مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

أهمية أردوغان في استراتيجية مركز القرار العالمي

حسين عمر

حسين عمر
حسين عمر

تمهيد :

– بروز أردوغان على الساحة السياسية التركية والظروف المساعدة لذلك

– دور القوى الرأسمالية فيما بعد تلاشي الإمبراطورية العثمانية.

– الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتركيا، وكيف تخطتها؟

– نوايا أردوغان التي ظهرت للعلن إبّان المقتلة السورية.

– نجاح أردوغان في دمج الإسلام السياسي والطورانية الأتاتوركية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت

المقالة

لم يكن ظهور أردوغان على الساحة السياسية التركية صدفة، كظهور أية شخصية أخرى ساعدته الظروف في تبوء مكانة داخل مجتمعها، بل كان نتيجة حاجة مركز القرار العالمي الذي استطاع أن يعيد سيطرته على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانقلاب (مناهضي) الإمبريالية على أنفسهم، وفتح أبواب دولهم على مصراعيها أمام الشركات والاستثمارات الرأسمالية.

بدأت   المذكورة بشكل علني وواضح مع بروسترايكا، واستلام يلتسين السلطة في الاتحاد السوفيتي من خلال انقلاب شكلي مفضوح الأهداف ليصير إلى تفكيك الاتحاد وهرولة الدول (المستقلة) للاحتماء بالمظلة الرأسمالية، وإزالة جدار برلين وتفكيك يوغوسلافيا، ثمّ إنهاء الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية، وآسيا وأفريقيا، وبذلك تمّ تفكيك النظام المنافس والمعرقل لظهور الرأسمالية المتوحشة التي ظهرت كقوة تدخل سريع يقضي على كل أمل إنساني بسرعة لم يسبق لها مثيل.

والجدير بالذكر بأنّ التحضيرات لوضع خطط للقضاء على النظام المنافس المذكور بدأ مع ظهور النظام نفسه، لأنّه ضيق الأسواق على الشركات التي بدأت تتحوّل إلى عابرة للحدود، للحصول الى الطاقة، والمواد الخام، وخاصة لتصنيع الحديد والنسيج.

اتّجه المركز إلى إذكاء الميول الطائفية والمذهبية الدينية، وبدأت أجهزتها المختصة العمل في المستعمرات لتشكيل تنظيمات عملية تنفذ مخططاتها بعد الانسحاب.

بعد تفتيت الإمبراطورية العثمانية وظهور الدول المختلفة في المنطقة وكذلك بعد انتشار الحكومات الاشتراكية في شرقي أوروبا دعمت وعملت القوى الرأسمالية على تشكيل تنظيم سياسي تحت غطاء ديني ليكون أحد أهمّ ركائز سيطرتها على شعوب المنطقة، والتحكّم بها من خلال تشكيل تنظيم الأخوان المسلمين من قبل الاستخبارات البريطانية، هذا التنظيم الذي وضع على عاتقه وحسب أهدافه الاستيلاء على الحكم في مصر بداية، والانتشار من بعدها، لكنّ الظروف السياسية والاجتماعية للبلد لم تسمح لهم، وقد حاول جمال عبد الناصر تقزيمهم، وبتر أجنحتهم في فترة الخمسينيات، إلّا أنه بقي تنظيماً نشطاً، واستطاع أن يشكّل فروعاً له في العديد من دول العالم، ومنها تركيا التي كانت قبل أعوام العشرينيات دولة ذا نظام إسلامي تحدّد سياساتها وقوانينها من خلال الشريعة الإسلامية، مع استيلاء مصطفى كمال أتاتورك على السلطة والإعلان عن نظام جمهوري، بدا يحكم الدولة من خلال دستور جديد بعيد عن الشريعة، ممّا أدّى إلى ظهور حركات قومية ظاهريّاً، وإسلامية الطابع في سياساتها وأنظمتها، دون أن تكون تابعة لتنظيم الأخوان العالمي، والذي أخذ من القاهرة ولندن، ثمّ بعد تشكيل دويلة قطر – الدوحة مقرات لأعمالها . ومن المدن الثلاثة بدأ التنظيم يمد جذوره نحو بقية الدول، وخاصة الإسلامية منها، وتركيا كانت إحدى تلك الدول على الرغم من الرقابة الصارمة للدولة على التحركات الإسلامية، خوفاً من الانقلابات، والعودة إلى نظام السلطنة الذي كانت تدعو إليه العديد من التنظيمات السرية والطرق الصوفية المنتشرة، لكنّ أتاتورك أصدر العديد من القوانين التي نصّت على إنهاء تلك الحلقات والتنظيمات، ليبقى مؤيّدو العودة لعهد السلطنة مجموعات انتشرت ضمن الأحزاب التي تشكلت وخاصة القوموية منها، إلى أن ظهر نجم الدين أربقان، واقتحم الساحة السياسية التركية العلنية، وأعلن عن تأسيس حزب الرفاه – فروع تنظيم الأخوان المسلمين التركي – الذي ضم مجموعة من الدعاة وشيوخ الدين، وكان رجب طيب أردوغان أحد القيادات الشابة للحركة، ذو كاريزما تساعده لتبوء مكانة داخل التنظيم.

بدأ أردوغان حياته السياسية كواعظ يخطب في الجوامع والاجتماعات السرية منها والعلنية، واستطاع خلال تلك الفترة توطيد علاقاته مع القيادات الأخوانية في العالم، وخاصة مركز الجذب الجهادي – أفغانستان – حيث غلبدين حكمتيار؛ القائد الأخواني الذي استطاع أن يكون أحد الأطراف المهمّة في الحرب الأهلية الأفغانية إلى جانب تنظيم القاعدة المؤسس حديثاً، ليستقطب أكثر الإسلاميين راديكالية للانضمام الى أتون الحرب الدائرة هناك، وبذلك ظهر تنظيمان سياسيان علنيان يمثلان المذهب السني في تشريعاتهما، وعلى الرغم من الخلافات العميقة بينهما إلّا أنّهما يمتلكان الاستراتيجية نفسها، وهو الاستيلاء على السلطات في الدول المختلفة، وفرض الشريعة الإسلامية فيها.

لم يُخفِ أردوغان منذ ذاك نهاية الثمانينيات، وما بعد ميوله للعودة بتركيا إلى عهد الخلافة – السلطنة – ودعا في العديد من خطبه إلى ذلك، لا بل دعا إلى الجهاد في سبيل تحقيق أهداف المسلمين، واعتقل بسبب ذلك ليسجن خمسة أعوام، لكنّ التحضيرات كانت جارية لتعزيز مكانته، وحتى هو بالسجن ليكون الزعيم الإسلامي الأكثر شعبية في تركيا حتى في فترة وجوده بالسجن، وسبب تلك التحضيرات باعتقادنا؛ هو ولاؤه المطلق لتنظيم – الأخوان المسلمين – ومحاولاته الجدية في سبيل إنهاء فترة العلمانية في تركيا؛ الفترة التي كانت أغلبية الشركات والمؤسسات والمعامل ملكاً للدولة، ولهذا كان مركز القرار العالمي بحاجة الى تفكيك سيطرة الدولة على قطاع الأعمال، وامتلاكه لكاريزما (قومودينية)، تمكّنه من تحقيق أهداف الشركات عابرة الحدود، وفعلا بعد فشل تجربة أربقان تبوّأ أردوغان المركز الأول في سلم الزعامة الإسلامية في تركيا، وأسس مع رفاقه من حزب الرفاه مع بعض الشخصيات الليبرالية التي ضحك عليها، بتبنيه لها ظاهريّاً، ليستطيع في فترة قصيرة بدعم من مركز القرار العالمي الوصول إلى سدّة الحكم في تركيا العلمانية، وبدأ ببيع القطاع العام، ويخصخص الشركات والمؤسسات وقطاع الطاقة والمواصلات، ويبدأ بالانقلاب على من دعمه من الشخصيات والمجموعات غير الأخوانية؛ منها الليبراليين وحركة فتح الله كولن – حركة النور الإسلامية.

بدأ بالقضاء على الأفكار الكمالية بالتدريج، وخاصة داخل مؤسسة الجيش التي كانت بمثابة حامي الكمالية ونظريتها الوطنية، وخلال بداية 2002 وحتى 2016 استطاع أن ينهي هيمنة الجيش، وأن يحوله إلى تابع أمين لشخصه، وبذلك أصبح أردوغان مطلق الصلاحيات في تركيا، وربط الاقتصاد التركي بالبنوك والشركات العالمية، وهو ما كان مركز القرار العالمي يريد أن تتحول تركيا له، فبعد أن كانت دولة يهيمن عليها العسكر، ويعتمد في تطور اقتصاده على قروض البنك والصندوق الدوليين مع الأولوية للقطاع العام، وتحكّم الدولة بالاقتصاد جعل أردوغان من تركيا سوقاً مفتوحة للاستثمارات العالمية، وبدأ من خلال تهافت الشركات أن يعمل على السيطرة الاقتصادية على دول الجوار، وغزت البضائع المنتجة في تركيا أسواق دول المنطقة كلها، من بلدان الشام والعراق والخليج والشمال الافريقي مما عزز لظهور أردوغان كقائد إسلامي ناجح يلفت الأنظار، وكان لخطاباته وبهلوانياته المعادية لإسرائيل والمدافعة عن الإسلام الدور الأساسي في أن يصبح أمل الإسلاميين في قيادتهم ضد التجبر العالمي – وهو صنيعة ذلك التجبر – وضد إسرائيل وهو الذي تطوّرت العلاقات الاقتصادية والعسكرية في عهده مع إسرائيل إلى مستوى لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات التركية الإسرائيلية.

كان من الممكن أن تؤدي الأزمة الاقتصادية الصامتة والتي بدأت بالظهور العلني في منتصف العام 1015 والركود الذي أصاب الاقتصادي التركي و تهاوي سعر الليرة، وإيقاف الآلاف من المستثمرين أعمالهم, إلى انهيار الاقتصادي التركي، وبالتالي سقوط الفاشية الحاكمة، لكن المجموعة المصغرة بقيادة جاريد كوشنر والتي تضم أعضاء من وزارة الخزانة والخارجية والدفاع، ومعهم اللوبي الداعم لاستمرارية نظام أردوغان في أوروبا وإسرائيل وحتى روسيا، تدخلت بسرعة لوقف ذلك التدهور من خلال ارسال تطمينات للخارج والدعم العلني من قبل ترامب ومركل لأردوغان وإبقاء تركيا في حقل الشريك التجاري المفضّل، وعدم مطالبة البنوك الأوروبية بديونها المستحقة، ومحاولة تلك البنوك مساعدة الشركات التركية المدانة من خلال تمديد المهل، وتسهيل الحصول على قروض ترميمية، وقد أدى جعل بوتين من أردوغان شريكا أساسيّاً في سوريا، وشريكا تجاريّاً على كافة الأصعدة، إلى خلق نوع من الاستقرار، وإيقاف تهاوي الليرة، وإزالة المخاوف بانهيار محتمل للاقتصاد التركي، وهذا الأمر أدى إلى أن تفكر شركات عالمية كبرى كشركة فولكس فاكن الألمانية العملاقة بفتح فرع لها في تركيا، بعد أن كانت قد ألغت الفكرة قبل عدة شهور.

من الجانب الآخر أدّت التهديدات الأمريكية المتتالية منذ سنتين لتركيا إلى نتائج عكسية، وهذا ما كانت تعلمه المجموعة الأمريكية المصغرة التي تريد تركيا قويّة إسلامية متمردة على الغرب، لتكسب الجماهير الغفيرة من بسطاء المسلمين، لأنّ تلك المجموعة نفسها تعلم مدى كره المسلمين لأمريكا وإسرائيل، وهو ما يستثمرونه بشكل جذاب وفعال، قد ظهر اردوغان في عدة مواقف اهان فيها الرئيس الإسرائيلي وحتى بعض رؤساء الغرب دون أن يردعه أحد.

أظهر أردوغان نواياه بعد اندلاع المقتلة السورية، كي يكون ممثل الإسلام السني السياسي، وقائدها الديني والسياسي دون منازع، وقد ساعده في الترويج لذلك الهدف المرسوم له من قبل مركز القرار العالمي في نيويورك ولندن، وترك له كامل حرية التحرك على كافة الأصعدة من خلال تعزيز العلاقات مع إيران بالتوازي مع زيادة العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، والتي يدّعي معاداته لها، وتعزيز مكانته أكثر، فتوقفت الجهات الاقتصادية العالمية عن الحديث عن الاقتصاد التركي، ولم تعد البنوك العالمية تتحدث عن ديونها على تركيا، فقد غدا الوضع الاقتصادي تحت السيطرة، ولا خوف على مستقبله في المرحلة الحالية.

وما ترديد البعض وخاصة الإعلام العربي عن الاقتصاد التركي، وكأنه منهار ما هو إلا تكرار لأخبار ما قبل سنة من الآن، فهناك مسألة مهمة وهو دليل دامغ على تدخل تلك المجموعة، وكذلك ترامب نفسه لإنقاذ الاقتصاد التركي، وهو أنّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم يصدرا بيانات عن حاجة تركيا للقروض، أو التقشّف في السنة الأخيرة، وهو ما يعني بأنّ الثالوث الذي يملك تلك البنوك لا يريد لحكومة أردوغان أن تقع تحت قروضها، وهو بالأساس ينفذ مخططاتها دون الحاجة لفرضها عليه عن طريق الديون.

والجدير بالذكر أنّ تركيا كانت ترزح تحت ديون البنك والصندوق النقد الدوليين بعد الحرب العالمية الثانية وحتى قبل ٢٠٠٩، وكان مركز القرار العالمي يتعامل مع مؤسسة الجيش، ويجعل الحكومات رهينة القروض حتى تبقى تحت السيطرة واضعة نصب أعينها العلاقات القوية التي كانت تربط حكومات الجمهورية التركية المتعاقبة قبل الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفيتي؛ حينها وهذا ما خلق شكوك دائمة لدى المركز المذكور من اية حكومة تستلم الحكم في تركيا ولهذا جعلت من الجيش العصى الذي تضرب به رأس الحكومات وتسقطها بانقلابات عسكرية حتى وجدوا ضالتهم في اردوغان المنفذ الصادق لمتطلبات المركز ولهذا بدأت امريكا والغرب بشكل عام غض الطرف عن الجيش والتعامل مع الحكومة ورئيسها كأهم ضامن والموثوق في تمثيل مصالحهم في المنطقة.

حاول الغرب أن يخلق من نجم الدين أربقان حليفاً موثوقاً قبل أردوغان، لكنّه لم يستطع أن يدمج بين الطورانية التي تمثلها الأتاتوركية وبين نهجه الدينيّ، ممّا أدّى إلى عزله، وبقاء الجيش كقوة موثوقة وحيدة من قبلهم، إلى أن ظهر أردوغان كخطيب ديني يجمع بين الطورانية الاتاتوركية والاسلام السياسي وهو ما أدى الى وقوف الغرب معه ودعمه، بعد أن اثبت للمركز بانه قادر على مزج النهجين وتمثيلهما في تركيا .وبذلك انتهى دور المؤسسة العسكرية كقوة موازية للحكومة وبدأ الغرب يعتمد كليا على اردوغان لتمثيل رؤاها ومصالحها ويقود حركة الإسلام السياسي في المنطقة وهو ما لم ينجح اية شخصية إسلامية في تمثيلها كما اردوغان .

كاتب

التعليقات مغلقة.