مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط، ومفهوم العيش المشترك -2

جوان عجك

جوان عجك
جوان عجك


2 – المجتمع في الشرق الأوسط:

تتميز المجتمعاتُ الشرق الأوسطية وفي منطقة المشرق العربي تحديداً بالتنوع الهوياتي الذي كان متطوراً بشكل مطرد للولاءات الوطنية وللكتل السياسية المعبرة عنها قبل أن تقع فريسة نظم الطغيان الحديثة منذ السبعينيات من القرن الماضي. وكان لها الدور في إنجاب أقوى الحركات الوطنية التي كان لنشوئها وتطورها الفضل الأول في تحقيق الاستقلال وطرد قوات الاحتلال.  وولدت هذه الحركات المجتمعية أولاً والسياسية ثانياً في لحظة ترفع وارتفاع من قبل جميع الطوائف والطبقات والأقوام على الحساسيات التقليدية كلها, وأشكال التعصب والانغلاق لإقامة جمهوريات ديمقراطية أو أشكال تطورية لمفهوم الدولة, قبل أن تقوم الدولة التسلطية بإعادة التموضع للفئات المجتمعية عبر أجهزة الأمن, ومن خلال الإدارة الريعية السياسية وإدارة توزيعها عبر علاقة القربى والولاء السياسي وغير ذلك بالقيام بإعادة إدارة التنوع الهوياتي عبر تسييس الفسيفساء الاجتماعي بشكل شرخي, حيث فشلت باعتبارها أنظمة سياسية في الاستفادة من النزعة في إنتاج هوية وطنية جامعة, فلجأت إلى اختراع آليات سياسية لإدارة التنوع الهوياتي بدلاً منها, وغطت الأنظمة السياسية فشلها بمبررات موضوعية أحياناً, منها عوامل خارجية تمثلت في سياسات الهيمنة والسيطرة الاستعمارية, أو داخلية مثلتها جماعات دينية عقائدية أيقظت عصبيات وانقسامات فرعية أعادت للخطاب الطائفي والمذهبي حضوره, أو أخرى إثنية حملت طروحات تقسيمية وانفصالية شكلت تهديداً للكيان الجغرافي السياسي الموحد , وإلى ما هنالك من تفخيخ حدود التنوع المجتمعي في الدولة وزرعها الألغام, وتحويله بذلك من نعمة إلى نقمة.

يصعب في بعض الدول الحديثة الولادة نسبياً في الشرق الأوسط التمييز بين فشل النظام وفشل الدولة, ففي الدول التي ولدت بعد الاستقلال قبل أن تكتمل فيها مكونات الوطنية, وتعاني أزمة شرعية في شأن حدود التقسيم الاستعماري للأرض, أو عدم اكتمال تشكلها الوطني, يصعب التمييز بين فشل النظام الذي تعتبر مهمة بناء الدولة – الأمة أولى مهماته الموضوعية ” وإن لم يدركها ذاتياً بالضرورة ” وفشل الدولة .

التنوع سمة من سمات المنطقة, ويمكن أن يكون عامل قوة وصمود وغنى إذا تفاعل في إطار استراتيجية مدروسة في بناء الدولة على أساس المواطنة المتساوية والمشتركات الثقافية التي تسمح بالتفاعل بين الهويات من دون قمع الخصوصية.

وباختصار ليس التنوع مصدر شقاق وضعف إذا ما أحسنت إدارته, لكنه يصبح عامل إضعاف إن أُسيئت إدارته, ولاسيما عندما يتم اللجوء إلى المحاصصات الخفية من دون الاعتراف بذلك إيديولوجياً, وفي غياب مواطنة متساوية, أو عندما يقوم نظام غير طائفي في فكره وبنيته التاريخية بالعبث بالهويات الفرعية سياسياً وإخضاع السياسة تجاهها لمصالح النظام الآنية , عوامل قيام الدولة التسلطية في الشرق الأوسط وأدواتها كما قلنا سابقاً لا يمكن أن تمر دون أن تؤثر في المجتمع نفسه وفي قيمه السائدة وخصوصاً في تجذير ” السلوك الفهلوي ” وتدبير الحال في معاملات الناس الصغيرة , واعتبار العنف أداة طبيعية تشكل القاعدة لا الاستثناء في معالجة الأمور , يضاف إلى ذلك من تعقيد وتحديداً في دول المشرق العربي , عكس تونس ومصر مثلاً , هو دخول الاستعمار الغربي عبر حماية الأقليات في كيان الإمبراطورية العثمانية , فلجأ الناس في كثير من الحالات إلى كيانات مثل القبيلة والعشيرة والطائفة

إذا يمكن توصيف التركيبات المجتمعية في منطقة الشرق الأوسط بأنها وبالضرورة القسرية في ظل عوامل عديدة تاريخية وآنية هي تركيبات ذات سلوك ” فهلوي “، وعنفيه وما قبل مرحلة المجتمعات المدنية.

 

3 – تاريخيات ضرورية في أسباب نكوص الانتقال لمجتمعات مدنية في الشرق الأوسط:

يأخذ المجتمع في الشرق الأوسط مسألة جدلية الأمة والمجتمع المدني , ليس فقط لتقاربهما المفهومي كمجتمعات متخيلة من الأفراد, وإنما أيضاً في علاقتهما التاريخية المتبادلة.  لقد كان الإخفاق في بناء الأمة هو الداعي لعودة هموم هذا الإخفاق في الظهور بلباس مسألة المجتمع الحديث المرافق للدولة الحديثة, فمن الواضح أن الدولة التسلطية لم يعد بإمكانها حل معضلة بناء الأمة بالفرمانات العليا, إن ادعاء هذا الفصل هو أن الشكل التاريخي العيني الذي اتخذه المجتمع, بخاصة في المشرق العربي مع إطلالة القرن العشرين, كان الجهد المدني الجماعي المستثمر في بناء الأمة, وقد أدى الفصل بين الأمة والمجتمع المتمدن إلى نشوء القومية كإيديولوجية حزب أو دولة, وإلى توكيل مهمة التحديث إلى الدولة التسلطية, أشرنا بشكل صريح بأن ازدهار مفهوم المجتمع في الثقافة السياسية والمواطنية , هو مرتبط إلى حد بعيد مع أزمة الدولة التسلطية , ولكن هذا الاهتمام لا يصيب جدلية المفهوم التاريخية إذ لم يتضمن الاهتمام بالأمة, تماماً مثلما أفرغت الإيديولوجيا القومية مفهوم الأمة من أي مضمون ديمقراطي بشطبها المجتمع من جدول أعمالها.

أولا – من الأمة كمجتمع مدني إلى الإيديولوجيا القومية:

لم يكن للدولة في التاريخ الإسلامي مدخل سانح إلى حياة رعاياها كأفراد، لقد عاش ” الأفراد ” بين الأهل “community”   , العشيرة، القرية، خارج نطاق الدولة، لم يكن المجتمع حاضراً، كما لم تكن الدولة كلية الحضور.

وعندما قابلت الدولةُ الفردَ فإنها قلما قابلته وجهاً لوجه، إذ توسطت العلاقة أجسام عضوية عديدة. لم يكن الحاكم معزولاً ” ليس له من يراسله “، وإنما كان محاطاً بنخب عسكرية تختلط مع العائلات التجارية في المدينة غالباً، وحاشية وبطانة شكلت بمجموعها الدولة.

في إحدى المقالات الأولى التي كتبت عن العلاقة مجتمع / دولة، كُتِبَ أنه في نهاية القرن السابع عشر شكلت النخبة العسكرية التي شملت جهاز الدولة والعلماء جسماً وسيطاً من نوع ما. ” لقد تزايد تأثير طبقة الحرس بالمعنى الأفلاطوني في نهاية القرن السابع عشر ” وقد استطاع السلطانُ أن يصممّ السياسة وبعد ذلك التاريخ في حالات استثنائية فقط مع أنه بقي مصدر الشرعية ورأس النظام ”

وقد أدى التزامُ السلطان لرعاياه في المدينة إلى إعاقة تطور التجارة مقارنة بتطور الحرف، وفي حين شجع الملوكُ في الغرب التجارَ أكثر من الحرفيين، كان العكس صحيحاً بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية. ولم تعترف الدولة بالشخصية التعاونية للمدن، الأمر الذي أدى إلى منع تطور رأس المال التجاري. ولكن عدم إضفاء طابع قانوني على التعاونية الأهلية، لم يكن من نصيب المدن فقط، لدينا إذاً بنى تقليدية لم تتطور إلى شخصيات حقوقية ” مواطن “.

لا تتلخص البدائل التاريخية إذاً بأجسام ” مونتسيكيو ” الوسيطة الأرستقراطية من جهة أولى، وبالاستبداد الذي يتم تخيله عادة كدولة توليتارية تطال الفرد من جهة ثانية. ولم يعش الفرد في الشرق الأوسط ” في ألف عام من العزلة ” في مواجهة إرهاب الدولة, ولا عاش في ظل أجسام وسيطة معترف بها حقوقياً , فالتوليتارية والمجتمع المدني كلاهما مفهوم حديث ينمذج الحداثة الأوروبية .

لم يتطور المجتمع في الغرب كتعويض عن ضعف الدولة، كان المجتمع القوي والدولة القوية حصيلة التطور المتوازي نفسه، ولم تكن اللامركزية وتشتت الدولة شروطاً تاريخية لتطور المجتمع بمفهومه الأوروبي الثاني، أي بمفهوم اقتصاد السوق، وإنه لخطأ قاتل الاعتقاد بأن نمو المجتمع يعني تقلص الدولة. وانحطاط الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط ثم انحلالها لم يعنِ نشوء مجتمع مدني، والمؤسسات والروابط المدنية التي بدأت بالظهور في القرن التاسع عشر في البلدان الشرق أوسطية، لم تكن محاولة لإضعاف الإمبراطورية بل لتحديثها، وعند تعذر ذلك التقى المجتمع الناشئ مع القومية كتوائم تاريخية كما كانت الحال في أوروبا.

أما البنى التقليدية, فإن توسُّعَ حيز حريتها مرتبطٌ بتقلص حيز الدولة, واذا وافقنا أن بنية الإمبراطورية العثمانية كانت تفتقر إلى الأجسام الوسيطة  التي اعتبرها كل من ميكافيللي ومونتسيكيو ما يميز الملكية الأوروبية من الاستبداد الشرقي, كما كانت تفتقر إلى الحيز العام القائم على حقوق الملكية الخاصة التي تحكم المساحة ما بين العائلة والدولة, والذي يطلق عليه هيجل تسمية مجتمع, نصل إلى نتيجة مفادها أن حيزَ البنى التقليدية يتّسع كلما تقلص حيزُ الدولة, الأمر الذي يؤدي إلى لقاء القوى المدنية / القومية والبنى التقليدية .

تلعب الولاءاتُ التقليدية دورَ مجند فعال للقتال, ولكنها تتحول إلى عائق جدي في ساحات المحن والأزمات, وتصطدم البنى التقليدية في البداية مع مشروع التحديث الذي تشكل الأمة بالنسبة إليه المجتمع المدني.  فالأمة ترفض أية وساطة بينها وبين الأفراد حتى يتحقق التطور المجتمعي ويأخذ شكله بصيغة أقرب إلى الديمقراطية.  لم تخشَ القوى التقليدية في الشرق الأوسط أمة ” تركيا الفتاة ” مثلاً, بسبب التتريك فقط, وإنما بسبب كلية حضور الدولة فيها , ولم يتوفر الوقت الكافي لدمقرطة ودسترة الدولة الحديثة الصاعدة, وتحويل الأمة من أداة توسع الدولة إلى أداة وضع حدودها.  وعندما انفرط العقد  لم تكن الحدودُ بين معسكرات الحداثة والتقليد في بلدان الشرق الأوسط واضحةَ المعالم, وقد أسهمت المرحلة الاستعمارية سلبياً في وضع الحدود بين المجتمع والدولة, في الماضي أقصت الدولة ” المجتمع ” الذي بدأ حيز ” حريته ” عند حدودها, أما الاستعمارُ فأضاف كسراً معرفياً إلى العلاقة بين الطرفين , وأتت الانقلاباتُ العسكرية في الخمسينيات بخطاب راديكالي قومي وبأشكال جديدة من السلطة السياسية التي تتحدث باسم إرادة الأمة ولا تترك مجالاً لأشكال أخرى في تفسير هذه الإرادة , وبشلل المجتمع وتفكيك أوصاله وغياب النسيج الذي تقدمه شبكة المؤسسات المدنية الطوعية الممكن الوحيد لتوسط العلاقة بين الفرد والأمة كصاحبة سيادة, إلى إعادة إحياء البنى الأكثر تقليدية وجزئية : طائفية , عشائرية , جهوية , وغير ذلك .

غياب مفهوم القوميات بشكله الطبيعي وغياب الأمة المتشكلة أدى على مستوى الهوية إلى ازدهار الهويات السنية والشيعية والإسلامية والمسيحية والجنوبية والشمالية، حتى الصراع الإيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين في بعض المجتمعات كالجزائر مثلاً اقترب من شكل حرب أهلية بين هويات ” إثنية ” عربية إسلامية وفرانكفونية بدلاً من قناعات وإيديولوجيات، ما أنشأ كبديل هوياتي على المستوى المجتمعي هو هويات ما قبل قومية.

 

ثانيا – الأمة وانتماءات أخرى:

لا يمكن تصوّر العلاقة بين المجتمع والاستعمار، إذا لم تتوسطها مسألة القومية، بأنها مرحلة ضرورية للتحرر من الاستعمار ومسألة بناء الأمة، وقد ترك الاستعمارُ أغلبَ بلدان الشرق الأوسط في دوامتين متعلقتين ببناء المجتمع المدني:

أ – دوامة الوحدة مقابل التجزئة:

وتعني أن الأقطار في محاولتها تأسيس شرعيتها على تاريخ إقليمي, أقصت مجموعات كاملة من السكان لانعدام التطابق بين تاريخ الإقليم وتاريخ الدولة, أما عند التشكيك في شرعية الدولة , بوصفها إفرازاً استعمارياً, بحالة الدول العربية في الشرق الأوسط مثلاً, والانطلاق من الأمة العربية, فقد تم من جهة أولى  فرض الأمة العربية على التاريخ ما قبل القومي , وإقصاء غير العرب من الأمة, ومن جهة ثانية  كان باستطاعة الدولة التي تتبنى مفهوم الشرعية هذا, أن تدعي بأنها مازالت حركة تحرر وطني, لأن مهمات التحرر الوطني لم تستكمل بالوحدة العربية الشاملة, وهذا يعني أن علاقة الدولة بالمجتمع ليست علاقة طبيعية بين دول مستقلة ومجتمعاتها, والحق إن الاستعمارَ لم يُجزئ أمة قائمة بقدر ما أعاق نشوءها  في مرحلةٍ كان بناء المجتمع المدني فيها يعني بناء الأمة.

ب – دوامة الأكثرية والأقلية:

إلى جانب تحالفه مع القوى التقليدية طوّر الاستعمارُ أيضاً خطابَ تحالف مع الأقليات ضد الأكثرية، وقد عقد هذا الخطاب التوازن المطلوب لبناء المجتمع المدني في العلاقة بين الأكثرية والأقلية، وأدى إلى إحداث الانشقاقات الطائفية والإثنية والإقليمية عن طريق سياسة التعيينات وطريقة بناء الجيش والأجهزة الأمنية.

 

4 – في فضاء الحديث عن العيش المشترك:

إن المعضلةَ الأساسية التي تحيط في الحديث عن مقومات العيش المشترك في دول ومجتمعات الشرق الأوسط, وتحديداً دول المشرق العربي ترتبط بمجموعة عوامل معقدة ومركبة في الإطار الفكري النظري, حيث أن مفاهيم العيش المشترك الموضوعة على مستوى العالم هي وصفاتٌ جاهزة ومنتجة غربياً ضمن قيم الليبرالية والنيوليبرالية ومرحلة ما بعد الحداثة. وتعاني اليوم أغلبُ المجتمعات من معضلات شتى على مستوى الفردانية وغيرها من القضايا التفككية والمعضلات التي تبدو أمامها تلك الوصفات الجاهزة غير مجدية على مستوى الحلول , بالإضافة لمعضلة أخرى تبدو جلية لدينا ألا وهي معضلة تحديد ماهية حقيقية لمجتمعات الشرق الأوسط في ظل هذا الإطار التاريخي السبق ذكره وغياب مفهوم الأمة عن أغلب المجموعات الأهلية التي تشكل النسيج الشعبي في مناطقنا, وبذلك نحن أمام تحديات حقيقية في تحديد نقطة البدء وكيفية بناء مجتمع مدني ومن سيقوم بذلك ؟ كيف يمكن للمؤسسات أن تنشئَ دوراً لها في ظل غياب الفرد ” المواطن ” الذي يستطيع أن يستوعب عملية البناء.

والأهم كيف يمكن ذلك مع التأكيد على بناء الخلايا المجتمعية بشكل ديمقراطي لأسسها ومفاهيمها ومشتركاتها في العيش المشترك، أين حدود التأثير التي يمكن أن تقوم بها المفاهيم والمؤسسات والهيئات قبل أن تتجاوز منحاها نحو توصيف أكثر أيديولوجيتا منه على أنه منحى فاعل متماهي مع التجربة فقط لا غير؟

في ظل التعددية الكبيرة سواء من الناحية الاجتماعية والاقتصادية أو العرقية أو الثقافية أو الدينية, قد تجد بعضُ المجموعات نفسها مهمشةً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وعُرضة لوصمة وتمييز نتيجة مكانة اجتماعية متدنية أو هوية معينة مختلفة عما هو سائد, وبظل سيطرة الهشاشة والتمييز والنبذ, يولد شعور بالإحباط والظلم, وتظهر في أعقاب هذا الشعور استراتيجيات مقاومة وانعزال اجتماعي إضافة إلى سلوكيات تناضل للبقاء والهروب مما تخاله مصدراً للتهديد, لذلك ما العمل إزاء هذه الحالات التي قد تتحول إلى عنف كامن لا سيما حين تؤدي إلى عمليات التفرق والاستغلال والتسييس إلى زرع الخوف من كل ما هو مختلف وبالتالي إلى تهديد التلاحم الاجتماعي أكثر فأكثر..

لا يمكن ذلك في هذا الواقع المعقد إلا بالانتقال من الانتماء إلى المجموعة إلى الانتماء الشامل إلى المجتمع عبر عملية توطيد مستمرة ويعتبر ذلك أحد أهداف العمل الاجتماعي الذي يسعى إلى خلق فرص لتحويل إلزامية العيش جنباً إلى جنب إلى الرغبة في العيش المشترك، وعليه يمكننا اعتبار أن الأدوار للمعنيين في هذا الواقع تكمن في تحويل الاختلاف ” التفريقي والجدلي إلى فرصة اندماجية وسلمية ”

وبذلك يشارك العمل الاجتماعي في بناء ثقافة التعايش السلمي التي تتيح التبادل على صعيد العلاقات الاجتماعية وتحفظ حق الاندماج بما يضمن احترام خصوصيات الأفراد والجماعات.

يضاف إلى ذلك اعتماد استراتيجيات بناء هوية فاعلة تهدف إلى التوفيق بين السعي الشخصي إلى الاندماج والتكيف الاجتماعي العام في إدارة النزاعات والصراعات والتوترات الثقافية ويهدف هذا التعايش البناء إلى إنتاج وحدة جماعية تعددية ومواطنية تتميزان بقبول الاختلاف من دون أي لوم، كما تحرص هذه الرؤية الطموحة للعيش المشترك على عدم تحول الحق في الاختلاف إلى إيديولوجية متطرفة.

علاوة على ذلك تشارك السلطة العامة والجهات الفاعلة الوسيطة في بناء العلاقات الاجتماعية أو إصلاحها، فتسمح بالتالي لكل فرد أو جماعة معينة أو مجتمع بأن يطمئن إلى استمرارية وجوده بكرامة، وأن ينال مكانة توازي مكانة الآخرين، وأن يمارس حقه في إيصال صوته.

تفرض هذه الدينامية الجامعة مواجهة الوصم والتهميش ومشاعر الإحباط الناجمة عن حالات الظلم وكل ما يعيق الوصول إلى الحقوق.

ذلك أيضاً ينقلنا إلى أسئلة أكثر في صميم التحديات التي تواجه بناء العيش المشترك وتطرح تساؤلات عديدة حول تحديات إعادة إحياء التعددية وتعزيز الغيرية وأنماط العمل المتداخلة فيها.

كيف نحفز ثقافة الانفتاح على الآخر والمبادرة نحوه؟ كيف نسعى إلى توسيع مجالات التفاعل والتبادل؟ بالاستناد إلى أي منهجيات ومفاهيم وتيارات نظرية وبالتعاون مع أي شركاء نعزز التقارب بين وجهات النظر والتوافق بين الخطابات؟ أي حوار يجب أن يُطلق لإنتاج تجارب ومسارات وخبرات ومصالح مشتركة تجمع بين الأفراد مع المحافظة على خصوصيات كل منهم؟ كيف تؤثر نظرتنا إلى الهوية في توفير فرص جديدة لبناء العلاقات؟ كيف نميز عوامل التباعد والنزاع والانطواء على الهوية في الذاكرتين الفردية والجماعية؟ ماهي المقاربات التي يمكن اعتمادها بغية التأثير على تداعيات هذه العوامل والعمل على التوفيق بين المرجعيات؟

هذه التساؤلات وغيرها تستوجب مقاربة تهدف إلى توضيح أسس العيش المشترك: ماهي المعاني التي نربطها بالعيش المشترك باعتباره نموذجاً مبنياً على تجارب ودلائل متعددة؟ وما الذي ينتج عن محاولات تقريب الاختلافات واحترام الهويات وحماية الأطر المرجعية ” أنماط العيش والقيم والعقائد والمعتقدات ” وماهي انحرافاتها؟ كيف نحدد نقاط القوة لهذه العمليات وما يعيقها وكيفية اجتيازها؟ وكيف نأخذ في الاعتبار التحركات الحالية الحاملة للهويات المتحولة بفعل التداخل بين الثقافات والحقائق العائلية وما إلى ذلك؟ وكيف نعيد النظر في ذلك في ضوء العمليات التقليدية لبناء الهوية؟

ما يجب لفت الانتباه إليه أيضاً عند الكلام عن العيش المشترك هو عوامل التصدي لعدم المساواة والدفاع عن حقوق الأقليات وكيفية حماية الحق في الوجود ودعمه, ويرتكز هذا الحق على إمكانية بناء مسارات لا ترتبط بحتمية نظام مهيمن من أي طبيعة كان سواء إيديولوجية , أو اجتماعية, أو هيكلية, أو حتى قانونية في وجه قضية المساواة بين الأفراد واحترام حقوق الإنسان, ما يطرح السؤال عن قوة التغيير إزاء أنظمة اجتماعية فرعية أيضاً ” على سبيل المثال العائلة والمدرسة والمجتمع المحلي والجماعة والدين والدولة” التي قد تكون قادرة على التهميش والإخضاع والإيذاء أمام تكاثر حالات الظلم وعدم المساواة والتمييز والاضطهاد والإكراه؟ ما هو الدور المفروض هنا لفئات العمل على العيش المشترك هل هو التزام دور أكثر ميلاً لمراقبة الأحداث بدل العمل على التغيير؟

وعند الانتقال إلى مستوى وضع السياسات العامة وتنفيذها يتطلب التفكير لبناء العيش المشترك تسليط الضوء على كيفية بناء السياسات العامة وتطبيقها، كيف توضع هذه السياسات، وإلى أي مدى تحث على الاتحاد والتضامن؟ وهل ترتكز على مشاركة مختلف المعنيين؟ وهل تؤسس للحوكمة بين القطاعات؟ ووفقاً لأي شروط يمكن اعتبار أن هذه السياسات تندرج ضمن حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة؟ وأي عقد اجتماعي جديد قد ينتج عنها؟

ما أحاول التعبير عنه من طرح الكثير من الأسئلة هو أن مفهوم ” العيش المشترك ” لا يمكن له أن يكون عبارة عن بيان نظري أو كليشة جاهزة وبرنامج يمكن طرحه كجسم دخيل يجب على المجتمع أن ينصب في قالبه بالشكل الذي يناسبه بل هو عبارة عن مسار تفاعلي يحتاج من الجميع توطيد العلاقات والتشابكات على مستويات متعددة لإنتاج قيم ” عيش مشترك ” في الشرق الأوسط ضمن المجتمعات في إطارها وشكلها المرتبط بالدولة ومن بعده الانتقال للتعايش مع باقي مجتمعات الدول الأخرى وذلك لا يتم إلا بالتمسك بقيم ومفاهيم يفسح لها المجال وتسعى جميع الفئات إلى تقديسها واستعداد الموت لأجلها : كالحرية – والعدالة – والديمقراطية , مع عدم إنكار أن تلك المفاهيم بحد ذاتها تحتاج إلى تحديد واضح مجمع عليه ,لتقوم بعدها بعملها التدريجي في ترسيخ الوعي والقيم التي قد تنشأ مفاهيم متبلورة وواضحة وعن ممارسة عن مقومات للعيش المشترك في مجتمعات الشرق الأوسط .

 

 

قائمة المراجع:

1 – سامي زبيدة: الدولة والمجتمع

2 – غسان سلامة: المجتمع والدولة في المشرق العربي

3 – خلدون حسن: الدولة التسلطية – دراسة بنائية مقارنة

4 – محمد عابد الجابري: إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني

5 – علي الصاوي: التنظيمات غير الحكومية

6 – على الكنز: من الإعجاب بالدولة إلى اكتشاف الممارسة الاجتماعية

7 – محجوب الزويري ومجموعة كتاب: العرب وإيران – مراجعة في التاريخ والسياسة.

8 – المسألة الطائفية ومشكلات الأقليات – دراسة سياسية

9 – محمد نور الدين: تركيا في الزمن المتحول – قلق الهوية وصراع الخيارات

10 – العيش المشترك –مؤتمر الرابطة الدولية للتدريب والبحث

 

 

 

 

كاتب

التعليقات مغلقة.