مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

التأثير الألماني على جمعية الاتحاد والترقي وتأثيرات هذه العلاقة على منطقة الشرق الأوسط -2-

عبد القادر رمو 

عبدالقادر ابراهيم رمو
عبدالقادر ابراهيم رمو

الحلم الكبير ( الجامعة الطورانية)

كان الفكر السياسي لجمعية (الاتحاد والترقي) يؤكّد على المفاهيم الطورانية على المستويين الداخلي والخارجي، والطورانية تسمية تشير إلى وطن الأتراك الأصلي، ونسبة إلى جبل (توران) الواقع شمال شرق إيران، وكان داخل حركة الاتحاد والترقي اتجاهٌ قويٌّ يؤكد أنّ الترك هم من أقدم أمم الأرض وأعرقها مجداً، وأسبقها إلى الحضارة، وأنّهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل، ويلزم أن يعودوا واحدا، ويسمون ذلك بـ (الجامعة الطورانية)، وكان شعارهم عدم التدين، وإهمال الجامعة الإسلامية، إلّا إذا كانت تخدم القومية التركية فتكون وسيلة لا غاية، وهذا الاتجاه يعني أنّه يدعو لإحياء عقائد الترك الوثنية السابقة كالوثني التركي: بوز قورت (الذئب الأبيض)، الذي صوروه على طوابع البريد، ووضعوا له الأناشيد وألزموا الجيش أن يصطف لينشدها، عند كل غروب، وكأنهم يحلّون تحية الذئب محلّ الصلاة مبالغة منهم، في إقامة الشعور العرقي محل الشعور الإسلاميّ، وهذا ما ولّد ردة فعل لدى مكونات الدولة العثمانية من عرب وكرد و أرمن وغيرهم، وارتكبت المجازر بحقّ هذه الشعوب، ممّا وسّع الشرخ بين شعوب المنطقة، وزرع بينها البغضاء تجاه الأتراك، وفيما بينهم حتى في سبيل تحقيق هذه الأيدولوجية.

التزاوج بين الفكر الطوراني والتطرف الإسلامي

إنّ الأيديولوجية التي انتهجتها جمعية (الاتحاد والترقي) و انتهجها الكماليون، ولايزالون ينتهجونها وينتهجها بشكل مقنع بالإسلام زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس تركيا الحالي (رجب طيب أردوغان)، وتتلاقى ضمنيّاً مع فكر الاتحاد والترقّي وحزب الشعب الجمهوري، والقوميين الأتراك، ويمضي قدما في تحقيق الحلم الطوراني حيث يجعل من الإسلام وسيلة، كما أوردنا سابقا للوصول إلى الغايات والأهداف التوسعية، ولتأمين دور محوري للعنصر التركي على الساحة الدولية والإقليمية، وما يحدث على مساحة الشرق الأوسط من سوريا إلى ليبيا وأوروبا والشرق الأدنى، من تدخّل تركي في شؤون الدول والشعوب وابتزاز الغرب بورقة اللاجئين، ودعم للفصائل الجهادية المتطرّفة، وما جلبته من ويلات على أوطانها من سفك للدماء، ونهب وسلب وتغييرات ديموغرافية، كما يحدث في مناطق (عفرين ورأس العين وتل أبيض) السورية وغيرها، وجلب العناصر الأجنبية وتوطينها، بدلاً من أصحاب الجغرافيا والتاريخ، والتذرّع بشعارات براقة؛ مثل حماية المدنيين، ودعم الشرعية، وحماية المسلمين والأقليّات. فإنشاء المنطقة الآمنة؛ ما هو إلّا تدخّل تركي لإكمال ما بدأ به الاتّحاديون الطورانيون من تفتيت واستباحة لأوطان الشعوب.

دور اليهود والماسونية والدول الغربية في تفتيت منطقة الشرق الأوسط

كان تأثير اليهود والماسونية والدول الغربية الطامعة في تركة الدولة العثمانية أمراً واضحاً، حيث أنّ أغلب قيادات جمعية (الاتحاد والترقي) كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، وكانت الجمعية تضمّ عدداً كبيراً من اليهود، وبشكل خاص يهود    (الدونمة) حتى أنّ معقل الجمعية الرئيسي كان في (سلانيك)، ويقول الكاتب (نيازي بريكس) في كتابه (المعاصرة في تركيا): “إنّ لليهود الأوربيين والمحليين في الدولة العثمانية في القرنين؛ التاسع عشر والعشرين دوراً ضخماً في إرساء تيار القومية الطورانية، فالعلماء اليهود في الغرب مثل (لون لي دافيد و ليون كاهون وأرمنيوس فاليري) تصدّوا للكتابة عن أصول الفكرة القومية الطورانية، كما أنّ اليهود المحليين في السلطنة مثل (عمانويل قره صو، وموئيز كوهين، وأبرهام كالانتي) كان لهم ضلع في جمعية الاتحاد والترقّي، وقد ذكر (نيازي بريكس) في كتابه هذا؛ بأنّ (موئيز كوهين) هو مؤسس الفكر القومي الطوراني في الدولة العثمانيّة، وبأنّ كتاب موئيز كوهين هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية، وكان موئيز كوهين نشطاً جدّاً في التعريف بحركة الاتحاد والترقّي في الصحف الأوربية، فقد كان يعرف إلى جانب اللغتين العبرية والتركية عدة لغات أوربية، وبدأ بمقال باللغة الفرنسية يحمل عنوان (الأتراك يبحثون عن روح قوميّة) لقد ساهم موئيز كوهين في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية التي سارت على نهجها جمعية الاتحاد والترقي والكماليين بعد ذلك، وهي السياسة التي شقت شعوب الدولة العثمانية، وأوجدت بينها العداوة والبغضاء، ورمت بالأتراك بين أيدي الدول الغربية الاستعمارية، وكان موئيز هذا لا يَكلّ ولا يَملّ من نشر الفكر القومي التركي لتفتيت الدولة العثمانية، وكتب ثلاثة كتب اعتمدتها جمعية الاتحاد والترقي وهي (1- ماذا يمكن أن يكسب الأتراك في هذه الحرب؟ 2- الطورانية، 3- سياسة التتريك) كما أسهم هذا الكاتب في كتابة الفكر الكمالي بكتابه (الكمالية) وكتابه (الروح التركية) الذي أرّخ فيه تطور العنصر التركي، لقد قامت جمعية الاتحاد والترقي على إثارة المشاعر القومية لدى الأتراك متأملين بتحقيق الحلم الكبير (الجامعة الطورانية)، وقد تقنّعوا بالمناداة بمفاهيم جديدة مثل الوطن والدستور والديموقراطية، وعضوية أعضاء جمعية (الاتحاد والترقي) في المحفل الماسوني في روما أمر يؤكده السفير البريطاني (جيرارد لاوث) فممّا جاء في رسالته: أنّ الماسونية الأوربية تسيطر على الاتّحاد والترقّي، وإنّها وراء الإطاحة بالسلطان العثماني لرفضه للصفقة، التي قدمها (تيدور هرتزل) مؤسّس الحركة الصهيونية: (هجرة اليهود إلى فلسطين وتسليمها لهم) مقابل مبالغ ذهبية بالجنيه الإسترليني، والمؤكّد أنّ إلغاء مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية في بدايات القرن العشرين، والتمكين للثقافة، والدولة العلمانيتين في تركيا كان بتحالف وتوجيه من الماسونية ودول الاستعمار الغربي، وكان على رأس هذه اللعبة (الإطاحة بالسلطان العثماني، وإلغاء الخلافة الإسلامية، والمجازر المرتكبة بحق شعوب الدولة العثمانية من أرمن و كرد وعرب وغيرهم، وتوريط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتغلغل الاتحاد والترقي في السلطنة ثم قيادتها، ثمّ التوقيع على معاهدة لوزان مع الحلفاء، مضمونها تنازل أتاتورك عن أراضي الدولة العثمانية لصالح المنتصرين في مقابل قبول قيام دولة تركيا دولة علمانية يقبلها الغرب، بينهم أحد اليهود المحليين اسمه؛ (عمانويل قره صوه)، وهو محامٍ يهودي إسباني الأصل، وهو من أوائل المشتركين في حركة تركيا الفتاة، وكان مسؤولاً أمام جمعية الاتحاد والترقي عن إثارة الشغب، والتحريض ضد السلطان، وتأمين التخابر بين سلانيك وإستنبول فيما يتعلّق بالاتصالات والحركة، وكان في اللجنة المشكّلة لإبلاغ السلطان عبد الحميد بقرار عزله وتولية شقيقه (رشاد)، وكان نائباً مرة عن سلانيك، ومرتين عن إستنبول، وكان معه في اللجنة كل من (آرام وهو أرمني، وعضو مجلس الأعيان العثماني، وأسعد طوبطاني، وهو ألباني الأصل، ونائب في مجلس المبعوثان عن منطقة – دراج – وعارف حكمت؛ وهو فريق بحريّ، وعضو مجلس الأعيان، وهو كربجي العراق، أمّا الجيش الذي زحف من سلانيك ودخل إستنبول، وأعمل فسادا وقتلاً ونهباً فيها خلال عملية خلع السلطان عبد الحميد الثاني، كان بقيادة (محمود شوكت)، وهو عربيّ الجنسية، ثمّ صارت تركيا بقيادة أتاتورك تلهث وراء التطبيع مع الغرب على حساب جيرانها ومواطنيها من عرب وكرد وغيرهم، وكانت ثاني دولة إسلامية بعد إيران الشاه التي قامت بالاعتراف بقيام دولة إسرائيل، وبعد اعتراف الولايات المتحدة بأسبوع فقط، وكانت تركيا رابع دولة بعد أمريكا وفرنسا وإنكلترا تستقبل ملحقا عسكريا إسرائيليا يمارس مهام عسكرية وأمنبية على أرضها، وفي آذار 1950م افتتحت تركيا سفارتها في تل أبيب، وكان (سيف الله أسبن) أوّل سفير تركي لدى إسرائيل، وفي نوفمبر 1950م ربط الرئيس التركي (جلال بيار) الأمن الإقليمي لتركيا، بالأمن العالمي، وبإسرائيل، واعتبر أنّ تركيا جزءاً من العالم الغربي، ودخلت في حلف الناتو، وظلّت تسعى إلى تنفيذ مشاريعه الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط، ولا زالت تركيا حتّى التاريخ الحاضر تتآمر مع الدول الأجنبية على تفتيت واحتلال وتقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وتعرقل أيّ عمل من شأنه أن ينهض بالمنطقة إلى مستوى ديموقراطي وتعايشي سلمي، يُبنى على احترام المكوّنات لبعضها، ويحفظ لكلّ مكوّن خصوصيته، وما حربهم ودعمهم للمتطرفين الإسلاميين على مناطق شمال وشرق سوريا، واحتلال المنطقة الممتدة من جرابلس إلى لواء الإسكندرون في سوريا إلّا لمنع حدوث نهضة فكرية وعلمية واجتماعية، تجلب الاستقرار إلى سوريا خصوصاً والشرق الأوسط عموماً.

الختام

نرى ممّا سبق أنّ الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، والدولة التركية في القرن العشرين خضعت لتأثير الدول الغربية، فخوفاً من روسيا القيصيرية ارتمت عند أقدام الألمان والأوربيين، ودخلت في تحالفات وحروب جلبت الويلات لها وللشعوب التي كانت تنضوي تحت سيادتها، وارتكبت أفظع المجازر بحقّ الشعوب حتّى أنّ السلطان العثمانيّ؛ عبد الحميد الثاني لُقّب بالسلطان الأحمر؛ لكثرة ما سفك من دماء في عصره، هذا اللقب أعطاه إياه الغرب؛ بسبب الإبادة التي قام بها العثمانيون بحقّ الأرمن، علماً أنّ الضحايا لم يكونوا من الأرمن فقط، بل من المناطق التي حدثت فيها هذه المجازر، والتي كان يقطنها الأكراد والآذريّون والعرب وحتى التركمان، إلى جانب الأرمن، ولم يكن الأرمن يحققون نسبة النصف مئوية فيها، لكن بسبب انتمائهم الديني جعلت الدول الغربية المسيحية القضية قضيتهم فقط، وهناك مجازر أخرى ارتكبها الأتراك بحق الكرد في مناطق كردستان، وصلت إلى إبادة وإحراق آلاف القرى والبلدات الكردية، وبحقّ العرب في مناطق سوريا ولبنان من قبل جمال باشا الذي لقبه العرب بالسفاح؛ لكثرة ما سفح من دماء الأبرياء والمناضلين، ومازالت طاحونة الدم التركية الطورانية مستمرة في نهجها، وما التقارب الحالي بين تركيا وروسيا إلّا في نفس مصبّ ذلك الفكر الطوراني، والحلم بتحقيق مكانة بين الدول الكبرى، لتركيا في الساحة الدولية، وذلك من خلال الحفاظ على مسافة واحدة بين الروس والغرب دون المساس بمصالحهم المفصلية، وهذه العلاقات التي تبنيها تركيا في سبيل تحقيق الأحلام الطورانية لها تداعيات كارثية على منطقة الشرق الأوسط، فتبقيه بؤرةً للاقتتال البيني، والتأخّر العلمي، والتخلف المعرفي والاقتصادي، وتأجيج الروح الطائفية والعدائية بين المكونات المجتمعية للشرق الأوسط، وتبقيه أرضية خصبة لاستمرار التنظيمات الإرهابية المتطرّفة وتكرار ظهورها، وضمان بقائها ساحة للتدخلات الخارجية، فمشروع الكتلة التاريخية التركية هو مشروع معادٍ للديموقراطيّة، وهو نابع من الأيديولوجيا الأصلية لجمعية (الاتحاد والترقّي) التي كانت مكوّنة من مجموعة متنوعة متأثرة بجذور فكرية غربية لدول استعمارية معظمها فرنسية ألمانية.

____________________________

المراجع

  • حسن السرات: تحالف الماسونية واليسارية في العالم
  • أ- مصطفى عاشور: عبد الحميد الثاني وجدل لم ينتهي في ذكرى ميلاده
  • محمد طلابي: من أجنحة المكر الماسونية
  • أحمد نوري النعيمي: اليهود والدولة العثمانية
  • محمد السوسي: السلطان عبد الحميد والتآمر الصهيوني على فلسطين
  • محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة
  • سميرة سليمان: ذكرى سقوط الخلافة العثمانية … إمبراطورية دان لها العالم وخذلها سلاطينها
  • د – أ – عبد الرؤوف سنّو
  • محمد عبد الرحمن عريف
  • نيازي بريكس: كتابه المعاصرة في تركيا
  • المستشرق الروسي: فاسيلي بارتوولد – كتابه تاريخ الترك في آسيا الوسطى
  • الدكتور عبد الوهاب المسيري : اليد الخفية دراسة عن الحركات اليهودية الهدامة والسرية
  • أحمد السباعي أديب سعودي
  • نادية محمود كاتبة

كاتب

التعليقات مغلقة.