مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

العصبيّة عند ابن خلدون

العصبيّة عند ابن خلدون

 

ينطلق ابن خلدون في دراسته للعصبيّة، والأساس الذي تقوم عليه، والدور الذي تلعبه في الحياة الاجتماعية عموماً وحركة التاريخ خصوصاً، من فكرته في الوازع الذي جعله ضرورة من ضرورات الاجتماع والتعاون، فالمنطلق الأساسي لأبحاث ابن خلدون في العصبيّة؛ هو منطلق يستجيب تماماً لطبيعة المشكل الذي ملك عليه اهتمامه، وأيضا لطبيعة المعطيات الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات.

إنّ فكرة الوازع عند ابن خلدون تتدرّج من السلطة المعنوية لشيوخ البدو وكبارهم، إلى السلطة المادية. فبصفة عامة يعدّ الوازع بالنسبة له وازعاً اجتماعيّاً؛ باعتبارها سلطة اجتماعية تستمدّ خصائصها من نوع الحياة الاجتماعية السائدة، فهو لا يهتمّ بالوازع الذاتي؛ كالأخلاق والدين رغم أنّ الدين له دور في تقوية الروابط الاجتماعية في ظروف خاصة، بل يهتم أساساً بالوازع الأجنبي الذي تؤكّده القوة، سواء كانت قوة فرد أم جماعة، فهذا الوازع تفرضه ضرورة الاجتماع والتعاون، كما ورد في لسان العرب” أن العصبيّة هي “أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوِئُهم، ظالمين كانوا أو مظلومين” ومن هذا نستشف أنّ العصبة تقوم أساساً على القرابة، وأن تكون الملازمة، فهذان العنصران شرطان أساسيان وضروريان لوجود العصبة، فهي توجد بوجود الأفراد الذين تتشكّل منهم، وتبقى مستمرّة متفرغة بوجود أفرادها، وباستمرار نسلهم، فهي غير مقيدة بمكان خاصٍ أو زمان معيّنٍ، فرغم بُعد المسافات، سواءً المكانيّة أو الزمانيّة أو فصل الموت بينهم، يعتبرون أنفسهم يشكلون وحدة واحدة معهم، لأنّ الرابطة التي تربط بينهم رابطة دموية سيكولوجية تتعدّى الزمان والمكان.

إنّ شأن العصبيّ عند ابن خلدون يتناولها من الجانب الذي يهمّه بالدرجة الأولى، هو مفعولها السياسي، بمعنى أنّ ما يهم في العصبيّة عنده؛ هي النتائج السياسية التي تترتب عليها في أعلى درجات وجودها، وأرقى مراحل تطورها هي المرحلة التي تصبح فيها العصبيّة، باعتبارها اتفاق  الأهواء على المطالبة.

المطلب الأول : مفهوم العصبيّة وفعاليتها وفسادها

من خلال هذا المطلب سنتناول مفهوم العصبيّة أوّلاً، وفعّاليتها، وفسادها ثانياً.

أوّلاً : مفهوم العصبيّة

لغة: هي شدّة ارتباط المرء بجماعته، والجد في نصرتها، والتعصب لمبادئها، والدعوة إلى نصرة عصبته، والتألّب معهم على أن ينالهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وقد تعصّبوا عليهم إذ تجمعوا، فإن تجمعوا على فريق آخر قيل تعصّبوا.

اصطلاحا: تعدّ العصبيّة من المصطلحات التي كانت شائعة الاستعمال في اللغة العربية، خاصة بعد الإسلام الذي أعطى لها معنى التنازع والفرقة والاعتداد بالأنساب، والتي استقرّت في الأذهان على اعتبار العصبيّة دعوة مفرقة تقوم على تناصر فريق ضد فريق آخر في حالَتَي النزاع والخصام، وهذا التناصر العصبيّ الذي يصطلح عليه أيضا بالنصرة القبلية، لا يستهدف إنصاف المظلوم، أو إقراراً بالحقّ، بل يقومُ هذا التناصر على مؤازرة المتعصب له، سواء كان على حق أم لا، وسواء كان ظالما أم مظلوماً.

ثانيا: فعالية العصبيّة وفسادها

– فعالية العصبيّة:

هناك شروط  تتشكل فيها العصبيّة، وتصبح قوّة فعّالة من بينها:

القرابة والملازمة، وتعتبران شرطَين ضروريَين لوجود العصبيّة، فهي مستمرة باستمرار وجود الأفراد، واستمرار تناسلهم، فكما يجمع النسب أفراد العصبة الواحدة، أو عصائب القبيلة الواحدة، ويعمل على تفريق الأفراد الذين يربطهم نسب قريب أو بعيد، وغالبا ما كان للنسب الدور الفعّال الذي لا يمكن إهماله في إذكاء الصراعات القبيلة بين القبائل العربية، وذلك لأنه لا يصدق دفاعهم وانقيادهم، إلا إذا كانوا عصبيّة، وأهل نسب واحد، لأنّهم بذلك تشتدّ شوكتهم، ويخشى جانبهم، إذ أنّ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيّته هي الأهمّ.

نقاء النسل والفضيلة ويوجد شرط ضروري لكي تؤدي العصبيّة على نيل الملك سواء في داخل القبيلة أو خارجها ذلك الشرط هو نقاء النسل، وهو نقاء يفوز به المتمسك بأصوله وأيضا هناك شرط مهم فبدونه تصبح العصبيّة كما يقول ابن خلدون “كشخص مقطع الأعضاء” وهو الفضيلة فهذه الأخيرة في نظر ابن خلدون ضرورية لمن يطمح إلى نيل الملك فالملك من يطمح إليه أن يكون عادلاً، كذلك يقول ابن خلدون: إن الملك هو خليفة الإله في أرضه، وأن الإله قد اختاره  لينفّذَ أوامره.

أمّا المصلحة المشتركة فهي بمثابة القوى المحرّكة للعصبيّة، فالمصلحة المشتركة تجعل من العصبيّة متماسكة متضامنة، وعصبيّتها قوية صامدة، أما إذا تحوّلت المصلحة المشتركة للعصبيّة إلى مصالح شخصية، أو طغت هذه على تلك، فإنّ التضامن الذي كان بالأمس، ينقلب حينئذ إلى فُرقَةٍ ونزاع، فتطغى الأنا الشخصيّة على الأنا العصبيّة، وتفسد العصبيّة.

بالإضافة إلى العدوان أو الصراع فيقظة العصبيّة تشترط وجود تهديد، وفاعليتها تشتدّ عندما تمس المصلحة المشتركة للجماعة، وهي المصلحة التي تتشكّل فيها أمور المعاش؛ العنصر الرئيسي والفعال. يرى ابن خلدون “أنّ الصراع من أجل البقاء يقع نتيجة قلة الموارد، لأنّ الناس في اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت، بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه، وللعجز عما وراء ذلك….” فتجدهم يتنازعون ويفترقون من أجل مواطن الرزق فلا يمنعهم شيء من أن يعتدوا على ممتلكات غيرهم. “… فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه…..” فترى القبائل مسلّحة باستمرار، مهيّأة للدفاع أو الهجوم. “فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم”

– فساد العصبيّة:

من بين أسباب انكسار العصبيّة:

الترف والقهر: إذ أنّ طبيعة الملك تعرف الترف، فأهل العصبيّة يأخذهم الترف أكثر من سواهم، لمكانهم من الملك والنعيم، فالترف والقهر عنصران هادمان، بحيث يصير القهر وجهً لمرض القلوب وغيرتها على الملك، فيخاف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعم الذي تعودوا عليها وعيشة الترف، فيهلكون ويقلون وتفسد عصبيّة صاحب الدولة منهم، فإذا كثر الترف في الدولة، وصار عطاؤهم تجاهها مقتصراً فقط على حاجياتهم منها، ونفقتهم للعيش بنفس المستوى، إذْ يحتاج صاحب الدولة إلى الزيادة دائماً حتى يسد خللهم، وبهذا ينقص عدد حاميه إلى أقل الأعداد بسبب تلاشي وانعدام ملازمته. فتضعف وتسقط الدولة، ويتطاول عليها كلّ من يجاورها من الدول، أو من تحت وصايتها من القبائل والعصبيّات.

يقول ابن خلدون في هذا الصدد: “فإنّ من عوارض الترف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبيّة التي بها التغلب، إذا انقرضت العصبيّة قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلّ عن المطالبة، والتهمت الأمم سواهم، فقد تبين أن الترف من عوائق الملك”.

وأيضا خاصيتا الخضوع والانقياد يكسران شوكة تشكّل وتلاحم العصبيّة، يقول ابن خلدون: “الخيرات والأموال بوجه من وجوه الاستغلال ولو كانت ضرائب ومغارم” لما بها من خضوع للقبيلة لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا يحتملان، وإنّ عصبيّتها تكون حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية؛ لأنّ المذلّة والانقياد كاسران للعصبيّة، وشدّتها، فإن انقيادهم ومذلّتهم دليلان على فقدانها، ومن كانت عصبيّته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة، فالعصبيّة تكون حيث يكون الناس أحراراً من كل سلطة خارجية، سواء كانت سلطة الدولة أو سلطة عصبيّة غالبة مستبدة.

المطلب الثاني: العصبيّة والسلطة في كل من مرحلة من مراحل العمران البدوي والحضري

سنتطرق في هذا المطلب إلى العصبيّة والسلطة في مرحلة العمران البدوي أولا، ثم العصبيّة والسلطة في مرحلة العمران الحضري.

أولا: العصبيّة والسلطة في مرحلة العمران البدوي

بعد أن درس ابن خلدون مفهوم العصبيّة، وأسباب وجودها أو فقدانها، انتقل إلى موضوع في غاية الأهمية “الرئاسة”، مبيّناً دور العصبيّة فيه، والذي سيتطور في العمران الحضري إلى مفهوم الدولة، فخلال مرحلة العمران البدوي يوجد صراع بين مختلف العصبيّات على الرئاسة ضمن القبيلة الواحدة، باعتبار أنّ كلّ حيّ أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضاً عصبيّات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام، ومن هنا ينجم التنافس بين مختلف العصبيّات الخاصة على الرئاسة، إذْ تنتصر فيه العصبة الأقوى التي تحافظ على الرئاسة إلى أن تهزمها عصبة أخرى. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبة، ومنه وجب استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص.

لقد حدّد ابن خلدون مدة وراثة الرئاسة ضمن العصبيّة القوية بأربعة أجيال على العموم،  وفي نهاية بحثه خلص إلى نتيجة حددت أن السلطة في تلك المرحلة، وهي مبنية أساساً على العصبيّة، بحيث لا يمكن أن تكون لها قائمة دونها.

ثانيا: العصبيّة والسلطة في مرحلة العمران الحضري

الحضارة يقصد بها أسلوب الحياة الأرستقراطية المقدّمة في العاصمة، والتي تعيش من الإمارة، وهي مقرونة بالملك، وأهل الحضارة، وهم أهل الدولة في مرحلة هرمها.

انطلاقاً ممّا تطرّقنا إليه سابقاً واصل ابن خلدون تحليله على نفس النسق فيما يتعلّق بالسلطة في المجتمع الحضريّ، مبرزاً أنّ العصبيّة الخاصة بعد استيلائها على الرئاسة تسعى إلى ما هو أرقى، أي إلى فرض سلطتها وسيادتها على قبائل أخرى بالقوة؛ لجعلها تحت سيطرتها، وذلك عن طريق الحروب، للوصول إلى مرحلة الملك أو الدولة، والتي لا تتم إلا من خلال العصبيّة.

ومن خلال هذه المرحلة يبدأ العمران الحضري لتصبح السلطة التي تم تشكيلها تفكّر في تدعيم وضعها، آخذة بعين الاعتبار جميع العصبيّات التابعة لها، حيث أنّها لم تعد تعتمد على عامل النسب، بل على عوامل اجتماعية وأخلاقية، يسمّيها ابن خلدون الخلال، ومن هنا تدخل الدولة في صراع مع عصبيّتها؛ لأن وجودها أصبح يتنافي عمليّاً مع وجود تلك العصبيّة التي كانت في بداية الأمر سبباً في قيامها، وبذلك تتوسّع قاعدة الملك، ويصبح الحاكم أقوى من ذي قبل.

تبلغ الدولة الجديدة قمّة مجدها في تلك المرحلة، ثم تأخذ في الانحدار شيئاً فشيئاً؛ بسبب كثرة الإنفاق على ملذّات الحياة، على الجيوش وعلى مختلف موظّفي الحكم… وبذلك يكون الحكم قد دخل مرحلة الهرم الذي ينتهي حتما بزواله، وقيام ملك جديد يمر بنفس الأطوار التي حدّدها ابن خلدون في خمس مراحل حددت في مرحلة الظفر والبغية؛ مرحلة الاستبداد على القوم والانفراد دونهم بالملك، مرحلة تحصيل ثمرات الملك، مرحلة القنوع والمسالمة، ثم مرحلة الإسراف والتبذير.

فما وقع في تونس، مصر كان بمثابة انتفاضة شعبية، وليست عصبيّة لأنها غير مرتبطة بحزب أو فئة أو طائفة معينة، بل كانت انتفاضة شعبية عارمة دون عصبيّة، حيث عبّرَ فيها الشعب عن رفضه السياسات الممنهجة في البلاد، وبهذا تكون حركة التاريخ حسب ابن خلدون قد بدأت من جديد، خلافاً لِما يقع في ليبيا، حيث تشكّلتِ العصبيّةُ في بداية الحراك الجماهيريّ، لكنَّها لم تتطور بالنظر لمجموعة من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، وطبقاً لنظرية العصبيّة استعادت القوى القبليّة بعد الانقلاب دورها، وأعادت من جديد دورة التاريخ حسب منظور ابن خلدون، أمّا فيما يخصّ لبنان، فالعصبيّة تقوم في الوقت الراهن على الانتماء الدينيّ والمذهبيّ، وهذه الأخيرة تعتبر أشد قوة وتجذّراً من العصبيّة الدينيّة، لكونها تستفيد من روابط الدم، الدين، والمذهب، خلافاً للعصبيّة الدينية التي تستفيد فقط من الدين والمذهب، والحال أنّ الدولة العصبيّة المعاصرة والراهنة في الشرق الأوسط والعالم العربي تقوم على مكونات عصبيّة، يكون العقد الاجتماعي فيها محكوماً بقانون الغلب العصبيّ، وهو ما يشكل تهديداً مؤكّداً للدولة.

ومن خلال هذا نستنتج حقيقة مفادها أنّ ابن خلدون يؤكّد أنّ المجتمع يستقيم بوجود دولة، وبذلك تكون الدولة ضرورة فرضها واقع المجتمع الإنساني، وهذه الدولة لن تحصل إلا عن طريق العصبيّة.

 

 

 

كاتب

التعليقات مغلقة.