مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

بذور الفاشية البدئية الإسلاموية نحو الراديكاليةُ الإسلامويةِ اليمينيةِ الراهنة -1-

عبد الله أوجلان

عبدالله أوجلان
عبدالله أوجلان

تمهيد :

المطلب الأول – أهمية البحث في الإسلام: ما هي الثقافة المعنوية والمادية لحفاظ الإسلام على أهميته المرحلية؟ وما هما ثنائيتا الله ومحمّد في الإسلام؟

المطلب الثاني – تأثير التجارة على حياة محمّد: النبيّ محمد والأديان الإبراهيمية ،استشراء النظام العبوديّ، وعبودية النساء، النزاعات الطبقية والاجتماعية، الحرب ما بين الأرستقراطية الفوقية الوثنية التقليدية المتصلّبة، وبين الطبقة التجارية الوسطى حديثة العهد، والصراع الأيديولوجيّ في مكّة.

المطلب الثالث – عهد المدينة المنورة: كيف أصبح عهد المدينة المنورة المرحلة التي شهدت ترتيب المعاهدة الاجتماعيّة والسياسيّة اللازمة، الاستيلاء الأرستقراطية القريشية على الدولة الجديدة باسم السلالة الأموية في فترة وجيزة جدّاً؟

المطلب الرابع – ما هو “الله” عند محمد؟

المطلب الخامس – الفارق ما بين آلهة المجمّع السومريِّ والثقافة المعنوية والذهنية المجتمعية في عهد محمد: ما هي التركيبة الديمقراطية لمحمّد، وكيف تمّ تأميم الاحتكارات (الغنيمة) كخطوة نحو الديمقراطيّة، وكيف تمّ انفتاح الإسلام الوليد حديثاً على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ وما هو مشروع إقرار منهاج التحوّل المجتمعيّ؟

المطلب السادس – ما هو الترتيب الأصحّ للظواهر والفترات التاريخية الإسلامية المهمّة، وإضفاء المعنى عليها؟ ما هو الإسلام العربي والإسلام الثوري؟ ولماذا يعتبر الإسلام العربي إسلاماً مضاداً؟ وما هو الانقسام الراديكالي الذي حصل في المدينة الإسلاميّة؟ وكيف انجراف الإسلام في بوتقة السلطة؟ ما هو الإسلام السنّي؟ وما هي الراديكالية اليمينيّة الحاضرة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث

أهمية البحث في الإسلام

يتميزُ البحثُ في الحقيقةِ المعروضةِ باسمِ الإسلامِ بأهميةٍ تُعادِلُ أهميةَ البحثِ في ما يُمارَسُ باسمِ الرأسماليةِ بأقلِّ تقدير. وهكذا نوعٌ من النشاطاتِ ضروريّ، ليس على صعيدِ تاريخِ المدنيةِ الشرقِ أوسطيةِ فحسب، بل ولأجلِ قراءةٍ وتدوينٍ سليمَينٍ للتاريخِ الكونيِّ أيضاً. فكيفما أنه وبحُكمِ الدياليكتيكِ يستحيلُ تَكَوُّنُ عالَمِ الظواهرِ المُسَمّاةِ بالرأسماليةِ وحداثتِها من دونِ إسلامِ العصورِ الوسطى، فمن المستحيلِ أيضاً التأسيس لحياةٍ اجتماعيةٍ قَيِّمَةٍ قابلةٍ للاستمرار بها في حاضرِنا، ما لَم تُحَلَّلْ كِلتا الظاهرتَين والعصرَين بنحوٍ صحيح.

ينبعُ حِفاظُ الإسلامِ حتى الآن على أهميتِه المرحليةِ من جوهرِه الدياليكتيكيِّ ذاك. فالإسلامُ سلسلةٌ من الظواهرِ التي كثيراً ما يُلفَظُ اسمُها دونَ إدراكِ فحواها. كما لَم يُعَرَّفْ حتى الآن قطعياً. وربما أنه مجموعةُ ظواهر معَقَّدةٍ وضبابيةٍ لدرجةِ استحالةِ تعريفه. بل ولا يَدُورُ الجَدَلُ بتاتاً حولَ ماهيةِ ومدى الواقعِ الذي يَعكسُه. حيث يَقُومُ الصيامُ إكراماً له، وتُعقَدُ الصلاة، وتُعطى الزكاة، ويُدارُ الذِّكْر، وتُخاضُ الحربُ في سبيلِه؛ ولكنّه بذاتِ نفسِه ملتَحِفٌ بالألغازِ بكلِّ معنى الكلمة. والسؤالُ الواجبُ طرحه هو: لماذا إذن يبقى حيث الساعةِ إلى هذه الدرجة؟ ما الذي حَلَّه الإسلامُ في الشرقِ الأوسط؟ أَهُوَ حَلاّلُ القضايا أم أنه نظامٌ تَصَوُّرِيٌّ مُوَلِّدٌ لها؟ ما الذي ينبغي إدراكه من أساسِه الماديّ؟ أَهو دولةٌ أم جماعة؟ ما هو المقابل والمرادف والمعنى الاقتصاديُّ والاجتماعيُّ والسياسيُّ له؟ ومصطلح “الفتوحات” الإسلاميُّ هو أداةُ ماذا؟ بالمستطاعِ بل ومن الضروريِّ جداً الإكثار من تساؤلاتٍ كهذه. ذلك أنَّ مجموعةَ الظواهرِ المسماةِ بالعالَمِ الإسلاميِّ الراهنِ تتخبطُ في العجزِ لدرجةٍ لا تَقدِرُ فيها على تعريفِ أو تحليلِ نفسِها، بل وتُعاني سَيرورتُه من التفسُّخِ الاجتماعيِّ الذي يمضي (أو يعجزُ عن المُضِيِّ قُدُماً) بمظاهرِ الانتحارِ اليومية.

ومثلما هي حالُ الثقافةِ المعنويةِ لهذه الظاهرة، فإنّ ثقافتَها الماديةَ أيضاً تُذَكِّرُ بمجموعةِ الأدواتِ الأكثر تَقَلقُلاً وتَخَلخُلاً، والمتفسخةِ والمتناثرةِ والهُلاميةِ التي تفتقرُ إلى الحدودِ المرسومةِ والمضمون الواضح. والأصحُّ هو إما عدم استخدامِ هذا الاسم، وإذا كان هذا غير ممكن، فالانتقال به إلى نظامٍ بائنِ الأطرافِ والحدودِ وواضحِ السُّبُلِ في رسمِ القضايا وحَلِّها. فالمدنيةُ الغربيةُ لا تزالُ مواظِبةً على حملتِها الكونية، عالِمةً علمَ اليقينِ بما تَفعلُه. ذلك أنه بحُكمِ بُنيةِ نظامِها، فهي تتحلى بالتعبئةِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ التي تُخَوِّلُها لتَذليلِ القضايا التي تَعتَرِضُ دربَها، مهما عانت الأزماتِ والمآزق. كما أنَّ معاناة الغرب للمشقّاتِ على يدِ مجموعةِ الظواهرِ الإسلاميةِ في الشرقِ الأوسطِ حقيقةٌ قائمة. لا أتحدثُ فقط عن المصاعبِ التي تُعانيها أمريكا في المنطقة. بل إنَّ المدنيةَ الأوروبيةَ تَلقى المصاعِبَ وتتأَزَّمُ في مسيرتِها عموماً وخلالَ القرنَين الأخيرَين خصوصاً تجاهَ الشرقِ الأوسطِ الإسلاميِّ الذي تُسَمِّيه بـ”قضية الشرق”. لكنَّ الضررَ والدمارَ والعُقمَ الأفدَحَ يَتَكَبَّدُه العالَمُ المسمى بالإسلاميّ. واستحالةُ استمرارِ الوضعِ أمرٌ بائنٌ للعيانِ بدرجةٍ تَفقَأُ عيونَ العالَمِ أجمع. أما الحل، فلا شكَّ أنه يَمُرُّ من التحليلِ الذهنيِّ للظاهرةِ التي تَقِفُ أمامَنا، بقدرِ ضرورةِ صياغةِ الأجوبةِ اللازمةِ بصددِ إعادةِ هيكلتها.

يَغدو اسما “محمد” و”الله” ثُنائياً فائقَ الأهميةِ ولا يتجزأ لدى الحديث عن الإسلام. وما مِن حزمةِ ثنائياتٍ اتَّسَمَت بهذا الكمِّ من التعبيرِ المصيريِّ بالنسبةِ لشعوبِ الشرقِ الأوسط. فقد تمَّ خَوضُ الحروبِ المُهَوِّلةِ كَرمى لهذَين الاسمَين تُعادِلُ في حجمِها ما تَكَوَّنَ من كَمٍّ هائلٍ من الوِدِّ حولَهما. ومن العَصيبِ العثورُ على مجموعةِ مفرداتٍ ثنائيةٍ أخرى تَحمِلُ بين طَواياها هذا التنافُرَ والتضادّ. السؤالُ الأساسيُّ الواجبُ طرحه هو: لِمَ هما كذلك، وهل حقاً نَحيا هذه الثنائيةَ ونُحييها عن وعي؟ إني واثقٌ من سلبيةِ الجواب. وإلاّ، لَما كان التاريخُ والحاضرُ في الشرقِ الأوسطِ تَعَسُّفِياً إلى هذه الدرجة، ولَما تمَّ عيشُه بهذا المنوال، ولَما حِيكَ هذا الكَمُّ الهائلُ من العُقَدِ الكأداء. ما أرمي إليه هنا هو رسمُ خطٍّ بيانيٍّ للمعنى. وبإمكانِ المعنيين أن يستفيدوا منه.

تأثير التجارة على حياة محمّد

يُعدُّ محمد ظاهرةً مندرجةً ضمن إطارِ الأديانِ الإبراهيميةِ دون ريب. لكنّ حياتَه وأقوالَه ليست مُبهَمَةً أو ضبابيةً بقدرِ إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء. فالمعلوماتُ بحَقِّه أكثر عَينِيَّةً. أو على الأقل، بالمقدورِ متابعة نسبةٍ مهمةٍ من ظواهريةِ حياتِه وأحداثِها بشكلٍ ملموس. لكن، علينا ألاّ نَخدَعَ أنفسَنا بالاعتقادِ بأنّ هذا الوضعَ سيُنيرُ موضوعَنا. بل وعلى النقيض، ربما يُفضي إلى مزيدٍ من التعقيد. فالعَينِيُّ ليس ملموساً دائماً قدرَ ما يُظَنّ. ومحمد عَينِيٌّ من النوعِ الذي ليس عَينِيّاً. أي أنه الملموسُ الذي ليس ملموساً. علينا بالانتباه الدائم في زاويةٍ من ذهنِنا إلى التناقُضِ الذي يُفيدُ به هذا المصطلح. فظاهرياً، أو عَينِيّاً، محمد هو ابنُ عبد الله وآمنة اللذَين هما من عائلةٍ فقيرةٍ من القبيلةِ الهاشميةِ التي هي من قبائلِ قُرَيش التي غالباً ما انشغلَت بالتجارةِ وتُعَدُّ من أشرافِ مكة اللامعين. يُقالُ أنه أَظهَرَ بعضَ المعجزاتِ في صِغَرِه. وتمتدُّ هكذا سرودٌ في ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ إلى عهدِ سارغون، وعادةً ما وُجِدَت لائقةً بكلِّ شخصيةٍ أَنجَزَت انطلاقةً مهمة. ربما هو كذلك! إذ يَدخُلُ في خدمةِ خديجة، التاجرةِ القديرةِ في زمانِها، ويَخرجُ مراتٍ عديدةً مع القوافلِ بين الشام ومكة. وذاتَ مرة، يتعَلَّمُ الكثيرَ من الراهبِ النسطوريِّ بَحيرى في مدينةِ بُصرى الرومانيةِ ذائعةِ الصيت التي تَقَعُ على دَربِهم. لقد شاهدتُ تلك المدينةِ بنفسي، وزرتُ أطلالَها مراتٍ عديدة. كما ذهبتُ إلى كنيسةِ الراهبِ بَحيرى هناك، حيث كانت ممتلئةً بالأوساخ. لقد كان الرهبانُ النسطوريون ذوي تأثيرٍ بارزٍ جداً في عهدِهم، وكانوا المجموعةَ الأهمَّ في سياقِ التطوراتِ الأيديولوجية.

لقد كانت الشام مدينةً تجاريةً وثقافيةً مهمةً في عهدِها آنذاك، ومليئةً بالعِبَرِ والدروس. كما تتميزُ بَوَّابَةُ خروجِها من الصحراءِ ببُنيةٍ طبيعيةٍ وبيولوجيةٍ رائعةٍ لدرجةٍ تَكُون فيها أقرب إلى عَتَبَةِ الجنة. ومكةُ أيضاً مدينةٌ تجاريةٌ مهمة. إنها مدينةٌ وَلَّدَتها التجارة. وهي بمثابةِ عاصمةِ خطِّ الشام– البحر الأحمر وما وراءَه. والتعددُ الدينيُّ والثقافةُ الوثنيةُ رائجتان في تلك المدينة. هذا لَم يَكُن المُرَوِّجُون للدينِ التوحيديِّ باسمِ الصابئةِ والحَنَفِيّين أيضاً بالقليلين. باختصار، فالمدينةُ تَطفَحُ بالأملاكِ والبضائعِ والثقافاتِ والأديانِ والآلهة. وفَقرُ محمد وتتويجُ علاقتِه مع خديجة بالزواجِ أمرٌ مهمٌّ هنا. فهذا الزواجُ هو نَقلةٌ طبقيّة. ومحمد بذلك يَحظى بامتيازاتِ البورجوازيةِ الوسطى. وسيَكُونُ لذلك نتائجُه لاحقاً. إذ يُولَدُ له أطفال، ويَحتَدُّ تناقُضُه مع الفروعِ الأخرى من قُرَيش تماشياً مع تعاظُمِه وتَطَوُّرِه. فالفروعُ الأخرى من قُرَيش تُمَثِّلُ الأرستقراطيةَ القَبَلِية. وهي لا تَسمَحُ بتَقَدُّمِ محمد أكثر، بل وتَزرَعُ القَلاقِلَ الجديدةَ على دربه يومياً. إنه صراعٌ طبقيٌّ جادٌّ يتنامى ضمن حَيِّزِ القبيلةِ نفسِها.

والحالُ هذه، فالأمرُ المهمُّ الذي يتوجبُ تشخيصه هو أنّ أُولى عملياتِ محمد كانت ذات طابعٍ طبقيٍّ إلى درجةِ أنها تَحَقَّت ضمن القبيلةِ ذاتِها. أي أنّ محمد مُقاتِلٌ طبقيّ. أيةُ طبقة؟ واضحٌ للغاية: إنها الطبقةُ التجاريةُ الوسطى التي تَمَوقَعَ فيها بالذات لتَوِّه. فقَرينةُ “خديجة– محمد” تُعوِّلُ بكلِّ تأكيدٍ على ريادةِ طبقةِ التجارِ التي تشهدُ مرحلةَ الولادة في مكة. ومَن هي القوةُ المُقابِلة لهم؟ إنها الأرستقراطيةُ القَبَلِيةُ التقليدية. فهم أيضاً يُؤَمِّنون السمسرةَ والربحَ من التجارة. لكنّ دورَهم الأساسيَّ مرتبطٌ بالسلطةِ السياسية. أما الكونفدراليةُ القَبَلِيةُ التي تُعَدُّ بمثابةِ جَنينِ الدولةِ التي هي على وشكِ الولادة، فيَغلبُ احتمالُ أنْ تَكُونَ شكلَ الحُكمِ في مكة. فاستشراءُ النظامِ العبوديّ، وعبوديةُ النساءِ الأكثر تَجَذُّراً، وانحطاطُ شأنِهنّ لدرجةِ وَأدِ البناتِ الصغيرات وهُنَّ على قيدِ الحياة؛ كلُّ ذلك يَعكِسُ الطابعَ العبوديَّ للحكمِ الأرستقراطيِّ بكلِّ وضوح. فضلاً عن أنَّ وجودَ الأوثانِ الثلاثةِ الكبرى (اللات والمناة والعزى) في مُجَمَّعِ آلهةِ مكة يَدُلُّ على تَكَوُّنِ فرعِ الثالوثِ الإلهيِّ لنظامِ المدنيةِ التقليديِّ في مكةَ أيضاً. وهذا ما يَعكِسُ الطابعَ التقليديَّ والهرميَّ والسومريَّ للحُكّام. أما اعتناقُ الأرستقراطيةِ للدينِ الوثنيِّ رسمياً، فيُوَضِّحُ إلى حدٍّ بعيدٍ بواعثَ كَونِ محمد مُناهِضاً للصَنَمِيّةِ بهذه الحِدّة.

عليَّ التشديدُ على أنه في كلِّ فترةٍ تاريخيةٍ تَنشبُ النزاعاتُ الطبقيةُ والاجتماعيةُ الأخرى في عالَمِ المصطلحاتِ أولاً، وتُخاضُ بالأخصِّ بين الأيديولوجياتِ الرسميةِ وغيرِ الرسمية. الوقائعُ الاجتماعيةُ الماديةُ تُنَمّي ذاتَها بالتعبيرِ عن نفسِها عبر الثقافةِ المعنوية. كما استُخدِمَت الحروبُ الميثولوجيةُ والدينيةُ والصراعاتُ الفلسفيةُ منذ المدنيةِ السومريةِ إلى الإغريقية كأشكالٍ للتعبيرِ عن النزاعاتِ في الثقافةِ المادية. لقد كان استخدامُها ضرورةً حتمية، إذ لا يُمكِنُ الصراعُ بمِنوالٍ آخر. فالبُنيةُ الماديةُ لا تَتصادَمُ مع بنيةٍ ماديةٍ أخرى لأنها كومةٌ من الأدواتِ والموادِ الجامدةِ التي لا تعبيرَ لها. لذا، فالصراعُ عليها غيرُ ممكنٍ إلا من خلالِ البشرِ الأحياءِ بأقوالِهم وأعمالِهم. والمهمُّ في العلاقةِ التي بينها هو القدرةُ على التشخيصِ السديدِ لِماهيةِ ظواهرِ الثقافةِ الماديةِ التي تَعكِسُها، بل وحتى تُكَوِّنُها الثقافةُ المعنويةُ وتَصَوُّراتُ المعنى، وبأيةِ آليةٍ (بناء) تَقُومُ بذلك.

إذن، لا بُدَّ من صياغةِ النزاعِ في مكة بهذا التعبيرِ العلميّ: يَنشُبُ اشتباكٌ ثم نزاعٌ أو حربٌ أيديولوجيةٌ تتحول تدريجياً إلى حربٍ مَيدانيةٍ بين الأرستقراطيةِ الفوقيةِ الوثنيةِ التقليديةِ المُتَصَلِّبَة، وبين الطبقةِ التجاريةِ الوسطى حديثةِ العهد، بحيث تميزَت تلك الحربُ بالضراوةِ نفسِها. ترتيبُ جريانِ الأحداثِ ليس من مَهَمَّةِ هذه السطور. فالمهمُّ هنا هو صُلبُ الواقعِ المُستَتِرِ وراءَها. ولا يُساوِرُني الشكُّ في أنَّ هذا هو المضمونُ والجسمُ المَكشوفُ للحقيقةِ الكامِنةِ خلفَ ذاك النزاع. إذ يُخاضُ صراعٌ أيديولوجيٌّ في عهدِ مكة. وقد خاض إبراهيم نزاعاً مماثلاً عندما كان في أورفا، حيث انتهى به الأمر بالهجرة. فانطلاقتُه أيضاً كانت انطلاقةَ طبقةٍ تجارية. والصراعُ الذي خاضَه موسى أيضاً في مدينةِ فرعون كان في مَطلَعِه أيديولوجياً، أي مَعنياً بالمصطلحِ والمعنى. والنهايةُ كانت الخروجَ مرةً أخرى، خروجاً شاملاً بحَجمٍ أكبر للقبيلةِ التي انهَمَكَت قديماً بشؤونِ تربيةِ الدَّوابِّ والمواشي والمتاجرةِ بها. أما انطلاقةُ عيسى، فمختلفة. أو على الأقل، فالمقاوَماتُ والانطلاقاتُ الجاريةُ في القرونِ الثلاثةِ الأولى، تمثِّلُ صراعاً يهدفُ إلى التحولِ إلى مجموعةٍ اجتماعيةٍ جديدة من مجموعِ الشرائحِ الاجتماعيةِ الخارجةِ عن النظام، والتي تعاني فيه من الإقصاء. لقد كانت انطلاقةً كونيةً لأجلِ ذلك. بينما انطلاقةُ محمد هي انطلاقةٌ ملموسةٌ لتُجَّارِ الطبقةِ الوسطى.

 

عهد المدينة المنورة

يُعَبِّرُ عهدُ المدينةِ المنورةِ عن المرحلة التي شهدت ترتيب المعاهدةِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ اللازمة لذلك. والمعاهدةُ الجديدةُ هي مَخطوطُ دولةٍ جديدة. فالعملياتُ السياسيةُ والعسكريةُ المستمرة مدى عشرِ سنين تقريباً، كانت كافيةً لوِلادةِ دولةٍ كبيرةٍ في مدينة صغيرة. وما تَبَقَّى هو قضايا وحروبُ الانتشارِ الممتدة زماناً ومكاناً بسرعةٍ عُليا واتساعٍ كبير. النقطةُ المهمةُ التي ينبغي إدراكها هنا، هي القدرةُ على مقارنتِها مع شبيهاتِها في التاريخ. فقد أُسِّسَت العديدُ من الدولِ التي اتَّخَذَت التجارةَ أساساً لها في الشرقِ الأوسط، وعلى رأسِها الدولةُ الآشورية. علماً أنه للاحتكارِ التجاريِّ مكانُه ويَدُه الطولى حتماً في تشييدِ صرحِ كلِّ دولة، وذلك كقُطبٍ قائمٍ بذاتِه. إذ لا تَتواجدُ الدولةُ من دونِ احتكارٍ تجاريّ. ينبغي ألا يَغيبَ عن بالِنا أبداً أنَّ الجانبَ الساحقَ للدولةِ يتشكلُ من الاحتكارِ التجاريّ.

الفارقُ الذي يُمَيِّزُ سيدنا محمد مثلما شوهد في معاهدةِ المدينةِ المنورة، هو نجاحُه في إشراكِ القبائلِ العربيةِ في هذه المعاهدةِ لأولِ مرة، حيث لَم تَطَلْها بَعدُ يَدُ المدنيةِ الوطيدةُ بشكلٍ كليّ، وكانت كالمِرجَل الذي يَغلي فيه الماء. ما جَعَلَ محمداً مُنفَرِداً بذاتِه هو خَلقُه دولةً من قبيلته العربية. فالتحوُّلُ إلى دولةٍ يعني التحوُّلَ الاحتكاريَّ السريعَ في ميادين ثلاثة: الزراعة، الحِرفة والصناعة، والتجارة. والاعتمادُ على تلك الاحتكاراتِ الثلاثةِ في نَهبِ وسَلبِ الفوائضِ الاجتماعية، التي يَعودُ أصلُها في مجتمعِ الشرقِ الأوسطِ إلى ما قبل ولادةِ مدينة إستنبول، ويُقارِبُ عمرُها ثلاثةَ آلاف وخمسمئة عام؛ إنما يُعَدُّ وصولهم إلى مكتسبات مادية مذهلة. فهو يعني بلوغَ رأسِ مالٍ ضخمٍ في أسرعِ وقتٍ ممكن. فحتى مُجَرَّدُ شَمِّ رائحةِ الاحتكاراتِ الثلاثةِ كافٍ لأجلِ شنِّ “حربٍ شعواء جنونية” بالنسبةِ لتلك القبائلِ التي تحيا منذ آلافِ السنين على تُخُومِ المجاعةِ في البلادِ العربيةِ المتزايدةِ تَصَحُّراً باطِّراد. وتَكمُنُ مهارةُ محمد في قدرتِه على رؤيةِ واستشفافِ وإدراكِ كيفيةِ قيامِ المدنياتِ العملاقةِ الثلاثِ المُحيطةِ بالقبائل، أي المدنياتِ الساسانيةِ والبيزنطيةِ والحبشية، بتَضييقِ الخناقِ على القبائلِ العربيةِ في بلادِ العربِ من الجهاتِ الأربعِ منذ آلافِ السنين. بل والجانبُ الأهمُّ من مهارتِه يتجسدُ في تحويلِ هذا الواقعِ الماديِّ من خلالِ أقوالٍ دينيةٍ باهرة إلى واقعٍ معنويّ، أي إلى الإسلام، وفي دفعِ المجموعاتِ القَبَلِيِّةِ تحت هذا الاسمِ وبالبراعةِ عَينِها إلى الممارسة، أي في تحفيزِها على القتال. أي أنّ الحربَ الإسلاميةَ تعني الثمالةَ بالرائحة المعنوية للاحتكار المعروض عليهم، واستعراضَ طاقات القبائلِ المتحَمِّسَةِ على مسرحِ التاريخ، ونقلَها إلى مناطقِ المدنيةِ المركزية؛ وذلك بالصُّراخِ الجَهور، بالسيف، بالدم، بالإيمانِ والغنيمة!

لا أَستَخدِمُ هذه المصطلحاتِ بغرضِ استصغارِ قِتاليةِ القبائلِ العربية. بل وأرى داعياً للقيامِ بتمييزٍ عالي الجديةِ هنا. فالفُقَراءُ من القبائل كانوا فعلاً يُؤمِنون أو حُفِّزوا على الإيمانِ بالأيديولوجيةِ المُعَدَّةِ باسمِ الإسلام. وكان إيمانُهم مُذهلاً بأنهم يَخوضون حرباً مقدسة، فلَم يُساوِرْهم الشكُّ ولو مثقال ذَرَّةٍ حول قتالِهم في سبيلِ الله. ولكن، لا يُمكنُ قول الشيءِ نفسِه بالنسبةِ لأرستقراطيةِ القبيلةِ وهيئتِها القياديةِ بأكملِها. إذ شَمّ القسمُ الأكبرُ من هؤلاء رائحةَ الاحتكارِ في الأمرِ مُذ كان محمد على قيدِ الحياة، وأَدرَكوا أنَّ الجزءَ المعنيَّ بـ”الله” مُجَرَّد صَخَبٍ كَلامِيٍّ أو تَرويجٍ دعائيّ. وبالأصل، فقد كان هؤلاء سيستَولون على الدولةِ الجديدةِ باسمِ السلالةِ الأمويةِ في غضونِ فترةٍ جدِّ وجيزة (خلال حوالي عشرين عام إذا ما أضَفنا عهدَ الخلفاءِ الأربعِ أيضاً).

ما هو “الله” عند محمد؟

يجب التوقف قليلاً هنا. ما هو “الله” عند محمد؟ أَهو مصطلحٌ أم حقيقة؟ لقد باتت المدنيةُ الأوروبيةُ القوة المهيمنة عالمياً بالتأسيسِ على إثارةِ النقاشِ حتى النهاية، للردِّ على هذا السؤالِ الأخيرِ على صعيدِ الدين المسيحيّ. بناءً عليه، يَكاد يَكُونُ لا مَنفَذَ آخر أمامَ المعنيين بالإسلام، سوى إبداء القدرةِ –ولو متأخراً جداً– على خوضِ المناقشاتِ حتى النهاية حولَ هذا السؤال، وصياغةِ أجوبةٍ له. ولو وُجِدَ مَنفَذٌ آخر، فهو سبيلُ رفضِ الإسلامِ كلياً. وبما أنّ احتمالَ ذلك ليس قائماً كثيراً، فلا مفرَّ إذن من صياغةِ الجواب.

ينحدر اسمُ الله من جذرِ “أل El”، الذي له ماضٍ سحيقٍ في أتيمولوجيا اللغاتِ الساميّة. ومثلما ذكرتُ سابقاً، فهو يتميزُ بمضمونٍ قَرينٍ لمصطلحِ “السُّمُوّ”، ويعادِلُ الإلهَ العامَّ المُجَرَّد للقبائلِ الساميّة. ويُخَمَّنُ أنه أُخِذَ من المجموعاتِ الكنعانيةِ الساميّةِ بوساطةِ القبيلةِ العبرية. ويرتقي “أَلاه Elah” الذي في التوراةِ إلى “الرب Rab”، وفي المسيحيةِ إلى “الأب– الابن– الروح القدس”، ليصبح “اللهَ Allah” مع ظهورِ محمد. أصلُ الكلمةِ واضحٌ اصطلاحاً. لن أدخُلَ في موضوعِ الإلهياتِ هنا، إذ كنتُ قد طرحتُ مَدخلاً موجَزاً مِن قبل. ولكن، بوِسعي إضافةَ التالي: مصطلحا محمد والله انعكاسٌ للعناصرِ الماديةِ والمعنويةِ في الثقافةِ الاجتماعيةِ على شكلِ رمزِ هوية. وقد أشارَ إلى ماهيةِ معنى المجتمع. فلدى مناداةِ محمد بالمجتمعِ أجمع، إنما كان يَرمي بذلك إلى “مجتمعِ المدينةِ المنورةِ” أي “المجتمعِ الإسلاميِّ” المتَكَوِّنِ أو المُشادِ حديثاً. ولفظُ الله يُستَخدَمُ بمعنى روحِ وطاقةِ جميعِ عناصرِ المجتمعِ الماديةِ والمعنوية. فالمجتمعُ المُشَيَّدُ هو مجتمعُ الله. وبالأصل، فهكذا تعابير تُستَخدَمُ برَواج. وما مِن ذَرَّةٍ واحدةٍ من هذا المجتمعِ إلا وأحاطَ بها الله. يَقومُ محمد بتوسيعِ المصطلحِ أكثر، بحيث يُصَيِّرُه مقتدراً على خلقِ كلِّ شيءٍ ماضٍ وحاضرٍ ومستقبَليّ. وهنا ثمة انفتاحٌ مماثلٌ تماماً لميتافيزيقيةِ هيغل. أما الإلهُ العبريّ، فكان محدوداً أكثر. و”الديميورغ ” الذي لدى الإغريق كان يؤدي دوراً معمارياً فيما هو قائمٌ فقط. أي أنه لَم يَكُن مُبدِعاً. المُناقَشَةُ حولَ الإبداعِ أيضاً تَدُورُ بمنوالٍ خاطئ. فالإبداعُ لدى محمد لا يعني الإبداعَ الفظ.

كاتب

التعليقات مغلقة.