مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

المحاولات الثّوريّة الفرديّة والجماعية

بولات جان

تمهيد عن الثورة

هنالك خلطٌ ومغالطاتٌ بصدد موضوع الثّورة وأهدافِها وجوهَرِها في العالم عموماً وفي الشرق خصوصاً. كما أنّ تعريف كينونة الثُورة تختلف من حيث وجهات النظر المختلفة و الزاوية التي تنظر منها.

كثيراً ما يتمّ خلط الثّورة بالانقلابات العسكريّة أو السياسيّة، وأيضاً يخلط البعض بين الثّورة والحروب الطبقيّة أو المذهبيّة أو الدّينيّة أو حتّى الوطنيّة، وكذلك بالعصيانات والانتفاضات الجماهيريّة، إن كانت تشمل فئات واسعة أو ضيّقة من مجتمع ما.

كما يجب التنويه إلى أنّ لكلّ ثورة من الثّورات ثورتها المضادة، ويجب التذكير، ولو بقلبٍ أليم، أنّ الكثير من الثّورات في الشرق، ما إن تنجح؛ حتّى تقع سريعاً في المصيدة، وتتحوّل إلى نسخة محدّثة أو مطابقة للنموذج الذي ثارت عليه. فما أكثر الثّوار الذين سرعان ما تشبّهوا بالمستبدّين الذين ثاروا ضدّهم، وهذه تعتبر أكثر أشكال الخيانة تجاه الذّات والمجتمع والتاريخ.

يقبع الفرد والمجتمع في الشرق دائماً تحت وطأة الدّوغمائيّات التي تصادر حرّيّة المجتمع وقيمه وخصوصيّاته تحت حجج وأسماء ومبرّرات مختلفة، و غالباً ما يتمّ ترويض وتدجين المجتمعات في الشرق من خلال الكتب المقدّسة والمساجد والكنائس والمعابد الدّينيّة المختلفة والخطابات والوصايا والتعاليم. كما يتمّ شيطنة كلّ من يعارض أو يعترض أو يرفع صوته في وجه الاستبداد والقمع، وكتم أنفاسهم، والتشهير بهم.

فطالما هنالك ظلمٌ ومحاولات حثيثة من قبل السلطات والمستبدّين لتشكيل وهندسة المجتمع وفق مشاريعهم ومنظورهم ورغباتهم وإيديولوجيّتهم؛ فإنّه سيكون هنالك اعتراضٌ ورفضٌ وثورةٌ من قبل البعض بين الحين و الآخر.

تاريخ الشرق ليس فقط تاريخ الديكتاتوريّات والملوك والمجازر والحروب الدّينيّة، بل هو في نفس الوقت تاريخ الانطلاقات الثّوريّة، فرديّة كانت أو جماعيّة. هنالك المئات من الثّورات الفرديّة الكبرى في تاريخ الشرق. ففي فترات الأزمات الخانقة التي تعصف بالمجتمع، وفي أوقات الفوضى وانعدام الرؤية لما قد سيؤول إليه الوضع والمستقبل، وفي حالات الأزمات والتناقضات الأخلاقيّة والاجتماعيّة السياسيّة؛ فإنّ ظهور الثوّار الكبار، يكون شِبهَ مُؤَكَّدٍ تقريباً.

المحاولات الثّوريّة الفرديّة

 

فكلّ رسول أو نبيّ؛ هو بحدّ ذاته يعتبر ثورة فرديّة كبيرة، هدفها حلّ الأزمات والتصدّي للظلم والاندحار الأخلاقيّ، وتوجيه المجتمع نحو الحياة الجديدة. فالثائر، هو الذي يشعر من أعماقه بتناقضات المجتمع، ويشعر بالظلم والفوضى الموجودة، ويبحث عن الحلول الملائمة، ويمتلك الشجاعة الشخصيّة ليكون رائداً ومضحّياً وقائداً للجموع ضدّ الظلم والاضطّهاد. لكن النجاح لا يُكتب لكلّ الثّورات والانطلاقات الفرديّة في الشرق، فكثيراً ما يكون مصير الثّوار في الشرق أليماً ومحزناً ومثيراً للجدل. فالأنظمة القمعيّة في الشرق قويّة ومتجذّرة ولا تستسلم بسهولة، ولديها ألف حيلة ووسيلة لحماية ذاتها، ولا تتوانى عن استخدام أوراقها وأذرعها ومجسّاتها الاخطبوطية المتحكّمة بكلّ مسامات المجتمع. فكم من زعيم ثوريّ أو نبيّ ورسول ومتنوّر وداعٍ للإصلاح والتغيير قد لاقى التعذيب والتشهير والاستحقار والسحل والموت بأبشع أشكاله في الشرق. القليل منهم فقط تمكّن من النفاد والنجاح، وهؤلاء تمّ تقديسهم و رفعهم إلى مصاف العظماء وأشباه الآلهة، حتّى تمّ نعتهم بأصحاب المعجزات والكرامات.

النبيّ موسى، وتمكّنه من إخراج العبرانيّين” بني إسرائيل” من مصر، وتخليصهم من الظلم والعبوديّة والاضطّهاد وتدريبهم وتأهيلهم للعودة / الدّخول إلى “الأرض الموعودة – أرض الميعاد”، تظهر مدى ذكاء وحنكة موسى ودوره التاريخيّ في حياة الأمّة اليهوديّة، وكذلك دوره الكبير في الدّيانات السّماويّة الأخرى التي تأثّرت بدورها بالدّيانة الموسويّة “اليهوديّة”. يعتبر موسى انطلاقة جديدة ضمن الدّيانات التوحيديّة في الشرق، ويحظى بالتقدير الكبير إلى الآن، ولا زالت تأثيراته ونتائج أعماله مستمرّة حتّى اليوم.

ظهور يوحنّا المعمدان وصرخاته في البرّيّة لتخليص العالم من الشرور والذنوب، ودعوته للتكفير عن الخطايا وتقديمه لرأسه في سبيل دعواه الإنسانيّة، تمثّل أيضاً حالة فريدة من الإنسانيّة الرّوحانيّة ضدّ الفوضى والظلم والهبوط الأخلاقيّ في حينه. ثورة يوحنّا الرّوحانيّة الدّاعية إلى الطهارة والنقاء والكفّارة، كانت بمثابة تهيئة الطريق أمام ظهور واحدة من أعظم الانطلاقات الثّوريّة في العالم.

يقول يوحنّا: “صوتٌ صارخٌ في البرّيّة، اسلكوا طريق الربّ، واجعلوا سُبُله مستقيمة

كلّ وادٍ يمتلئ

وكلّ جبلٍ وتلٍّ ينخفض

والطرق المتعرّجة تستقيم

والوعرة تصير سهلة

فيرى كلّ بشرٍ خلاص الله!”.

انطلاقة عيسى المسيح تعتبر انطلاقة ثوريّة فرديّة بكلّ ما تحمل كلمة الثّورة من معنى. ثورته الرّوحيّة تعتبر ثورة إنسانيّة وحركة طبقيّة للفقراء، وتستهدف مداواة الآلاف وغفران الخطايا والتصدّي للطبقات والجماعات السفسطائيّة من ” فريسيّين وصدّوقيّين” والكَهَنَةِ والأغنياء الذين كانوا يقتاتون على جهل الناس و سذاجتهم، فجاء المسيح لكي يدفع الناس بلغة تلك العصور إلى الصبر والأمل والسعي للخلاص. عيسى المسيح أطلق ثورة الفقراء، وكانت ثورته أخلاقيّة وإنسانيّة مضمونها التّسامح والمحبّة، فهو يقول: ” أحبّوا بعضكم بعضاً”.

كلّ حواريّي عيسى كانوا أمثلة فريدة للثّورة والنضال والصبر والتحمّل والتواضع والتضحية، وعلى تضحياتهم ونضالاتهم وتوجيهاتهم انتشرت تعاليم وصرخة عيسى في بقاع الشرق والغرب.

يعتبر زردشت انطلاقة فلسفيّة أخلاقيّة ثقافيّة ودينيّة بين الشعوب الآريّة في الشرق. صاحب ثورة وحركة إصلاح، كما أنّه مؤسّس لقيم اجتماعيّة وأخلاقيّة وروحيّة جديدة، تمكَّنَ خلالها من حلِّ الأزمات الاجتماعيّة التي كان يعانيها المجتمع الآريّ الزراعيّ في ميديا وإيران القديمة.

يُعدُّ زردشت مصلحاً اجتماعيّاً وفيلسوفاً ومعلّماً، وهو يدعو إلى “الفكر الصالح والقول الجميل والعمل الصالح”، و يدعو إلى الخير والمحبّة ويبارك الزراعة وتدجين الحيوانات والرأفة بها، كما يدعو إلى النّور والسّلام الدّاخليّ لإيصال الإنسان إلى مصافي الملائكة التي تدعم إله النّور والخير أهورمزدا في صراعه الأزليّ ضدّ إله الشرّ والظلمات أهريمان.

تعاليم زردشت الثّوريّة أثّرت وبقوّة كبيرة على كلّ الشرق، وانتقلت تأثيراته إلى العالم، كما أنّ اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، قد أخذت الكثير من النواحي والقيم الرّوحيّة من الزردشتيّة. فالتوراة يحمل الكثير من العناصر والتأثيرات الجليّة للزردشتيّة.

في فترة الأزمة والتوتّر بين المسيحيّة والزردشتيّة في كردستان وفارس والانحرافات التي أصابت الزردشتيّة وحالة الانسداد في الآفاق، نتيجة الاستبداد والحروب الدّائمة بين الساسانيّين والرّوم في المنطقة.. كان لا بدّ من ظهور حالة ثوريّة جديدة، وهذه الحالة تمثّلت في ظهور “ماني” الرسّام والفيلسوف والشاعر الذي سعى إلى إرساء حالة من التزاوج بين الزردشتيّة والمسيحيّة ونبذ العنف والقتل والحروب، وعمل على نشر تعاليمه عبر الصّور والرسّوم والأشعار. كانت فلسفته تعتمد بالأساس على النّور الدّاخليّ والتي سمّاها بـ “حدائق النّور“، والتي تشبه كثيراً “ملكوت السّماء” الذي في داخلنا، بحسب عيسى المسيح. كان “ماني” صديقاً للإنسان وخاصّة للمرأة، ومتسامحاً مع كافّة الشعوب والدّيانات والمذاهب المختلفة في طول الشرق وعرضه. لكنّ “ماني” أيضاً، كما كانت حال المسيح، أصبح ضحيّة للاستبداد والدّوغمائيّة وتمّ تعذيبه وقتله. وهو يقول كآخر تجلٍّ له في لحظة من لحظات الصحوة: ” لقد كتبت وكتبت ولم تقرؤوا، وقلت شيئاً وفهمتم شيئاً آخر، لقد أراد الناس شيئاً آخر”.

شكّل “مازدك” أيضاً انطلاقة ثوريّة أخلاقيّة إنسانيّة ضدّ التناقضات والأزمات الاجتماعيّة والاحتكارات والاستبداد والسلطة. يمكن وصفه كثائر ومفكّر وقائد اشتراكيّ شيوعيّ في القرن الرّابع الميلاديّ في كردستان وإيران. لكن مثله مثل “ماني” الرسّام، فقد تعرّض للتعذيب والقتل بأبشع صوره. أفكار وأطروحات “مازدك” الثّوريّة تحوّلت إلى حركة شعبيّة استمرّت طويلاً بعدّة أسماء، من المزدكيّة إلى الخورميّة إلى البابكيّة.

في عزّ الأزمة الأخلاقيّة في الصحراء والضائقة العامّة للشرق بسبب الحروب الوحشيّة المستمرّة بين الرّوم البيزنطيّين والساسانيّين، وتأثيراتها المباشرة على التّجارة والحياة الاقتصاديّة، وبالتالي على المجتمع والأخلاق والقيم المعنويّة، كان لا بدّ من ظهور انطلاقة ثوريّة في المنطقة، خاصّة وأنّ الكلّ في خضمّ تلك الآلام والأزمات الخانقة، كانوا يتنبؤون بظهور من ينقذهم. ظهرَ محمّد في الصحراء العربيّة بمدينة مكّة التي كانت مركزاً تجاريّاً وثقافيّاً ودينيّاً للعشائر والقبائل العربيّة كانت حالة فريدة، خاصّة أنّه جاء ضمن الثقافة النّبويّة الرّسوليّة.

إنّ محمّد بالأساس هو مفكّر ومصلح اجتماعيّ وقائد ثوريّ، تمكّن من قراءة التناقضات والأزمات العميقة للمجتمع المكَّي والصحراويّ بشكل عامٍ، واحتكّ مع الحضارات والأديان الموجودة على أطراف الصحراء في الشّام وغيرها من الحواضر والمراكز المدينيّة. فأعلن عن ثورته وبرنامجه الاجتماعيّ والأخلاقيّ والإصلاحيّ باسم “النّبوّة”.

وهو كما كلّ الانطلاقات الثّوريّة الفرديّة في الشرق، تعرّض للظلم والتضييق، واضطرّ للهجرة وظلّ يعمل ويجمع حوله الأتباع، حتّى تمكّن من الانتصار على سادة قريش، وتمكن من ترسيخ القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي ارادها أن تسود في الصحراء العربيّة.

لقد تمكّن محمّد من وضع برنامج سياسيّ واجتماعيّ عظيم مازال الجميع يقفون مشدوهين لتلك القدرة المبدعة التي تمكّن فيها ذلك الرّجل / الرّسول من استنباط النتائج من الخبرات المتراكمة ووضع الحلول المناسبة للمشاكل والعقد المستفحلة. لكن علينا التنويه بأنّ الكثير من الانحرافات والتسرّبات قد دخلت إلى قلب ثورة محمّد بعد وفاته مباشرة.

تحوّل الإسلام إلى دين شرقيّ كبير نافس اليهوديّة والمسيحيّة والزردشتيّة، وتمكّن من الانتشار على حسابهم، دافعاً بذلك تلك الدّيانات الأصيلة والقديمة إلى الانزواء والتّراجع إلى الأطراف، وصبغت الثقافة الشرقيّة بشكل كبير بالقيم والثقافة والمبادئ الإسلاميّة العربيّة الصحراويّة.

ومع تزاوج الإسلام الصحراويّ مع السلطة المدنيّة للساسانيّين والرّوم، سرعان ما تحوّلت إلى امبراطوريّة قمعيّة ألوهيّة تضطّهد وتقتل وتفتك بكلّ من تسوّل له نفسه مجرّد التفكير أو التعبير عن استبداد السلاطين والولاة والأمراء والخلفاء، فتحوّل الأمير والوالي والخليفة إلى ظلّ الله على الأرض، وكانت طاعتهم من طاعة الله “أطيعوا الله والرّسول وأولي الأمر منكم”، مع أنّ الآية تشترط الاستقامة في “أولي الأمر”، ولكن لم يكن أحد منهم يولي أهميّة لذلك. ولا ننسى بأنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف في الغالب، وبالمصالحات والاتّفاقات في أوقات وظروف نسبيّة واستثنائيّة. وكان هناك تململ لدى القاعدة الشعبيّة (الناس) من الفساد والرّشاوى والحروب والقلاقل الموجودة والمؤامرات والفتن الدّائمة في القصور، وبين المسلمين أنفسهم.

كان من المفترض أن تظهر انطلاقات ثوريّة جديدة، بالإضافة إلى الثّورات والحركات الشعبيّة والانتفاضات الدّائمة التي كانت تضرب الشرق في كافّة العصور.

فقد ظهرت كذلك ثورات وحركات فرديّة مهمّة جدّاً والتي مازالت آثارها مؤثّرة بقوّة حتّى يومنا الرّاهن. ولم تكن كافّة هذه الثّورات في المجال السياسيّ أو الاجتماعيّ، بل تخطّتها إلى كافّة المجالات العلميّة والفلسفيّة والدّينيّة والإداريّة والأدبيّة. ولكن كم هو مؤسفٌ بأنّ هؤلاء العظماء الذين يفوقون قادة وروّاد ثورتي التنوير والنهضة الغربيّة بعشرات الدّرجات، إلا أنّهم جميعاً قد تعرّضوا للظلم والتشهير والتزوير، وتمّ اتّهامهم بالتجديف والهرطقة والكفر والإلحاد والإباحيّة، وتمّ تكفير وقتل وسمل وقطع رؤوس الكثير منهم، فكلّ من أبي ذرٍ الغفاريّ والحلَّاج بن منصور والسهرورديّ وابن سينا وابن الرّازيّ والفارابيّ وابن العربيّ ومولانا الرّوميّ وبابك الخرّميّ وعمر الخيّام والمعريّ وابن الجزيريّ و غيرُهُم الكَثيرونَ الذين أطلقوا ثورات في الطبّ والفلسفة والمنطق والاشتراكيّة والمحبّة والسّلام والفلك والتصوّف والدّين ومحاربة الظلم والاستبداد والظلام والسّلاطين الطغاة والحكومات الفاسدة ورجالات الدّين المنافقين والفاسدين، ولكن للأسف كان مصير أكثريّتهم محزناً، أو تمّ قلب الحقائق التي ناضلوا لأجلها، وتحوّلوا في التاريخ إلى هراطقة وخُطاة وخارجين عن طريق الصواب والناموس العام.

هذه تمثّل تراجيديا الشرق وتُظهِر الوجه القبيح والعاهر للأنظمة الاستبداديّة الحاكمة وأدواتهم من وعّاظٍ وخطباءٍ وكتّابٍ ومؤرّخين فاسقين يقلبون الحقائق، ويجعلون الحقّ باطلاً والباطل حقّاً.

لذا علينا اليوم أن نعاود قراءة التاريخ الذي تمّ تدوينه من قبل كتّاب السرايا ومؤرّخي الدنانير، وإعادة تصحيح تاريخ الشرق وخاصّة تاريخ الشخصيّات المؤثّرة فيه، وعلينا أن ننظر بعين الشكّ والارتياب و الشبهة إلى كلّ ما تمّ ويتمّ كتابته وتدوينه بسوء وتهجّم على أشخاص محدّدين في التاريخ. وعلينا أن نتساءل: لما كلّ هذا التّحامل والتهجّم على هذه الشخصيّات؟ لمَ كلّ هذه النقمة عليهم، وهذا الغلّ والحقد والكُره تجاههم؟ وكأنّ كلّ مياه أنهار العالم لا تشفي غليل السلاطين والحكّام من تلك الشخصيّات. ألا يكفي بأنّهم عذّبوهم وسملوا عيونهم و قَطَعوا ألسِنَتَهُم وبتروا أطرافهم وسلخوا جلودهم وصلبوهم وأحرقوهم وفصلوا رؤوسهم عن أجسادهم، وظلّوا لشهور يتجوّلون بتلك الرّؤوس المقطوعة في حواضر الشرق ومدنها.. ما الذي فعله هؤلاء الأفراد حتّى استحقّوا كلّ هذا الغلّ والحقد والإجحاف وشراهة الانتقام؟ وكأنّهم يقولون لأهل الشرق أجمعين؛ “لا تحلموا ولا تفكّروا مجرّد التفكير في الوقوف بوجهنا، أو التصدّي لنا أو مناقشة قدسيّتنا وشرعيتنا أو بثّ الشكّ والشُبُهات في عقول الناس”، وكإنّ بهم يقولون: ” نحن نمثّل الله والدّين والكتب المقدّسة، فمن يعارضنا فهو يعارض الله والرّسول والكتاب وكلّ القيم والقواعد الدّينيّة المقدّسة. فالويل وسواد الليل لكلّ من يقدم على ذلك، فعدوّنا هو عدوّ الله، وعدوّ الله سيكون في النّار في الدنيا والآخرة”.

كانت الثّورات الفرديّة في الشرق انطلاقات عظيمة وجريئة ومليئة بالعذابات والتضحية والآلام. قادتها وشخوصها يمثّلون الشّموس التي أضاءت وتضيء ظلمات الشرق وتخلق الأمل للناس بأنّ الحياة لن تبقى أبد الدهر كما تريده السلطات ويريدها السّلاطين.

فالشرق بحاجة إلى أفراده المبدعين والجسورين والعظماء، فالأفراد المبدعون والخلّاقون هم أساس الطفرات الاجتماعيّة والشرارة التي تشعل الثورات، ويلهمون الشعوب والمجتمعات، وينقلونها من حالات الفوضى والاضطراب والظلم والظلام، إلى السعادة والنجاح والحرّيّة، كما قاد موسى أهله من عبوديّة مصر إلى أرض الميعاد، ومحمّد قاد عرب الصحراء من ظلمات الجاهليّة إلى سيادة العالم، كما فعل المسيح و”ماني” والحلّاج والحسين وأبو ذرّ الغفاريّ والسهرورديّ وابن العربيّ…

فالشرق بحاجة إلى انطلاقات ثوريّة دائمة في كافّة المجالات حتّى يكون الشرق لائقاً كونه مهد الحضارة الإنسانيّة.

المحاولات الثّوريّة- الجماعيّة

الثّورة لا تعني السعي للاستحواذ على السلطة، ولا تجسّد مقولة “هدم القديم وبناء الجديد”، كما أنّها لا تعني إزاحة مستبدٍّ وجلب آخر، كما أنّ الثّورة لا تمتلك الحقّ في مصادرة الحرّيّات وقمع المختلف معها، وفرض حالات طارئة على المجتمع تحت اسم “الثّورة ومصالحها وحمايتها”.

من المؤسف جدّاً بأنّ الثورات في الشرق تتعرّض للخيانة من قبل أبنائها أو من قبل أناسٍ اندسّوا فيها وانتظروا الفرصة السانحة للانقضاض عليها، وتحويلها إلى الشكل الذي يريدونه حتّى و إن كان ذلك يعني ابتعادها عن جوهرها واغترابها عن طموحات وتطلّعات الذين قاموا بالثورة، أو الذين تمّت الثّورة لأجلهم. فما أن تنجح الثورة حتى يسرقها أحد القادة و يباشر بتصفية رفقاء الأمس و تظهر أدبيات (الميول الانتهازية، التصوفية، العمالة للنظام القديم و الفردية) التي يروجها لها بعض المثقفين و المنظرين باعتبارهم كذيول للقادة المتفرقين، و تُستخدم تلك الأدبيات في محاربة القادة لبعضهم في سبيل أمور لا علاقة لها بالثورة، و تستحوذ أمور تافهة، رخيصة و بسيطة على فكر الثوريين و تدفعهم إلى التنافس الدائم فيما بينهم، أما في حال فشل الثورة، فالكل يتبرأ منها و يدّعي بأنه لم يوافق على كذا و لم يتقبل كذا و كذا و يباشر الكل بالبحث عن أنفسهم بعيداً عن الثورة، لا و بل بشكلٍ معاكس للثورة على الأغلب.

غالبيّة ثورات الشرق تخرج عن مساراتها، ويتمّ تحويرها وإفراغها من روحها، وإضفاء حالة من القدسيّة والحصانة الربّانيّة على قشورها. وسرعان ما يتمّ ارتكاب الفظائع تحت اسم الثّورة. وليس بالقليل من ذهبوا ضحيّة الإرهاب الثّوريّ في الثّورة الفرنسيّة، وكذلك ملايين الضحايا الذين قضوا على يد الجيش الأحمر البلشفيّ تحت ذريعة محاربة البرجوازيّة والإقطاعيّة وبقايا القيصريّة أو أعداء النظام والحزب الشيوعيّ البلشفيّ. وهل هم قلائل الآلاف الذين تمّ القضاء عليهم قتلاً وإعداماً من قبل ما تسمّى بالثّورة الإسلاميّة في إيران. فكان كلّ من لم يرُق للملالي يعتبر عدوّ الله وعدوّاً للثّورة.

فحتّى المسيحيّة التي كانت ديناً للفقراء والطبقات المسحوقة والدنيا في المجتمع، تحوّل فيما بعد إلى أداة في أيدي الباباوات المتخمين والرّهبان الجشعين والملوك الشرِهين الذين ارتكبوا المجازر والفظائع تحت اسم الربّ ويسوع المسيح، من محاكم التفتيش وقتل العلماء والفلاسفة والفنّانين والنساء والأطبّاء، والرّسائل المختومة، كلُّها تحت اسم محاربة “الهرطقة والزندقة والسَحَرة والكفّار..”.

حتّى الثّورة الرّسوليّة التي أطلقها محمّد في مكّة والمدينة، سرعان ما تحوّلت بعد موته مباشرة إلى صراعات داخليّة وصراعات مع الجميع، لا تنتهي. قتل آلاف الناس تحت اسم حروب الردّة، وقتل الآلاف تحت اسم الصراع بين أتباع هذا أو ذاك الإمام أو الخليفة أو الشخص الفلانيّ. كما أنّ ملايين البشر قد تمّ قتلهم وتهجيرهم والقضاء على ثقافاتهم وقيمهم التاريخيّة تحت اسم (الفتوحات الإسلاميّة) وإجبار شعوب وأمم مختلفة بحدِّ السيف أو التهديد بالموت على اعتناق الدّين الذي كان قد ظهر “دين الرّحمة” و”إتمام مكارم الأخلاق”، فأين الأخلاق والرّحمة في إجبار الأمم والشعوب المختلفة على اعتناق دينٍ قد نزل على العرب؟

من الأمراض الأخرى التي تصيب الثّورات، هو اندلاع الخلافات، ومن ثمّ الاشتباكات والمؤامرات والتصفيات الدّاخليّة بين قادة وروّاد الثّورة أنفسهم. فإن نظرتَ إلى أيّة ثورة من الثّورات دون استثناء؛ فإنّك سوف تلاحظ بجلاء كيف أنّ رفاق درب الثّورة يختلفون فيما بينهم، ويشنّون معارك دعائيّة ونظريّة وفكريّة وسياسيّة، ومن ثمّ يلجؤون للعنف والإعدام والتصفيات والاغتيالات أو الانقلابات أو الانقسامات.

فكلّ طرف يتّهم الطرف الآخر بالخيانة لقيم الثّورة وأهدافها، وكلّ طرف يتّهم الآخر بسرقة الثّورة والاستحواذ على السلطة، أو عدم الوفاء لذكرى الفرد ” الزعيم، الرّسول، النبيّ، الملهم، الأب” الذي كان قد أطلق الثّورة. هذه أيضاً إحدى الأمراض واللعنات التي لا تنفكّ تصيب الثّورات في كلّ العالم، وبالأخصّ في الشرق.

ومن أهمّ سمات الثّورات في الشرق؛ جنوحها إلى الجمود والتقوقع، من ثمّ الوقوع في حضن القدسيّة الدّوغمائيّة المقيتة. فتتحوّل الثّورات إلى أدوات للقمع ومصادرة الحرّيّات وإجبار المجتمعات للرّضوخ لها، مستخدمة الشرعيّة – الثّوريّة – التي اكتسبوها من ” الثّورة “. فالثّورات التي تسعى سريعاً إلى إعادة تشكيل وهندسة المجتمع، سرعان ما تتحوّل إلى الرّحم الذي يخلق الثّورة المضادة لها. فكلّ ثورة في الشرق تقوم بالأساس ضدّ ثورة سابقة لها، وتستمرّ هكذا ودواليك، ثورة ضدّ ثورة، وثورة وثورة مضادة. وثورات وانشقاقات وخيانة للقيم والمبادئ التي انطلقت بالأساس لأجل تحقيقها.

كما قلنا بأنّه من السهولة بمكان رؤية نفس مصائر الثّورات في الشرق على كافّة الثّورات القديمة منها والحديثة، الدّينيّة منها والدنيويّة، الاجتماعيّة منها والقوميّة، الاشتراكيّة منها والوطنيّة…

لكن كلّ ذلك يؤكّد لنا نقطة جليّة، ألا وهي كون الشرق الأرض الخصبة الدّائمة للثورات والانطلاقات والحركات.

اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات وبناء القرى، كانت من أكبر الثّورات والانطلاقات التاريخيّة العظيمة التي ظهرت في الشرق، وانتشرت في جميع أنحاء العالم. الدّيانات التوحيديّة والثنائيّة، كانت انطلاقات مؤثّرة، انبثقت في الشرق كثورات إنسانيّة، وانتشرت بعدّة أشكال في العالم. كما ظهرت ثورات عظيمة في اللّغة والأبجديّة والفلك والرياضيّات والطبّ والكيمياء والآداب في الشرق، وانتشرت في العالم، ومازالت آثارها واضحة وجليّة في الحضارة العالميّة.

تعتبر الزردشتيّة ثورة فلسفيّة / دينيّة، تبارك المحبّة والزراعة والخير والارتباط بالأرض وعناصر الطبيعة المقدّسة ” الماء، الهواء، التراب، والنّار”. حركة حواريّي عيسى، هي الأخرى تعتبر ثورة اجتماعيّة وفكريّة قويّة، استمرّت لسنوات طويلة ضدّ الدّوغمائيّات الدّينيّة اليهوديّة واستبداد الأباطرة والحكّام الرّومان. وهي كانت ثورة عالميّة، بعيدة عن القومويّة والمناطقيّة والإثنيّة التي كانت تفرّق الشعوب حينها.

كما أنّ العديد من الحركات الثّوريّة قد ظهرت في الحقبة التاريخيّة الإسلاميّة الأولى، ورفضت الخضوع للظلم والاستبداد والتعريب.

لقد ظهرت في القرن السابع والثامن المئات من الحركات الثّوريّة التي لا يمكن عدّها أو إحصاءها هنا، وذلك في البلدان التي احتلّها العرب، وخاصّة في كردستان وإيران وشماليّ إفريقيا. فمنطقة شهرزور الكردستانيّة كانت مهداً للثّورات الكرديّة ضدّ الاجتياح العربيّ الإسلامويّ، وظلّت تقاوم لعقود من الزمن، وتندلع ثورة هنا وأخرى هناك دون توقّف ودون أن تستسلم. كما أنّ مناطق أذربيجان كانت أيضاً من المناطق التي شهدت عشرات الثّورات الشعبيّة والانتفاضات ضدّ الحكم العربيّ الإسلامويّ الغريب عن قيم ومقدّسات تلك المنطقة.

الثّورة التي قادها بابك الخرّميّ في أذربيجان وكردستان وإيران، كانت من أهمّ الثّورات الشعبيّة والاشتراكيّة الأصيلة في المنطقة. ورغم كلّ التحريف والتشويه والتشهير الذي طالها من قبل السلطات الحاكمة آنذاك، فتمّ اصطيادها والقضاء عليها، إلا أنّها لا زالت رمزاً لانتفاضات الشعوب الأصيلة ضدّ السلطات الدخيلة.

ثورة الزنوج أو العبيد في جنوب العراق، كانت أيضاً إحدى الحركات الشعبيّة الطبقيّة المهمّة في تاريخ الشرق. وكم هو مؤسف بأنّ تتعرّض هذه الثّورة إلى التشويه والتشهير بها، حيث تحالف المستبدّون عليها، حتّى تمكّنوا بعد حروب وغزوات وحملات شاملة ووحشيّة من القضاء على المنظومة الثّوريّة التي تَمكّنَ الزنوج من تأسيسها مع القرويّين والفقراء والمسحوقين في وجه الاستبداد والوحشيّة العبّاسيّة في العراق. ثورة الزنوج ليست أقلّ قيمة من حركة سبارتاكوس في روما، ولكن ثورة الزنوج هذه لم تحصل حتّى يومنا الرّاهن على حقّها من البحث الدقيق والمقاربة العادلة لها.

على الرّغم من التشويه الشديد والهجمات الدعائيّة التي مازالت مستمرّة حتّى يومنا الرّاهن ضدّ حركة القرامطة، إلا أنّها أيضاً تعتبر عن حقٍّ ثورة شعبيّة، تمكّنت ولسنوات طويلة من تهديد عرش السّلاطين في بغداد. لقد كانت ثورة سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة وطبقيّة، وتركت تأثيراتها العميقة على دعائم الاستبداد والسلطات العبّاسيّة التي كانت قد ابتعدت كثيراً عن المجتمع والشعوب، وازدادت قمعاً ونهباً للفقراء وتعذيباً لهم، فيما يعيش الخلفاء والسلاطين حياة البذخ والإسراف والمُجون.

ازدادت الحركات الثّوريّة الشعبيّة هنا وهناك في فترة تراجع السلطات العبّاسيّة في بغداد، فلم يكد القادة العبّاسيّون يفرغون من إخماد وقمع ثورة في إقليم ما، حتّى كانت ثورة أخرى تندلع في إقليم آخر. ونلاحظ بأنّ كلّاً من كردستان وأذربيجان وخراسان كانت أراضي ثوريّة لا تخمد نيرانها، نتيجة تلك الثّورات اضطّرت السلطات العبّاسيّة إلى التّراجع، ودبّ الضعف في الحكومة المركزيّة وتمتّع الناس في الأقاليم البعيدة بالكثير من الحرّيّة والاستقلاليّة والانتعاش الفكريّ والعلميّ. فكما الورود لا تتفتّح في الظلام، كذلك الإبداع والإنتاج والتجديد أيضاً لا يتفتّح في الظلام. وما أن انزاح ثقل المركز عن صدور الشعوب والأقاليم والمدن، حتّى لمع نجم العديد من المدن الشرقيّة، وأصبحت مراكزاً لتطوّر العلوم والفنون والآداب.

ففي تلك الحقبة بالذّات، ظهر الفلاسفة والعلماء والأطبّاء والشعراء وعلماء الفلك والرياضيّين والمتصوّفون الكبار في الشرق.

إثر سيطرة العثمانيّين على الشرق، ظهرت حركات ثوريّة وشعبيّة هنا وهناك، لكن بعد بدايات القرن التاسع عشر؛ بدأت الشعوب الشرقيّة تحذو حذو شعوب البلقان في التململ والسعي للخلاص والتحرّر من نير العثمانيّين.

كانت الثّورات أو الحركات تأخذ معنى دينيّاً وقومويّاً، فالعرب كانوا ينادون بثورتهم بهدف عودَةِ الخِلافَةِ و السَّيطَرَةِ إليهم، والشعوب البلقانيّة بدورها انتفضت ضدّ الأتراك العثمانيّين وسعت للخلاص من سيطرة المسلمين. كما أنّ محاولات المصريّين في التجديد والتحديث وبناء حياة عصريّة وفق القيم الغربيّة، كانت تعتبر إلى حدّ ما ثورة اجتماعيّة ضدّ النظم والقواعد الإداريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة القديمة.

الأرمن “المسيحيّون”، بدورهم وبدافع التمايز الدّينيّ والقوميّ، سعى إلى إطلاق ثورتهم ضدّ العثمانيّين الذين قد باشروا منذ زمن طويل في قمع الشعوب والقوميّات وإرهاق كواهلهم بالضرائب الباهظة، مترافقاً مع الاضطّهاد والحروب العشوائيّة التي لا تنتهي.

لم تعد الشعوب المختلفة تجد نفسها مضطرّة للتضحية في سبيل نزوات الباب العالي والسّلاطين الأتراك القابعين في إسطنبول. فأكثريّة الثّورات وحركات التمرّد كانت تأخذ طابعاً قوميّاً ودينيّاً بالدّرجة الأولى.

الثّورات العديدة التي سيّرها الشعب الكرديّ منذ عام 1884 وحتّى يومنا الرّاهن ضدّ العثمانيّين والصفويّين، ومن ثمّ ضدّ الجمهوريّة التركيّة والسلطات والإيرانيّة، ومن ثمّ في العراق وسوريّا؛ كانت تهدف جميعها إلى الخلاص الوطنيّ والقوميّ ونيل حقوقهم المشروعة.

من الإجحاف أن تطلق حركات كالبعث والناصريّة والخمينيّة والأتاتوركيّة الكماليّة على أنفسها “حركات ثوريّة”. فليس هنالك نفاقٌ يفوق النفاق البعثيّ عندما يدّعي بأنّه صاحب ثورة، وبأنّه يقود الثّورة ويحميها، والتي لم تكن سوى سَرِقَةً لِلسُّلطَةِ وفرضاً للفاشيّة القومية المقيتة على المجتمعات والشعوب المختلفة في مصر وسوريّا والعراق وتركيّا وإيران…

لم يتوقّف الشعب الكرديّ عموماً لحظة واحدة عن متابعة وإطلاق ثوراته الوطنيّة، وإن تعدّدت حواملها وأحزابها وقادتها وأعلامها ومناطقها، وتباينت إيديولوجيّاتها، لكنّها جميعاً تتشارك في نهاية المطاف في النضال لنيل الكرد حقوقهم الوطنيّة المشروعة، على الرّغم من تنوّع واختلاف أساليب وشعارات الحركات التي تقود الثّورات الكرديّة، بحسب الظروف الزمانيّة والمكانيّة للسلطة التي يثورون ضدّها.

يمكن القول إنّ آخر حركة ثوريّة اندلعت في الشرق، ما حدث عام 2010، انطلاقاً من تونس، ومن ثمّ انتشارها في كافّة مناطق الشرق “شمال إفريقيّا ووادي النيل والشرق الأدنى – الأوسط”. هذه الثّورات الشعبيّة الهائلة التي تمّ تسميتها بـ “الرّبيع العربيّ” أو “ربيع الشعوب”، كانت ثورات محقّة وجريئة وعظيمة، تمكّنت في البداية من خلق الأمل العظيم لدى كافّة الشعوب في العالم، كما أنّها دكّت عروش الظلم والسلاطين وأدخلت الرّعب والخوف في قلوب الملوك والرؤساء والديكتاتوريّات في المنطقة والعالم.

ربيع الشعوب الذي انطلق من تونس، وانتقل سريعاً إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريّا وكردستان وتركيّا، هي ثورات شعبيّة صادقة ومحقّة ونابعة من عمق مأساة شعوب المنطقة التي تتعرّض منذ عشرات الأعوام لشتّى أنواع الإرهاب المنظّم من قبل سلطات الدّول المسيطرة عبر أجهزتها الأمنيّة والاستخباراتيّة وسرقتها قوت الشعب، وكتمها الحرّيّات وحرمانها الناس من فرص العمل وإخفاء المعلومات الصادقة والصحيحة عنها وفرض رقابتها الصارمة على الإعلام ومنعها النشاط السياسيّ ووو.. كلّها خلقت ردّات فعل ظلّت كامنة حتّى انفجرت ضمن (ربيع الشعوب).

كانت هنالك مشاكل بنيويّة عانتها الثّورات التي اندلعت ضمن ربيع الشّعوب، فغلب عليها الطابع الشبابيّ، وافتقرت إلى قيادات موحدة وإلى البرامج السياسيّة والاجتماعية والإداريّة الواضحة، فضلاً عن انعدام الفكر التأسيسيّ والتوجيهيّ لها.

كما أنّ المجموعات الشبابيّة المختلفة لم تكن موحّدة كلّها خلف شخصيّات أو شخصيّة كاريزميّة مؤثّرة، أو فكرة ومشروع مُتفق عليه. كلّ هذا أدّى إلى تسلّل الكثير من التيّارات والجهات الانتهازيّة إلى صفوف هذه الحركات، وبالأخصّ الحركات الإسلاميّة التي طالما انتظرت هذه الفرصة الذهبيّة والتي جاءتهم على طبق من ذهب. فسرعان ما خرجت الثّورات عن مسارها، وتحوّلت إلى ربيع للإسلامويّين.

إنّ أكبر خيانة تعرّضت لها ثورات ربيع الشعوب هو أسلمتها، وإسباغها بطابع إسلاميّ، والتي وفّرت الحجّة والذريعة للغرب والمجتمع الدّولي للتخوّف من نتائج هذا الرّبيع الذي أطاح بأنظمة وحكومات فاسدة شبه علمانيّة، لكي يتبوّأ المشايخ والملالي وأصحاب اللحى من الإخوان المسلمين والسلفيّين والإسلامويّين السلطة، الذين سرعان ما أظهروا عن وجوههم المتشدّدة، وكانوا الحاضنة أو السوط الذي سرّع من عمليّة ولادة الإرهاب المتطرّف وإنعاشه في ليبيا ومصر وسوريّا والعراق واليمن وباقي المناطق.

يمكن القول بأنّ أكبر حركة شعبيّة ثوريّة في تاريخ الشرق قد تعرّضت للخيانة والمؤامرة، وتمّ إفراغ جوهرها وإفشال الكثير من حركاتها في العديد من البلدان، ويمكن القول هنا بأنّ الكثير من الجهات الدّاخليّة والإقليميّة والدّوليّة تخوّفت من هذا الرّبيع وتواطأت فيما بينهم على خنقِهِ وتَوجيهِهِ نحو التشدّد والإرهاب. فلو كانت هذه الثّورات قد نجحت وأثبتت قدرة الشعوب على التحرّر وتحقيق الدّيمقراطيّة؛ لكانت قد تحوّلت إلى أنموذج عالميّ وملهم لكافّة شعوب العالم. يمكن القول بأنّ النظام العالمي وأدواته المحليَّة في الشرق، قد تكاتفت لإجهاض ثورات ربيع الشعوب وتشويهها بأفظع الأشكال الممكنة.

علينا التأكيد بأنّ الجهة أو الشعب الوحيد الذي تمكّن من الحفاظ على ثورته وتطويرها وإبعادها عن شبح الحروب الأهليّة والأسلمة وتحويرها؛ كان الشعب الكرديّ وخاصّة في سوريّا. فالشعب الكرديّ في كردستان عموماً وفي سوريّا خصوصاً أعلن منذ بداية ربيع الشعوب عن برنامجه، وكانت له قيادته الموحّدة نوعاً ما، فيما كانت سُبُل عمله وطرقه شرعيّة وملائمة لقيم الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان. لذا يمكن القول بأنّ الممثّل الحقيقيّ لثورة ربيع الشعوب كان ولايزال شعوب ومكوّنات شمال سوريّا في مناطق كردستان.

كردستان سوريّا “روجآفا” كانت الجهة القويّة والوحيدة التي تصدّت للإرهاب الإسلامويّ منذ سنة 2012، وخاضت نضالاً سياسيّاً وعسكريّاً واجتماعيّاً ووطنيّاً كبيراً في سبيل بناء نظام ديمقراطيّ وحياة آمنة نوعاً ما، في بحر الشرق الهائج والمائج بالصراعات والمجازر والإرهاب.

كاتب

التعليقات مغلقة.