مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الشرق و الاستشراق

بولات جان

من منظار الغرب(الاستشراق)

الاستشراق من حيث المعنى الاصطلاحيّ، هو علم دراسة الشرق. وهو العلم الذي يختصّ به علماء ومفكّرون وأدباء من خارج الشرق يسمّون بـ “المستشرقين”. وضمن علوم الاستشراق هناك الكثير من الفروع، مثل الاستكراد ” كردولوجيا” وعلم السومريّات والمستعربين وعلم المصريّات…إلخ.

وكما هو واضح من خلال العنوان؛ فإنّ الاستشراق كعلم بمعناه الحديث قد تأسّس في الغرب وانتشر في الكثير من بلدان العالم. والهدف الرّئيسيّ من هذا العلم هو دراسة الشرق من ناحية التاريخ والآثار والحضارات واللّغات والأديان والتصوّف والدّيمغرافيا والاقتصاد والمجتمع.

لماذا ظهر الاستشراق؟

بداية علينا القول بأنّ الشرق قد أهمل ذاته وتراجع كثيراً مع بداية القرن الثالث عشر، وبقي على تلك الحال، وبالتالي فقد أهمل وأغفل دراسة ذاته وإعادة إحياء علومه ومعارفه، ومن الطبيعيّ في هذه الحالة أن يطال الإهمال دراسة كلّ ما هو خارج الشرق أيضاً، من كونه فاعلاً ومؤثّراً. وبقي في وضع الخمول والمتأثّر والمفعول به في مجال الدّراسات والعلوم والمعارف.

بينما باشر الغرب بثورته الفكريّة والمعرفيّة مع عصر التنوير والنهضة، وراح يبحث عن مصادره وجذوره الحضاريّة وأصول معارفه وتراثه، كذلك سعى بكلّ مثقّفيه وعلمائه ومفكّريه إلى اكتساب التجارب ونيل المعارف من شتّى الحضارات السابقة.

في خضمّ بحث العالم الغربيّ الناهض والمتطلّع إلى ثوراته عن ذاته وحقيقته، تأسّس الاستشراق كعلم ثورويّ جامع. وهنا من الأهميّة بمكان التنويه إلى أنّ الغرب كان طيلة تاريخه يتطلّع إلى الشرق وينهل من مناهله الفكريّة والعلميّة. لا يُخفى على أحد أنّ الكثير من الفلاسفة والعلماء الإغريق قد تتلمذوا على أيدي الحكماء والعلماء الشرقيّين في مصر وقرطاجة وبلاد بابل وسومر وسوريّا وميديا. هؤلاء الفلاسفة الإغريق أخذوا معهم شتّى أنواع العلوم والأفكار السائدة حينها في مدن الشرق إلى اليونان، ومنها انتقلت إلى روما وشتّى بقاع أوروبا. كما بقي الغرب مهتّماً بالشرق في العصر الهيلينيّ والرّومانيّ والبيزنطيّ والإسلاميّ.

ويذكر المؤرّخون بأنّ الغربيّين القادمين مع الحملات الصليبيّة إلى الشرق قد تعلّموا لغات أهل الشرق ودرسوا المخطوطات وتعرّفوا على ثقافاته، ونقلوا الكثير منها إلى الغرب، والتي كانت من أهمّ دعائم ومنطلقات ثورتي التنوير والنهضة في أوروبا.

مع بدايات القرن الثامن عشر، ازداد اهتمام الغرب بالشرق كثيراً، لعدّة أسباب. ولم يكن هذا الاهتمام حميداً دائماً. وعلى الرّغم من كون الاستشراق انتعش في هذه الفترة كعلم، إلا أنّه بات في خدمة المآرب والأهداف الغربيّة، وخاصّة الاستعماريّة منها تجاه الشرق.

كان لا بدّ من إعادة دراسة الشرق من كافّة النواحي وعلى ضوء العلوم الجديدة والحديثة، التي كانت تتطوّر بسرعة في الغرب. لذا يمكن القول بأنّ الاستشراق هو عمليّة إعادة اكتشاف واستكشاف الغرب للشرق الغامض والسّاحر والمتستّر خلف الأساطير والحكايا والخرافات.

كان للكنيسة المسيحيّة والرُّهبان الدّور البارز في تطوّر الاستشراق والترجمة، حيث كان يتمّ البحث في أصول الدّين وكذلك إعادة ترجمة كتب فلاسفة الإغريق والفلاسفة الشرقيّين إلى اللّغات الأوروبيّة.

 

المستشرقون والمترجمون الأوروبيّون نقلوا الكثير من الآثار الشرقيّة الخالدة في الطبّ والفلسفة والمنطق والشعر والتصوّف والاجتماع من اللّغات الشرقيّة، وخاصّة العربيّة، إلى الغرب، وأغنوا بها حراكهم الثقافيّ والعلميّ والنهضويّ.

لم يتوقّف الاستشراق عند حدود الترجمة، بل تخطّى ذلك إلى البحث في الآثار والأوابد التاريخيّة في الشرق، فسارع المستشرقون إلى علوم الحفريات “الآركولوجيا” وبدأوا بالتنقيب عن الآثار المصريّة “الفرعونيّة” والسّومريّة والبابليّة والميديّة والفارسيّة والسّوريّة، وتمكّنوا من إعادة اكتشاف أساطير خالدة مثل “جلجامش” والميثولوجيات الأكّاديّة والسومريّة والفينيقيّة المكتوبة بالكتابات والأبجديّات الشرقيّة القديمة على الألواح والرُّقيمات الطينيّة.

تمكّن المستشرقون من علماء التاريخ والآركولوجيا والآثار من إعادة اكتشاف تاريخ الشرق، ونقلوا الآلاف بل مئات الآلاف من أعظم الآثار والمخطوطات والتماثيل والألواح والبرديّات إلى الغرب، وأجروا عليها الدّراسات وأغنوا متاحفهم ومعارضهم بآثار الحضارات الشرقيّة. حينها كان الشرق والشرقيّون غائبين تماماً عن الإلمام بتاريخهم وحضاراتهم وتراثهم الإنسانيّ.

قام الاستشراق بدراسة السيكولوجيّة (النفسيّة) الفرديّة والاجتماعيّة للشرق والشرقيّين، وأجروا الدّراسات المعمّقة حول العشائر والإثنيّات والأقوام والملل الموجودة في المنطقة، وعاينوا نقاط قوّتهم وضعفهم، وأدركوا جيّداً الثغرات التي من الممكن التسلّل من خلالها إلى قلب الشرق.

فكان للاستشراق الدّور الاستكشافي العسكريّ، تحضيراً للاستعمار الذي كان سيباشر في اجتياح الشرق بدءاً مع حملة نابليون بونابرت على مصر، تلتها الحملة الإنكليزيّة، وراحت المنافسة بين كلا الدّولتين تتزايد بشكل محموم للسيطرة وبسط النفوذ وعقد العلاقات المحلّيّة مع الشرق، في مصر وسوريّا والعراق وكردستان وإيران وتركيّا والحجاز ودول شمال إفريقيّا. ثمّ ما لبثت أن انخرطت كلّ من البرتغال وإسبانيا وهولندا وإيطاليا وأخيراً ألمانيا في هذه المنافسة الاستعماريّة على الشرق، ولا ننسى المحاولات الدّائمة لروسيّا القيصريّة في الوصول إلى المياه الدّافئة في الشرق.

كان الغرب يتنافس على الشرق ويخطّط ويرسم الخرائط ويضع الدّراسات ويقسّم ويوزّع الحصص فيما بينهم، وكأنّ الشرق ليس سوى أرض بور تَرَكَها أصحابُها دون العناية والاهتمام بها.

تبلورت نظرة الغرب إلى الشرق من خلال الاستشراق، وجوهرها؛ أنّ الشرق قوّة خاملة وطاقات خامدة وشعوب كسولة فكريّاً، وقاصرة لا تقدر على اتّخاذ القرارات السليمة لأجل ديمومة حياتها، وأنّه لا يملك الديناميّات (المحرّكات والآليّات) الذّاتيّة ولا الإرادة والتوجيه الخاص للتطوّر لمواكبة الحضارة الحديثة.

لذا فإنّ النظرة الاستشراقيّة ترى بأنّه يحقّ للغرب التفكير بدلاً من الشرق، وبأنّ الغرب له كلّ الأحقيّة في وضع المخطّطات التي يراها مناسبة لأجل الشرق، وبأنّه على الأخير أن يسير بحسب إرادة وتوجيهات الأوّل؛ حتّى يتمكّن من الخروج إلى النّور. فالنظرة الاستشراقيّة تؤكّد على سموّ الغرب واندحار الشرق، وترى في نَفسِها قوّة العقل والذّكاء والتخطيط، مُقابِلَ العاطفة والتخلّف والقصور الذّهني في الشرق.

الاستشراق، وعبر ضخّه لكميّات هائلة من الدّراسات وإصدار الصحف والجرائد والمجلّات والتراجم والكتب العديدة، إضافة إلى إنشاء الأكاديميّات وافتتاح المعاهد والمجمّعات الفكريّة في الغرب حول الشرق والاستشراق؛ فإنّه تمكّن من حقن قناعاته الآنفة الذكر في العقل الجمعيّ للغربيّين. فظهرت الرؤية الاستشراقيّة في آداب وفنون ونتاجات الغربيّين. الصورة النمطيّة للشرق والشرقيّين، ترسّخت في العقل الغربيّ وفق المنظور الاستشراقيّ.

أثّرت النظرة الاستشراقيّة بقوّة على قناعات الكنيسة ورجالات الدّين والساسة والعسكريّين والرأسماليّين والقادة الكبار، فقد شُرِعت لهم الأبواب أمام التمادي في التعبير عن مطامعهم الصفيقة في ضرورة السيطرة على الشرق، والعمل على هندسة مجتمعات الشرق وإعادة رسم الخرائط بما يتوافق مع المطامع الاستعماريّة للغربيّين.

أوجد الاستشراق المبرّرات الأخلاقيّة والمعنويّة لتوجّه الاستعمار الغربيّ صوب الشرق، كما أنّ الحملات التبشيريّة والتي يمكن عدّها ضمن فروع الاستشراق، قد خلقت الكثير من المشاكل والتباينات والفروق بين الطوائف والأديان والناس الَّذينَ كانوا يعيشون سويّة بشكل أو بآخر في الشرق و إن ضمن حالات السُبات والعلاقات المتفاوتة، من حيث الألفة والمودّة والخصومات المرحليّة. كان قدوم المستشرقين والمبشّرين ومن ثمّ الساسة والكشّافة العسكريّين، قد لعب دوراً سيّئاً في تعكير المياه والأجواء، إضافة إلى النفخ في الحساسيّات، من خلال تطبيق سياسة القطيعة بين المكوّنات والشعوب الشرقيّة، تلك السياسة التي عُرِفت باسم سياسة “فرّق تسد”.

الاستشراق الذي ظهر كفرع من فروع العلم، تحوّل في وقت قياسيّ إلى إيديولوجيا غربيّة تجاه الشرق، إيديولوجيا تحاول تأكيد التفوّق الغربيّ على الشرق، وبأنّ الشرق لا يرقى إلى مستوى الغرب، وأنّه، أي الغرب يمثّل عقل العالم، و تأكيد أصالة الحضارة الغربيّة، وبأنّ الحضارات الشرقيّة ما هي إلا طفرات أو صدف تلقائيّة ظهرت بالخطأ في جغرافيّة الشرق.

الاستشراق الذي ظهر بالأساس في مساعي الغرب في معرفة حقيقة تناقضاته ومصادر حضارته التاريخيّة والبحث عن الجذور، تحوّل إلى مفهوم إيديولوجيّ ينكر أيّ فضل للشرق على الحضارة الإنسانيّة وخاصّة على أوروبا.

الاستشراق لم يقل كلّ الحقائق، بل كشف عن الحقائق التي هو يريدها ويبحث عنها، والتي تخدم المصالح الغربيّة الباردة والفجّة. وقد حاول المستشرقون، وبكلّ السُبل، إقناع الغرب والشرق على حدّ سواء بأحقيّة ومصداقيّة تلك الحقائق المبتورة، وجعلها قوانين وحقائق علميّة لا يشقّ لها غبار.

الاستشراق هو عقدة الإنكاريّة التي يقارب بها الغرب الشرق، فلما ذلك؟

الغرب الذي أخذ جلّ ثقافته الحياتيّة الرّوحيّة والدّينيّة والعلميّة من المصدر الشرقيّ بالدّرجة الأولى، وفي بعض المجالات بالدّرجة الثانية، فهو كالطفل الذي ولد من الأم ” الشرق”، واتّجه إلى الغرب، ولكنّه دائماً يشعر بالنقص والدّونيّة النفسيّة تجاه العمق التاريخيّ العظيم للشرق، كما أنّه يعرف جيّداً بأنّ أساس ثقافته الرّوحيّة، أي الديانَة المسيحيَّة، قد ولدت وترعرعت في الشرق، وانتقلت إلى الغرب.

فالغرب وخاصّة علماء الاستشراق يدركون أصالة الحضارة الشرقيّة، وأنّ جذورهم الحضاريّة والثقافيّة قادمة من الشرق. لذا فإنّهم يتمادون في التشهير بالشرق والاستعلاء عليه، ووصفه بكلّ الصفات التي من شأنها الحطّ من شأن الشرق، وكلّ ذلك إشباعاً لعقدة النقص أو التبعيّة أو الحداثة التي يدركها المستشرقون جيدّاً.

 

فإن كنت مَديناً بنموّك وسموّك لأحدهم ولا تريد أن يعرف أحدهم ذلك؛ فإنّك لا تكتفي بإنكار ذلك فحسب، بل تتكابر وتردّد مراراً وتكراراً مادحاً قوّتك وأصالتك وعظمتك.. لكن كلّ ذلك لا يلغي عقدتك، بل عليك أن تحتقر الذي تُدين له وتشهّر به وتسخر منه وتلصق به كلّ الصفات السيّئة.

لكن عليك ألا تنسى بِأنَّهُ ليس كُلُّ المستشرقين كانوا أصحاب نوايا سيّئة، وليس جميعهم كانوا يخدمون الاستعمار، ويسعون إلى تحقير الشرق، بل العديد منهم كانوا ذَوي مساعٍ حميدة ونوايا طيّبة، ومقارباتهم للشرق أكثر وفاءً ومودّة. كما أنّ العديد من نتاجاتهم واستكشافاتهم التاريخيّة كانت لإلقاء الضوء على العديد من الجوانب الغامضة أو المنسيّة والمهمَلة في تاريخ وحضارة الشرق القديمة.

في النهاية علينا أن نقول بأنّ الشرق والغرب وأيّ بقعة من بقاع الأرض وحضاراتها وتطوّرها في نهاية المطاف، تصبّ ضمن مجرى الحضارة العالميّة والإنسانيّة التي تجتاز المناطق والاتّجاهات والقارّات.

النظرة الاستشراقيّة لدى الشرقيّين

 

كنّا قد تحدّثنا عن الاستشراق والنظرة الاستشراقيّة عند الغربيّين تجاه الشرق. فالاستشراق كعلم موجّه وخاص بالشرق، قد أنتج كميّة هائلة من الآثار في كافّة مناحي الحياة والمعارف. لم يكتفِ الغرب بتطوير الاستشراق ونشره وتوطيده في المؤسّسات الرّسميّة والمجمّعات العلميّة والموسوعات المعرفيّة في الغرب، بل أسّس لها المدارس والزمالات المختلفة.

الشرق القابع في غياهب ظلمات الحقبة العثمانيّة والمهمل من كافّة الجوانب، وأثناء احتكاكه بالغرب والغربيّين القادمين من “تجّار وعلماء ورهبان ومبشّرين وجواسيس ودبلوماسيّين وعلماء آثار ومستشرقين” قد تأثّروا به بشكل أو بآخر، ووقفوا مشدوهين أمام التطوّرات الحاصلة لدى الغربيّين.

ما إن احتكّ الشرقيّ بالغربيّ؛ حتّى أدرك العديد من الشرقيّين حجم التخلّف الذي يعيشونه والفارق الزمنيّ للتطوّر بينهما، وكم هم مُتَراجِعونَ عن العالم الغربيّ، وتيقّنوا بأنّهم يعيشون في القرون الأولى للألفيّة الثانية.

الشرق، وخاصّة بعض العلماء والقادة والأدباء، أرادوا مواكبة التطوّر، ولكن لم يكن أمامهم دليل عمل أو خطّة واضحة، أو تلك المواد والأدوات والمصادر الكفيلة، حيث لم يبقَ حينها أمامهم سوى البحث في المصادر الغربيّة، وخاصّة الاستشراقيّة منها، لكي يتعرّفوا على ذواتهم. هنا تكمن الإيرونيكا المخيفة للشرق. ففي وقت وهو يمرّ يوميّاً أمام أطلال أعظم الحضارات الإنسانيّة في الشرق من قلاع وحصون ومعابد قديمة وأوابد تاريخيّة في الشرق دون أن تثير انتباهه، والتي تحوّلت بفعل الإهمال إلى حظائر للحيوانات أو مكبّات للنفايات والأوساخ، أو تمّ تحويلها إلى قشلات (ثكنات عسكريّة) وسجون، وفي وقت وهو يقرأ يوميّاً القرآن والإنجيل وباقي الكتب الدّينيّة، ويهمل المخطوطات والكتب العلميّة المرميّة في زوايا المساجد والكنائس والأديرة أو في قصور الباشوات، ولكنّه لا يهتمّ بها ولا يبحث فيها عن نفسه.

فالشرقيّ، وخاصّة دُعاةُ النهضة واليقظة منهم، هرعوا كما يهرع الظمآن خلف سراب الوّاحة في الصحراء، نحو نتاجات المستشرقين، كي ينهلوا منها معارفهم ويحصلوا منها على ثقافاتهم الشخصيّة، ويَنقلوها بدورهم بشكل أعمى إلى بلدانهم ولغاتهم القوميّة.

الشرقيّ الذي بقي حوالي ثمانية قرون في وضع الصُمِّ و البُكمِ و العُميِ، الرّاقد في الظلمات، قد تهافت بلا معرفة أو تمحيص لنتاجات الاستشراق وتسمّم بها، وتسرّبت العقليّة الاستشراقيّة حتّى النخاع لدى دُعاة النهضة الشرقيّين.

دُعاةُ النهضةِ الشَّرقيّيونَ المُتَشرِّبونَ بثقافة الاستشراق حتّى النخاع كانوا بعيدين كلّ البعد عن الأصالة. لكن أية أصالة؟ (وهي الفكرة والثقافة القائمة بذاتها البعيدة عن التقليد “الاستنساخ” والتقليدية “تكرار ما هو قائم”). أعظم ما فعلوه هو نقلهم الأعمى لنتاجات ومفاهيم الاستشراق إلى الشرق. كانوا ينظرون إلى أنفسهم وإلى الشرق كما ينظر الغربيّ “الاستشراقيّ” إلى الشرق. أي أنّهم كانوا يرون بعيون الغير، ويبتعدون كثيراً عن الجوهر وعن الحقيقة، ويزدادون اغتراباً عنها.

كما يُقال بأنّه على الإنسان “أن يبحث عمّا فقده وأضاعه في المكان الَّذي فَقَدَ فيهِ ذلك المفقود منه” وليس في أماكن أخرى.

هناك قصّة طريفة، عن رجل كان يبحث عن درهمه الضائع تحت عمود الإنارة، وعندما سأله أحدهم: عمّا تبحث؟ قال بأنّه يبحث عن درهمه الذي أضاعه. فسأله الرّجل وأين أضعته؟ فقال أضعته في تلك الغرفة. فعاد وسأله مستفسراً: إذا كنت قد أضعت درهمك في تلك الغرفة، فلماذا تبحث عنه هنا؟ فردّ عليه: الغرفة مظلمة ولا أستطيع البحث، لذلك فإنّني أبحث عنه هنا تحت النّور.

تنطبق هذه القصّة على حال المستشرقين الشرقيّين الذين هربوا من ظلمات الشرق وبدؤوا بحثاُ محموماً عن حقيقتهم الضائعة في “أنوار” الغرب.

 

الشرقيّون المتأثّرون بالاستشراق قد اقتنعوا بالمقولات والمزاعم الاستشراقيّة، ونقلوها كما هي إلى الأدبيّات والنتاجات الشرقيّة. فالمقولات التي تقول بأنّ “الشرقيّ متخلّف” و “الغربيّ متقدّم”، غدت مستفحلة بين المثقّفين الشرقيّين.

لم يكن الشرقيّ يعمل وفق تفعيل العقل والمنطق والاستقراء والتمحيص في العلوم والمعارف الغربيّة عموماً والاستشراقيّة منها خصوصاً، بل دأب كما فعل الآباء والأجداد على إنتاج النقل وليس العقل، وكان هذا الأمر مؤذياً في عمليّة البناء المعرفيّ، حيث أطلقت نهضة مشوّهة وعرجاء في الشرق. وشجّع هذا التقليد الأعمى على استيراد ثقافته وقيمه وآدابه وأنماط حياته، دون توليفها أو إعادة صياغتها من جديد، وبما يناسب الواقع الشرقيّ، أو مواءمتها مع القيم الرّوحيّة والأصول التاريخيّة العميقة للشرق.

كلّ ذلك دفع بالشرق للشعور بعقدة النقص والدّونيّة تجاه الغرب. لذا فإنّ الشرق والشرقيّ يجد نفسه ناقصاً طالما لم يصل إلى مستوى الغربيّ ولم يحصل على صفات الحياة الغربيّة. وهذا ما سارع في التهافت الشرقيّ على نهل كلّ ما هو غربيّ، دون وعي عميق. فالشرقيّ يقرأ للغربيّين كي يتعرّف على نفسه، ولكنّه من شدّة شعوره بعقدة النقص؛ فإنّه يكابر ولا يقرأ أيّ كتاب أو نتاج من نتاجات الشرقيّين، وكأنّه مهما كان اسم الكاتب أو المؤلّف أجنبيّاً وغريباً، سيكون أكثر جاذبيّة لدى المثقّفين والنهضويين الشرقيّين. لكنّ الشرقيّ نَسِيَ أو تناسى بأنّه غارقٌ حتّى أذنيه في الدّوغمائيّة الشرقيّة التي تقدّس النقل وتدنّس العقل.. ينقل دون محاكمة عقليّة أو إجراء أيّ مقارنة أو تمييز واختيار. لكنّه هذه المرّة كان ينقل من الغرب.

لا يمكننا بأيّ حال من الأحوال إلقاء كلّ اللّوم على الغرب والمستشرقين، بل يجب رؤية الدّور الشرقيّ الخامل والسلبيّ في معرفة ماضيه وحقيقته. فالغرب، وبهدف فهم تناقضاتهم والتأثيرات الجانبيّة للثقافة الشرقيّة التي كانوا قد أخذوها قبل ذلك، يسعى إلى البحث عن ذواتهم وجذورهم وأصولهم الشرقيّة الضائعة والتائهة في المصادر الغربيّة وخاصّة مصادر المستشرقين. لقد جاء الاستشراق كنتيجة لذلك، وظهر كحاجة ملّحة أمامهم. وسعى الشرقيّ يقلّد الغرب في هذا المنحى، ولكن بشكل معاكس، فهو، وللأسف، مدعاة للحزن والتندّر.

فالشرق بدلاً من أن يبحث عن أصول حضارته وجذور تناقضاته ومشاكله الرّاهنة في الشرق وفي تاريخ الشرق، فإنّه يتهافت على الغرب، بحثاً عن ذاته هناك. مثل حالة الشرقيّ تشبه حالة الأم التي تبحث عن جذور مشاكلها عند طفلها، بدلاً من أن تراجع نفسها، لحلّ عقدها وتناقضاتها.

أَوَ ليس من المؤسف أن يأتي الألمانيّ أو الإنكليزيّ أو الفرنسي كي يفكّوا شيفرات الألواح والرُّقيمات الطينيّة الموجودة تحت أيدينا منذ آلاف السنين؟ أليس معيباً أن تكون الترجمات الأولى للأساطير والملاحم الأكّاديّة والسّومريّة والبابليّة والفينيقيّة باللّغات الغربيّة، وعلماء الشرق ينقلون ترجمات ألواحهم من مخطوطاتهم عبر اللّغات الغربيّة؟

إنّ تحجّر العقل الشرقيّ وسباته الفكريّ وركوده الحضاريّ، وإهماله للتنمية والتغيير والتنوير، هو الذي جعل الشرق في محلّ المفعول به، وليغدو خاملاً متأثّراً لا مؤثّراً.. وهو الذي شرّع الأبواب أمام الغرب والاستشراق كي يتمادى ويذهب بعيداً في طريق التحكّم الفكريّ والثقافيّ والمعرفيّ بالشرق من كافّة النواحي.

على الشرقيّ الإدراك جيّداً بأنّه ليس من السوء أن يستفيد من التطوّر التقنيّ والعلميّ الموجود في الغرب أو في أيّ مكان آخر على وجه الأرض، ولكن عليه أن يدرك أيضاً بأنّ تطوّر الشرق وتنميته لا يعني ولا يمرّ بتاتاً من تقليد الغرب، ولا يحتّم المرور بنفس التجربة الغربيّة التي كانت مناسبة لهم في سياقها الزمانيّ والمكانيّ للغرب، بل على الشرق أن يبتعد أوّلاً عن كلّ تأثيرات وترسّبات وتوجّهات الاستشراق والمستشرقين، غربيّين كانوا أم شرقيّين.

 

 

كاتب

التعليقات مغلقة.