مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

حربُ الأديان في أوروبا وتشكُّل الدولة القومية وماهيتها

 

فؤاد منصور

فؤاد منصور
فؤاد منصور

في القرون الوسطى شهدت أوروبا العديدُ من الصراعات الدامية والتي خلفت وراءها الكثير من الضحايا، وذلك بسبب الصراع الديني الذي جعل من أوروبا  ميداناً للصراع الذي حصد أرواح آلاف من البشر، حيث عاشت أوروبا فترة من أحلك فترات حياتها ظلمة أثناء الحروب الدينية؛ حيث كانت السلطة فيها مقسمة بين سلطة دينية في يد البابا في  روما وسلطة زمنية تمثلها الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

وكان نفوذ السلطة الزمنية “السياسية ” لا يقارن بالسلطة الدينية، فقد كان للبابا نفوذ ديني كبير على عامة الشعب وعلى السلطة السياسية كحد سواء ، فإن حدث صراع أو تعارض للمصالح فهو محسوم لصالح البابا باعتبار البابا هو من يتحدث  باسم الله، ويملك تفويضاً باسمه، ويملك أن  يحدد من يدخل الجنة أو من يدخل  النار، وقد بلغت سلطة البابوات حداً كبيراً لدرجة أنه كان يستطيع تحدى  سلطة الإمبراطور ذاته، ويستطيع صك صكوك الغفران والتي تعود  بداية فكرة (صكوك الغفران)  عندما أراد البابا ( لاون العاشر)، أن يقوم ببناء كنيسة خاصة بالقديس بطرس و ذلك في مدينة روما فقام على أثر ذلك بإصدار مجموعة من الصكوك وذلك من أجل القيام ببيعها وجمع الأموال التي ستأتي منها كنتاج لعملية البيع تلك والقيام ببناء الكنيسة الجديدة.

يمكن القول إن المسيحية كديانة والتي يتبعها أكثر من /٢/مليار شخص قد مرت بالكثير من الأحداث، وهناك حدثان بارزان شكلا المسيحية التي نراها اليوم في العالم الحديث.

الحدث الأول وهو انعقاد مجمع خلقيدونية

حيث في عام ٤١٥ ميلادي اجتمع في مدينة خلقيدونية (في القسم الشرقي من تركيا حاليًا) ٦٣٠ أب من آباء الكنيسة جمعاء لمعالجة موضوع عقائدي وجوهري وإيماني يتعلّق بالرّب يسوع المسيح. لذا عُرف بمجمع خلقيدونية. نجم عن المجمع انشقاق الأقباط والأرمن والسريان عن الكنسية الرومية وبالتالي فسخ الشراكة معها.

المعارضون لهذا المجمع رفضوا أن يُطلق اصطلاح “طبيعتين” على الرّب يسوع المسيح، إذ كان اصطلاح طبيعة يوازي عندهم “شخص”، وبالتالي لا يمكن بالنسبة لهم أن يكون الرّب يسوع شخصين متّحدين مع بعضهما بعض، وخاصةً أن مقولة القدّيس كيرلس (٤١٢-٤٤٤م) بأنّه هناك “طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد” كانت سائدة بقوّة.

يتكلّم الباحثون التاريخيّون بأنّه هناك عدّة عوامل أدّت إلى هذا الانشقاق، فبالإضافة إلى الخلاف اللغويّ هناك عوامل إثنيّة وسياسيّة عدا عن النزعة الاستقلاليّة التي كانت سائدة في المناطق الأرمنيّة والسريانيّ والإسكندرانيّة عن الإمبراطوريّة الرومانيّة، كما يمكن إضافة العوامل التي نتجت عن المجمع الذي انعقد في أفسس عام ٤٤٩م ويُعرف بالمجمع باللصوصي.

أكدّت الكنيسة في هذا المجمع إيمانها بوحدة شخص المسيح وبـ “الطبيعتين في المسيح”، الطبيعة الإلهيّة الكاملة والطبيعة الإنسانيّة الكاملة.

– الأسباب الداعية لعقد المجمع:

أعلن افتيخيوس، وهو كان رئيس دير في القسطنطينيّة يضم أكثر من ٣٠٠ راهبًا، يدعمه ديوسقورس بطريرك الإسكندرية، أنّ طبيعتَي المسيح، الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة، اتّحدتا وصارتا بعد تأنّسه طبيعة واحدة، إذ ابتلعت الطبيعة الإلهيّة الطبيعة الإنسانيّة.

وبرّر افتيخيوس قوله هذا مستنداً إلى عبارة استعملها القدّيس كيرلّس الإسكندريّ: “الطبيعة الواحدة المتجسّدة للإله الكلمة”.

وقد يكون لسوء الفهم اللغويّ بين مسيحيّي تلك الأيّام (وبخاصّةٍ في القسطنطينيّة وأنطاكية والإسكندرية)، قد ساهم في تغزية الانشقاق الذي نتج عن هذا المجمع، عدا عن عوامل سياسيّة وإثنيّة أخرى.

آمن افتيخيوس بوجود طبيعتين للمسيح قبل التجسد (ربما يكون قد شايع اوريجنس الإسكندري في نظريّة الوجود الأزلي للأرواح)، غير أنّه لم يعترف سوى بطبيعة واحدة بعد التجسد معتقدًا بأن اللاهوت قد امتص الناسوت الذي ذاب في اللاهوت كما تذوب نقطة عسل عندما تسقط في محيط من الماء.

فهذا الحدث الأول الذي نتج عنه الانشقاق الكبير بين الكنائس المسيحية ارثوذكس والكنائس المسيحية الكاثوليك.

أما الحدث الثاني فكان على يد الراهب الألماني وأستاذ علم اللاهوت مارتن لوثر الذي رأى صكوك الغفران تُباع علنًا لمن يدفع المال أكثر، فما كان منه إلا أن أقدم في 31 أكتوبر عام 1517 على إصدار وثيقة مكونة من 95 بنداً يرفض فيها مجملاً تصرفات الكنيسة ويطلب فيها من البابا أن يبني الكنيسة من ماله الخاص، دون الاستحواذ على أموال الفقراء والمشردين.

لم يكتف لوثر بإصدار الوثيقة، بل قام بتعليقها على باب كنيسة «فيتينبرغ» بألمانيا بعد أن انتابه الغضب الشديد من تصرفات البابا وطلب مجادلة علانية أمام الناس، وكان من أبرز أفكاره التي نادى بها:

– صكوك الغفران هدية من الله يمنحها لمن يشاء، وليس مقابل مبلغ من المال، أو لقاء عمل تكفيري بعد التوبة، ولكن بالإيمان وحده.

– لا يملك البابا وحده حق تفسير الكتاب المقدس، بل إن لكل مسيحي يملك إيمانًا مخلصًا بالمسيح الحق في تفسير الكتاب.

– لا يوجد مانع من زواج القساوسة.

– ليس في وسع البابا أن يغفر أي ذنب، إلا إذا أكد بدون ريب أن الله هو الذي غفر هذا الذنب، ولكن يمكن له منح المغفرة في الحالات التي هي ضمن سلطته.

لقد أصبحت الوثيقة إحدى أكثر الكتب الأوائل انتشاراً لدرجة أن واحداً من بين ثلاثة ألمان كان يمتلكها، وما إن وصلت الأنباء للبابا حتى طالب بمحاكمة سريعة للوثر واتهامه بالهرطقة والخروج عن المسيحية التي كانت عقوبتها آنذاك الحرق على الخازوق، وفي عام ١٥٢١ وقف لوثر في محاكمة علنية أمام تشارلز الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة والتي كانت تضم ألمانيا واستطاع مارتن لوثر التخلص من الأجوبة عن الأسئلة الموجهة إليه إلى اليوم التالي وقد أنقذه أحد الأمراء الألمان والذي أراد الخروج من عباءة روما.

واندلعت شرارة الاحتجاج الذي أطلقها مارتن لوثر في عام ١٥٢٤ بثورات عنيفة للفلاحين الساخطين بوسط أوروبا على السلطات الكاثوليكية والتي سرعان ما قمعت هذه الانتفاضات بالقتل حيث قتل ما يقارب “٢٠٠٠٠٠” مئتي ألف قتيل في أول صراع ديني بروتستانتي كاثوليكي والذي امتد لأكثر من مئة عام وخلف وراءه “١١”مليون قتيل

لم تستطع الغالبية العظمى من الكاثوليك احتواء دعوة لوثر ولا أتباعه الذين أُطلق عليهم البروتستانت نسبة إلى الكلمة الإنجليزية «المحتجون» (protest)، وكان عددهم آخذًا في الاطراد يومًا بعد آخر؛ إلى أن امتلكوا أراض وكنائس، وأصبح لهم صوت مسموع في ألمانيا، لذا قامت بين الطائفتين الكثير من الصراعات؛ ما حدا بالإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى عقد مؤتمر «أوغسبورغ» عام 1555، والذي أنهى «نظريًا» الصراع بين البروتستانت والكاثوليك، ونص صراحًة على أن يختار أمراء الولايات الألمانية (225 أميرًا) ديانة كل المناطق التي يحكمونها، كل حسب اعتقاده، إما لوثريّ أو كاثولكيّ، كذلك نص الصلح على أن اللوثريين الأساقفة ينبغي عليهم إعادة تسليم أراضيهم إلى الكاثوليك.

بشكل عام يمكن القول: إن صلح «أوغسبورغ» كان هدنة مؤقتة للصراعات الطائفية بين البروتستانت والكاثوليك، لكن التوتر بينهما ظل موجودًا، خاصة مع حلول القرن السابع عشر وبداية عصر الاستكشاف الأوروبي لموارد العالم المحيط بهم. لم تكن أوروبا متوحدة حينها على قلب رجل واحد، إذ كانت تتحكم فيها مجموعة من العوائل الطامعة في بسط النفوذ والسيطرة، وكان لكل دولة (أو مجموعة دول) إمبراطور يحكمها .

لم يمنع قمع السلطات في الإمبراطورية الرومانية المقدسة البروتستانتيين من الانتشار في أرجاء أوروبا؛ إذ وصلت بالفعل دعوات لوثر إلى فرنسا بحلول عام 1520، أي بعد ثلاث سنوات فقط من ظهور وثيقة لوثر ذات الـ95 نقطة، واعتنق العديد من الفرنسيين البروتستانتية، وحاولت السلطات احتواء الطرف الجديد الدخيل على المجتمع الفرنسي الذي بدأ في الانتشار أكثر داخل المجتمع الفرنسي،  لكن الأمور لم تكتمل بنفس السلاسة، وفي عام 1562 اندلعت حروب دينية متتالية في فرنسا كانت بدايتها بوضع البروتستانت منشورات ضد الكاثوليكية في الشوارع، فقاموا بالرد عليهم من خلال سلسلة من عمليات القتل التي استمرت في ثماني حروب متتالية وخلّفت وراءها 2 مليون قتيل، وكانت أكثرها بشاعة ما عُرف بمذبحة سان بارتولوميو.

كانت فرنسا عام 1572 في ذروة التوتر الديني بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية البروتستانتية، وكان النمو المتزايد للبروتستانت قد أشعر الملك شارل التاسع ووالدته بالخوف من تهديد عرشهم؛ فأعطوا يوم الـ24 من أغسطس (آب) عام 1572 الأوامر للعديد من الجنود والأهالي المتطوعين بقتل كل بروتستانتي تقع عليه أعينهم، في واحدة من أكثر الليالي المفزعة التي شهدتها فرنسا في تاريخها.

دقت أجراس الكنائس مبكرًا هذه الليلة، ونادى القساوسة بقتل كل بروتستانتي، واعتباره خارجًا عن المسيحية، ولا يؤمن بيسوع المسيح، وعلى إثر الدعوة خرج الجنود والأهالي للشوارع واقتحموا البيوت ليقتلوا كل من يقابلهم من البروتستانت رجالًا ونساءً وأطفالًا، وحين علم البروتستانت بذلك بدؤوا بالهرب ناحية أقاربهم، فلم يسلموا من القتل أيضًا، وراح ضحية المجزرة بالتقديرات الحديثة ما بين خمسة إلى 30 ألف قتيل.

إنهم يقتلونهم جميعًا، وأنا أكتب هذا، إنهم يعرُّونهم.. ولا يعفون أحدًا حتى الأطفال، تبارك الله! *السفير الإسباني في فرنسا تعقيبًا على المذبحة.

استغل الملك ووالدته التعصب الديني والاحتقان الطائفي الشديد لدى الفرنسيين لإقامة هذه المذبحة، التي لم تكن لتكتمل، لولا مشاركة المتطرفين من الأهالي فيها بكل قوة إلى جانب الجنود. بعد تلك المذبحة أرسل ممثل البابا في فرنسا إلى روما رسالة أعرب فيها عن فرحه الشديد بما تم من قتل جماعي للبروتستانت، قائلًا فيها: «أهنئ قداسة البابا من أعماق قلبي على أن الله جل جلاله شاء في مستهل بابويته أن يوجه شؤون هذه المملكة توجيهًا غاية في التوفيق والنبل، وأن يبسط حمايته على الملك والملكة الأم؛ حتى يستأصلا شأفة هذا الوباء بكثير من الحكمة».

عُدت تلك المذبحة فيما بعد بواحدة من أبشع حوادث القتل الجماعي على أساس ديني في تاريخ أوروبا.

بعد ذلك هدأ صوت المذبحة قليلًا، لكن السنوات اللاحقة شهدت المزيد من المذابح والصراعات الدامية في فرنسا؛ كمحاولة للقضاء على الأقلية البروتستانتية، استخدم فيها وسائل قمعية عدة، كالقتل والشنق والحرق والموت على الخازوق، إلا أن البروتستانتية لم تمُت، وأُجبر قادة فرنسا بعد ذلك على الاعتراف بحرية البروتستانت في عبادتهم؛ فانتهت تلك الحروب بصلح «نانت» عام 1598 والذي نص على حرية ممارسة العقيدة لكلا الطرفين.

في عام 1618 وقعت سلسلة من الصراعات الدامية بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت، بدأت شرارتها في ألمانيا، وامتدت بعد ذلك لتشمل مناطق واسعة من أوروبا، راح ضحيتها أكثر من 8 ملايين قتيل، وخلّفت وراءها دمارًا واسعًا في المدن والقلاع، وهي الحرب التي عُرفت فيما بعد بحرب الثلاثين عامًا، ووصفها المؤرخون بإحدى أطول وأعنف الصراعات في التاريخ البشري، وأكبر حرب دينية في تاريخ أوروبا، والتي كان لها أبلغ الأثر في تشكل أوروبا الحالية التي يراها البعض الآن باعتبارها مهد التسامح الديني والتنوع العرقي.

بدأت شرارة الحرب حين أرسل وليّ العهد للإمبراطورية الرومانية المقدسة، والملك المنتظر «فرديناند الثاني»، الكاثوليكي الديانة،  اثنين من مبعوثيه إلى بوهيميا (التشيك حاليًا) ذات الغالبية البروتستانتية؛ ليقوما بتصريف الأمور بدلًا عنه، فقام أهالي براج المتعصبين بمحاكمتهما صوريًا وإلقائهما من النافذة من على ارتفاع 20 مترًا، إلا أنهما لم يموتا؛ إذ تصادف إلقاؤهم مع وجود كومة كبيرة من السماد على الأرض؛ فنجيا من الموت.

بعد تلك الحادثة اندلعت الثورة البوهيمية التي استمرت حتى عام 1620 بين البروتستانت والإمبراطورية الرومانية المقدّسة بقيادة فرديناند الذي أصبح ملكًا للبلاد، وبعد وقوع الكثير من الضحايا نجحت قوات فرديناند المدعومة من ابن أخيه الملك فيليب الرابع ملك إسبانيا في القضاء على الثورة وإلحاق هزيمة كبرى بالبروتستانت.

 

بعد القضاء على الثورة البوهيمية تدخلت الدنمارك ذات الغالبية البروتستانتية في الحرب، وطلبت دعمًا من فرنسا، فقامت بإمدادها بالمال في مفارقة تاريخية غريبة؛ إذ إن فرنسا كانت تدين بالكاثوليكية كديانة رسمية لها، والإمبراطورية الرومانية المقدسة التي ستحارب ضدها كانت كاثوليكية أيضًا، لكن السياسة لعبت دورها الأكبر حينها، فكانت كراهية فرنسا لعائلة «هابسبورغ» التي ينتمي إليها فرديناند أكبر من كراهيتها للتحالف مع البروتستانت؛ فدخلت كل الأطراف في صراع آخر مع الإمبراطورية؛ خلّف وراءه الملايين من القتلى، خاصة بعد أن اتسعت رقعة الحرب لتشمل السويد البروتستانتية، وبريطانيا الكاثوليكية وهو ما يعني فرض السياسة كلمتها وتغلبها على الانتماءات الدينية في أوروبا.

كنتيجة لتلك الحروب لقى 8 ملايين شخص حتفهم، وانخفض عدد سكان ألمانيا بمقدار 25 – 40% ما يُعد الخسارة البشرية الأكبر في تاريخها قبل الحرب العالمية الثانية، ودُمرت 2000 قلعة و1500 مدينة. انتهت الحرب عام 1548 بإعلان صلح «فستفاليا» والذي نص على استقلال كل دولة بأراضيها، ويعتبر أول اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث.

أيضا لابد من الحديث عن محاكم التفتيش في أوروبا  فمحاكم التفتيش هي هيئات أنشأتها

الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على من أسمتهم بالهراطقة المارقين (أي الأشخاص المعارضون لتعاليم الكنيسة) ومحاكمتهم.

أقيمت محاكم التفتيش في أجزاء واسعة من أوروبا في ألمانيا والبرتقال ، ولكن محاكم التفتيش في اسبانيا نالت الشهرة الأكبر، أقيمت ظاهريا من أجل مواجهة الهرطقة

وتعزيز قوة النظام الملكي المُوحد في المملكة الإسبانية، ولكن لم تتحقق هذه الأهداف إلا باستخدام أساليب وحشية قمعية أجبرت الكثير من اليهود والمسلمين على اعتناق المسيحية .

كل الحروب الدينية التي اشتعلت في العالم لم تحل المشكلة بل زادتها تعقيدا، وكلها يُستخدم فيها الدين من أجل مصالح سياسية لفئة على حساب الأغلبية، وخير مثال حروب أوروبا.

وهكذا عم الخراب أوروبا كلها من شمالها إلى جنوبها، وتمثلت ذروة الحروب الدينية في عهد الملك لويس الرابع عشر من سنة 1562 وحتى 1598، واستمرت الحروب بين الكاثوليك والبروتسانت قرنين من الزمان أرهقت فيها أرواح الملايين من البشر وذلك بسبب الصراع الديني .

وحاولت الكنيسة أن تقف في مواجهة الأفكار الإصلاحية   لكن الفكر الإصلاحية كان  كالريح لا أحد يستطيع إمساكه، فاشتعلت الشرارة من إيطاليا لتنير أوروبا كلها، وتنشر مبدأ التسامح بعد الخراب الكلي الذي نال كل جزء في أوروبا، وقد تعالت الأصوات التي قاومت افكار الكنسية لتعم اوروبا موجة كبيرة من الأفكار الإصلاحية وانتشار مقولات المفكرين.

*اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس *الفيلسوف الفرنسي فولتير أحد أبرز فلاسفة عصر التنوير.

بعد سنوات طوال من الحروب الدينية والأوبئة والمجاعات بدأت أوروبا في عصر التنوير الذي تزامن مع اشتعال الثورة الفرنسية (عام 1789) وذلك بالتخلص من سُلطة رجال الدين ومشاركة الكنيسة في الحكم أو اتحادها مع الحاكم ضد الشعب، فخرج الشعب عليهما معًا، ونادى بالديمقراطية كخيار وحيد لتبادل السلطة مع إبعاد الدين عن الدولة، بدأ عصر التنوير على أنقاض الحروب الدينية والسياسية التي قامت في القرون الوسطى، وأصبح عمل رجال الدين يختص فقط بالأمور الدينية.

ومن خلال أفكار المفكرين والفلاسفة بدأت أوروبا مرحلة جديدة بعد انتهاء الصراع الديني الذي حصد ملايين البشر لتبدا بذور الافكار القومية وتشكيل الدول بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة

تمكن ملوك فرنسا وإسبانيا من إخضاع الكنيسة والأسياد الإقطاعيين إلى سيطرتهم, وقد أدى الملوك دوراً أساسياً في بروز الدولة القومية, أي أنهم كانوا الطرف الأهم في معادلتها والتي كانت مبنية على أفكار الفلاسفة  ومع ظهور الدولة القومية منح الأفراد صفة المواطنة لدولة محددة بالإضافة إلى كونهم رعايا لملوكهم، وترسخ وجود الدولة القومية وسيادتها في أوروبا بعد معاهدة ويستفاليا 1648م التي اعترفت بحدود الدول القومية وأقرت الاحترام المتبادل لسيادة هذه الدول على أراضيها ومواطنيها ، بعدما كان الدين هو أساس الحكم ومصدر التشريع ، فالدولة القومية قد وضعت الحدود بين الدول

وأن المجتمع البشري لم يعرف طيلة تاريخه حدوداً من نمط الدولة القومية فهي حدود مخالفة لطبيعة الإنسان الثقافية.

تتألف الدولة القومية من عدد من القوميات

إلا أن قومية من بينها تصبغ شكل الدولة فتأخذ الدولة طابع تلك القومية ولغتها فتطغى على غيرها، ففي بريطانيا طغى العنصر الإنجليزي ورغم ذلك فإن الاسكتلنديين قد صوتوا لصالح البقاء في المملكة المتحدة عندما أتيح لهم الاختيار، وفي تركيا طغى العنصر التركي على سائر مواطني الجمهورية التي تكونت من عدة أجناس أي انصهار كل قوميات ضمن قومية واحدة فالعلم الواحد واللغة الواحدة هي أسس الدولة القومية.

وبعد  الخراب الكلي الذي نال كل جزء في أوروبا، ومنذ تلك اللحظة تعلموا الدرس جيدا، وعرفت الشعوب في أوروبا قيمة التسامح وتقبل الآخر، لأن الثمن الباهظ الذي دفعه الناس والضريبة الجهنمية للحروب التي أكلت الأخضر واليابس جعلت قيم التسامح تترسخ شيئا فشيئا، على الرغم من الصراع الذي استمر علنا أو خفاء بين الكنيسة والمجتمع حتى القرن 19، حينما تمت محاكمة شاب في 19 من عمره اسمه جان فرانسو لابار، لأنه قام بكسر الصليب، فحاكمته الكنيسة في فرنسا وقطعوا يديه ثم اقتلعوا لسانه ثم أحرقوه حيا، فتصدى المفكر والفيلسوف فولتير ليدافع عن قضيته ويكسبها، ليُحكَم على الكنيسة بالبطلان وعدم أحقيتها في ذلك، وليتوقف تدخل الكنيسة منذ تلك اللحظة في مصائر البشر، وليصبح فولتير بذلك رائد الحرية ويخلد التاريخ اسمه على صفحات من ذهب.

وماذا تعلمت أوروبا من تلك المحن؟ تعلمت أثمن ما يمكن، تعلمت أن قيمة الإنسان وعقله لا يقدران بثمن، تعلمت احترام الرأي والرأي الآخر، ومقارعة الفكرة بفكرة أخرى، والحجة بالحجة، لا بالحديد والنار، ولا بالدم ولا القتل، وبفضل تلك القيم نهضت أوروبا كطائر الفينيق من الرماد لتبني وتعمر، فهل نتعلم نحن شعوب الشرق الأوسط من تللك التجربة المريرة التي حصدت أرواح ملايين البشر.

فهل نتعلم نحن من تلك التجربة المريرة؟ ونحن للأسف الآن نعيش أعتى أنواع الخراب على شعوب الشرق الأوسط  ونمر بمرحلة تاريخية هي الأشد ظلمة وقبحا في ظل رسم المخططات الرأسمالية الاستعمارية والغزو الثقافي ؟ فهل لابد وأن نعيش الخراب الأكثر والأفظع؟  وهل سيأتي يوم على شعوب الشرق الأوسط  تعرف فيه قيمة التسامح الفكري والثقافي لكي تنهض حضاريا من جديد؟، الجواب يقع على عاتقنا تغيير الواقع المرير الذي نعيشه وذلك من خلال طرح ثقافة التسامح وتقبل الآخر وبناء أجيال تؤمن بقبول الآخر وتقبل لغة الحوار والرأي والرأي الآخر

كاتب

التعليقات مغلقة.