مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الثورة الدينية و تداعياتها على الشرق الأوسط

أحمد دالي

أحمد دالي
أحمد دالي

لطالما تغنى الشرق بكونه مهداً للحضارات و منطلقاً للأديان, نظراً لانبعاث العديد من الديانات السماوية ونزول كتبها على تلك البقاع من الأرض.

وإذا كان الأمر كذلك قد يتساءل المرء لماذا خُصّت هذه المنطقة من العالم بهذا الزخم والعدد من الأنبياء و الديانات؟ وما الذي استدعى أصلا كل ذلك.

و يبدو أنه مما لا شك فيه أن الديانات بمجموعها كانت بمثابة تصحيح لحركة التاريخ والإنسان في فترات زمنية معينة, فكانت بذلك ثورةً على مجموعة المفاهيم والقيم والأعراف السائدة في زمن ما و في مجتمع ما. من هنا أمكن إطلاق اسم الثورة على تلك الأفعال والأقوال التي نادت بها كل ديانة, من حيث إيجاب القول أوالفعل أو رفضهما, أو يمكن القول تحليلهما أو تحريمهما.

وبما أن الأمر كذلك وأنه يمكن النظر إلى الموضوع على أنه يحمل معنى الثورة, لابد لنا من التعرج على المفاهيم والتعريفات المختلفة للثورة من حيث هي عمل ذو مفهوم تقدمي, هدفه السعي إلى إزالة مسائل ومحوِها و استبدالها بما هو أحسن وأفضل من وجهة نظر الجماعة الثائرة أو الفرد الثائر كما في موضوع الديانات بوصفها برنامجاً أو نظاماً داخلياً لنبيّ فرد و ليس لجماعة من حيث المبدأ, إلى أن تنتشر و تلقى الآذان الصاغية والاستجابة فتصلَ إلى أعداد كبيرة من التابعين والمؤمنين بها.

أولا- التعريفات الوضعية للثورة:

1-المفهوم العام للثورة:

تعني الثورة في مفهومها العام الخروج على وضع قائم بهدف تغييره نحو الأفضل, بسبب عدم الرضا به أو التطلع إلى الأفضل. فالثورة من هذا المنظور هي ظاهرة اجتماعية تقوم بها فئة من الناس داخل المجتمع بغية التغيير, وهي لا تشترط زمناً معيناً لتتم خلاله عملية التغيير, أي أن السرعة غير مطلوبة و غير مشروطة لإنجاز الثورة.

ولاشك أن التغيير المأمول يمثل الأفضل والأحسن وفقاً لإيديولوجية و أفكار تلك الفئة الثائرة.

2- التعريف الكلاسيكي للثورة:

هي قيام الجماهير بقيادة نخب و طلائع معينة من مثقفيها من أجل تغيير نظام الحكم بالقوة.

مع الإشارة إلى أن هذا التعريف قد وُلد خلال فترة الثورة الفرنسية (1789).

و قد تطور هذا التعريف مع الثورة الماركسية (1917) عندما عرّفوا النخب و الطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال (البروليتاريا).

3- التعريف المعاصر للثورة:

الثورة في العصر الحديث تعني التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق, لتحقيق طموحات التغيير نحو نظام سياسي جديد وعادل.

4- المفهوم الشعبي للثورة:

هي الانتفاض ضد نظام الحكم الظالم.

5- التعريف السياسي للثورة:

و الثورة في التاريخ السياسي هي مجموعة التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى تغيير جذري و شامل في بنية المجتمع.

فالثورة إذاً: ظاهرة مهمة في التاريخ السياسي, إذ هي محاولة المجموعات الثورية تغيير نظام الحكومة و لو تطلب ذلك استخدام القوة و العنف, و أحيانا يثور الجيش على السلطة الحاكمة على شكل انقلاب عسكري, ولكن كثيراً ما يؤدي هذا الشكل للثورة إلى قيام حكومة عسكرية تميل إلى الاستبداد في البلاد.

ثانيا- مفهوم الثورة في الأديان السماوية:

اختلفت طبيعة الثورة و مكانتها في الأديان السماوية بحسب السياق العام لكل ديانة و أطروحتها و نظرتها للوجود والإنسان والحياة, و على أساس ذلك تتحدد ملامح و سمات كل دين.

1-الثورة في الديانة اليهودية:

إن السياق العام و الخط الأساس لدى اليهود, هو السعي الدائم للوصول إلى الجنة التي وُعد بها بنو إسرائيل في كتبهم المقدسة (أرض الميعاد). و تتمثل تلك الجنة في الوصول إلى مساحات مباركة من الأرض ليعيشوا فيها بسلام وأمان, و بالتالي نجد أن جميع الانتفاضات والثورات اليهودية على مدار تاريخهم الطويل, تنصبّ لتحقيق ذلك السعي.

2- الثورة في الديانة المسيحية:

على عكس اليهودية, اهتمت الديانة المسيحية بالآخرة أكثر من الأمور الدنيوية, ولذلك كان السيد المسيح يحثّ أتباعه على الزهد في الدنيا و تأجيل جميع أمنياتهم وما تشتهيه أنفسهم إلى جنة السماء الخالدة, ولهذا السبب لم تحدد الديانة المسيحية نموذجاً دنيوياً للدولة والمجتمع, فكانت نظرتها للدنيا و ما فيها نظرة حالمة زاهدة, لكن تلك النظرة المثالية لم تبقَ كما هي على مرّ الزمن, بل تغيرت مع ظهور شخصيات من أمثال (مارتن لوثر) قامت بإعلان الثورة على الكاثوليكية والسلطة الكنسية, نتج عنها حروب طاحنة لعشرات السنين داخل القارة الأوربية.

3- الثورة في الديانة الإسلامية:

أخذ مفهوم الثورة في الدين والفكر الإسلامي, منحى جديداً متطوراً و متبايناً عما كان عليه في اليهودية والمسيحية, إذ جاء الإسلام ديناً توفيقياً بين الديانتين السابقتين ليصبَّ اهتمامه على الجانبين المادي الدنيوي و كذلك الروحي الأخروي, فوفّق بذلك بين خطين لا يطغى أحدهما على الآخر, كقول علي بن أبي طالب المشهور: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).

و ربما هذا ما أدى إلى وجود مساحات في العقلية الإسلامية لفكرة التغيير والثورة.

إلا أن الجدال بشأن شرعية الثورة ظلّ موضوعاً رئيساً للفِرَق الإسلامية المختلفة: (السنة,الشيعة,الخوارج,المرجئة).

-موقف السنة من الثورة:

ظل موقف السنة بصورة عامة رافضاً للثورة باعتبار أن الخروج على الخليفة و سلطته هو خروج على حكم الله وإرادته. ولكن رغم ذلك كانوا ينظرون إلى نتائج الثورات على أنها تجسيد لمشيئة الله وإرادته, فلم يقفوا موقف المعترض على تلك النتائج, مثل أيلولة السلطة والحكم إلى الأمويين و من ثم الوقوف مع العباسيين عندما تحول الحكم إلى يدهم.

-موقف الشيعة:

ينقسم الشيعة إلى فرق عديدة و لكن من أهمها (الزيدية) التي تعتقد بضرورة الثورة على الحاكم الظالم. أما الشيعة (الإمامية) فإنهم يعتقدون أن التحرك الثوري مصدره إلهي و غيبي.

-موقف الخوارج :

بنى الخوارج خطهم السياسي بشكل واضح على الخط الثوري الراديكالي العنيف, فاعتقدوا بضرورة الخروج على الحاكم الظالم و الثورة عليه.

-موقف المرجئة:

أما المرجئة فلم يدخلوا السياسة و الثورات و فضلوا إرجاء (تأجيل) الحكم فيها لله ليفصل فيها بعد الحياة الدنيوية.

و يمكننا هنا أن نعرّج قليلاً على بعض الثورات في التاريخ الإسلامي و لو مروراً سريعاً, فليست كل الثورات قامت من جانب المسلمين على الشعوب الأخرى المختلفة عنهم لمناصرة الإسلام إن جاز التعبير, و إنما يشهد التاريخ على قيام ثورات ضد المسلمين أنفسهم.

فبعض تلك الثورات كانت إسلامية الطرفين من فئة مسلمة ضد فئة مسلمة أخرى لأسباب لا يتسع البحث للخوض فيها, لأن لكل منها أسبابها القريبة والبعيدة وأهدافها المتباينة بالنسبة إلى الفريق الثائر و زمانه و مكانه و دوافعه. فنذكر على سبيل المثال (الثورة الإصلاحية) التي حرّكها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ضد بعض الممارسات والفساد و فقدان العدالة و المساواة وانتشار الفقربسبب مظالم الولاة و المتنفذين في بداية تسلّمه للحكم, وكان ذلك سبب القضاء عليه و التخلص منه في النهاية بعد فترة قصيرة لم تتجاوز السنتين. و نذكر كذلك ثورة أبي مسلم الخراساني ضد الحكم العباسي, وثورة البرامكة ضد هارون الرشيد العباسي أيضا, والثورة البابكية نسبة إلى قائدها (بابك الخرّمي) في القرن التاسع ضد الدولة العباسية كذلك.

والدولة الأيوبية نسبة إلى مؤسسها (صلاح الدين الأيوبي) في القرن الحادي عشر للميلاد كانت بمثابة الثورة انطلاقاً من مصر, في وجه الدولة الفاطمية لإعادة الحكم والراية للعباسيين, وما رافق ذلك من الحروب الطويلة التي تُعرف تاريخياً بالحرب الصليبية.

و من جهة أخرى تحركت ثورات ضد المسلمين من أتباع ديانات أخرى غير الإسلام, كثورات أقباط مصر ( ثورة أهل الرشيد, ثورة أقباط الحوف, ثورة البشموريين) ضد الأمويين و من بعدهم العباسيين, بسبب سياسات الولاة وفرض الضرائب و إرهاقهم بالجزية.

و إذا ما خرجنا من عباءة التاريخ لنحرق بعض المراحل سنصل إلى  الثورات التي حملت الطابع الديني بامتياز في العصر الحديث, ولعل الثورة الإسلامية في إيران من الأمثلة الكبيرة على الثورات الدينية في الشرق في أواخر القرن الماضي (1979) والتي قامت ضد نظام الشاه الملكي (الشاه محمد رضا بهلوي) و قلبت الحكم في إيران من نظام ملكي إلى حكم إسلامي تحت سلطة المرجع الديني (آية الله الخميني) ولتنتهي بذلك حقبة الملكية في إيران و تُعلن الجمهورية الإسلامية وفق المذهب الشيعي و مبدأ ولاية الفقيه.

ثم كان تنظيم القاعدة (1987) الذي حمل هو الآخر مفهوم الثورة الدينية, ونشأ على أنقاض المجاهدين الذين حاربوا الوجود السوفياتي في أفغانستان, و تبنى هذا التنظيم فكرة الجهاد ضد الحكومات التي تراها كافرة أو ملحدة, ويجب صدّها وإيقاف مدّها بجميع الوسائل و تحرير بلاد المسلمين منها أينما وُجدت.

ثم وصل الأمر في العقد الأخير ببعض الدول العربية إلى قيام ما سمي بثورات الربيع العربي, انطلاقاً من تونس و مروراً بدول أخرى مثل ليبيا ومصر واليمن وسوريا فلبنان مؤخراً. و قد تأرجحت الرؤى في تعريف ماهية تلك الثورات مابين كونها ثورات شعبية أوانتفاضات شبابية أوحركات دينية, إلى أن انتهى الأمر بمعظمها إلى سلوك طريق الدين منهجاً و مبدأً لحراكهم, ومن استبشر فيها خيراً  في البداية سرعان ما تحول تفاؤله و استبشاره إلى قلق و تخوف بعد سيطرة النزعة الدينية على  تلك الثورات و صبغها بالفكر المتطرف الإقصائي الذي يرى في الآخر عدواً لمجرد اختلافه معه.

وفي هذا الشأن يشيرالمؤلف وليد فارس في كتابه (من الربيع العربي إلى الشتاء الإسلامي) إلى أن الثورات في العالم العربي لم تحمل طابع الربيع كما أُطلق عليها في البدايات, وإنما تحول ذلك الربيع  إلى شتاء إسلامي حيث اتخذه الإسلاميون وسيلة للوصول من خلاله إلى الحكم كما حصل في مصر, إذ كانت النتيجة وصول الإخوان إلى حكم مصر و تحويله لصالحهم بغية ترسيخ أنظمة شمولية على حساب الفئات الليبرالية والعلمانية التي هي من فجّرت تلك الثورات.

ثالثا- تحوّل الثورة الدينية إلى أدوات بيد الدول:

لقد وصل الأمر إلى حد التساؤل: هل ما يجري في تلك البلدان ثورات أوحروب أهلية أو طائفية؟ والسبب الذي يكمن وراء تلك التساؤلات هو انجرار تلك الثورات وراء النهج الإسلامي والانقياد خلف زعماء و قادات سلكوا هذا النهج لتتحول الغالبية العظمى من الحراك والشارع المنتفض الذي أصلاً كان يحمل البذورالدينية مع توفر الحاضنة المطلوبة لها إلى توجهاتٍ جديدة تسقي تلك البذور, ليبرز بذلك شكل جديد من الاستبداد والتسلط  يحارب كل من اختلف معه, ونحن هنا لسنا في معرض المدح أو الذم وإنما لتصوير ما حدث على الأرض.

بدأت الصورة تتوضح شيئاً فشيئاً بأن الغاية الأسمى لبعض تلك الجماعات أصبحت محصورة في السعي إلى الاستيلاء على الحكومات و الأنظمة القائمة و إقامة حكومات و أنظمة دينية بدلاً منها, فيما صبّت فئات أخرى جلّ اهتمامها لمحاربة فئات مثلها بداعي الاختلاف معها في الرأي أو الصراع على مدّ النفوذ أو جمع الثرة, وما زاد الأوضاع سوءاً على سوء هو التبعية لبعض الدول الإقليمية, حيث تبنّت كل دولةٍ جماعة ًمعينة و أخذت تديرها من الخارج و تحركها في الداخل حسب أجنداتها و مصالحها و ربما حسب سيطرة النزعة الانتقامية على تلك الدول من الشعوب كما حصل مع الشعب السوري في مواجهة أجندات وتدخلات بعض الدول و على رأسها تركيا, و بعض الدول الخليجية وعلى رأسها قطر. فتمّ اختصار كل شيء بثورات تخرج من المساجد تحمل شعارات دينية, و تسعى بالنتيجة إلى تسليم المجتمعات إلى جماعات الإسلام السياسي مثل الإخوان و القاعدة و داعش و مثيلاتها, و الوصول في نهاية المطاف إلى سلطة مطلقة يكون الحكم فيها لله وحده على حدّ زعمهم.

يرى كثيرون أن أكبر بلاء حلّ بشعوب المنطقة (الربيع الغربي) هو توظيف بعض الدول لجماعات لها في الداخل و مدّها بالمال و السلاح على حساب جماعات أخرى لتبقى ساحة الصراع مشتعلة و لتبقى سوق تصريف و بيع الأسلحة و تجريبها نشطة, إضافة إلى تجريد المنطقة وأهلها من خيرات أرضهم و بلادهم عبر تهريبها و بيعها إلى تلك الدول الراعية و الداعمة, واتخاذ تلك الساحات قبلة لإرسال المتطرفين إليها, هذا إلى جانب تجارتها بقضية اللاجئين و ابتزازهم و استخدامهم فزاعة لمن أرادوا حين الطلب.

من هنا تحولت تلك الثورات ذات الطابع الديني إلى أدوات بيد بعض الدول أصحاب الأجندات و المصالح و الرامية إلى فرض سياساتها في ملاعب غيرها, و جعل أراضي الغير ساحة و مسرحاً لحروبها, فبدلاً من خوض حروبها بالأصالة على أراضيها أخذت تديرها بالوكالة خارج حدودها, وإذا ما أضفنا إلى ذلك الممارسات الفعلية على الأرض والتي يتابعها كل مهتم بموضوع الإنسان و حقوقه, ستطفو على السطح مسألة تصنيف بعض الجماعات على لائحة الإرهاب, ما يعني أن ممارساتها وأفعالها قد ارتقت إلى ذلك المستوى.

تكمن المفارقة الكبيرة هنا, في الانصراف عن الهدف والغاية الكامنة وراء التحرك, إلى خدمة دول أخرى من المفترض أن لا ناقة لها ولا جمل في الموضوع أصلا, مثل تركيا التي تتبنى جماعات بعينها نسيت هويتها و آلامها السورية لتتحول إلى خدمة السلطان الساعي إلى استعادة أمجاد تاريخية, فتحولت بذلك إلى أدوات لضرب السوري بالسوري, العربي بالكردي والسني بالعلوي وضرب كل جماعة بالأخرى وإن كانت تحمل نفس الفكر و ذات التوجه, والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لدول إقليمية أخرى مازالت تلعب على وتر خلافات الشعوب وتتخذ منها مسرحاً خصباً لطرح شرورها و سمومها.

رابعاً- أسباب فشل معظم الثورات الدينية:

تعقيباً على ما تقدم من سحب للبساط من تحت أقدام جميع الفئات العلمانية والليبرالية والشبابية, وحصرها في الأيادي الإسلامية المعروفة, والانطلاق من المساجد وإطلاق الشعارات الدينية, الأمر الذي صبغ ما يسمى بثورات الربيع العربي بالصبغة الدينية التي لا تطمئن لها النفوس عبر تاريخ الثورات الدينية بصرف النظر عن الديانة التي تتبع لها, إذ لا يخفى على أحد أن جميع تلك التحولات في السياسة والسلطة والحكم سواء لدى الأمويين أو العباسيين ومن قبلهم حروب السلطة حتى أيلولة الحكم إلى الأمويين أو حتى في الحروب الكنسية في أوروبا و غيرها من الثورات الدينية, كانت السمة الأبرز لها إراقة الدماء والتنكيل بالخصوم, فكانت بذلك أعمالاً انتقامية إلى جانب الأهداف والغايات الأخرى التي هدفت إليها.

من الواضح أن هذه النظرة التاريخية لطبيعة الثورات الدينية تؤكد أن تلك الطبيعة حضرت بقوة في العصر الحديث, و لم تستطع عشرات القرون من الزمن تغيير أي شيء, فالصور المستنسخة من الماضي أعادت إنتاج نفسها مستفيدة من تقنيات العصر. يضاف إلى ذلك أن الشعوب التي تحركت في العصر الحديث, كانت وماتزال تعتقد أن المشكلة تكمن فقط في الحكام, وأن تغييرهم -أي الحكام-  سيحل كل المشاكل, وتناسوا أو تجاهلوا أن الحكام ليسوا من كوكب آخر بل هم نتاج مجتمعاتهم.

أضف إلى كل ذلك ما يُجمع عليه الكثيرون من المتابعين والمدققين في جعل تلك الأوطان ساحة مفتوحة لدخول المحتلين إليها أو تشرذمها بين جماعة وأخرى أو تشريد الملايين من أهلها, فالشعارات التي نادت بالكرامة والمواطنة والحريات انتهت في الأخير إلى تقسيم الوطن و تسليم كل فريق حصته من تلك القسمة إلى الجهة الراعية له, وقد ترافق كل ذلك بممارسات تشهد لها جميع وسائل الإعلام في العالم من الإقصاء والاقتتال و التنكيل بالآخرالمختلف وأعمال الخطف والنهب و الابتزاز و طلب الفدية, الأمر الذي جعل الكثيرين ممن استبشروا فيها خيراً إلى النفور منها والانفضاض عنها.

و قد يضيف بعض المراقبين إلى كل ما سبق, غياب المشروع وعدم وجود تصور للقادم و المستقبل, فغابت الحلول والرؤى التي تبحث في سلمية نقل السلطة بطرق هادئة, و خرج إلى الساحة مجدداً, البكاء على أطلال الثورات الدينية التاريخية بجميع السمات والصفات التي كانت تحملها, والغريب في الأمر أن شخصيات أكاديمية مسيحية أو مسلمة كانت تجد في نفسها أنها ذات توجه علماني أو ليبرالي وجدت نفسها فجأة في الصف الراديكالي, يشاركه و يشاطره محاكاة البكاء على تلك الأطلال.

و الحال هذه, لا يبدو أن الشرق الأوسط  بعمق جذوره التاريخية وتنوع ثقافاته وأديانه و حضاراته, قد استلهم من ذلك الماضي شيئاً لتغذية حاضره, و لم يكن على قدر حمل مسؤولية المحافظة على تاريخه و حضاراته المشهودة لها, على الأقل من حيث موضوع بحثنا هذا.

المصادر: – مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

-موقع الحوار المتمدن

-مفهوم الثورة في الأديان السماوية – محمد يسر

كاتب

التعليقات مغلقة.