مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الصراع العثمانيّ – الصفويّ وانعكاساته على حركات الإسلام السياسيّ -3-

جميل رشيد

جميل رشيد
جميل رشيد

نشأة جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها ببريطانيا:

سعت بريطانيا منذ بداية تقسيمها للمنطقة وفق اتّفاقيّة سايكس – بيكو، إلى إثارة النزعات الدّينيّة والقوميّة والطائفيّة، واستخدامها كأداة متقدّمة في عرقلة سير بلاد المشرق نحو البناء والتنمية وتطوير دولها وفق النماذج الحضاريّة العالميّة. فاتّبعت بريطانيا سياسة “النخر من الدّاخل” واللّعب على الوتر الدّينيّ والطائفيّ والمذهبيّ، فأنشأت دولاً عديدة في المنطقة، تزامناً مع ضلوعها المكشوف في ولادة حركة الإخوان المسلمين في 22 آذار / مارس عام 1928 في مصر على يد مؤسّسها حسن البنّا.

لعبت حركة الإخوان المسلمين منذ نشأتها على استغلال الدّين الإسلاميّ ووضعه في خدمة أغراضها السياسيّة، فسعت في كلّ مراحل تطوّرها إلى تنظيم عالميّ، إلى بناء أيديولوجيّتها وفكرها السياسيّ؛ اعتماداً على استخدام القوّة والعنف، كما أنّها لم تتوانَ عن نشر فكرها الدّعويّ الهادف إلى الاستيلاء على السلطة، مستغلّة العاطفة الدّينيّة لشعوب المنطقة، ومناهضةً أيّ فكر تحرّريّ علمانيّ نحو بناء الدّولة الوطنيّة.

لم تؤمن حركة الإخوان المسلمين يوماً بالدّولة الوطنيّة، شعارها استعادة أمجاد “الأمّة الإسلاميّة”، لهذا فهي تعارض معظم الحركات والقوى الساعية لبناء الدّولة الوطنيّة والقوميّة، فعارضت الحركة الناصريّة في مصر وكذلك في اليمن وفي سوريّا، وغالباً ما ترجمت معارضتها عبر إشعال نار الاقتتال الدّاخليّ وتهديم بنى الدّولة الوطنيّة.

وفي حديث لأحد قادة الإخوان المسلمين – فرع سوريّا في سجن صيدنايا في أوائل التسعينات مع كاتب هذه السّطور، وأثناء مناقشة بنية وهيكليّة الدّولة، قال حرفيّاً: “إنّنا في حركة الإخوان المسلمين نكفّر نظام الدّولة القائمة؛ لأنّها غير مبنيّة على أسس الشريعة الإسلاميّة، وتؤمِن بالعلمانيّة”.

مرّت العلاقة بين الإخوان وبريطانيا في حالات مدٍّ وجزر، تبعاً للمهام والظروف التي مرّت بها البلدان التي تغلغلت فيها، فهي نشطت بشكل كبير في مصر عبد الناصر، كتحدٍّ لتوجّهات الأخير نحو بناء دولة مصر الوطنيّة، وطرد الاحتلال البريطانيّ، وكان موقف الإخوان من قرار تأميم قناة السويس ومن بعده العدوان الثلاثيّ (الإسرائيليّ، البريطانيّ والفرنسيّ) على مصر مشوباً بالكثير من الالتباسات والتساؤلات. وحسب بعض الوثائق؛ فإنّ زعيم ومؤسّس حركة الإخوان المسلمين حسن البنّا كان قبلها يتقاضى قسماً من عوائد قناة السويس في زمن سيطرة بريطانيا وفرنسا عليه.

نظريّة العنف لدى الإخوان:

انتقلت حركة الإخوان إلى بناء تنظيمها العسكريّ السرّيّ منذ البداية، فهي تؤمن بالعنف هدفاً وليس وسيلة فقط، تحت مسمّى “الجهاد” في سبيل بناء “الدّولة الإسلاميّة”، وفق تصوّرها. وبدأت بأولى عمليّاتها العسكريّة في استهداف المسؤولين المصريّين مثل اغتيال رئيس وزراء مصر الأسبق “محمود فهمي النقراشي”، وكذلك حاولوا مرّات عديدة استهداف الرّئيس جمال عبد الناصر كما في حادثة المنشيّة عام 1953، ما دفع الأخير إلى إطلاق حملات عسكريّة متتالية ضدّهم حتّى تمكّنت من اغتيال مؤسّس الحركة حسن البنّا واعتقال عدد من قيادات الصف الأوّل.

لقد وفّرت بريطانيا الملاذ الآمن لحركة الإخوان المسلمين وقاداتهم منذ نشوء الحركة وإلى اليوم، منطلقة من عدّة أهداف:

1 – لجم حركة التقدّم والتنمية في المنطقة.

2 – إثارة التناقضات الطائفيّة والمذهبيّة في البلاد الإسلاميّة.

3 – التعويل عليها في نشر الفوضى، وإبقاء المنطقة في حالة من اللااستقرار والحرب المستمرّة.

4 – نشر الأفكار الهدّامة، وابتعاد شعوب المنطقة عن أفكار التحرّر.

5 – التحكّم بالمنطقة، عبر أذرعها من رجالات الحركة، ورفع تقارير دوريّة لها، لتكون على دراية تامّة بمجمل الأحداث والتطوّرات فيها. وفي الآونة الأخيرة أكّد الدّكتور (مطانيوس حبيب) في مقال نُشِرَ على موقع صحيفة الاتّحاد بتاريخ 3 آب / أغسطس 2018 أكّد فيه أنّ القياديّ في تنظيم الإخوان الخارجيّ (العالميّ) نذير الحكيم والمقيم في تركيّا، يذهب كلّ شهر إلى السّفارة البريطانيّة في عمّان بالأردنّ ويرفع لها تقارير عن عمل الإخوان ومجمل الأحداث في المنطقة وخاصّة عن سوريّا خلال الأزمة.

6 – الاستفادة من الأموال التي تُدَرُّ على الحركة من مختلف دول العالم ومن أتباعها، وفي الفترة الأخيرة قُدّرت استثمارات حركة الإخوان المسلمين في بريطانيا بحوالي /10/ مليارات دولار.

وفّرت بريطانيا أجواء مناسبة لإقامة زعماء وقادة الإخوان المسلمين على أراضيها وكذلك في البلدان الأوروبيّة المختلفة، فالمرشد العام الأسبق للجماعة (عصام العطّار) يقيم منذ أكثر من 30 سنة في ألمانيا، وكذلك المرشد السابق (علي صدر الدين البيانوني ورياض الشقفة والناطق باسم الجماعة زهير سالم وأنس العبدة) وغيرهم حصلوا عن طريق الاستخبارات على الإقامات والجنسيّة البريطانيّة، وسهّلت لهم حرّيّة الحركة ضمن أراضي الدّول الأوروبيّة، وكذلك إقامة مشاريع خاصّة بالجماعة وبناء وتشييد المساجد والمراكز الدّينيّة والدّعويّة.

وجاء في الفقرة 11 من تقرير صادر عن اللّجنة المشكّلة من قبل الحكومة البريطانيّة بتاريخ 17 كانون الأوّل / ديسمبر 2015 بخصوص جماعة الإخوان المسلمين، بأنّ “تجربة حكم الإخوان في مصر ما بين عامي 2012 و2013 فشلت في إقناع المصريّين في إظهار الاعتدال السياسيّ أو الالتزام بقيم الدّيمقراطيّة”.

كما جاء في الفقرة رقم 16 وصف الإخوان وإيمانهم بالعنف للوصول إلى أهدافهم “إنّ الجماعة استخدمت العنف بشكل انتقائيّ وسياسيّ بما يخدم أهدافها”، مؤكّداً “أنّه في عهد حسن البنّا شنّت الجماعة عدّة هجمات وسلسلة من الاغتيالات ضدّ الدّولة المصريّة وبعض المصالح البريطانيّة واليهوديّة”.

وواصل التقرير شرح البنية الفكريّة والإيديولوجيّة لتنظيم الإخوان “الجماعة تستمدّ أيديولوجيّتها من أفكار مؤسّسها وأفكار سيّد قطب – مُنَظّر الجماعة الأوّل – «العقيدة التكفيريّة» والتي تسمح بوصم المسلمين الآخرين بأنّهم كافرون ومرتدّون”، واصفاً عقيدة الإخوان بأنّ “استخدام العنف للوصول للمجتمع الإسلاميّ الكامل أمر مشروع، والمواجهة مع الحكّام (الظالمين في وجهة نظر الإخوان) أمر شرعيّ وحتميّ”، مضيفاً أنّ “الجماعة تحاول إعادة تفسير آراء سيّد قطب، ولكنّها لم تتخلَ عنها، وأنّ قادة جماعة الإخوان وبخاصّة التنظيم في مصر ما زال يعتنق هذه الأفكار، وهي تعاليم محوريّة في المناهج الدّراسية للإخوان، وأنّ أفكاره ألهمت العديد من المنظّمات الإرهابيّة في العالم مثل تنظيم القاعدة وفروعه الكثيرة”.

تركيّا ودورها في حماية الإخوان:

غير أنّه بعد اندلاع الأزمة السّوريّة، ودخول جماعة الإخوان المسلمين على خطّ الأزمة، وبقوّة، توجّهت أنظار الجماعة نحو تركيّا ورئيسها أردوغان الذي ينتمي إلى ذات الفكر الأصوليّ، ويذهب البعض بالقول بأنّه يمثّل رأس التنظيم العالميّ للإخوان، ففتحت تركيّا أبوابها أمام القيادات والعناصر الإخوانيّة ووفّرت لهم الملاذ الآمن وأمّنت لهم كلّ أسباب العمل السياسيّ والعسكريّ، وأعدّت لهم معسكرات على أراضيها، بل وأشرفت على تدريب عناصر الجماعة المنتمين إلى عدّة تشكيلات وفصائل عسكريّة، وخاصّة تلك التي تنتهي أسماؤها بكلمة (الشّام) مثل أحرار الشّام والجبهة الشاميّة وفيلق الشّام …إلخ.

كما سهّلت تركيّا سلاسة في نقل الأموال التي تَرِدُ إلى الجماعة، ورفعت كافّة القيود عن تحويل الأموال من وإلى الجماعة، وكذلك إدخالها إلى سوريّا ومصر، خاصّة بعد إقالة الرّئيس المصريّ الأسبق محمّد مرسي، وتجمّع معظم قيادات الإخوان المصريّة في تركيّا.

لما لم تنجح مبادرة وضع الإخوان على لائحة الإرهاب؟

بادرت الإدارة الأمريكيّة عام 2016 إلى طرح مشروع قرار على الكونغرس الأمريكيّ والاتّحاد الأوروبيّ لوضع جماعة الإخوان المسلمين على لائحة الإرهاب، ولكنّ بريطانيا عارضت المشروع، فَوُلِدَ المشروع ميّتاً. ويعزو بعض المحلّلين الرّفض البريطانيّ، إلى تقاطع مصالح الدّول الغربيّة مع جماعة الإخوان، وأنّ الأخيرة لم تستنفد أدوراها في خدمة المشاريع الغربيّة في توفير أسباب التوتّر والانقسام والصراع في المنطقة.

يتمثّل المشروع العالمي للإخوان في إنشاء فروع للتنظيم في معظم البلدان الإسلاميّة ترتبط مع مركز واحد وتتّبع نهجاً وفكراً واحداً، كشبكة أخطبوط للتحكّم بمفاصل مهمّة من الحياة السياسيّة في تلك البلدان. فرغم أنّ مهد وولادة الجماعة كان في مصر، إلا أنّها انتشرت في معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة، وعيّنت “إبراهيم منير” أميناً للتنظيم الدّوليّ للإخوان المسلمين. وفيما يلي الأسماء التي اتّخذتها الجماعة في مختلف البلدان العربيّة:

1 – مصر: جماعة الإخوان المسلمين.

2 – سوريّا: جماعة الإخوان المسلمين.

3- فلسطين: حركة المقاومة الفلسطينيّة (حماس).

4 – الأردنّ: حركة الإخوان المسلمين.

5 – الجزائر: “الموحّدون” ومن ثمّ حركة “مجتمع السلم”.

6– السّعوديّة: لم ينشأ فيها تنظيم على الأرض، فقط يوجد لهم نشاط عبر الإنترنت.

7 – البحرين: “نادي الطلبة” فجمعيّة “الإصلاح”، ثمّ “المنبر الوطنيّ الإسلاميّ”.

8 – سلطنة عمان: الإخوان المسلمون.

9 – قطر: الإخوان المسلمون كإطار فكريّ دون التنظيميّ.

10 – الكويت: جمعيّة “الإرشاد الإسلاميّة”،  فـ”جمعيّة الإصلاح”، ثمّ “الحركة الدّستوريّة الإسلاميّة” (حدس).

11 – اليمن: حزب “التجمّع اليمنيّ للإصلاح”.

12 – لبنان: “الجماعة الإسلاميّة”.

13 – ليبيا: “حركة الإخوان المسلمين” ثمّ حزب “العدالة والبناء”.

14 – الإمارات: جمعيّة الإصلاح والتوجيه الاجتماعيّ.

15 – العراق: “جمعيّة الإخوّة الإسلاميّة”، ثمّ “الحزب الإسلاميّ العراقيّ”.

16 – تونس: “الجماعة الإسلاميّة”، فحركة “الاتّجاه الإسلاميّ”، ثمّ “حركة النهضة الإسلاميّة”.

17 – السودان: حركة الإخوان المسلمين.

18 – موريتانيا: “الجماعة الإسلاميّة” ثمّ حزب التجمّع الوطنيّ للإصلاح والتنمية (تواصل).

19 – المغرب: “الإخوان المسلمون”، ثمّ “حزب العدالة والتنمية”.

20 – الصومال: حركة الإصلاح.

21 – جيبوتي: “الإخوان المسلمون” ثمّ “التجمّع الوطنيّ” كإطار تحالف مع قوى وأحزاب أخرى.

كما يمتد وجود الحركة في عدد من الدّول الإفريقيّة والآسيويّة والأوروبية، ويتوزّع نشاطها بين الدّعويّ والخيريّ، مع افتقادها لهيكليّة تنظيميّة في معظم تلك البلدان، إلا أنّها تنشط تنظيميّاً وسياسيّاً في دول آسيويّة إسلاميّة مثل ماليزيا وباكستان وأفغانستان.

المرجعيّة الفقهيّة والشرعيّة لحركة الإخوان:

أذرع التنظيم الممتدّة إلى دول عديدة؛ مكّنته من استجلاب العناصر إلى ساحات التوتّر والصراع الرّئيسيّة وفق منظور وإستراتيجيّة الحركة. فالأزمة السّوريّة جعلت من التنظيم يشدّ أزره ويُدخِلُ إلى سوريّا معظم مؤيّديه وعناصره من مختلف الدّول. ويؤكّد معظم خبراء الحركات الإسلاميّة ومراكز البحث المختصّة، بأنّ حركة الإخوان المسلمين هي الجذر والمولّد لكلّ الحركات الأصوليّة المتشدّدة مثل القاعدة وفروعها (جبهة النصرة في سوريّا مثلاً) وتنظيم داعش وبوكو حرام والشباب الصوماليّ وتنظيم أنصار بيت المقدس في مصر، وكذلك الحزب الإسلاميّ التركستانيّ وحرّاس الدّين، وفي كردستان الحركة الإسلاميّة الكردستانيّة وأنصار الإسلام التي يتزعّمها الملا كريكار كفرع تنظيم القاعدة في كردستان.

إنّ استقدام عوائل مقاتلي الإيغور الصينيين وتوطينهم في جبال السّاحل السّوريّ كجبل الأكراد والتركمان وكذلك مؤخّراً في مدينتي رأس العين وتل أبيض في شمال شرق سوريّا، تأكيد على أهداف حركة الإخوان وإستراتيجيّتهم في تغيير خارطة المنطقة وفق رؤاهم ومنظورهم الإسلاميّ.

شكّلت حركة الإخوان المسلمين مرجعيّات فقهيّة وتشريعيّة لهم، تنوب عنهم في تمرير مشاريعهم السياسيّة، وتسبغ على قراراتهم صبغة “الشرعيّة”، عبر لوي عنق الشرع الإسلاميّ وبما يتوافق مع توجّهاتهم وطموحاتهم. ففي مصر التي دامت سيطرتهم عليها إبّان وصول محمّد مرسي إلى سدّة الحكم، غيّروا العديد من القوانين والتشريعات المتعارف عليها في الدّستور والقانون المصريّ، ما دفع بالجماهير المصريّة للنزول إلى الشارع والمطالبة بتنحي مرسي وإنهاء حكم الإخوان.

وفي سوريّا أنشؤوا “المجلس الإسلاميّ السّوريّ” كمرجعيّة فقهيّة وشرعيّة، تصدر الفتاوي بخصوص عمل أعضاء الحركة، إلا أنّ فتاواها لم تكن مُنْصِفَة، بل انحازت إلى ما يخدم مصلحة الحركة، كالفتوى التي أصدرها أثناء العمليّة العسكريّة التركيّة على عفرين، أجازت فيه الاستيلاء على أموال الأهالي ونهبها تحت مسمّى “الغنائم”، ثمّ ما لبثت أن تراجعت عن تلك الفتوى، كذلك أجازت مشاركة الجيش التركيّ في كلّ عمليّاته العسكريّة ضدّ الكرد، معتبرة أنّ الكرد “كفار وملاحدة تجب مقاتلتهم”.

البراغماتية التي اتّسم بها عمل تنظيم الإخوان المسلمين في مختلف أماكن تواجدها، وإيمانها بالعنف كوسيلة للوصول إلى الحكم، جعلها مبعثاً للفوضى وعدم الاستقرار. ففي سوريّا ركبت موجة الثّورة، ومنذ بدايتها، واستغلتها لصالح تمرير مشاريعها وقادَتها نحو العسكرة والفوضى والحرب الأهليّة والطائفيّة والمذهبيّة. ورغم ادّعائها رفع شعار “الدّفاع عن حقوق السنّة ورفع المظلوميّة عنهم”، إلا أنّ الطائفة السنّيّة كانت أوّل وأشدّ المتضررين من سياسات وممارسات الإخوان والتنظيمات المتطرّفة التي تفرّعت عنها.

يتقاطع فكر وممارسة حركة الإخوان المسلمين مع العديد من الحركات الإسلاميّة المتشدّدة التي ظهرت في العالم الإسلاميّ، مثل الحركة الوهّابيّة. فرغم التباينات بينهما من حيث الإيديولوجيّا والنهج العمليّ لممارسة الطقوس الدّينية والمذهبيّة، إلا أنّهما تلتقيان في نقطة واحدة من حيث إيمانهما بالعنف كطريق للوصول إلى الأهداف، تحت مسمّى “الجهاد” لإحياء الدّولة الإسلاميّة، فمن هي الحركة الوهّابيّة، وكيف تأسّست، وما هي الأفكار والإيديولوجيا التي تؤمن بها؟

الحركة الوهّابيّة.. النشأة والتطوّر:

أسّس الحركة محمّد بن عبد الوهّاب (1699 – 1703ا) م، والذي ينحدر من منطقة “العيينة” في هضبة نجد في الحجاز.

تنقّل محمّد بين كافّة الحواضر والمدارس الإسلاميّة، واستزاد من علومها وثقافاتها، بما فيها مدرسة (قم) الشيعيّة في زمن حكم نادر شاه على الإمبراطوريّة الصفويّة.

تميّز ابن عبد الوهّاب منذ بدايته بطرح الأفكار المتشدّدة، ظنّاً منه أنّه بذلك يستعيد زمن النبوّة والخلفاء الرّاشدين، فأجاز هدم الأضرحة واعتبر إقامتها نوعاً من الكفر والشرك بالله يجب معاقبة صاحبها، وكذلك ألغى تقديس المعابد وتقديم القرابين لها. كما أظهر تشدّده وغلوّه الدّينيّ في دعوته إلى إخراج كلّ من لا يتوافق مع المذهب الذي يؤمن به إلى خارج الدّيار الإسلاميّة، وخاصّة الشيعة منهم، بل وأصرّ على ضرورة محاربتهم، كنوع من “الجهاد في سبيل الله” وأنّها عبادة.

تمدّدت الوهّابية من خلال تشدّدها، حتّى ألغت ما كان يسمّى بـ”أهل الذمّة” من المسيحيّين واليهود والإيزيديّين، وأفتت بضرورة قتلهم حتّى وإن أعلنوا إسلامهم، معتبرةً أنّهم يتبعون “الشيطان”، لذا يتوجّب قتلهم. كما أحرق جميع كتب تفاسير القرآن والكتب والمجلّات العلميّة، ظنّاً منه أنّها من تأليف الغرب “الكافر”، كما استعاد مفهوم “الرِّدّة عن الإسلام” ونَشَرَهُ بين أتباعه.

إثر إعلانه عن أفكاره المتطرّفة في بلدته (العيينة) تمّ طرده منها، فاستقبله حاكم مدينة (الدرعيّة) محمّد بن سعود، الذي كان يمتلك قوّة عسكريّة مؤلّفة من عدّة آلاف من المقاتلين، ولكنّه كان بحاجة إلى تغطية سياسيّة ودينيّة، فاتّفق الطرفان ووقّعا ميثاقاً أنشأت بموجبه الدّولة السّعوديّة الحالية، بعد تبنّيها “المذهب الوهّابيّ”.

تبنّى محمّد بن عبد الوهّاب المذهب الحنبليّ، فيما كانت الإمبراطوريّة العثمانيّة تتبنّى المذهب الحنفيّ، ما شكّل تعارضاً بينهما، ودفع بالأخيرة إلى شنّ حملات متعدّدة عليه. ورغم أنّ المذاهب الأربعة في الإسلام لا تكفّر بعضها البعض، إلا أنّ الوهّابيّة كفّرت المذاهب الثلاث الأخرى، واعتبرتهم غير مسلمين ودعت إلى قتلهم ونهب أموالهم وأملاكهم، وهو ما حقّق له الانتشار الواسع بين القبائل العربيّة في الحجاز، والتي اعتادت العيش على ثقافة الغزو والغنائم منذ ما قبل ظهور الإسلام. وأعطاها التمايز عن باقي المذاهب ابتداع طرق وممارسات دينيّة شاذّة أحياناً، مدّعية أنّها تمثل جوهر حكم النبوّة والسلف الصالح، مثل استرجاعه لثقافة (الرّجم) وقطع يد السارق وعنقه في حال ارتكابه معصية أو أمراً منافياً للشريعة، استناداً للأفكار التي وضعها مؤسّسها.

ركّز محمّد بن عبد الوهّاب في كتابه “التوحيد” على الأحاديث التي تستثير في النفوس الحماس لقتالهم. “..إنّ ذروة سنام الإسلام هو الجهاد، وإنّ الجنة تحت ظلال السيوف، وكذلك الوعد بنعيم الجنّة والحور العين”. وهو ما شكّل النواة لتشكيل الفكر المتطرّف في الإسلام وانحرافاٌ عن قيم السّلام التي نادى بها الرّسول والصحابة، في قلب للمفاهيم الإسلاميّة السَمِحَة. وقد اعتمدت الحركة الوهّابيّة على تلك المفاهيم والأفكار المتطرّفة في تسيير حملاتها العسكريّة في الحجاز وخارجها طيلة القرن الثامن عشر ولغاية بدايات القرن التاسع عشر، لتنتقل إلى أيّامنا هذه، عبر تبنّي معظم الحركات السلفيّة والجهاديّة المتطرّفة لأفكار ونهج الوهّابيّة مثل تنظيم القاعدة وداعش ومجموعات أخرى انتشرت في العالم الإسلاميّ.

امتداد الحركة الوهّابيّة:

انتشرت الحركة الوهّابيّة في المنطقة عبر الهجمات العسكريّة التي شنّتها على القبائل والدّول المجاورة، فامتدّت سيطرتهم على جنوب العراق والخليج العربيّ حتّى سلطنة عُمان، وارتكبوا كلّ الموبقات، من قتل وتدمير واغتصاب ونهب وسلب، كما هاجموا مرقد الإمام علي في كربلاء، ولكنّ الشيعة دافعوا عنه وكسروا الهجمة.

أصبحت الوهّابية عقيدة الدّولة السّعوديّة الحديثة التي تكوّنت في ظلّ ضعف سلطة الإمبراطوريّة العثمانيّة، وسعت لبسط سيطرتها على كامل المنطقة، ونشر أفكارها وإيديولوجيّتها المتشدّدة المستندة إلى القوّة العسكريّة للدّولة السّعوديّة، وتنامى الشعور لدى السّعوديّين بضرورة اعتناق المسلمين في العالم الإسلامي للمذهب الوهّابيّ بعد اكتشاف النفط وامتلاكها للقوّة الاقتصاديّة الهائلة. إلا أنّ الدّول الغربيّة وعلى رأسها بريطانيا ومن بعدها أمريكا، سعت للحدّ من النّفوذ الوهّابيّ في المنطقة، بإعادة تشكيل مراجع دينيّة أخرى، وولادة دول عربيّة إثر انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في نهاية الحرب العالميّة الأولى.

كان لعودة جامعة الأزهر وأخذه دور المرجعيّة السنّيّة، الأثر البالغ في ضعف مكانة المذهب الوهّابيّ المتشدّد، حيث شكّل الأزهر بتعاليمه ونهجه، حالة الوسط بين الوهّابيّة والتطرّف الدّينيّ، ما حدا بزعماء الدّولة السّعوديّة، الذين تحوّلوا إلى مبشّرين للوهّابيّة، إلى لجم طموحاتهم، بعد أن تحقّق لهم ما كانوا يصبون إليه من السيطرة والنّفوذ في المنطقة والعالم الإسلاميّ.

إلا أنّ المفصل الأساسيّ في انهيار الدّولة السّعوديّة – الوهّابيّة الأولى كان سببها التشدّد في فرض أحكامها الدّينيّة الجائرة، ومحاولاتها السيطرة على الأماكن المقدّسة (مكّة والمدينة المنوّرة)، ما حدا بالسلطان العثمانيّ توجيه حملة عسكريّة كبيرة على آل سعود، تمكّنت من استرجاع السيطرة على مكّة والمدينة، وبالتالي انهيار الدّولة السّعوديّة، لكن عيّن العثمانيّون خليفة من الحجاز على الأماكن المقدّسة، نظراً لأنّ الأحكام كانت تفرض أن يكون الخليفة من السلالة الهاشميّة، وسمّوه (شريف مكّة).

دبّت الخلافات بين الأسرة السّعوديّة الحاكمة بعد منتصف القرن التاسع عشر، ما مهّد الطريق أمام العثمانيّين للتدخّل والقضاء على دولتهم الثانية. لكن رغم ذلك، ظلّ المعتقد والمذهب الوهّابيّ منتشراً في الجزيرة العربيّة، وامتدّ إلى الدّول الإسلاميّة شمال إفريقيا مثل ليبيا والجزائر، بل وصل مداه إلى باكستان وأفغانستان والهند، ليُعاد بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة إعادة إحياء الوهّابيّة في هيئة المملكة العربيّة السّعوديّة.

خاتمة:

من خلال ما تمّ عرضه آنفاً؛ يمكن القول إنّ منطقة الشرق الأوسط عانت الويلات والمآسي بسبب الصراعات الدّينيّة والمذهبيّة التي استغلّها قادتها وأمراؤها في بسط نفوذهم على الدول المجاورة، متجاوزين في الكثير من المحطّات الخلاف المذهبيّ والطائفيّة، لينتقلوا إلى تبادل المصالح المبنيّة على تقاسم النفوذ وإعادة تمركز سلطتهم وتقويتها، متجاهلين حقائق التاريخ والجغرافيا والدّين، وصولاً إلى تنفيذ رغباتهم في السيطرة وتثبيت حكمهم.

ولقد استغلّت الدّول الغربيّة الرّأسماليّة التي حوّلت أنظارها صوب المنطقة هذه الصراعات الدّينيّة والمذهبيّة، فأجّجت بعضاً منها، كما ساندت معظم الحركات الدّاعية إلى إعادة بناء الدّول التي قسّمتها مساطرهم على أسس مذهبيّة تفرّق أكثر ممّا تجمع، فليس من الغريب أن أنشأت بريطانيا حركة الإخوان المسلمين، وليس غريباً أيضاً أن دعمت فرنسا حركة الخميني حتّى أوصلتها إلى سدّة الحكم في إيران.

فما أشبه اليوم بالبارحة، حيث تستخدم الدّول الغربيّة حركات الإسلام السياسيّ كأداة لها في إعادة تقسيم المنطقة ورسم خرائط جديدة على أسس مذهبيّة وعرقيّة، مسترسلة في إدامة دوامة العنف الأعمى التي تحصد أرواح ملايين البشر، ودون أن يَرُفَّ لها جفنٌ. وهذه النتيجة كانت متوقّعة منذ الانكسار الذي شهدته المنطقة والعالم بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي ومعه جبهة القوى اليساريّة، لتسعى الدّول الرّأسماليّة إلى إعادة إحياء الإسلام السياسيّ المتطرّف وينتشر في المنطقة كالنار في الهشيم، ولتُعاد صياغة المفاهيم والأفكار التي تُسيّر المجتمعات الشرقيّة تبعاً لأهواء زعمائها وقادتها الذين ربطوا مصير بلدانهم بالدول التي تدعمهم.

 

 

المراجع:

1 – عبّاس إقبال آشتياني …… “تاريخ إيران بعد الإسلام”.

2 – جعفر المهاجر…………. “الهجرة العامليّة إلى إيران في العصر الصفويّ”.

3 – كمال السيّد ……………. “نشوء وسقوط الدّولة الصفويّة”.

4 – وجيه كوثراني ………… “الفقيه والسلطان”.

5 – جودت القزويني ………..”المرجعيّة الدّينيّة العليا عند الشيعة الإماميّة”.

6 – حسن روملو ……………”أحسن التّواريخ”.

7 – علي أكبر ذاكري ……….”المشهد الثّقافيّ الشيعيّ في العصر الصفويّ”.

8 – محمّد يسري ……………”الصراع العثمانيّ – الصفويّ”.

9 – علي شريعتي …………..”التشيّع العلويّ والتشيّع الصفويّ”.

10 – محمّد جمال باروت……”الصراع العثمانيّ – الصفويّ وآثاره في الشيعيّة في شمال بلاد الشّام”.

11 – محمّد عبده ………….. “صحيفة العروة الوثقى”.

12 – حديث لأحد قادة الإخوان المسلمين مع كاتب الدّراسة عام 1991 في سجن صيدنايا.

13 – الدّكتور مطانيوس حبيب مقال نُشِرَ على موقع صحيفة الاتّحاد بتاريخ 3 آب / أغسطس 2018.

14 – تقرير صادر عن اللّجنة المشكّلة من قبل الحكومة البريطانيّة بتاريخ 17 كانون الأوّل / ديسمبر 2015.

15 – محمّد بن عبد الوهّاب ………… “التوحيد”.

كاتب

التعليقات مغلقة.