مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

بعيداً عن الشمولية و التوحيدية, الدبلوماسية الثقافية في روج آفا أنموذجاً

كلستان سيدو

كلستان سيدو
كلستان سيدو

قبل عدة أعوام، نستطيع القول إنه ما من أحد كان يمكنه تحديد جغرافية منطقة روج آفا على خريطة العالم. تمحورت أغلب التساؤلات والمواضيع الجيوسياسية المتعلقة بالشرق الأوسط التي كان يتناولها الإعلام الغربي والعربي حول الأزمة الاسرائيلية – الفلسطينية وقضية السلام فيما بينهما. ومنذ الفترة التي غزت فيها أمريكا وحلفاؤها العراق عام 2003 ومع بدايات الربيع العربي في أواخر عام 2010، تعرضت المنطقة بأكملها لارتجاجات وأزمات خطيرة. وفي خضم موجة الاحتجاجات العارمة في تونس ومصر، اشتعلت النيران في جسد الدولة السورية التي لم تخمد حتى يومنا هذا وذلك نتيجة السياسات والقراءات الخاطئة من قبل من سموا أنفسهم بقوى الثورة التي أدت لعسكرة الثورة وانحراف مسارها، فاتحة الباب أمام التدخلات الإقليمية والدولية وتحولت سوريا إلى ساحة لاقتسام المصالح.

ما تعرضت له البلادُ من دمارٍ كان السبب بموت الآلاف وتهجير الملايين، لا يمكن اعتبارها أحداثاً تبعث الفرح والسعادة في القلوب. ولكن، في الوقت عينه الاضطرابات والهزات التي تحدث بهذا الشكل تفتح الطرق والسبل لبناء نظم ونماذج حل جديدة، وفق أسس ومبادئ مختلفة ومتنوعة تفضي لنتائج إيجابية تنعكس على المجتمعات. ولذا فإن المحللين والمتابعين لولادة هذه النظم والنماذج يبدون اهتماماً واسعاً للتطورات التي تشهدها المنطقة المسماة روج آفا أي غرب كردستان، هذا الكيان الصغير الحديث الولادة و هذه الجغرافية الغنية بمكوناتها الأثنية والدينية والثقافية تحولت إلى أرض خصبة لازدهار نموذج جديد، وتفتح براعم ثورة حقيقية بريادة وقيادة كردية.

وكما هو معروف، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتنامي قوى وسيطرة دول وكيانات جديدة مثل أمريكا التي تعتبر نفسها دولة شمولية أو فرنسا التي تنافسها، من ناحية، وبروز دول منافسة في المجال الاقتصادي كالصين من ناحية أخرى، وازدهار دول إقليمية أخرى كالخليج وتركيا؛ فقد ظهرت روج آفا على الخريطة الجغرافية وبحجمها الصغير وسط كل تلك الكيانات والنظم الدخيلة لإحياء ثقافة العيش المشترك بين الشعوب الأصيلة التي تميزت بها حضارة ميزوبوتاميا لتصبح أنموذجاً بديلاً لإيجاد حلول للأزمة المستعصية في سوريا والشرق الأوسط.

في بداية الأزمة السورية، بدأ الكرد بطرح نظام بديل للدولة القومية، اعتماداً على نهج الطريق الثالث، وانطلاقاً من هذا الاختيار باشروا ببناء مجالسهم المحلية ليضعوا حجر الأساس لبناء نموذج جديد لإدارة المجتمع. ومن إحدى خصائص ومميزات المشروع السياسي الكردي البديل هو عدم البحث لبناء دولة قومية مستقلة للأكراد، فهذا آخر ما يفكر به الكرد في روج آفا. إن البراديغما السياسية الجديدة تتمثل في الكونفدرالية الديمقراطية، وهو نظام اجتماعي شعبي ديمقراطي مباشر يشارك فيه كل المواطنين الأحرار في التنظيم والإدارة وإبداء الرأي وأخذ القرارات من خلال الكومينات والمجالس ومؤسسات المجتمع المدني في جو تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة بين المرأة والرجل في كافة المجالات.

 

الدبلوماسية الداخلية في ظل الثورة في روج آفا..أسسها وآلية تطبيقها ونتائجها على أرض الواقع

 

إن الدبلوماسية تعني بالدرجة الأولى العلاقة بالآخر. هذا الآخر الذي يمثل قيماً ومبادئ وثقافة معينة ومن الضروري التحاور وبناء قنوات تواصل معه. فهذا الآخر يمثل في الوقت نفسه قوة وهذه القوة يمكنها التأثير على محيطها والتحكم بتغييرها. إنّ قوة الآخر تظهر على شكلين: الثقافية والعسكرية. مثال الولايات المتحدة جلي في هذا المضمار، فقلقنا هنا يأتي من قوتها الهائلة. بالطبع نقصد مقدرتها العسكرية التي تستخدمها للتدخل في كل جزء من العالم في المكان التي تشعر بأن مصالحها وأمنها مهدّدان. والأخطر من القوة العسكرية أو التأثير العسكري هو السيطرة الثقافية أو محاولة (توحيد العالم) أو هيمنة ثقافة أحادية الجانب. إن مصطلح الهيمنة يستخدم بكثرة لتفسير تأثيرات الثقافة الأمريكية والعولمة. كما نعلم هناك عدة نماذج للبلدان. وعندما نتحدث عن قوة الآخر في الدبلوماسية فالأمريكي والأوربي, الشرق الأوسطي والإفريقي أو الصيني لا يتساويان. و إذا أردنا زيادة إنماء تأثيرنا في الآخرين يجب أن نستخدم الثقافة.

 

فيا ترى ماذا تشكل روج آفا في مضمار مفهوم الآخر كقوة من الناحيتين العسكرية والدبلوماسية الثقافية؟

 

كما نعلم ومنذ بداية الثورة الحقيقية في روج آفا فقد أثبت الكرد قوتهم من الناحية العسكرية من خلال بطولات و ملاحم وحدات حماية الشعب والمرأة وخاصة في ملحمة كوباني. فتاريخياً الكرد شعب جسور يدافع عن نفسه بشراسة ويحارب الشر أينما كان، فقراءة ملحمة (رستم زال) والعودة إلى صفحات التاريخ و مقاومة غزوات الاسكندر المقدوني تثبت ذلك. كان لابد من قوة أخرى تسطيع تقوية الجبهة الداخلية، وهنا ظهرت حركة المجتمع الديمقراطي على الساحة في الوقت المناسب واستطاعت تمثيل كافة الأطياف و الشرائح المجتمعية المدنية.  كان عليها التوجه نحو المجتمع الداخلي وترتيبه وإعادة تنظيمه وفق ثقافة جديدة. فالدبلوماسية الداخلية تحظى بأهمية كبيرة كأهمية الدبلوماسية الخارجية. فكون روج آفا تحوي موزاييك من أثنيات وثقافات مختلفة،  تبرز هنا أهمية تمتين وحماية هذا الإرث والتنوع الثقافي مقابل هيمنة ثقافة الإقصاء والإنكار الذي كان يمارسه نظام البعث الرجعي و هذا ما يؤكده السيد عبد السلام أحمد, الرئيس المشترك لمكتب العلاقات الدبلوماسية لحركة المجتمع الديمقراطي في حديثه:

“اتبع النظام طيلة فترة حكمه الذي امتد لما يزيد على نصف قرن في سوريا ولايزال يتبع سياسة فرق تسد و ينشر ثقافة التعالي القومي و صهر القوميات الأخرى في بوتقة القومية العربية التي يمتد وطنها المزعوم من المحيط إلى الخليج, نحن نعمل على تغيير الذهنية و هدم مرتكزات هذه الثقافة و نعيد لسوريا رونقها و دورها الحضاري المستند على تعدد ثقافاتها التي يشكل لوحة جميلة لطالما ميزت سوريا”.

لقد تأسست حركة المجتمع الديمقراطي في وقت مفصلي ومصيري وطرحت ثقافة بديلة وأصيلة، وتوجهت نحو الآخرين بنموذج جديد وبراديغما خلاقة متنورة. إن القائد الأممي عبد الله أوجلان كان المفكر والعقل المدبر لهذه المنظومة الفكرية. فقد انكب أوجلان في زنزانته وفي عزلته على قراءة أطروحات الفيلسوف والايكولوجي الأمريكي موراي بوكشين وخاصة كتب “ايكولوجيا الحرية” (1982) و “حضارة بلا مدينة” (1987-1992). في عام 2004 بدأت رحلة التواصل بين أوجلان وبوكشين وجانيت بيهل (رفيقة درب بوكشين) عن طريق الرسائل بواسطة محامي أوجلان. بعد فترة وجيزة علم بوكشين و بيهل أن أوجلان قد أوصى الكرد بقراءة أعمال بوكشين، و للأسف الشديد لم يستمر هذا التواصل بسبب تقدم بوكشين في العمر، لكنه قال في جوابه الأخير في التاسع من أيار عام 2004: “أرجو منكم أن توصلوا تمنياتي الطيبة لأوجلان, أملي الأخير هو أن يتمكن الكرد يوماً ما من بناء مجتمع حر وعادل, وأن يسطع نجم الكرد من جديد “. و وجه بوكشين كلامه للكرد قائلاً:” أنتم بالفعل محظوظون كونه يوجد لديكم زعيم حكيم وخلاق كأوجلان يستطيع قيادتكم”. توفي بوكشين عام 2006 و لكن أفكاره و نظرياته تبرعمت و رأت النور على جغرافية روج آفا. إن اللقاء و التواصل التاريخي بين أفكار أوجلان و بوكشين قد أفضى إلى نموذج الكونفدرالية الديمقراطية والتي تطبق الآن عملياً في روج آفا و شمال سوريا.

و في ظل الحرب الدائرة والصراع المستمر في سوريا, و وجود ثقافات ومذاهب وأطراف كثيرة ومعوقات كبيرة كان لابد من إيجاد طرق دبلوماسية مرنة وشفافة بعيدة عن العنف لإيصال هذا الفكر الجديد وتخطي العراقيل, يتابع عبد السلام أحمد: “الآليات والأساليب التي نعتمدها هي الزيارات, عقد الندوات, اللقاءات و الاجتماعات الجماهيرية الموسعة وكذلك التواصل اليومي مع الشعب و التركيز على الفعاليات المجتمعية و التدخل لدى مؤسسات الإدارات المعنية لحل المشاكل اليومية عن طريق لجان الصلح المحلية”.

تمكنت حركة المجتمع الديمقراطي من بناء علاقات صحية وسليمة مع الآخرين و كسب ثقتهم  وتطوير ذهنية المجتمع واتخذ من الأخلاق والاحترام المتبادل أساساً في هداية الآخرين إلى طريق الصواب، وبفضل هذه السياسة الحكيمة حصلت على انتماء و استماع الآخرين

لا شك إن الأساليب والآلية المستخدمة لإحداث الانتماء والاعتناق لهذا النموذج الجديد يكمن في إقراض وإعطاء المقدرة والقوة للآخر. وهي إحدى الشروط في الدبلوماسية الثقافية. وهذه الشروط لها نتائج. نعتقد أولاً بأن الآخر يمثل دماغاً وعقلاً ليس فقط للحساب، ولكن هذا العقل يحلم، يتخيل، يفكر، فهنا وفي هذه الحالة نحصل على تفاعل مختلف. يجب أن نضع أنفسنا في حالة ذهنية مختلفة: فنحن لا نشكل الكل وإنما نشكل جزءاً من المجموع. وهذه الذهنية الجديدة أخذت حيزاً كبيراً في تفكير وسياسة حركة المجتمع الديمقراطي, بعكس الكثير من الحركات أو الأحزاب أو الكيانات والبلدان الذين كانوا  يعتقدون بأنهم يمثلون خطاباً كونياً. يجب التفكير بأننا جزء من الكل ويجب أن نتعاون مع الأجزاء الأخرى. والتوصل إلى التفاهم والتفاهم يعني إجراء بعض التغييرات في بعض التصورات. لا يجب فرض ثقافة واحدة.

إن الدبلوماسية الثقافية التي تمارسها حركة المجتمع الديمقراطي جعلت منها قوة ناقلة للتنوع والعديد من المبادئ: الحرية, حقوق المكونات و حماية الهويات المختلفة, المجتمع الايكولوجي و احترام التراث الخاص بكل شعب. فهي تدافع عن فكرة إقامة أرضية حيث تعيش فيها مختلف الثقافات بسلام. تستند هذه الدبلوماسية على ثقافة الديمقراطية المباشرة ضد ثقافة التسلط الديكتاتورية. ولكن هذا الأسلوب المتميز لا يصب في مصلحة القوى و الدول الشمولية و القومية.

الدبلوماسية الثقافية تتجاوز كونها مجرد الدفاع عن مصالح طرف أو بلد ما. يجب الاعتراف بالآخر كقوة ذو قدرة وبناء علاقة معه غير قائمة على علاقة التعارض (المعارضة) أو علاقة محو الآخر. يجب إنشاء علاقة تحالف بسيطة وتطويرها أكثر. وفي مصطلح العلاقات الدولية نستخدم كلمة (الصداقة). في العلاقات يجب أن نضع أنفسنا ضمن زاوية أوسع من فكرة الدولة، لأن الثقافة والعلوم هما العنصران اللذان يتم ضمنهما العمل الثقافي وتتجاوز كل العصور.

إن الدبلوماسية الثقافية في الدول العظمى الشمولية تعاني من مشكلة جوهرية: فبحسب بول ريكور “فالدبلوماسية الثقافية تجعل من الضروري على الطرفين القيام بالحداد. الحداد على مطلقية قيمه الذاتية الخاصة، ثقافته الخاصة, رؤيته الخاصة للعالم. إنها في الحقيقة نوع من الثورة الكوبرنيكية وفي الحقيقة أصعب منها بكثير. فاليوم نحن نعلم بأن الأرض ليست مركز الكون وبالمقابل وبالرغم من معرفتنا من أن ثقافتنا لا تشكل مركز الثقافات نميل دائماً (كان ستروس يكرر هذا دائماً) إلى المركزية أو Ethnocentrisme (النزعة العرقية)،و نعاني من مشكلة قبول أن ثقافتنا ليست مطلقة”.

 

 

كتابة التاريخ بشكل مشترك

 

يتسأل ناومي تشومسكي, ماذا يعني كتابة التاريخ معاً؟ إن الرهان الحاسم في الدبلوماسية الثقافية يكمن في هذا السؤال. إن هدف الدبلوماسية الثقافية هي محاربة (التحويل إلى متحف). يجب التعامل مع الثقافات الأخرى كثقافات حية بإمكانها كتابة التاريخ. فمثلاً من الصعب على الأمريكيين تصور أن (يتحولوا إلى متحف) من قبل كيان ثقافي آخر. ونعرف بأن كتابة التاريخ كان دائماً امتياز للمنتصرين. يكون العكس صحيحاً عندما يناضل آخرين لمنع هذا الشيء. أن نترك كتابة التاريخ للآخرين لهو شيء لا يحتمل. هذا الأمر ساري على الصعيد الخاص و الشخصي أيضاً. فعندما نعيش حالة ما، لا نتحمل من الآخرين سردها بحسب طريقتهم. وهذا يسري على الصعيد الجماعي أيضاً.

منذ أكثر من خمسة ألاف سنة وتاريخ المرأة يكتب من قبل الآخرين وبهذا الشكل تم تشويهه وقد طمست الكثير من الحقائق وفرضت على المرأة الكثير من القيود والتابوهات وأصبحت كتحفة في المنزل, تقوم بلعب دور محدد ضمن الإطار المرسوم لها. مع بزوغ بشائر الثورة في روج آفا. وبفضل التحليلات العميقة للقائد عبد الله أوجلان عن تاريخ وحقيقة المرأة انبثق علم جديد, علم المرأة (جنالوجيا-Jinelojî) الذي يعيد تحليل كل شيء ويتيح للمرأة كتابة تاريخها بنفسها على صفحة بيضاء. و خلال ثورة التغيير الجذري التي تشهده روج آفا انخرطت المرأة بقوة في تحقيق الكثير من الإنجازات على كافة الأصعدة، وبفضل نضالها في ميادين القتال جنباً إلى جنب مع الرجال و جدارتها في قيادة المجتمع فتحت أبواب العلاقات مع الخارج, أصبح الكتاب و المحللون والصحفيون ينهمرون إلى روج آفا للتعرف على هذا العلم و هذه الظاهرة الثقافية المتميزة. اجتمعت كل النساء في روج آفا حول طاولة واحدة وكتبت قوانينها الخاصة بها. أثبتت المرأة الكردية نفسها واستطاعت تغيير نظرة المجتمع الذكوري إليها وساهمت في نسج علاقات متينة مع النساء من المكونات الأخرى برغم تعرضها للكثير من الصعوبات.

بفضل السياسة الحكيمة لحركة المجتمع الديمقراطي واتباعه دبلوماسية شفافة تحترم وجود الكيانات والشعوب الأخرى فقد مد يده للجميع وأصبح من الممكن جداً كتابة التاريخ بشكل مشترك ووفق ثقافة مشتركة على هذه البقعة الغنية التي تسمى روج آفا. اجتمع الجميع وكتبوا العقد الاجتماعي بكافة اللغات الموجودة واعتبر كدستور شرعي ينظم حياة الناس و يرسم صورة مستقبل المنطقة و كنموذج ليس  للشمال السوري فقط و لكن لكل سوريا و المنطقة.

لنطرح السؤال التالي على أنفسنا: من يكتب التاريخ، من يضخ التصورات، من يفقر أو يغني التشخيصات أو الخطابات المستخدمة في بلد ما؟ الجواب: ليست الدول، بل المفسرين، المفكرين، الكتاب، الفنانين، الصحفيين، الأشخاص الذين ينتجون الخطاب، الشخصيات والرموز التي يقتبسونها من سياقاتهم الحاملة للقيم والرموز. يحاول الكتاب أو الصحفيين والمفكرين لدى ولوجهم بين كلماتهم وجملهم استخدام كل أنظمة التفكير كمرجع. معرفة إذا ما كان من الممكن إجراء تقارب، تناغم بين جسدين، كيانين أو إيجاد أشياء مشتركة ومتوافقة لبلدين مختلفين. فمنذ بداية الثورة تدفق المئات من الأجانب إلى روج آفا للتعرف عن كثب على حقيقة الأمور وكتبوا المئات من المقالات والدراسات والعديد من الكتب بلغاتهم وتصوراتهم  و رموزهم الخاصة. ماذا عنا نحن الذين عاشوا الثورة و شهدوا ولادتها؟ ماذا كتبنا عنها و عن تفاصيلها؟ يعتبر كتابة هذا التاريخ بلغتنا و أحاسيسنا و أفكارنا أمر في غاية الأهمية.

 

البعد الأممي في الخطاب الثقافي لثورة روج آفا

 

كل دولة تزعم إن ثقافتها شمولية، وتريد فرضها على الآخرين, لقد اختفى البعد الأممي الإنساني في الخطاب الثقافي. أمريكا تعتبر نفسها نموذجاً مثالياً وتسعى بكل الوسائل لشرعنة هذا النموذج، وفرنسا ودول أخرى تتنافس أيضاً. بيير بوردي يتحدث عن الحرب والنزاع بين (امبرياليتين شموليتين) منذ عام 1992 ” إن الأشياء التي نلاحظها في العلاقة بين الولايات المتحدة وفرنسا تجعلنا نفكر بنوع من المواجهة بين دولتين امبرياليتين شموليتين ونقصد بهذا الساحة السياسية، نمط العيش اليومي وكيفية شرعتنهما باسم الشمولي”. و يتابع قائلاً: ” إنها حرب القطب الواحد كما كان في الديانات والأخلاقيات الشمولية, لفرنسا ميزة وأفضلية في الوقت الحاضر بفضل ثورتها, فالثورة الفرنسية تعتبر الأسطورة التكوينية للجمهورية الفرنسية. ونموذج الثورة الفرنسية تعتبر أساساً لكل ثورة شمولية”. بوردي يتحدث عن شرعنة الماركسيين للثورة الفرنسية واعتبارها مثالاً للثورة الشمولية. وبذلك أصبح للثورة الفرنسية مكانة خاصة، وضمن هذا المنظور أصبحت الثورة الفرنسية الأسطورة الشرعية المزعومة والهادفة للشمولية. تزعم فرنسا إن لها ثقافة شمولية. على الأقل حتى بعد الحرب الثانية وحتى إن باريس كانت تعرف بالعاصمة الثقافية العالمية الشاملة.

من إحدى ميزات الدبلوماسية الثقافية أنها سياسة خارجية وأنها تختلف مع الدبلوماسية التقليدية بين الدول, أي دبلوماسية المستشارين والسفراء. الدبلوماسية الثقافية لها ميزة غير مباشرة. باعتبار أن روج آفا شهدت ولادة ثقافة و فكر جديد بفضل ثورتها التي اعتمدت منذ بدايتها على مبدأ و فلسفة الأمة الديمقراطية وقد تخطت هذه الثقافة الحدود الجغرافية واستطاعت أن تستقطب انتباه الكثير من المنظمات المدنية والحركات الفامينية والأحزاب اليسارية والحركات الايكولوجية والأنارشية والعلماء والمفكرين, فهل نستطيع القول إن ثورة روج آفا تتميز بثقافة أممية وإنسانية؟

في هذا الإطار يجيب المفكر و الباحث الفرنسي و صديق الكرد و كاتب رواية “الموت من أجل كوباني” السيد باتريس فرانشسكي عن هذا السؤال بقوله: “يمكن أن يكون لهذه الثقافة العابرة للحدود مستقبلاً مشرقاًلأنها ترى- من قبل الذين يكتشفونها- بأن لها طابع و خصوصية “كونية”, يمكنها أن تجذب الكثيرين و تؤثر عليهم,  فهي تدعو لمبادئ جوهرية إنسانية كومينالية لتجاوز الاختلافات و التوجه نحو التوافقات- فهي ستكرس لمستقبل حقيقي إذا ما تم نشرها في هذه اللحظات من التاريخ المحلي الصعب. بالاختصار, يجب “تكريس” وقتٍ كافٍ وسط هذه الحرب لجهود دبلوماسية خارجية حثيثة كي يبقى حلفاء اليوم حلفاء للغد بدون التدخل بالشؤون الداخلية. إنه التحدي الحقيقي في الوقت الأني”.

الدبلوماسية الثقافية تبحث في إحداث التغيير والتأثير ضمن فترة زمنية طويلة لدى الآخرين و هؤلاء الآخرين ليست الدولة وإنما أفراد وعناصر المجتمع المدني. و من هنا تأتي أهمية الممثليات والمراكز الثقافية في عقد الندوات والحوارات واللقاءات لخلق أرضية أو مساحات للالتقاء وإبرام الاتفاقيات الاستراتيجية. و هذا ما يؤكد عليه باتريس فرانشسكي الذي يعمل الآن للتخطيط لفتح مركز ثقافي في روج آفا رغم كل العوائق و العراقيل:

“تعتبر “المراكز الثقافية” مؤسسات أساسية كي يتم تطوير تجربة الدبلوماسية الثقافية لأنها محطات ضرورية  لنشر الأحداث و التطورات نحو الشعوب الأخرى. إن  نشر المخزون الثقافي لا يمكن أن يتم على الموجة الطويلة, و بشكل مستمر, إلا بوجود جسور تواصل  و ربط مادية بارزة و واضحة. و بمعنى آخر “شرفات و نوافذ فعالة” تسمح كذلك بالتبادلات المادية الملموسة بين ممثلي مختلف الشعوب. و بشكل طبيعي فهو عمل ذو نفس طويل كي تسطيع إظهارها للوجود-و بالأخص في ظل الحصار الحالي-ولكن من الضروري أن يتم هذا العمل بالتوازي مع الحرب نفسها, دون الانتظار, لأنه نضال يستحق العناء”.

يتحدث السيد فرانشسكي عن الحصار المفروض على روج آفا و التعتيم الإعلامي المقصود على ثورتها و إخفاء حقيقة الأمور من قبل الدول الاقليمية و بعض الأطراف المعادية لقيمها و مبادئها و النتائج السلبية التي تتمخض عن ذلك:

“مع الأسف الشعب الفرنسي ليس ملم بالقدر الكافي بالأمور التي تجري في روجآفا بشكل عام و ليس لديه فكرة كافية عن ثقافتها الجديدة. و هذه الحالة ليست نتيجة قلة الاهتمام بمضمون هذه الثقافة و انما بسبب خضوع البلد لحصار كبير مما يجعل وجود الصحافة الأجنبية و الإعلام الخارجي ضيقاً و محدوداً لنقل الأحداث التي تجري إلى الجماهير الغفيرة. يمكن فهم و تقبل هذا الحصار المفروض من قبل أعداء روجآفا-بدأً من تركيا- ولكن من الصعب تفهم موقف كردستان العراق حيث من المفروض أن تمر كل التبادلات و العلاقات من خلالها. منذ حوالي عامين أصبح من الصعب جداً الوصول لروج آفا انطلاقاً من أربيل أو السليمانية. و كما هو معروف اليوم “الأمور التي لا نتحدث عنها غير موجودة”. بالكاد يعرف الفرنسيين تطورات و تداعيات الوضع على أرض الواقع. المقارنة صادمة بين التغطية الإعلامية-الواسعة-لمعركة الموصل و تلك التي تجري في الرقة والتي بالكاد تم متابعتها.

بالعكس من ذلك, فعندما يكون بمقدور الفرنسيين أن يكونوا على علم و دراية بالأحداث, فهم حساسين للعمل المنجز من قبل سكان روجآفا و قيادييهم للذهاب بالبلاد نحو العصرانية و الديمقراطية وسط شرق أوسط لا يتقدم و لا يتطور. وهنا أخص بالذكر إن مكانة المرأة في المجتمع بالذات تجعلهم يتقبلون النموذج الذي يطبق محلياً على أرض الواقع. إن الجانب العلماني للثورة هو أكثر شئ يجذبهم و يؤثر عليهم عندما يؤخذ بعين الاعتبار المشاكل التي يتعرضون لها من قبل الإسلاميين و التفجيرات التي حدثت في فرنسا. لدى الفرنسين اليقين بأن وحدات حماية الشعب و المرأة يقاتلون في الخطوط الأمامية في المعركة ضد الإرهاب.

إن بعض التعارض الموجود يأتي بشكل عام من بعض المفكرين. فمن جهة هؤلاء الذين تحجروا في  آرائهم القديمة إبان زمن الحرب الباردة التي جعلتهم ينظرون لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD كرافد لليسارية القديمة المعارضة للديمقراطية,  ومن الجانب الآخر هؤلاء الذين يرون في كل هجوم إسلامي شكلاً إمبريالياً جديداً. نستطيع تصنيف هنا هؤلاء المفكرين ضمن “الإسلاميين-اليساريين” المتحالفين قليلاً مع “الإسلاميين-الفاشيين” الداعشيين. ولكن إجمالاً-و خاصة إذا ما حكمت على المسألة من خلال استقبال جمهور القراء لكتاب “الموت من أجل كوباني”-يتقبل الفرنسيين بأغلبيتهم و ينضمون لنضال الكرد السوريين ما إن يتعرفوا على التفاصيل”

لقد شهدت روج آفا عقد قمة العالم في ديريك وهناك الكثير من الأمميين الأجانب المنخرطين في صفوف النضال و يبحثون في ثورة روج آفا عن طرق للحل ونموذجاً بديلاً لنظم الدول الرأسمالية الاحتكارية و التي حولت الثقافة إلى سلعة تجارية وأداة وصناعة لفرض لون واحد و معايير معينة. الكثير من الأمميين يرون أننا كأبناء روج آفا محظوظين و أن ثقافتنا تشكل أملاً و خلاصاً للكثير من الشعوب المتطلعة و المتعطشة للحرية والعيش بإنسانية. يا ترى هل تستطيع هذه الشعوب الجلوس حول طاولة واحدة و كتابة التاريخ معاً ضمن إطار هذه الثقافة المشتركة التي تمثلها ثورة روج آفا؟

 

وظيفة وميزات الشخص الذي يعمل في سلك الدبلوماسية الثقافية

 

تكمن مهمة الدبلوماسي في نقل عناصر ورسائل لغوية. الدبلوماسي مرشد و دليل لطرف ما ويجب عليه الحصول على ثقة الشخص الذي يعمل لصالحه. أن يعطي معلومات وافية عن تجهيزات الطرف الآخر أو المعسكر الآخر. أن يكون حريصاً على جذب انتباه وسماع الآخرين. وهذا يشبه القدرة السحرية لإيقاظ وتنويم الحضور أي التأثير على الطرف الآخر عقلياً وعاطفياً. وبشكل عام فهذه هي الممارسة المبدئية للدبلوماسية وللدبلوماسية الثقافية. لقد تم تصوير السفراء في فن عصر النهضة بالملائكة.  وكانت مهمة الملاك هي أن يذكر الناس بمحبة الله لهم. وبنفس الطريقة فالسفير يعمل على توطيد أواصر المحبة بين الأمراء وبالتالي بين الشعوب. إن رسالة السفير هي إرساء السلام.

مثال بيير شوني: لم يكن بيير شوني مجرد سفير أرسل لإهداء الملكة كريستين للكاثوليكية، أو ليخدم فقط رغبة الأمير ولو لم يستخدم أفكار وفلسفة ديكارت في فهم العالم والإنسان لما كان قد استطاع النجاح في مهمته. تعرفت كريستين على نموذج من الفلسفة النموذجية (Ideal) ومن أحد أهم مبادئ الدبلوماسية هي هذه الحالة من التراكب (التطابق). شوني يعتبر بالنسبة لمازاران ممثل لمصالح فرنسا. وكريستين تعرف ذلك. ولكنه بالنسبة لها ممثلاً عن الفلسفة الديكارتية وهذا يفعل مفعوله. فقط لأن بيير شوني السفير والفيلسوف قد جمع وركب في نفسه هذين الميزتين. فعندما نقوم بهذا العمل في إحدى الأماكن لا يمكن النجاح دون هذا التركيب. مثال: إذا قابلت أمريكياً وقلت له: أريد أن أوسع تأثير بلادي في أمريكا، فهو لا ولن يستمع إليك. يجب عليك إيجاد طريقة أخرى. مشاركة فكرة مثالية معه. فكرة مرتبطة بمعادلاته، بحساباته، وتمثيله الخاص بالأشياء منذ نشوئها. إن هدف الدبلوماسي يكمن في توسيع نسبة الالتزام والانضمام للبلد الذي يعيش فيه للبلد الذي يمثله.

مثال: للتوصل لتعريف الناس بمفاهيمنا الخاصة نحن بحاجة للانتماء، يجب أن ننال من البلد الذي نحن فيه كدبلوماسيين الفرصة كي يتركونا نعمل على بناء الثقة، والتعريف بهويتنا. وهذه الأمور لا تحدث عن طريق السحر أو تحدث فجأة. يلزمنا العواطف، اللقاء، والتعلم. فهنا تتدخل الدبلوماسية الثقافية، فدورها يتمثل في تحضير الأرضية للقاء وتنظيم اللقاء حرفياً يعني تحضير الأدوات والتجهيزات. الدبلوماسي هو الذي يلتقط المعلومات الكافية.

 

ماذا تعني الدبلوماسية الثقافية من الناحية العملية؟

 

المسألة في العمق هي: كيف يفكر الناس؟ وهذا هو الشيء الذي يعقّد الأمور. فمن المعقّد أن نفهم شخصاً عادياً فما بالك عندما نتحدث مع شخص من بلد آخر، يتكلم لغة أخرى و بالنتيجة له ثقافة مختلفة. يجب فك الشيفرات: كيف يفكر الناس؟ ولا يكفي معرفة مصالحهم و أهدافهم، لكن يجب معرفة طريقة تحليلهم للأمور وعرضهم لها. المنطق الذي يفكرون به. وهذا هو الشيء المهم والمعقد. لأن الدبلوماسية ليس علماً (في العلم تأتي الاستنتاجات بعد التجارب – في موضوعنا لا يمكن فعل ذلك، فكل تجربة فريدة ووحيدة), لهذا فالدبلوماسية ليس علماً، وهذا هو الشيء الجميل، فكل مرة نجرب، نحصل على نتائج مختلفة.

ماذا نعمل من الناحية العملية؟ ليس لدينا دروس تدريبية نعطيها للناس ونقول لهم: هكذا يفكر الناس، ومن السهل معرفة ذلك. لا يوجد مصطلح قانوني، (لا توجد أدوات أو قوالب جاهزة للدبلوماسية). لا يوجد براءة ذمة دبلوماسية لأنها عبارة عن تجربة إنسانية. الطريقة تتلخص في الانتقال من شيء إلى آخر. وفي الأخير نقل أحاسيسنا الداخلية ومشاعرنا إلى لغة أخرى (المنظومة اللغوية بالمعنى الواسع) ونتلاءم ونتأقلم مع الآخر. ولا نستطيع معرفة كيفية تفكير الآخر دون معرفة أين يعيش؟ كيف يعيش؟ مع من يعيش؟ كيف يأكل، ما الدعايات التي يراها على التلفاز و في أي بيئة يتواجد؟ يجب أن تتواصل قدر الإمكان للتأقلم والولوج في فكر الآخر كي تعرف ما هو المصدر المسيطر في فكره. الدبلوماسية بالمختصر هو التوصل إلى صياغة الأشياء ضمن لغة مفهومة من قبل الآخر. ويمكننا حينها التقدم في المفاوضات. والدبلوماسية  يعني الوصول إلى الآخر الذي يمكنه مستقبلياً أن يصوع الأشياء بلغتنا الخاصة بنا و أن يفهم فوراً مدى أهمية الشيء بالنسبة لنا.

المراجع:

  • أنتونان أودري”Antonin Audray” (المستشار الثقافي الفرنسي لدى السفارة الفرنسية في الولايات المتحدة وكان مستشاراً في الشؤون الثقافية لرئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان.), محاضرات ألقاها لطلاب الجامعة الأمريكية عام 2015.
  • أفكار موراي بوكشين تتفتح في روج آفا,فانسان جيربير, جريدة العالم الدبلوماسية الفرنسية,3 كانون الأول2017.
  • الرجل الذي تكلم في أذني أوجلان 1-2, دانييل فلوري, موقع كادستان, 30 اكتوبر 2016.
  • مقابلة مع باتريس فرانشسكي, كاتب و مخرج و ملاح فرنسي حائز على عدة جوائز في الآداب ومجالات أخرى.

كاتب

التعليقات مغلقة.