مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

أكراد لبنان… مؤسسون وركن نهضة

فادي عاكوم /من لبنان/

فادي عاكوم
فادي عاكوم

ننشغل جميعاً بالقضية الكردية، وملاحقة ما يتعرض له أبناء المكون الكردي في العراق وسوريا وتركيا وإيران، لكن جزءاً هامّاً من هذا المكون قد ظُلِمَ إعلاميّاً على مرّ السنوات الماضيّة، لأسباب ومسببات عديدة، وهو المكون الكردي في لبنان، والذي لا يقل وجوده أهمية عن الوجود الكردي في باقي الدول التي تحظى بالتغطية الإعلامية الدائمة والاهتمام السياسي المركز، مما يطرح التساؤل عن السبب لهذا التغييب الذي أتى ليس من قبل الإعلام العربي والعالميّ فحسب، بل حتى من قبل الإعلام الكردي نفسه.

وربما ليس من قبيل الصدف أن يكون أبرز شخصين عرفهما التاريخ الشرق أوسطي الحديث كداعين الى الحرية والاستقلال والمساواة الاجتماعية من الأكراد، أوّلهم كمال جنبلاط الذي اغتيل على يد المخابرات السورية بسبب مواقفه الجريئة، والزعيم الآخر هو عبدالله أوجلان الذي كان في لبنان في فترة مفصليّة من التاريخ النضالي التحرّري، حيث أسس أحد أبرز المعسكرات للتدريب، والمفارقة أيضا أنّه اعتقل بتواطؤ من المخابرات السورية التي أجبرته على الخروج من لبنان وسوريا، ليتمّ اعتقاله من قبل المخابرات التركية.

توزّعوا ولم يسكنوا ضمن كانتونات، أو مناطق خاصّة بهم كالجالية الأرمنية أو اللاجئين الفلسطينيين، أو السريان، أو الموارنة، أو القبائل العربية التي نزحت من باقي الدول، فقد انصهر الأكراد في نسيج المجتمع اللبناني على مدار مئات السنوات، فكانوا ركناً أساسيّاً من أركان نهضة لبنان سياسيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ونال معظمهم الجنسية اللبنانية وأصبحت عائلاتهم من العائلات اللبنانية الأساسية والمرموقة في المجتمع اللبناني، ولعبت السياسة دوراً لبروز البعض من هذه العائلات، وظلم البعض الآخر خاصة أبناء الموجة الثانية من هجرة الأكراد إلى لبنان، حيث لم ينل جزء كبير منهم الجنسية إلى الآن؛ بسبب الاعتبارات المذهبية التي ابتدعها سياسيّو لبنان للحفاظ على ما أسموه التوازنات الطائفية، فظلّ الأكراد المولودون في لبنان دون هوية وطنية، وكل ما يعرف عنهم هو أوراق ثبوتية لجنسية قيد الدرس.

ولولا هؤلاء الجنود الذين نزلوا الى السواحل اللبنانية منذ ألف عام بمجموعاتهم العسكرية المنظمة، والمميزة بالتسليح والهندام المميز بالألوان الزاهية لحماية الشواطئ من الغزوات التي كان يقوم بها القراصنة والجيوش غير العربية الطامعة بهذه المنطقة، فلربّما قد تغيّر تاريخ لبنان، بل تغيّر تاريخ المنطقة ككل، فهؤلاء المقاتلون هم الموجة الأولى من الأكراد الذين وضعوا أقدامهم على أراضي لبنان لتستمر مسيرتهم مع استمرار التاريخ اللبناني بكل مفاصله ودمويته وسلامه وحروبه وازدهاره وانتكاساته، وتوالت الموجات مع بداية القرن الماضي من مختلف الدول التي يتوزّع فيها أبناء القومية الكردية أي من إيران والعراق وسوريا وتركيا، مع ترجيح كفّة الهاربين من تركيا.

والمضحك المبكي في مسألة أكراد لبنان، أنّهم لاقوا نوعا من النبذ من قبل العرب، إلّا أنّهم خلال فترة الانتداب الفرنسي كانوا يحظَون بدعم من الجيش الفرنسي ليس فقط حبا بهم، بل بقصد إضعاف الدولة العثمانية، فقد وفدت المئات من العائلات الكردية للعمل والإقامة في لبنان، وأطلق عليهم وقتها لقب الكورمانج، واصطحبوا معهم عشرات العائلات العربية التي ادّعت بأنّها كردية لتحصل على الامتيازات من قبل الفرنسيين، ورغم بعض الحالات الشاذة إلّا أنّ اللبنانيين بشكل عام احتضنوا الكرد في المجتمع اللبناني، واتيح لهم الحفاظ على العادات والتقاليد واللغة والتي لا تزال موجودة بينهم إلى الآن.

 

 

 

 

 

عبدالله أوجلان مع مجموعة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني في أحد معسكرات التدريب في البقاع اللبناني.

 

شهادة من الداخل

ربّما خير من يوضح حياة الأكراد في لبنان هي حنان عثمان رئيسة رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية في لبنان، والتي تقول في هذا التصريح المقتضب: إنّ الشعب اللبناني عامة يعاني من أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية تعتبر الأخطر من نوعها، ويعاني الكردي اللبناني من هذه الأزمة وتداعياتها ويتأثر بها بالدرجة الأولى. ولكي نفهم ما يعانيه الكرد في لبنان اليوم، علينا إلقاء نظرة سريعة إلى تاريخ هذا الشعب العريق الذي قدم تضحيات جسيمة في سبيل شعوب ومستقبل أبناء المنطقة عامة وفي سبيل استقلال وحرية لبنان خاصة، مع العلم أنّ المعلومات شحيحة جداً حول الإسهامات الفذة والمهمة التي قدمها هذا الشعب المخلص لتاريخ المنطقة في سبيل استقلال الشعوب من الاستعمار، والاضطهاد، بالإضافة إلى دورهم البارز والحيوي في التاريخ الإسلامي وفي بناء حضارته.

وتضيف أنّ الكرد عانوا في وطنهم الأم كردستان من كافة أشكال الاضطهاد القومي والاجتماعي، وبسبب هذه المعاناة والظلم هاجر قسم كبير من الكرد من موطنهم طلباً للعيش الكريم وبحثاً عن الأمن والاستقرار، لحقوا بالرعيل الأول الذي قدِم إلى لبنان وبعض البلدان العربية كفلسطين والأردن كقوات عسكرية قوية لسد الثغرات البحرية بوجه الحملات الصليبية، فقد كانت الأغلبية الوافدة من الأمراء ورؤساء العشائر الكبيرة والمهمة وذات النفوذ والإمكانيات. إلّا أنّ الرعيل الثاني ومنذ قدومه إلى لبنان بقي في وضع مُزرٍ حيث الفقر والحرمان من أبسط سبل الحياة الكريمة، حتى أنّه لم يشهد أي احتضان، رسمياً كان أو شعبياً، كالذي حصلت عليه بقية الجاليات من الأقوام والشعوب الأخرى، والتي هاجرت في نفس الحقبة ولنفس الأسباب.

وتؤكد حنان عثمان أنّ التاريخ يشهد أنه عند قدوم الكرد إلى لبنان لم يحصلوا على أي نوع من المساعدات، ماديةً كانت أم معنوية، كتلك التي حصل عليها بقية اللاجئين. مثلاً فالأخوة الأرمن والسريان، ولأسباب دينية، استطاعوا الحصول على المساعدات من العديد من الدول والمنظمات، ممّا ساعد في رفع مستواهم الثقافي والاجتماعي، بل إنّ غالبية الكرد لم تحصل حتى على الجنسية اللبنانية بالسهولة التي حصل عليها الآخرون، وما يزال عدد كبير منهم إلى اليوم يعانون الحرمان من الجنسية على الرغم من مرور كل هذه العقود على وجودهم في المجتمع اللبناني. كما أنّ المدارس والمشافي لم تفتح أبوابها للأطفال الكرد مثلما شرعت أبوابها للأطفال من القوميات الأخرى وبالمجان.

“بالإضافة إلى حصول بعض اللاجئين على نواب ووزراء يدافعون عن شعوبهم ويحمون مصالحها داخل البرلمان اللبناني، إلّا أنّ الكرد لم يكن يملكون الحق حتى في اختيار ممثلين عنهم حتى في أدنى الدرجات”.

فالكردي اللبناني حسب عثمان واجه كل هذه المطبات والصعاب عندما كان يطلق على لبنان اسم سويسرا الشرق، وعندما كانت البحبوحة والرخاء تخيم على الشعب. أمّا اليوم، فيعاني الوطن والشعب عامة من أزمات جمة بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما بعد القيود التي فرضت بسبب تفشي فيروس كورونا، وهذه الأزمات هي نتيجة لتركمات لنظام سياسي يحمل في طياته الطائفية والمحاصصة حيث النهب والفساد الذي نهش كيان وبنية الدولة، ومنذ اندلاع الحراك الشعبي في لبنان والكرد يشاركون فيها رافعين الصوت عالياً مطالبين بالتغيير وبتحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية الصعبة جداً وخاصة في هذه الأيام العصيبة في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني للمواد الاستهلاكية، وخسارة قدرتهم الشرائية مع تدهور قيمة الليرة، حيث يشكو الكثيرون من الكرد من عدم قدرتهم البتة على تأمين لقمة عيشهم.

وتختم عثمان رئيسة رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية في لبنان حديثها بأنّ الكرد في لبنان يعانون من الاستبداد، لكنه استبداد من نوع آخر، إنّه استبداد اقتصادي واجتماعي. إذ عانى الكرد ومازالوا يعانون من كونهم مواطنين من أدنى الدرجات، وأغلبيتهم يحملون وثيقة تدعى “قيد الدرس” ويعانون من استبداد ممنهج خلق عندهم حساً مزمناً بالضعف وبانعدام الثقة والإحباط والعزلة. هناك حاجة ماسة إلى ترميم الثقة على أن يحصل الكرد على حقوقهم وأبسطها العيش الكريم وصولاًإلى التمثيل النيابي لأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج اللبنانيّ، وهم يفتخزون بهويتهم اللبنانية، وبأصولهم الكردية العريقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

شواهد قبور المقاتلين الاكراد الذين سقطوا في لبنان خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.

 

تاريخ لا بد منه

تاريخ أكراد لبنان يعود الى القرن الثاني عشر ميلادي، مع قدوم الأمير معن بن ربيعة الأيوبي في العام إلى سواحل لبنان لمقاومة الأسطول الصليبيّ، وتنصيبه ملكاً على جبل لبنان، وبعد نجاح مهمّته بدأت مرحلة هامة من مراحل السياسة اللبنانية، ونقل الحكم إلى أولاده وأحفاده وصولاً إلى حصول ابنه الأمير فخر الدين المعني لقب أمير البر بعد انتصاره في معركة مرج دابق، وتلاه في الحكم ابنه قرقماز وبعده ابنه الامير فخر الدين المعني الثاني إلى أن انتهى الحكم مع وفاة الأمير أحمد بن ملحم أمير يونس المعني في العام 1697م، وبالتسلسل الزمني فقد توالى على الحكم المعني 19 حاكماً هم: (معن، يوسف الأول، يوسف الثاني، سيف الدين عبد الله الأول، عبد الله الثاني، علي الأول، بشير الأول، محمد، سعد الدين،عثمان، أحمد الأول، ملحم، يوسف الثاني بن ملحم، فخرالدين الأول، قرقماز بن فخر الدين، فخر الدين الثاني بن قرقماز، علي بن فخرالدين، ملحم بن يونس بن قرقماز، أحمد بن ملحم.)

وبالإضافة إلى الأجداد والآباء المؤسسين فقد برز بين الحكام المعنيين الأمير فخر الدين الثاني بن قرقماز، الذي برز سياسيّاً حتى وصفه أحد الرحالة الإنجليز بأنّه “قصير القامة، لكنه عملاق في شجاعته، عمره أربعون سنة، ذو دهاﺀ كالثعلب، وفيه ميل أن يكون طاغية، لم يكن البادئ قط في حرب، ولا قام بعمل يؤثر إلّا بعد استشارة أمه الست نسب ورضاها”، وبسبب التداخلات السياسية وخسارة حلفائه لبعض المعارك، ومنعاً لاستمرار الحرب الداخلية بين آل معن وآل جنبلاط وآل سيف والأرسلانيين قرر عام 1613 الاستقرار في توسكانة لكنه عاد الى لبنان، ونال لقب سلطان البر، وحكم من ولاية حلب حتى القدس والبقاع وصفد، وينسب له النهضة العمرانية التي شهدتها مدينة بيروت بعد أن حولها إلى عاصمة ثانية، إلى أن تم قتله من قبل السلطان العثماني في العام 1635 مع اثنين من أولاده، وتقول بعض الأبحاث التاريخية بأنّ نسل آل معن استمر من خلال الأمير حسين الابن الثالث لفخر الدين الذي هرب الى بلدة الريمة، وتقول بعض الروايات: إنّ أصل آل الأطرش يعود إلى آل معن.

ولا تزال العائلة الأيوبية قائمة إلى الآن في لبنان، ويصر أبناؤها على ذكر لقب الأمير في المعاملات الرسمية والحكومية، وغالبيتهم ينحدرون من منطقة البترون في الشمال اللبناني، وتذكر بعض المصادر أنّ الأيوبيّين الحاليين هم نسل أيّوب بن شادي بن مروان الزرزاري الكرديّ المتحدّر من أربيل العراق، والذي كان حاكماً لقلعة بعلبك آنذاك، وينسب لهم أيضاً السيطرة على قلعة المسيلحة في منطقة الكورة الشمالية، ومن أبرز العائلات الكردية في شمال لبنان أيضاً آل سيفا وآل الشهال، وخضر آغا وآل مرعب وآل عبود والمعيطات، وآل سيفا تعتبر من العائلات التي لعبت دوراً هامّاً في التاريخ اللبناني، وتعود جذورهم إلى كردستان الشمالية نزحوا الى لبنان أيّام سلاطين بني أيّوب الكردي، ونالوا رتبة الباشاوية، وحكموا طرابلس وسهول عكار في الشمال اللبناني لمدة قاربت المئة عام، واشتهروا بخلافاتهم الدائمة مع المعنيين، ومن أبرز حكامهم حسن باشا سيفا، والأمير محمد بن علي سيفا الطرابلسي، والأمير يوسف سيفا، وينحدر منهم آل الشهال الذين لا يزالون موجودين إلى الآن، ومن وجهائها؛ الشيخ محمد عبدالله الشهال، والأديب فضل أفندي شهال، وأيضاً يسجل تواجد لأمراء رأس نحاش ويعود نسبهم إلى الأكراد الذين وضعهم السلطان العثماني سليم الأول في مقاطعة الكورة شمالي لبنان في القرن السادس عشر، من أجل المحافظة عليها من الإفرنج سنة 1556م، وقد اشتهر منهم عدة أمراء، مثل: الأمير موسى وابنه الأمير إسماعيل.

ومن العائلات الكردية التاريخية في شمال لبنان أيضاً آل مرعب الذين قدموا إلى لبنان من جبل الأكراد في عفرين سنة 1759م، وينحدرون بأصولهم إلى عشيرة رشوان الكردية المنتشرة في مناطق عدة بكردستان تركيا، وفي أنحاء عفرين بغربي كردستان، وتشير المصادر التاريخية إلى أنّهم قضوا على حكم آل سيفا، وأخذوا مكانهم في حكم مناطقهم، لقبوا بالباشاوات والآغاوات، وكذلك آل شوك، وهم أحفاد حسن مشيك الذين استقروا ببلدة بقرصونا في منطقة سير الضنية الجبلية، وكان للأسرة دور بارز في مقارعة الانتداب الفرنسيّ، وعرفت ثورتهم تلك المنطقة على الفرنسيين بثورة آل شوك الذي قاده قاسم شوك سنة 1927م في سير ضنية، وسجن لمدة سبعة عشر عاماً لدى القوات المنتدبة على لبنان، وأعدم شنقاً.

وبعد هذه الفترة انتشرت العائلات الكردية في لبنان التي شهد فتحها من قبل الملك أبي غازي؛ الملك الظافر غياث الدين بن صلاح الدين الأيوبي في العام 1177، ومن أبرز هذه العائلات، والتي لا تزال موجودة إلى الآن كريدية، وفرشوخ، ومسالخي، وعليوان، وكشلي، والنويري، ولا يزال أحد أحياء بيروت تحمل تسمية النويري بالقرب من كورنيش المزرعة إلى الآن، وفيها عدد كبير من أبناء القومية الكردية، حتى أنّ التجارة التي لطالما اشتهرت بها بيروت لها الفضل في قسم كبير منها للحاج سعد الدين كريدية، والذي قد حصل على لقب شاه بندر التجار وملك البر نظراً لامتلاكه معظم مناطق الجهة الجنوبية من بيروت، وسليم آغا الكريدية الملقب بالأبّ الروحي للسينما، والمسرحيّ اللبناني، وأبو عفيف كريدية، وكمال كريدية، وعبد القادر بن عبد الرحمن كريدية، ويعود نسب آل كريدية إلى الملك أبي غازي الملك الظافر غياث الدين بن صلاح الدين الايوبي الذي فتح بيروت، ومن العائلات الكردية البيروتية العريقة أيضاً آل شبارو، والذين يتحدرون بنسلهم للناصر صلاح الدين الأيوبي، ويعودون بنسبهم لجدهم الأعلى شبارو، والذي يعود بجذوره العائلية للناصر صلاح الدين الأيوبي، وعاصروا الإمام الأوزاعي، وكان لهم عنده منزلة كبيرة، حتى وضع ضريح أحد أجدادهم بالقرب من ضريحه، وتوزّعوا بشكل خاص في أحياء بيروت، خصوصاً في الأشرفية وزقاق البلاط وعين المريسة والمنارة والروشة ورأس النبع والمزرعة وعين التينة، وبرز منهم محي الدين شبارو الذي يعتبر من رواد الهجرة الى المكسيك عام 1887.

ومن بيروت إلى جبل لبنان، فقد عرف الأكراد مرحلة ازدهار كبيرة، من خلال عائلة جنبلاط، والتي تعود بأصلها الى الأمير؛ جان بولات بن قاسم بك بن أحمد بك بن جمال بك بن عرب بك بن مندك الأيوبي الكردي، وهم من أهمّ عشائر الأيوبيين، ولفظة جان بولات باللغة الكردية تعني (الروح الفولاذية)، وتحوّلت إلى جنبلاط باللهجة اللبنانية، واستمرت إلى الآن، وكان قد تولى إمارة معرة النعمان وكلس شمال سوريا، وفي العام 1630 أقام جان بولات بن سعيد في بلدة مزرعة الشوف بجبل لبنان، إلى أن نصب أحد أحفاده وهو علي جنبلاط رئيساً لمشايخ منطقة الشوف في العام 1712، وبنى في حياته قصر المختارة الذي أصبح مركزاً لحكم العائلة التي أنجبت العديد من الشخصيات المؤثرة، كالسيدة نظيرة جنبلاط عقيلة فؤاد جنبلاط، التي ترمّلت سنة 1922 فخلّفت زوجها على مسرح السياسة اللبنانية، وكان لها دور فاعل، توفّيت في بيروت سنة 1951م، فخلّفها على المسرح السياسي ابنها كمال جنبلاط؛ أحد كبار ساسة لبنان ومفكّريها، ومن بعده وليد جنبلاط الزعيم الحالي لدروز لبنان، والذي يمهّد لصعود ابنه تيمور في المحافل السياسية، ومن العائلات الكردية في جبل لبنان أيضاً آل العماد، أو العماديين الذين قدموا من مدينة العمادية بكردستان العراق، ونصرالله وأبو غانم.

وبرزت في الجنوب اللبناني عائلات كردية اتّخذت المذهب الشيعي؛ منها آل حمية، ويعود أصل التسمية لجدهم الكبير؛ حمو الذي جاء مع أخوَيه سليمان وأراجا؛ ابنَي الامير مهدي بن علي مهزيار الهماوندي من أنحاء كردستان بقرية شاسيان، وتزوج جدّهم من ابنة الأمير إسماعيل الوائلي، وينجب الأخوة الثلاثة المذكورين، وانحدر بنو حمية من حمو الذي تزوج من فتاة ببلدة طاريا بالبقاع اللبناني، وتفرّعت منها عائلات كثيرة منها (حمو- ياغي – علي الحاج – إبراهيم – فياض – حمزة – أبو أحمد كنج – قاسم – محمد حسن – محرز – يونس – أبو يونس – الحاج حسين) كما تشتهر عائلة مشيك، والتي تتحدّر من أحفاد مشيك بن سليمان بن أمير علي بن مهزيار الهماوندي،  بالاضافة الى عائلة الضيقة التي تمركزت في بلدة تل حزين، و آل أتات أحفاد سليمان بن علي بن مهزيار الهماوندي، ينتشرون في قرى عدة مثل شمسطار بدنايل وتمنين تحتا يونين – اللبوة – الكرك بقضاء زحلة، وطليا، وبيت شاما،  كما برزت عائلة صعب ومؤسسها هو بهاء الدين بن علي الذي لقب بصعب لشدة بأسه وصلابته، وعرفو لاحقاً بآل الفضل، ويعود نسبهم إلى الأيوبين، ويسكن آل الفضل اليوم في أنحاء جبل عامل بقضاء النبطية وفي القرى التالية: (المروانية والبابلية وزقتا ودير البابلية وغيرها.) ومركزهم قديماً بلدة النبطية، وبرزت منهم شخصيات مرموقة في تاريخ لبنان، وهم نعيم بك الفضل، ومحمود بك الفضل، وفايز بك الفضل، وبهيج بك الفضل، واشتهروا بالوجاهة والثروة ولقب آل الفضل بمشايخ الصعيبين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ومن العائلات الكردية التي اتّخذت المذهب الشيعي أيضاً آل بيرم التي يعود أصلها إلى بيرم كرد آغا الذي نزح مع أسرته من كردستان تركيا من ولاية وان، وكلمة بيرم تعني باللغة الكردية (فكري)، واللافت أنّ هذه العائلة انتشرت في عدة بلدان أخرى انطلاقاً من لبنان كتونس ومصر واشتهر منهم الأديب والشاعر محمود بيرم التونسي (بيرم تونسي)، ويقطنون في لبنان في بلدة الوردانية بقضاء الشوف والمركز والقرى التالية جويا –ووادي الزينة – وقناريت – حنويه – وادي جيلو – زحلة، ومن وجهائهم قديماً وحاضراً داوود بيرم، وجميل مصطفى بيرم؛ رئيس دائرة الاقتصاد في منطقة الجنوب سابقاً، والقاضي جميل محمد بيرم، والعقيد حسن بيرم، والمقدم إبراهيم بيرم، والصحفي إبراهيم بيرم، والمهندس طارق رضوان بيرم، والمهندس إبراهيم بيرم.

الهجرات الحديثة

أما في العصر الحديث، وبسبب ما تعرّض له أبناء القومية الكردية من اضطهاد في العراق وتركيا وإيران، شهد لبنان تدفقاً للمهاجرين الكرد، والذين اختاروا لبنان وقتها بسبب نفوذ الجاليات التاريخية الكردية والتعاطف اللبناني مع قضيتهم، فانتشروا في جميع المناطق اللبنانية، وكانت الموجة الأولى في العام 1924 وما بعدها، وكانت غالبية المهاجرين في تلك الفترة من إيران  والعراق، وفي العام 1980 من تركيا بعد الظلم الذي تعرض له كرد تركيا بسبب الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال التركي كنعان إفرين، وبعد هروب أكراد تركيا إلى سوريا ومنها إلى لبنان.

وتوزّع الأكراد الجدد في لبنان في مناطق عدّة من المنطقة الغربية لبيروت كمنطقة المزرعة والنويري وزقاق البلاط والمسلخ وخلدة والكرنتينا ووادي أبو جميل والمصيطبة وبرج البراجنة ورياض الصلح والباشورة وفرن الشباك والمريجة، والبعض انتقل الى منطقة طرابلس في التربيعة والزاهرية وضهر المغر والقبة، وبقي بعضهم بالقرب من الحدود مع سوريا في البقاع في بلدات كفرزبد والفرزل والخيارة.

وقد حصل آلاف الأكراد على الجنسية اللبنانية ما بين عامي 1945 و1950 وقسم آخر حصل عليها في العام 1994، وغالبيتهم يتكلم اللغة العربية مع بعض اللهجات الكردية كالكرمانجية الشمالية أو الكرمانجية الجنوبية أو اللهجة اللورية أو الزازكية، وبرزت بعض العائلات سياسيّاً كعائلة العيتاني والمصري وعميرات، حتى أنّ منطقة البسطا الواقعة في قلب بيروت تضمّ عدداً كبيراً من الاكراد، وترجع التسمية إلى منطقة بسطا في ولاية شرنخ التركية، وتبلغ الكتلة الانتخابية الحالية لهم 25 ألف صوت، إلّا أنّ مشاركتهم بالانتخابات تعتبر متواضعة جدّاً، نظراً لوجود قسم كبير منهم خارج لبنان، وتقاعس قسم آخر عن العملية الانتخابية، ولا يزال آلاف الأكراد في لبنان دون جنسيّة، وأصبحوا حسب القانون اللبناني من حاملي “هوية قيد الدرس” ممّا حرمهم من العديد من التقديمات والامتيازات التي إن وجدت حسّنت أوضاعهم كثيراً، كالتعليم والطبابة والتوظيف وغيرها من ميزات حاملي الجنسية.

 

دعم الحركة الوطنية

بدأت علاقة أبناء المكون الكردي المجنّسين وغير المجنّسين مع الحركة الوطنية اللبنانية منذ بدء الحرب الأهليّة في العام 1975، حيث قاتل العديد من الشبّان الكرد في صفوف تنظيمات الحركة، وبشكل خاص في بيروت الغربية آنذاك، وسقط شهداء كثر منهم في مناطق النبعة وبرج حمود وتل الزعتر والمسلخ والكرنتينا، وبرز دورهم خلال مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وتشكّلوا ضمن التنظيمات اللبنانية بالإضافة إلى تشكيلات حزبية مسلّحة خاصّة بهم؛ كحزب الولاء الوطني، ومجلس الأعيان الكرديّ الوطنيّ اللبنانيّ، واتّحاد الطلبة الكرد، وحزب رزكاري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الزعيم الكردي مصطفى البرزاني، والزعيم اللبناني (الكردي) كمال جنبلاط

وكان لتواجد حزب العمال الكردستاني في لبنان ما بين سنوات 1970 و1980 أثر كبير في تنظيم صفوف الكرد، خصوصاً مع زيارات القائد عبد الله أوجلان الكثيرة لمناطق البقاع وبيروت، والتي أدّت إلى تعزيز الروح السياسيّة، والانخراط في العمل المسلح والسياسي داخل لبنان وخارجه، وتعرض أكراد لبنان لضغوط كثيرة بسبب الوجود السوري الذي استمر إلى العام 2005، فكثرت الملاحقات، وتمّ إقفال العديد من المؤسسات الاجتماعية والسياسية، مع ملاحظة نشاط بارز أيضاً للمخابرات التركية، لكن ما بعد عام 2005 اختلفت الأوضاع باستشهاد رئيس وزراء لبنان؛ رفيق الحريري، فخرج السوريّون وخفّتِ الضغوط بشكل شبه نهائيّ.

ولدى الحديث عن دور الأكراد في نهضة الحركة الوطنية اللبنانية لا بدّ من الإشارة والتطرّق إلى كمال جنبلاط المفكّر والسياسي ذي الأصول الكردية، وهو كمال فؤاد جنبلاط (6 ديسمبر 1917 – 16 مارس 1977)، ويعتبر أحد أهم زعماء لبنان في فترة الحرب الأهلية، وما قبلها، وأحد زعامات الطائفة الدرزية في جبل لبنان، إضافة إلى كونه مفكّراً وفيلسوفاً، وزعيماً للحركة الوطنية اللبنانية التي أنشأها في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية مع جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وأحد مؤسّسي الحزب التقدمي الاشتراكي، ويعتبر من الشخصيات اللبنانية المعروفة بدعمها للقضية الفلسطينية، اغتيل في 16 مارس 1977 على يد المخابرات السورية باستخدام سيارة تحمل لوحة أرقام عراقية في بلدة ديردوريت بمنطقة الشوف على مقربة من حاجز للجيش السوري المنضوي تحت لواء قوات الردع العربية آنذاك بعد خلافات عميقة، كون مشروعه الوطني يعيق المشروع السوري آنذاك واتهم النقيب في المخابرات الجوية السورية آنذاك إبراهيم حويجة بتدبير وتنفيذ العملية، والذي اختفى إلى أن تمّ ترفيعه ليصبح مديراً للمخابرات الجوية، وخلفه في زعامته ابنه وليد جنبلاط، له عشرات المؤلفات والمقالات السياسية والفكرية والفلسفية والاجتماعية، ولعب كتابه “أدب الحياة” دوراً هاماً بتنشئة أجيالٍ متعاقبة في لبنان حيث يعتبر دليلاً على أسس العلاقات والحياة الاجتماعية، علاقة الإنسان بالآخر تحت مظلة الاحترام المتبادل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كمال جنبلاط الزعيم والمفكر اللبناني الذي يعود بجذوره العائلية إلى الشعب الكردي.

وتعتبر سيرة آل جنبلاط من سير العائلات المميزة التي لها جذور كردية، وتتّخذ العائلة قصر المختارة بمنطقة الشوف مقرّاً لها، ترجع أصول آل جنبلاط في لبنان لأصول كردية سنّيّة، واسمهم الأصلي جان بولات ويقال: إنهم قدموا إلى حلب مع الأيوبيين، وقاتلوا مع جيوشهم في الحروب ضد الصليبيين، وفي عهد العثمانيين اعترف بهم العثمانيون، وعيّنوا علي باشا جان بولات حاكماً على منطقة حلب، وظلّوا حكّاماً على حلب حتى ثار علي باشا جان بولات على العثمانيين، فقضى هؤلاء على ثورته، وأعدم عام 1511، ولجأ حفيده جانبولاط بن سعيد إلى جبل لبنان عام 1530، وذلك بدعوة من حليف جدّه الزعيم الدرزي فخر الدين المعني الثاني أمير جبل لبنان، وبعد وصوله أسس العائلة الجنبلاطية الدرزية، والانتماء للطائفة الدرزية له روايات عدة؛ منها أنّه قد اعتنق الدرزية سرّاً، أو فتح له باب الانتساب من قبل مشايخ الطائفة رغم إقفاله منذ سنوات، وازدهرت العائلة أيّام الزعيم الدرزي؛ الشيخ بشير جنبلاط، وفي إحدى معاركه مع الموارنة أسر وأعدم عام 1825، وعام 1884 عيّنَ العثمانيون نسيب سعيد بشير جنبلاط حاكماً على إقليم الشوف، لكنّ هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى تقود إلى تبدّل في معادلة القوى داخل عائلة جنبلاط، فقد قرّر الفرنسيون إزاحة نسيب حليف العثمانيين، وعينوا فؤاد جنبلاط والد كمال جنبلاط حاكماً على إقليم الشوف، وعام 1921 قتل فؤاد جنبلاط على يد أحد منافسيه من عائلة أرسلان المنافسة لآل جنبلاط على القيادة السياسية لدروز لبنان، وتولّتْ زوجته نظيرة جنبلاط مهام زوجها.

وخلال سيطرة الأحزاب على مقاليد القرار في لبنان في ثمانينيّات القرن الماضي أي منذ العام 1980، وحتى العام 1992 برزت القوّة الكرديّة على الأرض خصوصاً في منطقة بيروت الغربية، حيث انضمّ معظمهم إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي ترأسه آنذاك وليد جنبلاط، فكانوا يعدلون كفّة ميزان القوة خلال المعارك التي اندلعت مع العديد من القوى الأخرى كحركة أمل والمرابطين وغيرهم، حتى باتوا يشكّلون قوة أقلقت وقتها جنبلاط نفسه الذي حاول تحجيم قوّتهم عبر توزيعهم على عدد من المناطق تحت إمرة مسؤولين حزبيين لبنانيين، ومن المنصف القول: إنّ تحركات هذه المجموعات وقتها أدّت إلى إبقاء وتعزيز وجود أحزاب أساسيّة لعبتْ دوراً هامّاً في المرحلة السياسية اللاحقة، انطلاقاً من حجم وقوة نفوذها على الأرض.

ومن الناحية السياسية الحالية، ورغم كونهم من الطائفة السنّيّة فيتبع أكراد لبنان، ومن خلال تجمّعاتهم الحزبية خط حزب الله وحركة أمل أو محور المقاومة، كما يطلق عليه في لبنان، بالإضافة إلى التحالف مع الأحباش وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية مع بعض التأييد البسيط والمتواضع لتيارات سياسيّة أخرى كتيار المستقبل، والحزب التقدّميّ الاشتراكي، وتمّ في العام 2014 افتتاح رابطة نوروز الثقافيّة الاجتماعية التي تديرها حالياً حنان عثمان، والتي ترشّحت كمستقلة في الانتخابات النيابية في العام 2018.

 

أوجلان ولبنان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما تبقى من أحد معسكرات حزب العمال الكردستاني في منطقة البقاع اللبنانية القريبة من الحدود السورية.

يتباهى بعض الأكراد في لبنان بأنّ حزب العمال الكردستاني الذي يتزعّمه عبد الله أوجلان (PKK) انطلق في الأصل من لبنان كحركة مسلّحة، وشارك لاحقاً في مقاومة إسرائيل إلى جانب الفصائل اللبنانية الأخرى، فخلال بداية ثمانينيّات القرن الماضي كانت علاقة حزب العمال الكردستاني مع النظام السوري جيّدة، حيث عقد الحزب مؤتمره الأول في سوريا بين 15 و25 تموز / يوليو 1981، وعقد مؤتمره الثاني أيضاً في سوريا في العام 1984، كما كانت دمشق مكان إقامة قيادة الحزب، وتواجدت بعض معسكراته في البقاع اللبناني الخاضع للسيطرة السورية، وكان المعسكر المركزيّ الذي سمّي بمعسكر قرقماز يقع بالقرب من بلدة كفر زبد ولا يزال أهالي البلدة والبلدات المحيطة بها المقاتلين الأكراد، ويؤكّدون أنّ أوجلان كان يتمتّع بعلاقة جيدة مع أهالي المنطقة، وكان يزور بعض المنازل من وقت إلى آخر، وكانت عمليات تجنيد كوادره تجري في المناطق ذات التواجد الكردي في سوريا ولبنان، لكن في عام 1998 ونتيجة الضغوط التركية أخرجت سوريا الأمين العام للحزب عبد الله أوجلان من أراضيها، ما أدّى إلى وقوعه في أيدي المخابرات التركية بعد أن تمّ خطفه في العاصمة الكينيّة نيروبي.

من أشهر المعارك التي شارك فيها المقاتلون الأكراد في لبنان هي معركة قلعة الشقيف في جنوب لبنان لصدّ الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، حيث حوصِر أوجلان مع مقاتلي الثورة الفلسطينية في القلعة، وكانت المعركة من أهم محطات الاجتياح الإسرائيلي التي شهدت معارك عنيفة، كما شارك المقاتلون الأكراد في معركة بيروت في منطقة خلدة أيضاً خلال الاجتياح، وعقد حزب العمال مؤتمره الثالث في معسكره في منطقة البقاع وتم فيه تأسيس الجيش الشعبي لتحرير كردستان (ARGK) ليحلّ محلّ قوات تحرير كردستان, كما تم خلال المؤتمر اتّخاذ عدّة قرارات بصدد تطوير الحزب وتوسيع التنظيم وزيادة عدد المقاتلين، ومن أهمّ القيادات الكردية التي تواجدت في لبنان أيضاً القيادية الشهيدة ساكينة جانسيز، والتي تعتبر من الأعضاء المؤسّسين للحزب، وتمّ اغتيالها في فرنسا من قبل المخابرات التركية في العام 2013.

 

 

 

 

 

 

 

 

مدخل مقبرة المقاتلين الأكراد التابعين لحزب العمال الكردستاني في منطقة البقاع اللبنانية.

 

الكرد الحاليون

ويقول الصحافي جوان سوز الذي قضى فترة طويلة في لبنان قبل محطّته الأوروبية: إنّه في لبنان، يعيش أكثر من مئة ألف كردي، وهم لبنانيون يحملون جنسية هذا البلد. “يمكننا مقابلتهم إلى جانب الأرمن في حي برج حمّود الشهير في العاصمة اللبنانية بيروت. ويمكننا أيضاً مقابلتهم في جبل لبنان وصور وصيدا وغيرها من المناطق اللبنانية”.

ويضيف “صادفت الكثيرين من أكراد لبنان بحكم إقامتي في بيروت، وتفاجأت حين وجدتهم يتحدثون الكردية بطلاقة. كنت قبل ذلك قد صادفت أكراد الأردن ومصر الذين يعترفون بهويتهم الكردية، لكنّهم لا يجيدون لغتهم الأمّ، لذلك كان الكرديّ اللبناني أكثر حفاظاً على طقوسه القوميّة، وربّما يعود السبب في هذا الأمر إلى تواصله المباشر والدائم مع أكراد سوريا بحكم القرب الجغرافي بين سوريا ولبنان، ولوجود أعداد كبيرة من السوريين الأكراد الذين يسافرون من سوريا إلى لبنان بهدف العمل فيه منذ عقود طويلة، ويضاف للسبب السابق وجود معسكرات حزب العمال الكردستاني في لبنان. باعتقادي ساهم هذا الأمر في نهضة قوميّة لدى أكراد لبنان “المنسيين قومياً” باعتبار التصفيات في لبنان تتمّ على أساس ديني، وبالتالي هم مسلمون سنة لبنانيون. لكن وجود مؤسسات ثقافية كردية للعمال الكردستاني ساهم في تعريف أولئك المسلمين السنة على تقديم أنفسهم كأكراد أوّلاً”.

ويضيف الصحافي السوريّ أنّ لبنان كان منفتحاً على الأكراد حتى ما قبل وجود معسكرات العمال الكردستاني في هذا البلد. ففي حين كانت الحكومة السورية تمنع تداول اللغة الكردية وتنفي وجود الأكراد، كانت الفضائيات والإذاعات اللبنانية تستقبل الفنانين والعازفين الأكراد من أمثال الفنان الكبير والراحل سعيد يوسف، والذي استضافته معظم وسائل الإعلام اللبنانية منذ سبعينيّات القرن الماضي. هذا يؤكّد على عدم وجود تمييز حكومي ضد الأكراد. حتى أنّ تيارات كردية انطلقت من بيروت في ثلاثينيّات القرن الماضي.

ويشير سوز أنّ الشيء الوحيد الذي يجب أن يعرفه اللبنانيّون غير الأكراد هو أن “الماردليّين” القادمين إلى لبنان أيام العثمانيين ربما، ليسوا أكراداً وهم من مدينة ماردين التركية وهي مدينة يتواجد فيها الأكراد والأرمن والسريان والعرب معاً. إنّ الخلط بين الماردلية والأكراد في لبنان يشوّه صورة الأكراد خاصة، وأولئك “الماردليّون” يؤيّدون السياسات التركية عموماً، إنّ الأكراد لديهم لغة خاصة بهم، بينما الماردليون يتكلمون لغة أقرب من أن تكون لهجة من إحدى لهجات اللغة العربية، وفيها الكثير من الكلمات العربية”.(انتهت شهادة جوان سوز)

لا شكّ أنّ الأسر الكردية الكبيرة مثل المعنيين، وآل جنبلاط، وآل سيفا والعماديون وسواهم ذوو أصول كردية معروفة، ومع الأيام أصبحوا لبنانيين مستعربين، وربّما ضعف ارتباطهم بكرديتهم وأصولهم البعيدة، وصارت جزءاً من الماضي، وأصبحوا اليوم أكثر ارتباطاً بمصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، أما الكرد الحاليون والذين لازالوا محافظين على لغتهم وعاداتهم وأصولهم الكردية، وارتباطهم الروحي بالكرد وكردستان، فهؤلاء يشكلون الجالية الكردية الحالية في لبنان، وقد هاجرت إليها من منطقة ماردين وطور عابدين وبوطان في كردستان تركيا، بسبب ضيق سبل العيش في مواطنهم الأصلية من جهة، وخوفاً من الاضطهاد التركي الذي أرعبه التحرّك السياسيّ للكرد في كردستان، وفشل الثورات الكردية هناك، وبالذات ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وما نتج عنها من تهجير جماعيّ للكرد في منطقة ديار بكر، ومع بداية القرن العشرين حضر 80% من الكرد المهاجرين إلى لبنان بين العامين 1924و 1940، وانطلقت من الاعتبارات الآتية: – الظروف المعيشية الصعبة التي مر بها الكرد في تركيا، وما ينقل إليهم عن طريق أقاربهم وأصدقائهم عن رخاء العيش الموجود في لبنان، وإعدام مئات الكرد في إيران بعد سقوط جمهورية مهاباد الكردية هناك، مما انعكس معنوياً على كرد تركيا من جهة، والخوف من مجازر مماثلة قد يقوم بها الحكم ضدهم في تركيا من جهة أخرى. أمّا المحطّة الأخيرة للهجرة فكانت في العام 1980 بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان أفرين في تركيا، إذ تعامل مع الكرد بشدة وقمع متناهيَين، مما هيّأ لهجرة مجموعات كردية أخرى إلى لبنان.

لذا يمكننا القول: إنّ الغالبية الساحقة من كرد لبنان جاءت من كردستان تركيا عبر التوجّه إلى منطقة الجزيرة السورية من نصيبين – القامشلي – الحسكة – دير الزور – حلب – حمص – حماة – طرابلس – فبيروت، أما توزيعهم الجغرافي في لبنان؛ فقد تجمع أكثريتهم في ضواحي بيروت، في أحياء مثل (زقاق البلاط)، ومنطقة رياض الصلح، والكرنتينا، والمسلخ، والمزرعة، والمصيطبة، وبرج البراجنة في حي السباعي، ومنطقة وادي أبو جميل، ومنطقة الباشورة، وفرن الشباك، والمرجه وخلدة، ومنهم من استقر في طرابلس في أحياء التربيعة، والزاهرية، وظهر المغر، والقبة، وفي البقاع في قرى الخيارة، والفرزل، وكفر زبد، ويقدّر عدد كرد لبنان عام 1983 بحوالي 90 ألف، وأكثريّتهم يعتنقون المذهب السنّي، ويتكلمون اللغة الكرديّة، ويضاف إليهم حالياً حوالي 50 ألف كردي سوري نزحوا خلال السنوات الأخيرة بسبب الحرب الدائرة في سوريا، حيث بقي قلّة منهم في مخيّمات النزوح، وتوزّع الباقي في المناطق التي يسكنها الكرد في مختلف المناطق اللبنانية.

في العام 1956 استطاع عدد كبير من أكراد لبنان الحصول على الجنسيّة اللبنانية، علماً أنّ المتقدّمين للحصول عليها كان قليلاً نسبيّاً، لأسباب عدّة؛ منها عدم القدرة على دفع رسوم التجنيس، بالإضافة الى الخوف من أن يكون الأمر خدعة لترحيلهم إلى تركيا، لكنّ الأمور تبدّلت بعد فترة وجيزة، مع وقف تجنيسهم لأمر عائد الى عدم الإخلال بالتوازن الطائفي في لبنان؛ كون معظمهم ينتمي الى الطائفة السنيّة، فإذا تمّ تجنيسهم فسيرتفع عدد السنة، ومعها الكتل الانتخابية بشكل لا يوافق عليه باقي زعماء الطوائف؛ لأنّ نسبة التمثيل في المجلس النيابي للسنة سترتفع أيضاً، لذلك تمّ استبدال الجنسية بأوراق ثبوتية بتسمية جنسية قيد الدرس، والتي شكّلتْ ثقلاً مادّيّاً كبيراً على من حصل عليها؛ بسبب الرسوم المرتفعة التي يتمّ دفعها كلّ ثلاث سنوات عند تجديدها، وحتى الذين حصلوا على الهوية اللبنانية فقد عانوا – ولا يزالون – من عدم ذكر مكان الولادة، ممّا حرمهم من الكثير من المعاملات المتعلّقة بالسفر، حتى إنْ أراد أحدهم العودة من الخارج كان يجد صعوبات وعراقيل بانتظاره، كما أنّ المواليد الجدد يبقون ربّما لسنوات قبل حصولهم على الهوية اللبنانية، رغم أنّهم بنات وأبناء لبنانيين ولبنانيات، وعانى أكراد لبنان الجدد كثيراً في بداية قدومهم الى لبنان، الذي وصلوه صفر اليدين، ودون خلفيّة تعليميّة بسبب الأوضاع المزرية التي كانوا يعانون منها أساساً في دولهم؛ كالعراق وسوريا من تهميش وتجهيل، فعملوا بمختلف الأعمال البدنية خصوصاً في بيروت، وخلال الحرب تعرّض أبناء الجالية الكردية للعديد من المذابح أسوة باللبنانيين، خصوصاً في تل الزعتر والكرنتينا والمسلخ، ثمّ عادت الدولة اللبنانيّة، ومنحت عدداً كبيراً من الأكراد الجنسية بعد انتهاء الحرب من خلال اتّفاق الطائف بعد العام 1994.

وكاستمرار لرحلة الترحال، هاجر آلاف من الكرد من لبنان باتجاه الدول الأوروبية طمعاً بحياة أفضل، خصوصاً النروج والسويد والدنمارك وألمانيا وفرنسا، وهو أمر أنعش أوضاع من بقي في لبنان؛ بسبب التحويلات التي كانت تصلهم من أقاربهم المهاجرين.

ويعاني أكراد لبنان من التشتت السياسيّ الذي جعل منهم كتلة انتخابية مقسمة، بينما لو كانوا يداً واحدة فلربما استطاعوا فرض نائب أو أكثر لهم في المجلس النيابيّ على الأقل، أو مقعد أو أكثر من مقاعد المجلس البلديّ في بيروت، أو حتّى في مقاعد المخترة (مخاتير الأحياء)، حيث يوجد في بيروت وحدها 12 ألف صوت كرديّ، وهو رقم يرجّح كفة أيّ لائحة انتخابيّة، إلّا أن تشتت الأصوات والتفرّق بين العائلات والعشائر، والاتّكال على الوعود الانتخابية للحصول على المطالب قج أضرهم سياسيّاً، وحرمهم من الحصول على المطالب على حد سواء، علماً أنّه توجد في تاريخ الأكراد في لبنان علامة فارقة مضيئة، وهي سامي الصلح؛ رئيس الوزراء اللبناني الراحل الذي تبنّى قضايا وهموم الأكراد، وكان له دور هام في حصول الآلاف على الجنسية اللبنانية بعد محاولة رجال الدين الموارنة استقطاب الكرد وإغرائهم بالجنسية اللبنانيّة، مقابل تحوّلهم الى الطائفة المارونية، ولا يزال بعض كبار السن يطلقون عليه تسمية “سامي  بابا” تقديراً لجهده معهم. وفي لبنان حاليا بعض التجمّعات التي تعمل منفردة، وأحياناً فيما بينها على تحسين الأوضاع، وهي الجمعية الخيريّة الكرديّة، حزب رزكاري، والجمعية اللبنانية الاجتماعية، والرابطة الثقافية والإنسانية الكردية اللبنانية، واتّحاد الطلبة الأكراد، ومجلس الأعيان، ورابطة آل عميرات، ومؤسسة شيخ موسى العمري، حزب رزكاري، وحزب الولاء الوطني.

 

نيروز لبنان

ككل أبناء القومية الكردية يحتفل أكراد لبنان بعيد النيروز في الـ 19 من شهر آذار من كلّ عام، فتراهم في تجمعات مملوؤة بالفرح والبهجة، كباراً وصغاراً على اختلاف انتمائاتهم العائلية والحزبية، وكأن النوروز فسحة أمل بغدٍ، ومستقبل أفضل في ظل الأوضاع القاتمة السائدة فوق رؤوسهم بسبب الإهمال والإقصاء المتعمّدين، ولعل أبرز تجمعات يوم النوروز تجمع منطقة الروشة ببيروت قبالة البحر، واحتفالات وادي شحرور وحومال وبدادون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أكراد لبنانيون يحتفلون بعيد نوروز في منطقة الروشة في العاصمة اللبنانية بيروت.

 

لائحة المراجع:

 

الكتب:

– لبنان التنمية: آفاق و تحديات : أبعاد تنموية و رؤية إنسانية – زياد عبود علوش – دار الفارابي – بيروت – 2014

– أطلس لبنان: الأرض والمجتمع – غالب فاعور وسسيباستيان فيلو – المركز الفرنسي للشرق الأوسط – 2012.

– أسرار حرب لبنان – آلان مينارغ – (ترجمة مجموعة مترجمين ) – المكتبة الدولية / بيروت – 2006.

– القضية الكردية: إشكالية بناء الدولة – عمار عباس محمود – المنهل – بيروت – 2016.

– أكراد لبنان وتنظيمهم الاجتماعي والسياسي – أحمد أحمد محمد – مكتبة الفقيه – 1995.

– الأكراد شعب المعاناة – صلاح عصام أبو شقرا – دار الهادي – 1999.

– فخر الدين المعني الثاني حاكم لبنان: إدارته وسياسته، 1590 – 1635- بولس قرألي – المجلة البطريركية، العدد 10 (شباط/فبراير – أيار/مايو 1935).

 

صحف ومواقع الكترونية:

– الاكراد يذوبون في لبنان الذي اضطهدهم (جزئين) – جريدة الأخبار اللبنانية – فداء عيتاني – 2 نيسان 2007.

– ويكيبيديا – الموسوعة الحرة / الأكراد في لبنان.

– موقع الاتحاد العالمي لكرد المهجر.

– مسيحيو لبنان وشجاعة الاكراد – موقع المدن اللبناني – نديم قطيش – 17/3/ 2016.

– لعنة الأكراد في لعبة الكبار – بيروت انسايت – جوسلين حداد الدبس – 4/1/ 2019.

– الأكراد والماردلية “ينتفضون” ضد المستقبل في بيروت – موقع النشرة اللبناني – علي ضاحي – 5/ايار / 2018.

– الجالية الكردية في لبنان – مؤسسة مؤسسة جياي كورمنج .

– أصول كرديّة في لبنان – كولان – دارا شيخي  5/8/2015.

 

خاص:

– شهادة حول واقع الأكراد في لبنان بقلم حنان عثمان؛ رئيسة رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية في لبنان.

– شهادة من الصحافي السوري جوان سوز المقيم حاليا في فرنسا، والذي عاش لفترة طويلة في بيروت.

كاتب

التعليقات مغلقة.