مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الدينُ والأخلاق.. التسامح والاعتراف بالآخر أساسُ العيش المشترك والتحضّر

عبدالعزيز الشرفي

عبدالعزيز الشرفي
عبدالعزيز الشرفي

على مدار السنوات الثماني الماضية، وهي عمر الفوضى التي خلّفها ما يُعرف باسم “الربيع العربي”، عادت قضيةُ الدين والأخلاق إلى الصدارة من جديد باعتبارها محدداً رئيسياً لقضايا العيش المشترك والإخاء والديمقراطية التشاريكة، وملخصاً للتفسير الأخلاقي لبقاء الحضارات وانحسارها.

السبب الأولُ لعودة تلك القضية إلى الصدارة بعد انحسارها، هو أن التطرفَ الذي ضرب جذورَ المنطقة كان نابعاً عن تطرّف أخلاقي وديني وسوء فهم وتفسير للقضايا الدينية، ما يجعل الدين تحديداً عنصراً رئيسياً في إرساء أي ديمقراطية في الشرق الأوسط، والسبب في ذلك الارتباط الغريزي لشعوب المنطقة بالدين.

يقول الشاعر المصري أحمد شوقي: “إنما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيَت.. فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا”، وهو ما يشير إلى الإدراك الأصيل لإحدى السُنن الكونية لسنن التعاقب الحضاري على سيادة الأرض، أو ما يُعرف في أوساط الفلاسفة المعاصرون باسم “الاتجاه الديني لتفسير التاريخ”، وهو الاتجاه الذي يعتقد بوجود قوىً ثابتة مستقرة وراء التغيرات التي تحدث في المجتمع، وهي إرادة ومشيئة الله. وليس هذا الاتجاه بجديد، فقد كانت الشعوب القديمة تعيش في ظلّ حكومات تشرعه قوانينها بما تعتقد أنه مشيئة الآلهة، من خلال الرؤساء الدينيين أو الكهنة، وبالتالي كان كل ما يقع على ذهن المُشرع يُنسب مباشرة إلى الآلهة، سواء كانت آلهة الخير أو الشرّ أو البحار أو الشمس، وما إلى ذلك.

ورغم الإيمان الكامل بهذا المعتقد، فإنه لا يأخذ بالمصادفة لأنها تعني الفوضى والعبث، كما أن المفهومَ الديني في التاريخ ليس نظرية وإنما مستوى من الإيمان والاعتقاد بوجود تدخّل مُحكم من الإله الحكيم ليخطط للإنسان العاجز عن فعل الخير لنفسه، ولولا هذا التدخل الإلهي، لأصبح التاريخ مجرّد انعكاسات مضطربة لعصور متراكمة انغمست في فوضى لا نهاية لها.

الثابت أن الإيمانَ بأثر الدين والأخلاق في العيش المشترك ليس بالأمر الجديد، فقد أكدت عليه الديانات السماوية ومن قبلها النصوص المقدسة لشعوب ما قبل الديانات السماوية، لكنه يتضح بقوة من خلال القصص التاريخي الوارد في النصوص المقدسة والكتب السماوية، وليس من دليل على ذلك أفضل مما جاء في كتابات القديس أوغسطين الذي قال إنه حينما قرأ التاريخ القديم، استخلص منه ما يؤكد فكرة غرق الجنس البشري في الخطيئة والمعصية، واستحقاقه ما أصابه من حروب وما أحاط به من كوارث.

في اليونان القديمة ولدى شعوب الشرق الأدنى وبلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، كانت الآلهةُ حاضرةً بقوة في الكتابات التاريخية لتلك العصور، حيث اعتبرت شعوب تلك المناطق الإله، أو من يمثله على الأرض، هو المحدّد الرئيسي لمجريات الأمور، وأن مجرياتِ الأحداث ما هي إلا خطة إلهية لخلاص العالم، وأن تلك الخطةَ مقررةٌ في خطوطها العامة منذ بدء الخليقة وحتى يوم الحساب. وانطلاقا من ذلك الإيمان، ظهر فريقٌ من المؤرخين من أصحاب النظريات الدينية للزمان والمكان، حيث ربطوا الزمانَ بالخلق الأول ومصير الإنسانية، ولعل أبرزَ هؤلاء فيلون السكندري والقديس أوغسطين وابن خلدون.

وحسب نظرية ويل ديورانت، فإن الحضارةَ تقوم بالضرورة على مقوّمات محددة، هي وجود نظام سياسي ووجود شكل من أشكال الوحدة في اللغة للتواصل، إضافة إلى وجود معايير قيمية وأخلاقية متعارف ومتفق عليها، كي تكون موجهاً وهادياً وحافزا، ناهيك عن وجود دين أو عقيدة أساسية حاكمة، وهو ما يعني حصراً أن الأخلاقَ والدين لهما تأثيرٌ كبير في قيام الحضارات أو اندحارها.

ولم يغب عن ذهن “ديورانت” أن “الدينَ حاضرٌ في كل شيء في الحياة، إلا في أخلاق الناس رغم أن مقصدَ الدين الرئيسي هو إصلاحها”. كما أن “ابن خلدون” أشار إلى أن السلوكَ الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، كما أن رُقي الأمم لا يتحقق إلا بتوافر الأخلاق الحسنة والسمات الدينية الأخلاقية الجيدة.

ويقول “ابن خلدون” إن أقربَ مثال لنا هو ضياع الأندلس من حكم المسلمين، حيث يشير إلى أنه “حين يأذن الله بانقراض الملك من أمة، حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى إلى ضياعه”.

إذا، فإن تأسيسَ حضارة يتطلب بلا شكّ أساساً أخلاقياً دينيا يسمح بالعيش المشترك بين شعوب تلك الحضارة، حتى يتسنّى لهم العمل من أجل رفعتها وتحقيق إنجازاتها وتقدمها ورقيها، وحين يضيع الأساسُ الأخلاقي الديني تضيع معه أسسُ العيش المشترك ويستشري الفساد والمصالح الشخصية والأنانية، بشكل يدفع في النهاية إلى انحدار الحضارة وربما موتها تماماً، كما حدث في عهد الإمبراطورية الرومانية واليونانية اللتين مرّتا بمراحل ازدهار وانحدار بناءً على الإيمان الإلهي والإيمان بوحدة المصير والهدف، رغم كونها غير كونفيدرالية أو ديمقراطية بالمقام الأول.

كيف يتحقق، إذا، العيشُ المشترك بين المكونات المختلفة لمجتمع ما من خلال قيم الأخلاق والدين؟ يكمن الحلّ في إعلاء القيم التي طوتها ذاكرةُ التاريخ ولم تعد قيدَ التطبيق في عصرنا الحالي، من خلال قبول الآخر والكف عن التدخل في شؤون وإعلاء مصلحة المجتمع وإرساء مبدأ السلام والأخوة بين المكونات المختلفة. وما يحتاجه العالم حاليا، هو إيجاد وسيلة لإرساء مبدأ التعددية بين المكونات المختلفة لاحتواء اختلافاتهم ومصالحهم المتباينة.

وإذا نظرنا إلى الدين على أنه هبةٌ من الله لهداية البشر إلى سُبُل العيش المشترك، حينها فقط سيتحقق هدف العيش المشترك دون تحويل الاختلافات الدينية والأخلاقية إلى سلاح في وجه كل من يعارض وجهات نظر الآخر.

إن الظروفَ الحرجة والأزمة الأخلاقية التي تعيشها الإنسانية حالياً، باتت تهدد معاني المحبة والسلام، حتى أصبحت تلك المعاني استثناءً من القاعدة التي تحكم مجتمعاتنا، وباتت تلك المجتمعات قائمةً على الكراهية والصراع بحجة الدين والاسترشاد به، رغم أن الرسالاتِ السماوية جاءت لإحلال السلام بين بني البشر، إلا أنها خضعت لتحريفات وأهواء المنتفعين، حتى باتت أصابعُ الاتهام تلحق بالأديان في صُنع الإرهاب الذي ضرب المنطقةَ وأحلّ الفوضى والفساد فيها.

وفي سبيل ذلك الهدف، تكون الخطوةُ الأولى هي إرساءُ عدم مصادرة الناس للدين وقطع صلته بالوحي الإلهي وتوظيفه في خدمة مصالحهم الفردية والفئوية الضيقة، بالإضافة غلى ترسيخ مبدأ عدم استخدام الدين في تبرير سياسات الظلم والعدوان والقتل والنيل من حقوق الشعوب المشروعة. وبالتالي، فإن التعددية –سياسيا ودينيا وطائفيا ومذهبيا وأخلاقيا- هي السبيل في تحقيق مقصد العيش المشترك في المنطقة.

أين السبيلُ إذا لتحقيق مبدأ التعددية الدينية والطائفية والمذهبية والأخلاقية؟ أولا، سيكون لزاماً علينا رصدُ حالة العيش المشترك في كل بلدان المنطقة، رصداً علمياً دون أي تحيزات أو أحكام مسبقة أو موروثة في الذاكرة الاجتماعية، كما أنه ستكون هناك حاجة لتحديد أسباب النزاعات القائمة على أسس دينية أو طائفية بين أبناء مجتمعات المنطقة. ولأن شعوبَ منطقة الشرق الأوسط غالباً ما تميل إلى التمسك بتدينها –وإن كان في المظهر والشكل فقط- فإن الحوارَ بين الطوائف والأديان المختلفة سيكون خطوة رئيسية على طريق حلّ الخلافات والتأسيس للحياة المشتركة والتوقف عن التقاط الفتن وتأجيجها.

ليس هناك من ديانة سماوية تبيح لأتباعها إشهارَ السلاح في وجه بعضهم البعض إلا في حالات الدفاع عن النفس والأرض والوطن، كما أن آياتِ التوراة والإنجيل والقرآن تحثّ جميعها على المحبة والإخاء ونشر السلام بين الإنسانية من منظور المودة والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وبالتالي، فإن الوصولَ إلى تلك الغاية يتطلب الحوارَ مع الجميع – من نختلف ومن نتفق معه- إيمانا بمشيئة الخالق التي قضت بأن يختلف الناس، حيث يقول القرآن: “ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”، بينما يشير إلى الإنجيل في رسالة بطرس الأولى، بالقول: “أكرموا الجميع.. أحبوا الأخوة.. خافوا الله.. أكرموا الملك”.

يقول البروفيسور اللبناني جيروم شاهين، إنه مع استكشاف مناطق النزاع، سيكون حتميا استكشاف مناطق الاتفاق والالتقاء على صعيد الدين والأخلاق، انطلاقا من تحديد المشكلات والتحديات المشتركة التي تهدد المصير الواحد، واستكشاف مساحات جديدة مشتركة نابعة من القيم الروحية والإنسانية المشتركة في تراث الدين وسلوك أتباعه، لأن الوحدة القائمة على التآلف الديني والابتعاد عن التوترات الطائفية لا تتحقق إلا بمبدأ: “الدين لمن اعتنق الدين، والوطن للجميع، والناس متساوون في الإنسانية وفي المواطنة الواحدة”، وهو ما يقتضي بالضرورة الفصل بين الدين وإدارة الحياة، بمعنى أن الفرد قد يكون مسلماً أو مسيحياً أو غير ذلك من الديانات الكتابية وغير الكتابية، ولكنه في مجتمع عضو فاعل يعمل بشكل متواصل من أجل تحقيق قدراته وقدرات مجتمعه كاملة، وإعلاء شأن المجتمع وترسيخ مبادئ العيش المشترك في سبيل وحدة المصير والهدف.

يقول الباحثُ السعودي محمد المحفوظ، في كتابه “التسامح وقضايا العيش المشترك”، إن التسامحَ مسؤولية حضارية وواحد من حقوق الإنسان التي تقود إلى معالجة مشكلات الاختلافات الإنسانية، ولا يعني هذا التنازل عن المعتقد أو الخضوع لمبدأ المساومة والتنازل، وإنما القبول بالآخر والتعامل معه على أسس العدالة والمساواة بصرف النظر عن قناعاته الأخرى. ولترسيخ التسامح والعدالة والمساواة، لا بد من الوحدة المجتمعية بين الأفراد الذين يعيشون ضمن منطقة جغرافية واحدة، انطلاقاً من القبول بالآخر وقبول آرائه ووجوده، لأن الإكراهَ ونفي الخصوصيات لا يقود إلى الوحدة بل الضغائن والتشرذم. وهنا، تترسخ مرجعية العدل والعدالة، فلا صيانة لمقدّسات الإنسان ولا محافظة لمكتسباته المادية والمعنوية، بدون عدالة، تصون كلّ المكتسبات والمنجزات، وتحول دون التعدي والعدوان.

في المنطقة نموذجان للعيش المشترك في المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية –الاثنتان تضمان مزيج من السكان اليهود والمسلمين والمسيحيين- حيث نجح البلدان في تنشر التسامح والوئام بين الأديان، بشكل أفضى إلى تحقيق أسس العيش المشترك وحماية المجتمع من الوقوع في فخ التشرذم والفتنة الطائفية والدينية، حيث يركز البلدان على “التربية والأخلاق”، انطلاقاً من حقيقة أن “المقاربات الثنائية وانعدام التعارف المتبادل هما ما يهدد الحضارات، وليس الدين أبدا”.

وما يشير إليه أغلب الباحثين في مجال التسامح والعيش المشترك، هو أنه على العلماء والدعاة أن يفحصوا وسائلَ دعوتهم وأن يخضعوا مواقفهم وقناعاتهم إلى القيم الإنسانية والدينية، بشكل يحمي الدين من النزعات والأهواء الشخصية، ويفضي إلى الانطلاق إلى رحاب التقدم والتطور، انطلاقا من حقيقة أن مبدأ “التعاون والتعارف والعدالة” بين أصحاب الأديان المختلفة، هو السبيل إلى مبادئ التعايش الراسخ وحماية الوحدة والمكتسبات والعمل على تنمية الواقع الداخلي وإرساء التحضر في المجتمع.

وسواء ما كان المجتمع يتألف من مزيج من المسلمين سُنة وشيعة، والمسيحيين واليهود والإيزيديين وغيرهم من المكونات الدينية، فإن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، وهو المشاركة في الأخوة الإنسانية والهدف المشترك لإعلاء قيم مجتمع ما، وهو ما يعني أنه من خلال الحوار بينهم سيتمكنون من إيجاد نقاط الاتفاق والتغلب على نقاط الاختلاف.

وإذا ترسخ لدى الجميع أن علاقة الناس والشعوب ببعضها البعض هي علاقة “تعارف” و”تعاون” و”تآخي” و”تبادل مصالح ومنافع” من أجل إعمار الأرض وإحياء الإنسان، فإن أي محاولة لضرب الفتنة بين مكونات المجتمعات المختلفة والتفريق بينهم سيكون محكوماً عليها بالفشل الذريع. وبالتالي، فإن العودة إلى أصل الدين والأخلاق هو السبيل إلى التصدي لدعاوى العنف ونشر ثقافة العيش المشترك بين الناس، والتصدي لمحاولات بث الفرقة والتشرذم بين أبناء المجتمع الواحد.

كاتب

التعليقات مغلقة.