مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط، ومفهوم العيش المشترك-1

جوان عجك

جوان عجك
جوان عجك

لاشكّ بأن البحثَ في مفهوم الدولة والمجتمع والعيش المشترك هو من أكثر القضايا الشائكة والتي تُوقِعُ الكاتب / القارئ على حدّ سواء في معضلة تحديد المفهوم الخاص لكل منها، وتتبع تأصيله التاريخي وتحديد ماهية حاسمة في تبني تعريف واضح لتلك المفاهيم , وتحديداً إن وُضِعَت في قالب جامد نظري أو تاريخي أو فلسفي , حيث أن البشرية جمعاء لم تستطع أن تتفق على تعريفٍ واضح  وصريح يمكن البناء عليه في العملية المعرفية، وتحديداً في مجال العلوم الإنسانية والسياسية، حيث تعتبر أغلب تلك المفاهيم خاضعة بالضرورة للتفاسير الإيديولوجية المتعددة والمتنافسة فكرياً على الساحة الكونية إن صح التعبير.

ولكن وللضرورة التشاركية في الحوار وعملية البناء المعرفي, بالإضافة أننا لا نستطيع تجنب الحديث عن تلك المصطلحات والمفاهيم ودورها اللحظي واليومي في الممارسة الفعلية, فإن قمنا بذلك نخرج من إطار الواقعية السياسية والمجتمعية, ونقع في فخ الرومانسيات. فارتأيت بأن أسمح لنفسي بتجاوز جدليات المفاهيم والتعريف عليها, والخوض في أطر تلك المفاهيم كما هي في شكلها الصوري المتبنى دولياً.  وما سمح لي أيضا في تحفيز الطرح المباشر والخوض في العنوان الرئيسي هو أهمية الموضوع الذي ينصب بين أيدينا, حيث أن البحث في آلية تشكل ” الدولة ” في الشرق الأوسط وتبيان أثرها بشكل حي وتفاعلي مع ” المجتمع ” بشقيه ” الأهلي ” و ” المدني ” لهو من القضايا المثيرة فعلياً لأيّ باحث أو قارئ على حدّ سواء .

لذلك ستتبع الورقةُ آليةَ الخوض في موضوع ” الدولة ” في الشرق الأوسط، ومحاولة توصيفها وكيفية تشكلها ودورها وممارساتها، مع التنويه بأن ذاك البحثَ بحد ذاته يعتبر معضلة حقيقية بسبب تفاوت الهيكلية المشكّلة لتلك ” الدولة “. فالسؤال الذي يُطرح هل يمكن لنا أن نتتبع خصوصية كل الدول في الشرق الأوسط ونسقط عليها تعاميم معينة؟

ثم سنتبين طبيعة المجتمعات الحية والمترافقة مصطلحياً مع نشأة ” الدولة ” الحديثة في الشرق الأوسط , حيث أننا نعتقد إلى حد بعيد بأن التداخل والتزاوج القسري بين الدولة والمجتمع الذي عرفته الدولة المتسلطة لم تعرفه بشكل فقط صوري بل استطاعت أن تتغلغل به إلى الحد الذي سحق ماهية ظهور المجتمع بشكله المتطور دون أداته ” الدولة ” بحيث أصبح أداة ” الدولة ” لا العكس في تجمعات ما قبل مجتمعية حيث أوقفت آلية تطوره التاريخي عند معضلات ومفاهيم ما قبل وطنية عالقة في قوميات سلبية وطائفية , وسلبته قدرته في تشكيل مفهوم ” الأمة ” الذي قد يكون جسراً مهماً في عملية بناء المواطنة وبالتالي بناء الدولة الوطنية والتي تستطيع أن تبني قيمة ” الديمقراطية ” وتسمح للمجتمع في بناء مفاهيم ” العيش المشترك ” الخاصة به .

تلك المحورية الثالثة في هذه الورقة والتي للأسف الشديد لا نستطيع البناء عليها من خلال تجارب حية إلا ما ندر وبذلك سنضطر للتحليل والاستشفاف النظري عن ماهي الآليات المتاحة لبناء أسس ” العيش المشترك “، وبذلك أجد نفسي مع مقدمة هذه الورقة متمسكاً بقيمة ” الديمقراطية ” لا غير للبناء على إمكانية توصيف قيم العيش المشترك في تفاعلية المجموعات في أطرها التاريخية المستقبلية لبناء تجربتها الذاتية واستشفاف قيم العيش المشترك لكيلا تكون جامدة في قوالب.

 

1 – الدولة التسلطية:

 

من الأهمية ذكر ما خلّفه انهيار الجيش العثماني وجيوش الانتداب لدورهما البارز في تشكيل مصادر للجيوش العربية تحديداً في الشرق الأوسط في حالة سوريا والعراق والأردن , وبين أدوار وطنية في حالات التمرد على الإملاءات الإنكليزية في حالة مصر, حيث معظم الدول السابقة هي التي شكلت جيوشاً عكس حالة الجزائر الذي تشكل من جيش تحرير تحول لجيش وطني وبدا كأنه من أقام الدولة.

في المراحل اللاحقة للاستقلال من الاحتلال العثماني أولاً والانتدابي البريطاني والفرنسي ثانياً كانت مؤسسات الدولة هشة ضعيفة وغير قادرة على إدارة وضبط شؤونها في وقت تميز بعدم الاستقرار وقصور في الثقافة المدنية والفوضى, فكان الجيش هو المؤسسة الأكثر حداثة وتماسكاً في تشكلات ما قبل دولتيه بالمعنى الفعلي لمفهوم الدولة الحديثة الذي نعرفه اليوم. فكان من الطبيعي أن يتحول إلى عامل استقرار وميسر لشؤون تلك الدول ومعظم جيوش المنطقة شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية من قبل ضباط من داخله للوصول لسدة الحكم كون معظمها كان لديه النزعة الفكرية لوجوب التدخل في السياسة وممارسة السلطة والحكم, وتفاوت شكل العلاقة بين الجيش والحكومة مع قوة الجيش وأسبقيته آل في معظمها ليغدو الجيش مؤدلجاً بعقيدة ومسيساً يخدم حزباً حاكماً أو عائلة أو شخصاً بعينه مقابل امتيازات اقتصادية ومكانة اجتماعية مرموقة وبسط النفوذ للتغلغل في معظم مؤسسات الدولة الأخرى التي لم تتبلور بعد, فغدت مؤسسة الجيش وما تحويه من كيانات الرقيب والمحاسب على كل مفاصل الدولة بل أكثر من ذلك يمكننا القول بأنه شكّل لبّ الدولة بمعناها الحداثي, ولكن ليس كما فعلت الجيوش الأوروبية كدور تاريخي ضروري في تشكيل مفهوم الدولة الحديثة والانزياح نحو ممارسة دوره في إطاره المؤسساتي المحدود كدعامة وطنية ساهمت في تشكيل المؤسسات المدنية, بل بالمعنى السلبي الذي وسع دائرته ليكون الجيش في الشرق الأوسط هو المعنى الفعلي للدولة بحيث أصبح التفريق بين أركانها أمر شبه مستحيل, فقام :

– بتحويل وظيفة المخابرات العسكرية من تجسس على العدو إلى تجسس على الجيش نفسه وضباطه ومواطنيه.

– عكس الجيش وحدة قائمة على تمييز بين مكونات وعناصر اجتماعية لأن سلسلة القيادة فيها تقوم على ولاءات تنتج عصبيات وفي هذه الحالة يصبح فرض الجيش الوحدة الوطنية على المجتمع فرضاً لحكم عصبية معينة بحيث تعني الوحدة الخضوع لها.

– أغلب الانقلابات لم تقم لمصلحة حزب سياسي يمثل شريحة مجتمعية، بل لكي يحكم هو بثياب مدنية وإن تم خلع البدلة العسكرية عند تولي الحكم لا يؤدي إلى تمدين الحكم بل عسكرة السياسة.

– عدم قبول أي معارضة إذ يعد أي اعتراض موقفاً من الدولة والوطن وهذا أصل تخوين المعارضات وغياب الحياة السياسية.

وبذلك استطاعت المؤسسة العسكرية وبأدوات أخرى عديدة أن تخلق ما يسمى ” الدولة ” ولكن ليس بمعناها التفاعلي والتناظري دولة / مجتمع، بل بمعناها الاحتوائي الدولة التي تغدو به المجتمع.

وبذلك أصبحت تلك المؤسسة وشخصياتها لبنة أساسية للدولة التسلطية أو بتعبير آخر شكلت مفهوم الدولة في الشرق الأوسط من البداية على أساس تسلطي أعقبه أشكال من الأنظمة المختلفة في آلياتها التنظيمية مع تتالي الانقلابات.

فقد قسمت الانقلابات العسكرية أغلبية الشرق الأوسط إلى معسكرين من الأنظمة: “يعتمد الأول في بقائه على رأس المال السياسي المتجمع حول مفاهيم مثل القومية والراديكالية والثورة، أما الثاني فيعتمد في بقائه على علاقات القربى والعشيرة، ولكن قبل كل شيء على المال والثروة ”

ويتطلب الأمر أن نضيف بأن النمط الأول لم يعتمد في أي مرحلة على رأس المال السياسي وحده، وإنما أيضا على سياسة التنمية والتخطيط وتأميم رؤوس الأموال الأجنبية، وأخيراً وليس آخراً على قوة الدولة، التي تعاظم دور المركب الأخير بوتائر متسارعة منذ هزيمة عام 1967 , ومع استنفاد رأس المال السياسي والتخطيط الاقتصادي.

كما علينا أن نضيف بأن النمط الثاني تحالف ليس فقط مع البنية العشائرية للمجتمع، وإنما أيضاً مع المؤسسة الإسلامية، وفي بعض الحالات مع الأصولية الإسلامية ذاتها، ومع الدعم العسكري المباشر وغير المباشر من قبل الدول الغربية.

إلى جانب الأنظمة التي سُمّيت ” ثورية ” والأنظمة التقليدية، يتطلب التقسيم على هذا المستوى إضافة نمط ثالث وهو الدولة الشبه ليبرالية: السودان في بعض المراحل، اليمن ولبنان ومؤخراً الأردن، حيث تشابه التجربة السودانية التجربة السورية بعد الاستقلال مباشرة والمصرية قبل عام 1952.

قاعدة الدولة التسلطية الاقتصادية في الشرق الأوسط هي الاقتصاد الريعي، الذي يمنح الدولة مجالاً واسعاً للمناورة في علاقتها مع المجتمع، ويفيد التوسع النظري حول هذا النموذج ليشمل ليس فقط الأنظمة التقليدية التسلطية، وإنما أيضاً الأنظمة الجمهورية التسلطية، حيث تتميز الدول الريعية بأربع نقاط هي:

أ – أن لها اقتصاداً ريعياً تسيطر عليه حالات ريعية.

ب – يعتمد الاقتصاد الريعي بشكل أساسي على الريع الذي يأتيه من الخارج. وهذا تمييز مهم بخاصة لأن حصة كبيرة للريع الداخلي قد تشير إلى وجود قطاع إنتاجي متطور في البلد المعني.

ج – فقط قلة من القادرين على العمل في البلد المعني تعمل في إنتاج الثورة الريعية، أما الأغلبية فموظفة في عملية التوزيع والإدارات والخدمات.

د – في الدولة الريعية تكون الدولة هي الطرف المستفيد والمتلقي الرئيسي في عملية التبادل الاقتصادي، ويتمركز فيها بدرجة عالية احتكار الاقتصاد والسلطة السياسية.

لقد كان للطفرة النفطية في السبعينيات دور أساسي في تطور صراع بين أخلاقيتين اقتصاديتين، الواحدة إنتاجية، والثانية ريعية، وقد مالت الكفة بعامة، على مستوى برجوازيات المنطقة، لمصلحة الأخلاقية الثانية.

وهي أخلاقية طفيلية فاسدة وتسلطية وغير إيديولوجية.

وقد أسهم في هذا الانتصار امتداد النشاط الريعي وسيطرته على المنطقة بمجملها، بما في ذلك البلدان الغير المصدرة للنفط.

لقد تم تشويش دور الدولة المصطلح عليه في تقديم الخدمات مقابل احتكار جباية الضرائب. ففي الدولة النفطية لا تقدم الدولة خدمات إنما تقدم صدقات أو حسنات، إنها تتفضل على المجتمع وتوظف مبنى المجتمع العشائري خلال عملية إسداء المعروف له. وعبارة ” لا ضرائب من دون تمثيل ” تفقد معناها تماماً في هذا السياق. فالدولة لا تكاد تجبي ضرائب، وذلك ليس احتراماً للملكية الخاصة ومن منطلق ليبرالي، بل لأنها تملك البلد وتبيع ثرواته مباشرة. وعند اختلاط المبنى العشائري في جهاز الدولة بالعلاقة مع الحيز العام وكأنه ملك خاص للعشيرة، تنمو خصوصية الأنظمة النفطية أمام أعيننا. الدولة لا تجبي ضرائب في الحقيقة لأنه ليس هنالك دولة، من حيث العلاقة بين الحيز العام والحيز الخاص، بل يوجد مبنى قبل – دولتي. وحيث لا توجد دولة بهذا المعنى فإنه لا معنى أيضاً لمفهوم المجتمع بحالته المدنية، أما من ناحية المواطنين فالمواطن لا يتعامل بلغة الحقوق، وذلك ليس لأنها غير متوفرة، بل لأن لديه امتيازات بدلاً من حقوق، ولاسيما عند العلاقة مع الأيدي العاملة الأجنبية. الوطنية في هذه الدول هي وطنية الحفاظ على الامتيازات وهي وطنية المشغلين، والمجتمع الذي يملك بعض الحصانة مع الدولة، ليس مجتمعاً بالمعنى المواطني أو المدني، لأن حصانته تقوم على الامتيازات وعلى الانتماءات العشائرية ما قبل القومية، ولأن العلاقة بين المجتمع والدولة غير قائمة على التفاعل من خلال الانفصال، وإنما على رابطة أهلية.

لقد انتشرت عدوة العمولات الريعية في كافة الأنظمة بحيث يستفيد منها ليس فقط كبار الموظفين، بل الحكام مباشرة وعائلاتهم وأقاربهم. وانعدام الفصل بين الحيز الخاص للعائلات الحاكمة والحيز العام للدولة هو الوجه الآخر لانعدام العلاقة بين مجتمع / دولة. فالدولة لا تتعرف كحيز عام في العلاقة مع المجتمع، مجتمع المصالح الخاصة الجزئية، بل تتعرف كحيز خاص. وبدلاً من الضرائب لصالح الحيز العام، تجبي الدولة عمولات لحيزها هي الخاص. هذه البنية من العلاقة لا تنجب المركب مجتمع / دولة.

العراق مثلاً تبين أن النفط لن يدخل في حيز مركبات الدخل القومي ومنذ الخمسينات طورت الدولة استقلالية في مواجهة المجتمع، وكانت خصوصيتها تكمن بتضخيم جهاز الدولة، وتخفيض اعتماد الدولة على المجتمع.

في ظل الدولة الريعية لا يكفي فقط التحليل الطبقي لفهم وظيفة الدولة وبنيتها , في مصر مثلاً , إن فهم دور الدولة الاستعمارية , الدولة الريعية , الجيش الفلاحي وضباطه من المدن الصغيرة والطبقة الدنيا والوسطى , الترييف , هو مفتاح لفهم التركيب الطبقي لا العكس , إن استخدام مصطلح ” البرجوازي “لوصف الأغنياء الذين يجمعون ثرواتهم في ظل علاقات القوة السائدة , وفي قطاعات أهمها المقاولات والوكالات , يصح على سبيل المثال وللاستعارة فقط , ففي هذه القطاعات بالذات يثبت أن القرابة للحكام أو العلاقة مع أقرباء الحكم ليست ظاهرة جانبية في الاقتصاد أو بنية فوقية له.

الطبقات الثرية في الشرق الأوسط تقيم في الوقت الراهن تحالفاً مع الدولة ضد المجتمع، وإن تطورها كطبقة رأسمالية، هو أمر يمكن تخيله ولكنه يبقى فرضية، إلى أن يطرأ تغير على طبيعة نشاطها الاقتصادي. أما مطالبة هذه الفئات ب ” دولة أقل “، وسوق حرة أكثر، فتنبع من رغبة بتحرير الدولة من التزاماتها الاجتماعية الموروثة عن الدولة الراديكالية: معونات الخبز، التعليم المجاني، الصحة والمكتسبات الموروثة عن الأنظمة ” الشعبوية “، إن ما ترغب به هذه الفئات هو ليس تحرير الاقتصاد من قبضة الدولة، بل احتكار العلاقة مع الدولة التي تبيض ذهباً ” ريعاً ” وعدم مشاركة الفئات الشعبية بها.

لقد سيطرت على الجمهورية الريعية الراديكالية في بداياتها نخب تنتمي إلى أصول اقتصادية ضعيفة , وقد حولت هذه الفئات الدولة إلى أداة لتعزيز قوتها السياسية والاقتصادية, ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان يجب إخضاع وتحديد نفوذ الفئات الميسورة أو حتى تجريدها من ثروتها , وقد استفاد الفلاحون على المدى القريب من الإجراءات, ولكن على المدى البعيد نمت فئات جديدة من الأثرياء تنتمي إلى أوساط مختلفة, أدت هذه النخبة الجديدة المنتمية في أصولها إلى هوامش المجتمع الكولونيالي إلى جانب الهجرة الواسعة  من الريف إلى المدينة والذي أدى إلى ترييف المدينة  بدلاً من تمدين الريف, إلى تغيير شامل في الخطاب السياسي السائد, وعلى موجة من تعميم التعليم الشعبي وشعبوية السياسة.  وقد بدأ الخطاب السياسي السائد بصيغة شعبوية قومية, ثم أسلمت الخطاب السياسي في بعض الحالات, لم يكن الخطاب السياسي الإسلامي المعادي لخطاب الدولة الحداثي  نتاج إحياء قوى الإسلام السياسي القديمة فحسب, بل كان أيضاً نتاج أسلمة السياسة الشعبوية القومية من النوع الجديد .

إن استبداد الدولة الحديثة يعتمد على بيروقراطية الدولة التي تقوم بتنسيق البنية التحتية, وبذلك تخترق المجتمع هو ادعاء صحيح جزئياً فقط , فاختراق المجتمع يتطلب شمولية الدولة ويفترض وجود هذا المجتمع تاريخياً ونظرياً. أي بموجب تعريف الدولة الشمولية , فالدولة الشمولية تعمل مستخدمة الأدوات نفسها التي أنجبت المجتمع بحالته المدنية : التقانة – الخطاب الجمهوراني – الحيز العام القائم الذي تم تأميمه, وأهم من ذلك كله الفرد المذرر الذي يميل إلى إعادة إنتاج الوحدة العضوية المنحلة للجماعة, عن طريق تقديس السياسة وقيم علمانية أخرى مثل الدولة كرد فعل على علمنة الحيز العام, والذي تيسر حداثة المجتمع وصول الدولة إليه مباشرة .

في مقارنة سريعة نرى بأن هزيمة الدولة التوليتارية في الحرب العالمية الثانية, ثم انهيار المجموعة الاشتراكية في نهاية الثمانينات, أدى إلى تمايزات وتمفصلات جديدة في تعريف المجتمع كحيز عام وعقلاني ديمقراطي  منفصل عن نشاط الدولة ونشاط رأس المال وعن البنى العضوية في الوقت ذاته.  ولكن الدولة التسلطية في الشرق الأوسط تخفق في اختراق المجتمع, إما لأنه غير قائم أصلاً, بمعنى حيز العلاقات المتبادلة بين الأفراد المذررين, وإما لأن الدولة تخفق في التحول إلى دين علماني بديل. وعندما تخفق الدولة التسلطية في هذا الاختراق نتيجة مركبها البنيوي المعطوب أصلاً, أو تفتقر إلى الرغبة في تنظيم المجتمع على أساس مبدأ واحد, يكون الإرهاب العاري سبيلها الوحيد للسيطرة.  وعندما  لا يقف فرد مذرر تتملكه وتسيطر عليه, تقوم البنى العضوية التقليدية بالتعايش مع استبداد الدولة حمايةً لأعضائها منه, وفي الوقت ذاته تشكل حصناً منيعاً أمام الاختراق الإيديولوجي وصولاً إليهم.

والدولة في الشرق الأوسط والمشرق العربي على وجه الخصوص حالة وسطية بين اختراقها الجزئي للمجتمع، المتشكل جزئياً أيضاً في مرحلة الإيديولوجيات الوحدوية، والدولة التسلطية المسيطرة على المجتمع بالإرهاب العاري وقوة الاقتصاد الريعي، فهي أضعف بكثير من أن تكون دولة شمولية، بالإضافة أنها تفتقر إلى الإيديولوجية أصلاً في الوقت الراهن، إلا إذا أطلقنا إيديولوجيا على هذا الخليط من الإرهاب والبراغماتية السياسية والخطاب السياسي الذي يشمل لماماً من الحداثوي والإسلاموي والشعبوية.

كاتب

التعليقات مغلقة.