت قلة من المراكز السورية مقاومة كبيرة. واستسلمت دمشق مرتين، كانت المرة الثانية عام 636 إثر الهزيمة الساحقة للقوات البيزنطية في اليرموك.  اندمج المكون الصغير من السكان الجدد الذي جلبه عرب الصحراء تدريجيًا مع السكان الموجودين ذوي الأصول السامية، وأضفت عملية اعتناق دين الإسلام الجديد البطيئة المزيد من الضبابية على الفروقات بينهم. فعلى العكس من فرض الأرثوذكسية البيزنطية بالإكراه، اعتمد إدخال الإسلام على الحوافز الضريبية أكثر من اعتماده على الإكراه، وبالتالي أثار القليل من الاستياء النشط من السكان المحليين (ولقرون عديدة، ما زالوا مسيحيين في الأساس).

ظلت القيادة الجديدة متمركزة في المدينة المنورة وجنوب العراق لما يقرب من عقدين من الزمن. انتقلت الخلافة بعد أبو بكر إلى عمر (خليفة من  634 إلى644)، وعثمان (خليفة من 644 إلى  656)، ثم علي (خليفة من 656 إلى 661) وهم الأربعة الذين يشكلون الخلفاء “الراشدين”. لكن معاوية تحدى قيادة علي، ومعاوية هو زعيم الفصيل الأموي الذي اعتقد أن عليًا لم ينأ بنفسه عن قتلة عثمان على نحوٍ كافٍ. قتل علي مؤيد سابق ساخط. ومن بين نجلي علي، الحسن والحسين، لم يصر حسن على مطالبته بخلافة معاوية. كان معاوية قد استولى بالفعل على الخلافة وقرر على الفور نقل العاصمة إلى دمشق (حيث كان قد بنى قاعدة سلطته كحاكم).

 

الأمويون (661-750)

حملت الخلافة الأموية معها ما قد يكون أكثر الفترات خصوبة في التاريخ السوري. حيث تم إعطاء البحث الدائم عن التوازن بين الشرق والغرب تفسيرًا جديدًا وقويًا في مزيج انتقائي من العناصر البيزنطية والفارسية وعناصر بلاد ما بين النهرين والعناصر المحلية. لم يتم استكشاف أو تفسير هذا التفاعل الناتج عن انهيار العالم القديم وصعود الإسلام بالكامل بعد، لكن اللقطة التي تقدمها لنا بقايا الفترة الأموية تشهد على تعقيد القوى العاملة في سوريا الأموية. قامت يد ماهرة بتأسيس سيادة اللغة العربية ومركزية الإسلام داخل الإمبراطورية. اتسمت الفترة بفضول فكري ازدهر في ظل جو من عدم التدخل في ظل قيادة معاوية الحكيمة وسياسته المعتدلة. استوعب الأمويون الأرستقراطيون المحاربون بيسر أفكار الثقافة السورية الغنية وكانوا يطمحون إلى أن يصبحوا خلفاء الرومان والبيزنطيون. أصبحت دمشق في ظل الأموين مركزًا رئيسيًا (كانت مملكة الأمويين في نهاية المطاف تمتد من نهر السند إلى إسبانيا)، وكانت نقطة إبداع سياسي وديني وفني محورية منحت المدينة ديناميكية نادراً ما تمتعت بها.

لكن تركيز الأمويين تحول تدريجياً من عالم البحر الأبيض المتوسط الأكبر. فهم لم يجدوا فقط محاورين جدد مهتمين بالتعامل مع القوة الجديدة (فأوروبا الغربية لم تكن قد بدأت حتى بالخروج من ليلها البربري، وكانت بيزنطة لا تزال تكافح من أجل الحفاظ على تماسكها فيما تبقى من أراضيها) بل توجب عليهم أن ويواجهوا اتجاها شرقيًا جديدًا يميل باتجاه  شكل أكثر صعوبة من الأسلمة ). تم بذر بذرة ذلك الشكل من الأسلمة في وقت مبكر من عهد معاوية (661-680). إذ أدى تسنمه للسلطة إلى تفاقم الانقسام بين عشيرة بني أمية وأتباع علي، بقيادة نجل علي المتبقي، الحسين، عند وفاة الحسن عام 669. وخلف معاوية ابنه يزيد (حكم 680-683). استجرت القوات الموالية ليزيد الفرقة الصغيرة من الحسين وأتباعه إلى معركة في كربلاء (جنوب العراق) في 10 محرم 61 هـ (680 م)، حيث قتلت الحسين وجميع رفاقه باستثناء عدد قليل من أصحابه. ومن بين الذين تم أسرهم كانت زينب شقيقة الحسين. استعرت مأساة كربلاء لعدة قرون. وفي نهاية المطاف، ستؤدي تلك المأساة إلى استمرار الانقسام بين أتباع الخلافة الأموية الأرثوذكس (الذين سيُطلق عليهم فيما بعد اسم السنة) وأنصار آل البيت (الشيعة).  لقد حرف  ذلك الانقسام الذي كانت بذوره تنبت في الشرق تدريجياً تركيز  العالم الأموي تجاه التحديات التي كانت تواجه عدميته القومية.

لكن بعد أن تم إجبار المعارضة للخلافة على العمل السري، شرع الأمويون في فترة كانت الأكثر ثقة في إدارتهم. وقد تميزت تلك الفترة بمشاريع بناء ضخمة في الداخل ومناطق التوسع في الخارج خاصة في عهد عبد الملك (حكم من 685 إلى 715). كان عبد الملك مسؤولاً عن مشروع الجامع الضخم في دمشق (*الجامع الأموي بدمشق) والذي لا يزال يشهد حتى بعد 1200 سنة على ثراء وتنوع الإلهام الأموي.

بعد الهزيمة التي حلّت بمحاولات الأمويين الرامية لطرد البيزنطيين من آسيا الصغرى، نأت الإمبراطورية  بنفسها بشكل متزايد عن محاولات البحث عن مكان في عالم البحر الأبيض المتوسط العدائي أو اللامبالي لمواجهة التحديات القادمة من الشرق. كان هشام ابن عبد الملك (حكم من 724 إلى 743) آخر الحكام الأمويين العظماء. تراجعت الأسرة الحاكمة من بعده، وقد أنهكها استياء الشيعة والغزوات العسكرية القادمة من آسيا الوسطى ومن بيزنطة وشمال إفريقيا. تلاشى خط السلالة الحاكمة كنتيجة لتولي سلسلة من الخلفاء الفاسقين أو غير الأكفاء، وكنتيجة للتوترات التي كانت تحصل في القصر والتمردات التي كانت تحصل في ولايتي فارس والعراق. ظهر أحد المطالبين بالخلافة، أبو العباس، في العراق وسار إلى دمشق عام 750. وتمّ القضاء على الأمويين وفر حفيد هشام إلى إسبانيا حيث استمرت السلالة الأموية لمدة 500 سنة أخرى.

تمثل سلالة العباسيين الجديدة التقليد الشرقي (الفارسي) ونسخة أكثر دينية من الخلافة، التي كانت ترفض عن وعي المحاولات الأموية المبكرة لمزاوجة المؤثرات الشرقية والغربية. ونقل العباسيون الخلافة إلى العراق (الكوفة) حتى تمّ تأسيس بغداد عام 762) وأصبحت سوريا منطقةً راكدةً مهملة، إذ تمّت معاقبتها لموالاتها للخط الأموي الفاسد والمتراخي.

 

العباسيّون (756-968)

لم يضاه العباسيون على الإطلاق زخم وتوسع السلطة الأموية الإقليمي. لم ينفذ خلفائه الوعد الوارد في خطة الخليفة منصور بتشييد عاصمة جديدة على ضفاف نهر دجلة في بغداد (والتي شيدت وفقًا لمخطط دائري جريء). تمتع هارون الرشيد (الخليفة العباسي 786-809) فقط بموهبة إعطاء الخلافة  مكانة أوسع. فلقد استقطب سفارة من شارلمان، وكسب الأخير من خلال لفتته  حق حماية الحجاج المسيحيين إلى القدس.

لكن فشل العباسيون في منح زخمٍ مستمر لتطوير نظام حكمٍ إسلاميٍ موحد. وعلى مدى قرنين من الزمان، قام البدو الأتراك بغزو أطراف أراضي الخلافة على نحوٍ متزايد والذين أزاحوا النخب السياسية العربية الفارسية. وأصبحت الأنظمة التي تعتمد على القيادة الأجنبية هي الآن القاعدة والتي ميزت كل عصر من العصور حتى العصر الحديث. منعت عمليات التسلل التركية وغيرها من عمليات التسلل المتتالية عملية استعادة إمبراطورية واسعة في الشرق الأوسط ( الوضع الذي انعكس مع صعود نظام المماليك في القرنين الثاني عشر والثالث عشر). بدأت العملية في منتصف القرن التاسع مع تفكك المناطق العباسية بتولي سلالات مستقلة السلطة في مقاطعات مثل مصر (الطولونيون بعد 868 والفاطميين بعد 905) وبلاد فارس (الساسانيين بعد 874). وأصبح الخلفاء أنفسهم رهائن في بغداد لـ “حماتهم” الأجانب مثل الأتراك السلاجقة منذ عام 1037.

ومرةً أخرى تنازعت أطراف عدة على سوريا. واقترن النضال من أجل الهيمنة السياسية في هذه الفترة من الفوضى التي لم يسبق لها مثيل بعودة التوترات السنية الشيعية حيث قاتلت الفصائل المختلفة لفرض وجهات نظرها على السكان المتأسلمين على نحوٍ متزايد. فنشأت طوائف متغايرة من جميع المعتقدات في هذه الأرض المحرمة على الإمبراطوريات كان الاتجاه السائد فيها هو الشيعة (وصيغتها الإسماعيلية) حتى في المدن (وخاصة حلب). انتشر التمرد والسخط وانسحب العديد من الطوائف ببساطة إلى الجبال والمناطق الصحراوية، وحافظوا هناك على هوية منفصلة تتجلى اليوم في التعقيد العرقي والديني للبلاد. (في ذلك الوقت، لجأت الطائفة المارونية إلى جبال لبنان، الأمر الذي يوضح أن التنوع والتشرذم ليستا خاصيتين حصريتين على المسلمين).

لا يمكن تتبع التاريخ السياسي لسوريا خلال هذه الفترة إلا على المستوى المحلي، حيث تم إنشاء خطوط منفصلة للخلافة السياسية في شمال وجنوب سوريا، اعتمادًا على درجة تعرضها للأحداث في مصر والعراق (خاصة الموصل؛ مركز السلطة السلجوقية) وبيزنطية وتركيا. حكمت السلالة الحمدانية حلب( من 944 إلى 1003) والتي أدت مغامراتها المثيرة فقط إلى أن تصبح حلب محمية افتراضية للبيزنطيين ولاحقًا للفاطميين. حكمت العائلة المرداسية البدوية المدينة اسميًا (من 1023 إلى 1079) في عملية توازن دقيق اعترفت فيها بالسيادة الفاطمية دون إثارة التدخل البيزنطي. استولى الأتراك السلاجقة الذين انتزعوا تفويضًا من الخليفة العباسي المفترض يقضي بحكم شمال سوريا فعليًا تحت قيادة السلطان ألب أرسلان (1070-1072). سعى البيزنطيون إلى الاستفادة من حالة عدم الاستقرار من خلال الاستيلاء على أجزاء من شمال سوريا بشكل متقطع تحت حكم الإمبراطورين  نيسفوروس الثاني فوكاس (حكم من963 إلى 969) وجون الأول تزيميسيس (حكم من 969 إلى 976) لكن حملتيهما تلاشتا مع توقيع معاهدة قبول السيادة الفاطمية في سوريا في 997.

شهدت دمشق مثلها مثل حلب فترة من الفوضى، ترافقت مع فترة حكم سلالة الإخشيديين في القاهرة في القرن التاسع. و حل الفاطميون، وهم سلالة شيعية، محلهم في القاهرة بعد عام 961. وعلى الرغم من أن الإخشيديين أعلنوا عن ولائهم الاسمي للخلفاء العباسيين في بغداد، إلا أن الفاطميين أقاموا خلافة منافسة، وكانت دلالة استقطاب بغداد/القاهرة هي جعل سوريا ساحة معركة للتوترات بين المسلمين، وهو الوضع الذي ساد حتى أصبح مركز القوة فعالًا في توحيد الشرق الأوسط.

أدى استمرار صعود السلاجقة (التابعين اسميًا لخلافة بغداد) إلى نقل الصراع من أجل سوريا إلى مرحلة جديدة. وتم حسم سيادة الأتراك السلاجقة في معركة مانزكيرت (شرقي تركيا) والتي شهدت انتصارهم على القوات البيزنطية لرومانوس الرابع ديوجين عام 1071 والذي تم أسره. واصلوا استيلاءهم على معظم أجزاء سوريا، بما في ذلك دمشق عام 1075 وبحلول عام 1078 كانوا قد وصلوا إلى القدس. بحلول أواخر القرن الحادي عشر، وفي ظل حكم ألب أرسلان ومالك شاه الأول (سلطان من 107إلى1092)، كان السلاجقة يتمتعون بقوةٍ كافيةٍ في سوريا لإعاقة السلالة الفاطمية في جهدها الرامي للحفاظ على السيطرة على جنوب سوريا، على الرغم من تأرجح السيطرة على دمشق بين المركزين لمدة من الوقت. بدأ التفوق السلجوقي في قرع أجراس الإنذار في أوروبا، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الضعف الظاهري للبيزنطيين، وكان في جزء كبير منه الحافز الذي أدى إلى الحركة الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر والتي دعت فإلى استعادة الجيوش المسيحية للأماكن المقدسة.

 

الصليبيون

جلب الصليبيون إلى سوريا بعد قرون من العزلة النسبية آخر صدامات العوالم الكبرى التي ميزت تاريخها. فبعد أن وجه البابا أوربان الثاني (1088-1099) نداءه المؤثر إلى الجيوش في مجلس كليرمون فيران الذي عقد في 1095، وجد الجيش المسيحي الذي تدفق إلى سوريا في عام 1097 أن القيادة السلجوقية قد تفككت وأن البلاد كانت تفتقر إلى أي قيادة موحدة لمقاومة الجيش المسيحي. ولم يكن ذلك  يعني أن الجيوش المسيحية كانت  تتمتع بوحدة أكثر، والتي كانت تمزقها مشاكل القيادة والخلافات على التكتيكات. فانقسمت الجيوش خلال فترة حصار أنطاكية الذي دام لتسعة أشهر والذي أدى إلى الاستيلاء الوحشي على مدينة أنطاكية (حيث لم تولِ الجيوش المسيحية احترامًا كبيرًا لسكان المدينة الأرثوذكس اليونانيين الذين كانوا لا يزالون موجودين فيها والذين كانوا يشكلون عددًا كبيرًا من سكانها). فاتجه بالدوين من بولوني شرقاً ليقيم إمارة منفصلة في الرها (جنوب شرق تركيا). وأصبح بوهيموند أميرًا لأنطاكية بينما توجه ريمون كونت تولوز إلى القدس مع البقية الباقية من الجيش المكون بجلّه من الغوغاء. أدى استيلاءهم  في طريقهم إلى معرة النعمان إلى مذبحةٍ كبرى أخرى لكن لم يكن هناك وجودٌ لمقاومةٍ إسلاميةٍ منسقة.

سار الصليبيون من المعرة جنوباً على طول وادي العاصي ثم استداروا باتجاه الساحل مرة أخرى عبر فتحة حمص، واستولوا على الحصن الكردي الذي كان من المقدر له أن يصبح موقع القلعة الكبرى المعروفة الآن باسم قلعة الحصن. كانت طرابلس (التي تقع في شمال لبنان) هي الهدف الرئيسي التالي، لكن المدينة أبدت مقاومة شرسة وكان لا بد من تجاوزها بينما واصل الجيش طريقه للسيطرة على القدس في عام 1099. استغرق الأمر بعض الوقت من الأمراء الصليبيين المختلفين كي يوطدوا سيطرتهم على المناطق الساحلية السورية. تم الاستيلاء على طرابلس أخيرًا في عام 1109 لكن المراكز الأصغر مثل * اللاذقية و * طرطوس وكذلك المنطقة الجبلية حول مصياف سقطت في وقت سابق. لكن المقاطعات الصليبية لم تكن في أي وقت من الأوقات كياناتٍ متراصة ومحكمة الدفاع. إذ تم تقسيم السيطرة بين عائلات مختلفة – فتم تثبيت كونت ريمون تولوز الآن في طرابلس،وتم تثبيت بوهيموند ولاحقًا تانكريد، في أنطاكية، وبالدوين في إديسا – لكن تنافسهم المتبادل ومشاريعهم المنفصلة بخصوص مملكة القدس وافتقارهم إلى جيوش دائمة محترفة أو جيوش كبيرة عنت أنه كان يجب تقديم العديد من التنازلات  للبيئة السورية. كانت الانقسامات بين المدن والقيادات الإسلامية، وحقيقة أن الهوة الإسلامية / المسيحية كانت تتمتع  في كثير من الأحيان بأهمية أقل من الإغراء المتمثل بإقامة تحالفات جديدة في سعيها وراء صراعات السلطة المحلية، والموقف الغامض للمجتمعات المسيحية المحلية – هذه العوامل وغيرها أضفت ظلًا من الضبابية على خط الصدع الكبير الذي كان يمتد نظريًا بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي.

لكن استمرت المواجهة لما يقارب القرنين من الزمان. فبالنسبة للمسلمين لم تحظ ذريعة الصليبيين للتدخل بالمصداقية. فنادرًا ما كان الرعايا المسيحيون في الدول الإسلامية يعانون من أي إجحاف، وكان يتم قبول الحجاج المسيحيين لفترة طويلة في الأراضي المقدسة. وهكذا كان يتم النظر إلى وجود الصليبيين على أنه غزو مباشر كان يستخدم فيه الدين كغطاءٍ للدوافع الإقليمية.

بقي الفرنجة، كما كانوا معرفين لدى المسلمين، في معاقلهم، وسيطروا على بعض المناطق الريفية، وطرق الاتصال ، وجلبوا المجندين الجدد من خلال الحملات الصليبية المتجددة في أوروبا، وتزوجوا، وماتوا، وأقاموا القلاع والكنائس. على الرغم من تمسكهم بالشريط الساحلي النحيل ، إلا أن قبضتهم الداخلية (حتى عندما تم توحيدها بعد 1150 من خلال نقل القلاع الرئيسية إلى فرسان الإسبتارية وفرسان الهيكل) كانت متراخية نظرًا للنقص في القوى البشرية ونقص الدعم الشعبي في الريف. ونادرا ما تمكنوا من تهديد المراكز السكانية الإسلامية الرئيسية. حصلوا على القليل من المساعدة من المسيحيين المحليين – ولم يفعلوا سوى القليل لتعزيز موقفهم (كانت المساعدة تأتي عادة من الروم الأرثوذكس وبالتالي كانت بعيدة عن تطلعات الغربيين). بدأت عملية الاستنزاف البطيء لموقف الصليبيين عندما تم حشد القوات الإسلامية باتجاه مراكز السلطة السنية الجديدة في دمشق وحلب.

 

النهضة الإسلامية

كانت حلب أول مركز لتوحيد المسلمين في ظل حكم الأوصياء الزنكيين (الأتابك)، زنكي (حكم من 1128إلى1146) وابنه الثاني نور الدين (حكم من 1146إلى 1174)، والذين كانا تابعين اسمياً للسلطان السلجوقي في الموصل ومن خلاله للخليفة في بغداد. واستمروا في نهج سياسة السلاجقة التي كانت تسعى لاستعادة الأرثوذكسية السنية، ودحر المكاسب التي حققها الشيعة بتشجيع من الفاطميين والإسماعيليين الذين كانوا يتلقون إلهامهم من الفرس. أصبح الإسلام السني نقطة الجمع الأكثر وضوحا ضد التهديد الأجنبي، وتجسدت مفاهيمه عن الشخصية الداخلية والحياة الصالحة في الشريعة (قانون الشريعة الإسلامية) وتم تنظيم الاسلام السني بفضل عمل القيادة الدينية المدنية والعلماء وبفضل شبكة تعليمية جديدة ومؤسساتٍ دينية. واستكمل الزنكيون توحيد دفاعات عوالمهم الروحية بتدعيم جاهزيتهم. فاستعادوا البؤرة الاستيطانية الصليبية التي كان مقرها في الرها (1144) وأزالوا الوجود الصليبي في وادي العاصي. و كانوا قد أخضعوا دمشق لسيطرتهم بحلول عام 1154،  ووحدوا لأول مرة في جبهة واحدة  المقاومة للصليبيين في سوريا، وبالتالي صقلوا مفهوم الجهاد.

لكن استغرقت عملية توطيد العقيدة وتطويق الصليبيين معظم القرن حتى تكتمل قبل أن يتم توحيد القوات الإسلامية في مصر وسوريا تحت قيادة واحدة (وبذلك حرم الصليبيون من القدرة على اللعب على سياسة القاهرة في مواجهة دمشق). أكمل نور الدين العملية، فقام بغزواتٍ على الوجود الصليبي في الجبال الساحلية السورية، لكن ابن أخيه صلاح الدين ذهب شوطًا أبعد من ذلك. على الرغم من كان تحت وصاية عمه، تمت دعوة صلاح الدين (كردي الأصل) لتولي الخلافة من ابن نور الدين الرضيع في عام 1176، بعد أن كان قد أنهى في وقت سابق (1171) العصر الفاطمي في القاهرة باستعادة سلطة الخلافة العباسية اسميًا. لكن دمشق، والتي كانت لفترة طويلة قلب الخط الأمامي لمقاومة الوجود الصليبي في القدس كانت قاعدته الأمامية في مواجهة الصليبيين وفيها بدأت سلالة الأيوبيين (من 1176إلى 1260 – باسم عائلته) والتي اتخذت فيما بعد شكل سلالتين منفصلتين في دمشق و القاهرة. من هناك أكمل توحيد سوريا، فسيطر على حلب بالكامل عام 1183، وبذلك حصل على عمق استراتيجي مكنه من شن حملة قوية ضد القوات الصليبية. وبحلول عام 1187 كان قد استدرج الملك غي من القدس إلى معركة حطين الكارثية في الجليل والتي شهدت الدمار الشامل للجيش المسيحي وأدت إلى سقوط القدس بأيدي القوات الإسلامية.

صمدت سوريا الصليبية أمام خسارة القدس. فنادرًا ما تمتع مفهوم الجهاد لتوحيد صفوف المسلمين بتأثير كبير خارج المناطق التي كانت تتأثر بشكل مباشر بنهب الصليبيين. فحتى حملة صلاح الدين الرائعة التي قام بها عام 1188 (انظر الإطار أدناه) لم تؤد إلى جهدٍ موحد لطرد الصليبيين من القلاع الكبرى في قلعة الحصن أو المرقب أو من طرطوس، أو اللاذقية، أو أنطاكية. وانتهى الإلهام بعد وفاة صلاح الدين. أدت الخلافات إلى تفتيت مملكته بين الأبناء المتنافسين واستغرق الأمر تسع سنوات قبل أن يقوم شقيقه العادل(سلطان دمشق من 1196إلى1218، وفي القاهرة من 1200إلى 1218) بتجميع الأراضي الأيوبية مرة أخرى. وحتى أن أحد خلفائه في القاهرة، الكامل الأول نصر الدين (1218-1238)، سلم القدس إلى الصليبيين بموجب معاهدة مع فريدريك الثاني بعد سقوطها في أيدي جيش الغزو التركي عام 1244). وبحلول عام 1260  تلاشت سلالة الأيوبيين، حيث أصيبت بالشلل بسبب الخلافات بين أحفاد جيش صلاح الدين، على الرغم من وجود إماراتٍ عرضية عن النشاط المحلي، على سبيل المثال حكم ابنه الثالث، الظاهر غازي، حاكمًا لحلب (من 1186 إلى 1215).

 

المماليك

انتقلت بؤرة تركيز الصراع الصليبي الإسلامي بحلول منتصف القرن الثاني عشر إلى مصر، والتي أصبحت هدفًا للحروب الصليبية اللاحقة. جاءت الصحوة الثانية الكبيرة للمسلمين من القاهرة بصعود قوة سياسية منفتحة، للمماليك (وهم حراس محترفون تعود أصولهم عادة إلى آسيا الوسطى أو تعود لأصول تركية) بانقلاب القصر الذي حصل عام 1250. كانت أولى الغزوات المغولية لسوريا، تحت حكم هولاكو، هي التي دفعت المماليك إلى حشد القوى الإسلامية التي كانت تعاني من الوهن (معركة عين جالوت- “نافورة جالوت”- في 3 سبتمبر 1260) واستولت على دمشق من آخر حكام الأيوبيين، المالك النصر الثاني. منحت قيادة للسلطان المملوكي المالك الظاهر بيبرس التي تعوزها الرحمة (حكم من 1260إلى 1277) زخمًا جديدًا للقضية المناهضة للصليبين، وسرعان ما تم إزاحة الوجود المسيحي من أنطاكية في عام (1268) ومعقلي قلعة الحصن وصافيتا القريبين عام (1271). وضعت الحملة المتزامنة ضد الشيعة الهراطقة القلاع الإسلامية في الجبال الساحلية تحت سيطرة الحكم السني (* مصياف). وتواصلت العملية تحت قيادة سلطان قلاون (حكم من 1280 إلى 1290) والذي هزم القوات الصليبية المتبقية بانسحابها المتعاقب من قلعة المرقب في (1285) واللاذقية في (1287) وطرابلس في (1289) وطرطوس في (1291).

حملة صلاح الدين عام 1188

أمضى صلاح الدين بعد معركة حطين والاستيلاء على القدس موسم حملته التالية في شن سلسلة من الضربات العنيفة ضد المواقع الصليبية في سوريا. وتمثل همه الرئيسي في منع توغل الجيش الصليبي الألماني في طريقه عبر آسيا الصغرى واستكمال اتصالاته الدبلوماسية مع البيزنطيين بهدف تثبيطهم عن منح ألمانيا حرية الوصول عبر الأراضي البيزنطية. لم تتمثل أهدافه التكتيكية في دفع الوجود الصليبي في سوريا إلى البحر ولكنها تمثلت في تقليل مساحة الأراضي التي يمكن أن توفرها للقوات الألمانية. وهكذا قرر أن لا يشن أي هجوم مباشر على التجمعات الصليبية الرئيسية حيث كانت تظهر مقاومة ولكنه بالأحرى ولكن بالأحرى أن يطوق مواقعهم ذات القوة البشرية الضعيفة في الداخل ويضييق الخناق على القوات المسيحية في المراكز الرئيسية – طرطوس وقلعة الحصن وقلعة المرقب وأنطاكية.

لاقت أساليبه نجاحًا باهرًا. أدى الاستيلاء على أكثر من 50 موقعًا صليبيًا (الأمر الذي قلص في  حينه مملكة القدس إلى جيب صغير حول صور) إلى إضعاف الوجود الصليبي على نحو مهلك، وحرمهم من السيطرة على أراضي واسعة النطاق والقدرة على اعتراض الطرق الرئيسية الداخلية الشمالية / الجنوبية. كان رد فعل الصليبي الضعيف على حملته بمثابة تبرير لافتراضاته حول قدرة قوة أجنبية على الحفاظ على وجودها في منطقة معادية. أظهرت آخر لفتة لصلاح الدين، والتي تمثلت في احتلال قلعة باغراس، والتي كانت تقع عمليًا تحت أنف أمير أنطاكية، بوهيموند، الضعف المطلق لقوات الفرنجة. ولعل الأمر الأكثر لفتًا للنظر هو أن الأمر استغرق من خلفاء صلاح الدين المسلمين ما يقرب من قرن آخر للاستفادة من هذا الإدراك وطرد القوات الصليبية المتبقية من الشرق.

قائمة الارتباطات الرئيسية

4 تموز              معركة حطين

2 تشرين أول       سقوط القدس

1188

30 أيار             الوصول إلى قلعة الحصن. القرار بعدم المهاجمة

3-8 تموز          نهب طرطوس-المرور بالمرقب-حرق بانياس

16 تموز           الاستيلاء على جبلة

23 تموز           نجاح حصار اللاذقية

29 تموز           سقوط قلعة صلاح الدين بعد ثلاثة أيام

1 آب               سقوط قلعة المهيلبية

5 آب              سقوط باكاس

12 آب            سقوط جسر الشغور

20 آب            الوصول إلى قلعة بُرزي

23 آب          سقوط قلعة بُرزي

28 أيلول       حصار باغرس (ممر بيلان)- تمت إزالتها لاحقًا

 

على الرغم من حقيقة أن المماليك كانوا أجانب، لكنهم أقاموا بأنفسهم شبكات تحالفات مع العائلات الرئيسية والمؤسسات الدينية (العلماء) في المدن السورية الرئيسية. كانت فترة المماليك المبكرة عصرًا آخر من عصور دمشق الذهبية بفضل توجيهاتهم، وبفضل مساعدة الأوقاف التي كان حكامهم  يمولوها في كثير من الأحيان. وبرغم أنها لم تكن مركز الممالك المملوكية (حيث بقيت القاهرة مركزها)، فلقد أصبحت العاصمة الثانية في أوائل القرن الرابع عشر، ولقد حظيت بحظوة السلاطين الأوائل كما هو موضح في  مشاريع البناء التي بلغ عددها171 مشروع بناء واتي تم تنفيذها خلال هذه الفترة. كان حكامها مرتبطين ببعضهم للغاية وكانوا في كثير من الأحيان فعّالين للغاية (وعلى الأخص الأمير تنكيز الحسامي حاكم دمشق من 1312 وحتى 1339). وتم إنشاء سلاسل قيادة مفصلة للتأكد من أنها لم تنتحل سلطة مستقلة.  كان المماليك قد حققوا كل ما شرعوا في تحقيقه إلى حد كبير بحلول عام 1312 وبدأوا فترة من الازدهار دامت معظم القرن. أدت سلسلة من الحروب الأهلية الكارثية في الفترة التي تلت عام 1380، إلى إضعاف القيادة وتجدد التهديدات بالاعتداءات البدوية والتتار. لم يستعد سلاطين المماليك زخمهم بعد الغزو الأخير والأكثر كارثية بقيادة تيمورلنك في 1400و1401.  تم استبدال خلافة المماليك البحريين (استمرت خلافتهم من 1260 إلى 1316 – وكانوا بشكل أساسي من الأتراك أو المغول) في عام 1390 بسلالة شركسية إلى حد كبير من المماليك البرجيين (من 1382إلى 1516). بدأت فترة التوحيد عام 1422 وأدى حكم السلطان قايت باي الطويل إلى عودة الاستقرار إلى سوريا. لكن أبرز ما يذكر بالفترة المملوكية المتأخرة هو الأضرحة العديدة (يشيرإليسيف إلى أن المماليك، والذين عاشوا غير متأكدين مما سيحمله الغد معه، حاولوا على الأقل تأمين ضريح لأنفسهم. وفي نهاية المطاف، انهار حكم المماليك نظرًا لعدم تمتعه بالشعبية (بسبب المطالب الابتزازية المفروضة على رعاياه السوريين) وكذلك بسبب الغزوات السريعة للتوغل التركي الجديد، و اتخذت هذه المرة شكل الجيش العثماني.

 

العثمانيون

استولى الأتراك العثمانيون بالفعل على جزء كبير من آسيا الصغرى (بما في ذلك القسطنطينية من البيزنطيين عام 1453) قبل أن ينتقلوا إلى سوريا. احتشد العديد من الطبقة العليا بشكل تلقائي لصالحهم في عام 1516، وانسحبت حامية المماليك بهدوء من دمشق للسماح للسلطان الجديد بالدخول. وبعد فترة وجيزة، وفي ظل حكم سليمان الذي دام لفترة طويلة (المعروف لدى الأوروبيين باسم سليمان القانوني حكم من  1520 إلى 1566)، تمّ تنظيم إدارة سوريا، وإحصاء سكانها واستقرار إيراداتها. حملت الفترة العثمانية المبكرة معها زخمًا جديدًا لتطوير الأقاليم السورية الثلاث (ولايات) حلب ودمشق والرقة. ولعبت الوظيفة التي كانت تقوم بها الأقاليم السورية في إدارة وتأمين الحج السنوي إلى مكة المكرمة دورا كبيرًا للنهوض بالاقتصاد ونمت التجارة الخارجية. وبموجب أحكام معاهدات “الاستسلام” العثمانية مع القوى الأوروبية، أصبحت حلب قاعدة وجود تجاري خارجي هام، وهو دور لم تشاطره دمشق إلا إلى حد ضئيل.

كان الحكم العثماني تنظيمًا فضفاضًا إلى حدٍ ما، حيث تمّ منح سلطة كبيرة للحكام المحليين (والي يحمل رتبة باشا) طالما أنهم يزودون الخزائن المركزية بإيرادات الضرائب، ويؤمنون الحج ويحترمون المصالح الأمنية للإمبراطورية.  قبل السنة على نطاق واسع دور السلطان كخليفة وساعدوا في إضفاء الشرعية على الحكم العثماني. وحاول العثمانيون قليلًا فرض هوية ثقافية تركية وما كان يتم استعارته من الأفكار والمشاريع من العاصمة غالبًا ما كان يتم تعديله وفق المواصفات المحلية. إذ كان يميل نظام الملل والذي كان يحكم مجتمعات الأقليات من خلال قادتها الدينيين إلى تعزيز القوى الموجودة والتي أقامت أحياء أقليات مميزة في المدن وجيوب في الريف. وازدهرت الأقليات إلى حد كبير في ظل الحكم التركي. فلعب المسيحيون على وجه الخصوص دور الوسيط في ظهور التجارة الخارجية برعاية عين القوى الغربية الساهرة. لكن، وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت ثروات سوريا بالتناقص بفعل تزايد منافسة  طرق تجارة الشمال أو الطرق البحرية المؤدية إلى آسيا. ومرة أخرى كان القرن التاسع عشر فترة مضطربة بالنسبة لسوريا. إذ أجبرت الحملة التي قام بها إبراهيم باشا ابن محمد علي عام 1831، والذي أقام قاعدة سلطته الخاصة في مصر كتحدٍ للسلطة العثمانية، القوات العثمانية على العودة عبر جبال طوروس. جلب الحكم المصري معه نظامًا أكثر تسامحًا شهد أول تواجدٍ لسكان أوروبيين في دمشق، وشجع المجتمعات المسيحية على لعب دور أكثر حسماً في الحياة العامة. وتمّ طرد إبراهيم باشا عام 1840 وأعيد الحكم العثماني بمشقة. في عام 1860 ، كنتيجة جزئية للاضطرابات الدرزية / المسيحية في لبنان ، اندلعت مذبحة مروعة في دمشق بعد هجوم مسلم على الحي المسيحي. استعاد العثمانيون الهدوء لكن الوضع أدى إلى نزول القوات الفرنسية على الساحل اللبناني. في هذه الأثناء، كانت سوريا منفتحة إلى حد كبير على النفوذ الأجنبي وبدأت المؤسسات التعليمية الأوروبية في العمل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن المبادرة فقدت زخمها الى حد بعيد بالفعل في مدن الساحل التي كانت تصبو إلى الخارج، ولا سيما بيروت.

وبناء عليه كانت دمشق بطيئة في تبني المشاعر القومية العربية التي تم تشجيعها في حالة القاهرة، من خلال تطوير الصحافة الناطقة باللغة العربية على سبيل المثال. )لم تكن هناك جريدة عربية في دمشق حتى عام 1897). وكان بعض الحكام العثمانيين الإصلاحيين مثل مدحت باشا (1878-1880) متقدمين على معظم رعاياهم وقدموا بناء على مبادرة منهم تحسينات مدنية عززت وسائل الراحة والصرف الصحي في المدن الرئيسية. إذ تم افتتاح أول طريق معبد لحركة المرور على عجلات منذ العصر الروماني بين بيروت ودمشق عام 1863. وتم افتتاح خط سكة حديد من بيروت إلى دمشق وحوران في عام 1864، وخط إضافي من رياق (في سهل البقاع في لبنان) شمالًا إلى حمص وحلب والذي اكتمل لاحقًا في عام 1908، وتم بناء سكة حديد الحجاز الألمانية لربط دمشق بالمدينة المنورة.

توقعت سوريا صفقة جديدة لرعايا الإمبراطورية العرب مع الإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1909 على يد تركيا الفتاة. أعطت خيبة الأمل من استمرار الحكم التركي وفرض سياسات “التتريك” حافزاً جديداً للقومية العربية. وأصبحت دمشق مقراً للقوات الألمانية والتركية في سوريا، ولبنان، وفلسطين. كما أنها أصبحت قاعدة لتصاعد الشعور القومي العربي ضد الهيمنة ا اللتركية، وكان يتم التركيز على نحو خاص على تطلعات الأمير فيصل بن الحسين، شريف مكة، لتحرير المقدسات الإسلامية. كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة فترة من الحرمان الشديد في سوريا ولبنان وترافق ذلك بلامبالاة تركية وسوء في الإدارة مما أدى إلى تفاقم آثار نقص الغذاء الذي أدى إلى المجاعة والأوبئة الخطيرة.

 

الانتداب الفرنسي

دخلت قوات الحلفاء (والقوميين العرب) دمشق في الأول من أكتوبر عام 1918، بعد أن كانت الحامية التركية قد هجرتها في اليوم السابق. تعارضت الانتخابات التي كان من المزمع إجراؤها لتشكيل حكومة سورية في العام التالي وتعيين فيصل ملكًا مع الطموحات البريطانية والفرنسية وتم نقضها من خلال تأسيس الانتداب الفرنسي في سوريا بموجب أحكام مؤتمر فرساي (جنبًا إلى جنب مع انتداب فرنسي مقابل في لبنان الموسع وانتداب بريطاني في فلسطين وعبر الأردن). وتم فرض الانتداب بقوة السلاح في عام 1920 وتم قبوله على مضض بعد ذلك.

لكن لم يمض وقت طويل حتى واجهت فرنسا سكانًا معاديين ومقاومة استنزفت قواتها في عام 1925، فاندلعت ثورة خطيرة في حوران وامتدت إلى دمشق حيث لجأ الفرنسيون إلى قصف جماعي للمدينة. بعد أن حاولت تقسيم سوريا إلى أجزاء أكثر مرونة (تم الإعلان عن دول منفصلة في حوران ومنطقة العلويين وشمال سوريا)، خضع الفرنسيون للتحريض القومي المتصاعد فمنحوا استقلالًا دستوريًا محدودًا في عام 1943، بحلول ذلك الوقت، تمّ إزاحة حكومة فيشي الفرنسية لصالح حكومة الفرنسيين الأحرار بمساعدة القوات المتحالفة. وانتهى الانتداب رسميًا في عام 1945 بدخول سوريا إلى الأمم المتحدة، على الرغم من أن هذه النتيجة لم تمنع القوات الفرنسية من القصف النهائي لدمشق في الشهر التالي. وأخيرًا انسحبت القوات الفرنسية في أخيرا في 1945.

 

كاتب

التعليقات مغلقة.