مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

التطرف

د. زهير كاظم عبود

زهير كاظم عبود
زهير كاظم عبود

يطلق تعبير (التطرف) على التوجه الفكري السياسي أو الديني البعيد عن الواقعية، والذي يتسم بتوجه يعتمد العنف أو القسوة أو الغلو في أغلب الأحيان، أو أنه يعتمد وسائل وطرق غير مبررة لتحقيق الأهداف والغايات التي يقصدها، كما يمكن أن يكون التطرف متناقضاً بشكل متباين مع الاعتدال والتعقل، ومرادفاً للتعصب والانغلاق.

كما يطلق على الشخص (المتطرف)، باعتباره يمارس توجهاً متطرفاً يتسم بالغلو، ويمتاز بعدم قبوله فسح المجال للنقاش أو التقابل في الأفكار، وعدم وجود مرونة في المعتقد.

والمتطرف يعني الابتعاد عن الاعتدال، والبعيد عن الوسطية أيضاً. وظاهرة التطرف وإن كان لها جذور في بلداننا، إلا أن هذه الجذور تضعف أو تشتد تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية، وتبعاً لتنامي الفكر والثقافة والمعرفة واتساع دائرة الوسطية والفكر المعتدل والانفتاح والتعقل، بعكس تكاثر المبتعدين عن الغلو، وفرض الرؤية الواحدة على الغير، واعتبار كل فكر أو رؤى مخالفة لعقيدة المتطرف خطأ. والمتطرف يبالغ في تجاوز حدود المقبول والمعقول في فكره، ولعل ظاهرة التطرف الديني والمذهبي والقومي من أكثر المظاهر التي تبرز هذا الجانب.

ويشكل التطرف الديني حالة من حالات الإقصاء، وعدم الاعتراف بالآخر، ومحاولة استئصاله وكتم صوته بأية وسيلة من الوسائل، وهذه الظاهرة استفحلت في العديد من البلدان، وتفشت بين أهلها بشكل لافت للنظر، وكما إن بوادر التشدد والتزمت في الايمان بعقيدة دينية أو مذهبية هو طريق ومنهج لن يؤدي إلا  إلى الغلو، وغالباً ما يسيطر الوهم على عقل المتطرف فيعتقد جازماً أنه يؤدي رسالته التي يجب على الجميع أن يؤمن ويلتزم بها، ويعمل جاهداً بكل الوسائل والسبل للهيمنة والسيطرة وفرض رأيه على الآخر.

كما أن فرض فكر معين قسراً أو تسلط حزب معين يفرض أهدافه أو شعاراته رغماً عن إرادة الآخرين يعتبر نمطاً من أنماط التطرف.

ويتعلق التطرف أيضاً بالشخصية، إذ تسيطر على عقليته الأفكار التي يؤمن ويعتقد بها وحده، فلا يستطيع الاستيعاب للاطلاع أو للنقاش في ما يخالفها أو يفندها، فيتمسك بكل الجزئيات، ويلجأ غالباً إلى العنف والابتعاد عن الحوار الهادئ أو العقلاني سواءً في الكلام أو في التصرف.

وظاهرة التطرف التي تسود بلداننا من الظواهر السلبية التي تعيق تقدم المجتمع، بالنظر لكون التطرف يدفع باتجاه إلغاء الفكر الآخر والاعتقاد الآخر، واللجوء  إلى أساليب وطرق بعيدة عن المنطق والقبول، ومحاولة فرض الفكر المتطرف على الآخر قسراً، وحتى في حال رضوخ أو قبول الآخر بهيمنة الفكر المتطرف، فإنه يبقى يتحين الفرص للانفلات والتخلص من هيمنته والانقضاض عليه في أي وقت، وبذلك فإن الفكر المتطرف بالإضافة إلى خطورته الاجتماعية فإنه يبقى مشروع للرفض، ظاهرة استثنائية وعائق للتطور والتقدم.

ولا يمكن أن يتم حصر التطرف بالبلدان المتخلفة فقط، إنما ولكون التطرف ظاهرة إنسانية ومرض اجتماعي، فإنه لابد وان يجد له حاضنة أو بؤرة يرتكز عليها حتى في البلدان المتطورة، ولأنه ظاهرة إنسانية مرضية فإنه يصيب جزء من هذه المجتمعات، ويمكن أن تتخلص منه بوسائل التصدي المشروعة، وبنشر الوعي والإصلاح السياسي والاجتماعي، ومحاولة التصدي له بطرق علمية ودراسات عملية من خلال رؤية شاملة للأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى ظهوره.

وتصدياً لظاهرة التطرف بكل أشكاله وأنواعه يتطلب الأمر نوعاً من الثقافة وبسط القيم الإنسانية في المراحل الأولى للمدارس وبين فئات المجتمع، كما أن ثقافة الحوار تشكل اللبنة الأولى من لبنات احترام الرأي والرأي الآخر، ومقدمة لبناء أُسس الديمقراطية كمنهج يتصدى للتطرف، وشكلت الحقبة الزمنية الفائتة تراكماً من التطبع على إلغاء الآخر وشطبه، واللجوء  إلى استعمال الخطابات البعيدة عن الواقع والمنطق، وانتهاج سياسة التخوين والتكفير والاتهامات، وفتح النار على المخالفين، واحتواء المتفقين، في سلوك بعيد جداً عن أسس ثقافة الحوار والسلوك الديمقراطي الإنساني السليم، مما يشكل حاضنة ومرتعاً خصباً لنمو التطرف.

 

إن ثقافة الحوار تعتمد على قدرة الإنسان في التفاعل مع الآخرين، من خلال اعتماد القدرة على الحوار والاستماع إلى الرأي الآخر، وتلك القدرة يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، غير أن تلك القدرة ترتبط أيضاً باحترام الرأي الآخر والاستماع له والمقدرة على مناقشته بالوسائل الإنسانية المعهودة.

 

ويبدو للمتابع أن ضعف ثقافة الحوار وتردي الالتزام بها في مجتمعاتنا، ليس فقط نتيجة للتراكمات السلبية للتناحر السياسي الحزبي أو التناقض الاجتماعي والطبقي، ولا بنتيجة التخلف القبلي والعشائري الذي نعيشه ونتمسك به بإصرار، بل هو نتاج خليط لتلك الحقبة الزمنية الطويلة من التربية الاجتماعية والدينية والعشائرية التي امتزجت زمناً طويلاً، لتشكل تلك النتائج الهجينة في السلوك وتردي لغة الحوار وبالتالي انعكاس ذلك حتى على التربية الأسرية داخل البيت، وتعداه  إلى المدرسة والمجتمع.

 

وكما يبدو أن ظاهرة إلغاء ثقافة الحوار التي استقرت في حقب زمنية متفاوتة، وإن خضعت إلى ظروف المجتمع وثقافته، إلا أنها انتشرت بين أوساط العمل السياسي والديني بشكل خاص، حتى باتت ظاهرة سلبية من ظواهره الاجتماعية، بل صارت سيفاً حاداً مسلّطاً بين أوساط المجتمع الملتزم بقيم وأعراف وتقاليد متزمتة، من الصعب التمرد عليها أو مخالفتها، ولهذا فقد باتت عملية إلغاء الآخر وشطبه والتطرف في محاربته، واللجوء إلى أساليب التهميش والتسقيط وحتى التزوير، وغرس الخنجر في الأعراض والشرف والطعن بتاريخ العائلة، لما لها من تأثير كبير في المجتمع، جميعها أساليب تعني الارتداد والنكوص عن ممارسة الفهم الإنساني في ممارسة عملية ثقافة الحوار.

الرأي والرأي الآخر، ينبغي أن يعم بين أوساط الطبقة المثقفة والمتعلمة، وأن تتم ممارسته بين تلك الأوساط لينتقل إلى غيرهم من باقي الشرائح، وكما أن لمنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والأحزاب السياسية الوطنية دوراً فاعلاً وأكيداً في الجانب التنويري.

كاتب

التعليقات مغلقة.