مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية في دورا أوروبوس (صالحية الفرات) -2-

 

 

فصل من كتاب

 (DURA-EUROPOS AND ITS ART)

M.ROSTOVTZEFF

ميخائيل روستوفيتزيف

ترجمة : ياسر شوحان

هناك صورة غامضة لم يتم بعد شرح هذه الصورة وتمثل معبداً كورنثياً تحيط به سبعة جدران كل له لون مختلف، والجدار الخارجي يحتوي على ثلاثة بوابات مبالغ في تزيينها، فهل هو هيكل سليمان ؟ وإذا كان هو قد يكون المشهد يمثل دورة السفينة.

الصورة التالية بعد اللوح المركزي المثلث تمثل الكاهن الأكبر هارون في المعبد الكورنثي المحاط بالجدران والذي يخترقه ثلاث بوابات، ونشاهد السفينة قبل تغطيتها بالستارة، كما نشاهد في الواجهة الشمعدان مع مشاعل البخور الصغيرة إلى يمينه ويساره، وإلى اليمين مذبح وضع فيه حيواناً قربانياً أبيض اللون، ويقف هارون في فناء المعبد بلباس الكاهن الأكبر الذي مُيِّز اسمه بالكتابة اليونانية، وإلى يمين ويسار المعبد يقف رجال مع حيواناتهم القربانية.

بعد صورة هارون نجد مشهداً هاماً يمزج قصة هاجادا وينبوع مريم مع الروايات التوراتية حول معجزات موسى بتفجيره ينبوع المياه. حيث نشاهد في الخلفية المعبد المتنقل[1] وإلى اليمين واليسار نشاهد إثنا عشر خيمة ويقف أمام كل خيمة رجل يرفع يده، وفي مركزه القلعة صورة كبيرة لموسى وهو يضرب بعصاه سوراً دائرياً صغيراً أمامه يبدو أنه بئر، فيتدفق منه اثنا عشر جدولاً، ويتجه كل جدول إلى خيمة.

على الجدار الغربي مشهد محفوظ جزئياً، وأعتقد أنه متعلق بمشهد أسر السفينة في الجزء المقابل من الجدار الشمالي، وقد يكون يمثل داوود آخذاً السفينة وصاعداً بها جبل صهيون.

إن صور المناطق العليا والوسطى حُفظت عملياً على الجدار على الجدار الخلفي نظراً لعلو هذه الصور، بينما حُفظت الصور في المنطقة السفلى بشكل كامل تقريباً.

بقي من الصورة الأولى إلى الشمال من المدخل فقط الأجزاء المكسرة منها. كرسوم بعض الطيور ومشهد غير واضح لرجل متكئ قد يكون إيليا الذي يُطعِّم الغربان. لكن صورة إيليا نجدها تحتل عدة لوحات جنوب الباب على الجدار الجنوبي والجدار الغربي، وعلاوة على ذلك فإن الطيور ليست سواء. ولا تشبه الغربان كثيراً.

يحتل مشهد مجزأ آخر الجزء الثاني في المنطقة السفلى شمال باب المدخل. ومن الصعب أيضاً تفسيره ولكن نستطيع أن نميِّز رجالاً نائمين وموكباً من الرجال يمتطون الخيول جميعهم باللباس الإيراني، ومشهد يمثل داود وشاول، حيث يظهر المشهد أن داود يفاجئ شاول مرتين وهو نائم (سفر صموئيل الأول 24 ـ 26).

إن الصورة الأولى من المنطقة السفلى في الجدار الشمالي محفوظة بشكل جيد، لكن من الصعب تفسيرها فنحن لا نعرف إن كان علينا قراءتها من اليمين إلى اليسار أم من اليسار إلى اليمين، فالأشكال في المشهد إما أن تكون فُصلت عن مشهد آخر أو هي تتمة لموضوع الصورة على اليسار ومن خلال نظرة عجلى عليها يتضح أن الجزء الأيسر من الصورة يمثل رؤية حزقيال[2] متضمناً موضوع إحيائه للموتى ومشهداً لرجل يُقتل متعلقاً بالمذبح في آخر يمين الصورة، وبالكاد تشكل هذه الصور جزءاً من مشهد حزقيال، والأسهل أن يفسر على أنه مشهد مقتل يواب على أبواب داود.

إن صور المنطقة السفلى على الجدار الخلفي هي أفضل الصور المحفوظة في الكنيس. فلا تزال الألوان الأصلية متألقة ورائعة ويعود ذلك إلى تنوعها وبراعة تركيبها. ويتعلق موضوع الصورة الطويلة بقصة ظهور موسى. وتُقرأ القصة حسب اتجاه الأحداث من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. ففي الحالة الأولى نجد أولاً أم موسى وأخته يستعدان لوضعه في تابوت صغير، ويقصد التمثيل وضعه في سفينة صغيرة مصنوعة من القصب، ثم يضعان التابوت في نهر النيل، ويُظهر الرسم بنت فرعون وهي تستحم في النهر وتلتقط الطفل، ونرى البنت نفسها في النهاية تتوسل إلى والدها وهي جاثية على ركبتيها لتبني هذا الطفل، بينما تقف أمه وأخته بالقرب منه. وبذلك يكون تسلسل القصة صحيحاً كما نرى في الصورة الملك فرعون يطلب قتل الأطفال الذكور، كما تظهر ابنة الفرعون تستحم في النهر، وفي النهاية ابنة فرعون تعيد موسى إلى أمه.

في الصورة التالية نشاهد صموئيل يدهن داود بالزيت (كما يوضح النقش التوضيحي)، ومن المؤكد أن لهذا الرسم أهمية خاصة، فقد رُسم فوق مقعد الكنيس ذي القوس، ونتعرف على اسم صموئيل من خلال النقش القريب من الرسم.

تعتبر الصور التالية أكثر الصور إتقاناً وروعة في الكنيس، وتُرينا مقداراً جيداً من الحياة والحركة، وتمثل الملك أحشويروش جالساً على عرش سليمان أو على عرش يشبهه (هناك نسخة ثانية من صورة عرش سليمان رُسمت قبل هذه الصورة ومن المحتمل أنها تعود لنفس الفنان) وبالقرب منه إستير[3]، ويُظهر المشهد الملك يستلم أو يرسل رسالة في حضور الشعب اليهودي لبابل (أربعة أشخاص بلباس سوري يوناني)، بينما يتقدم مردخاي بانتصار على حصان ملكي أبيض يقوده هامان مرتدياً زياً شبيهاً بلباس أحشويروش، وقد كُتبت أسماء أحشويروش وإستير ومردخاي باللغة الآرامية قرب صورهم، ونقوش بهلفية مختلفة (كُتبت بالأبجدية الساسانية الجنوبية) كُتبت على الحصان وعلى شخصية هامان وعلى الشخص اليهودي إلى اليسار من المشهد. ومن المحتمل أنها نقوش تذكارية لزوار الكنيس وليست تواقيع الفنانين أنفسهم كما اعتقدنا في بادئ الأمر، حيث أن هذه الزيارات أُرّخت بأسماء شهور إيرانية وسنوات معاصرة للملك شابور 255 ـ 256، وهي السنوات الأخيرة للكنيس، وقد كتب هذه الأسماء شخص محترف التسجيل إذا قام بتسجيل الأسماء الخاصة وأسماء الزوار من خلال هذه النقوش، وقد يكون هؤلاء الزوار حاشية الملك شابور أو سفرائه إلى دورا قبل وأثناء احتلاله الساحق لمعظم المناطق السورية من الإمبراطورية الرومانية.

كُرست الزاوية الجنوبية مع كامل الجدار الخلفي والفراغات في الجدار الأمامي لتمثيل الحوادث المختلفة من حياة إيليا، وتبدأ سلسلة الصور من اليسار إلى اليمين ابتداءً بالصورة التي تقع شمال باب المدخل (إيليا والغربان) بينما فُقدت الصورة الأولى التي تقع إلى جنوب الباب. وبجانب هذه الصورة نشاهد صورة لإيليا مع أرملة صِرفا. ثم هناك مشهد فني كبير ذو جزأين يُصوران تضحية إيليا الخارقة على جبل الكرمل، وإلى اليسار يظهر الكهنة في انتظار بعل عبثاً ليهبط إلى مذبحهم وقرابينهم من الحيوانات بينما تقوم أفعى بلدغ الملك هيل المختفي تحت المذبح، وإلى اليمين إيليا بعجله القرباني الذي بدأت تلتهمه النيران. وقد كشف السيد كرايلنغ عن النقوش الآرامية في هذه المشاهد، واتضح أن اسم هيل الملك قد ورد مرتين، مما يجعلنا متأكدين بأن الرسومات لم تأتِ من خيال الرسّام وإنما قام بنقل القصة رسماً على الجدران وفقاً لرواية هاجادا، لأن التوراة لم تذكر اسم الملك هيل الذي اختبأ تحت المذبح لكي يوقد النار وقتلته الأفعى.

المشهد الأخير من سلسلة صور إيليا يمثل إحياء ابن أرملة صِرفا، وإلى اليسار نشاهد الأرملة كاشفة عن جسمها حتى خصرها كرمز للحداد والفجيعة محتضنة طفلها الميت، ثم نشاهد إيليا جالساً على مقعد ومحتضناً الطفل لإحيائه، وأخيراً مرة ثانية نشاهد الأرملة تحمل ابنها العائد للحياة بكامل ملابسها ذات اللون الأصفر. كما كُتب على قاعدة المقعد اسم إيليا باللغة الآرامية.

ومن خلال هذا الوصف السريع أعلق سريعاً على بعض الأمور التي تتعلق بالتركيب العام للصور وأسلوبها، فنظام زينة الكنيس مشابه لدرجة كبيرة التزيينات في جميع المعابد الوثنية في دورا ومشابه أيضاً للكنيسة المسيحية، عدا بعض الاختلافات في المواضيع، فأول ما تقع عين المشاهد عند دخول الكنيس على زينة مشابهة تماماً لزينة حرم معبد الآلهة التدمرية وحرم معبد زيوس تيوس. فنظام التزيين هذا كان مُتبعاً بشكل رئيس في الكنائس المسيحية كما ظل مستمراً لفترة طويلة.

أما مركز الجدار الخلفي للكنيس فقد شغله تركيب صرحي ذكرناه سابقاً. وقد لعب هذا التركيب في الكنيس الدور نفسه الذي لعبته المشاهد الدينية في المعابد الوثنية. ومن الواضح أنه لا يوجد شخوص دينية صريحة في الكنيس كما حال المعابد البوذية الباكرة، وإنما أُخذت الصور بشكل مجازي ورمزي.

وإلى يمين ويسار الصورة المركزية رُسمت صور أخرى وُزعت على مناطق مختلفة. وهي الطريقة نفسها المتبعة تماماً في المعابد الوثنية. إلا أن رسومات المعابد الوثنية ذات طبيعة أسطورية في حين أن مواضيع رسوم الكنيس ذات أحداث طقوسية مستوحاة من الكتب العبرية المقدسة، وقد فُصلت المشاهد عن بعضها البعض بأطر تزيينية ومساحات مختلفة.

وقد زودت بعض الصور بنقوش توضيحية كُتبت بالآرامية أو العبرية ونقوش أخرى كتبت باليونانية. ومن المحتمل أن الرسامين نفذوا هذه الصور والنقوش بموجب تعليمات محددة من قبل أولئك الذين طلبوها. ولدينا دليل آخر على أن التزيينات لم تنفذ حسب طلب ورغبة شخص واحد وكذلك لدينا دليل على أن بعض الرسامين كان أكثر اطلاعاً على الفن اليوناني وبعضهم الآخر كانوا مطلعين على اللغة والنصوص السامية.

 وعلى الرغم من هذا فإن تنفيذ هذه الأعمال لم تأخذ وقتاً طويلاً، فقد تم الانتهاء من بناء الكنيس في عام 245 م، كما تدلنا رسوم الطابوق في سقف المبنى إلا أن هذا السقف بُني بعد هذا التاريخ، كما بقيت جدران الكنيس بدون أي تزيينات لفترة طويلة من الزمن باستثناء مقام التوراة واللوح المركزي. وفي عام 255 و 256 م قام بعض الزوار الفُرس بتسجيل أسمائهم على بعض الصور المرسومة. وتُرينا هذه الحقيقة أن في عام 255 م بُدء بردم الكنيس لتشكيل المنحدر الترابي الداخلي باتجاه السور. مما يدلنا على أن الرسامين بدؤوا مباشرة بعد عام 245 م وانتهوا من العمل قبل عام 255 م، وبمعنى آخر فإن العمل استغرق بضع سنوات فقط إن لم يكن بضعة شهور (57).

ومن المحتمل أن عدداً من الرسامين عملوا في الكنيس خلال هذه الفترة القصيرة من العمل، وعلى الرغم من الأسلوب التشكيلي العام للصور موحد نوعاً ما إلا أن هناك اختلافات  فيما بينهم تثبت بأن هذه الأعمال لم يُنفذها رسَّام واحد، وإن كانت على الأرجح تحت إشراف فنان رئيسي. وعند التدقيق بهذه الصور ستكون هذه الترجيحات مؤكدة، فمشاهد الهجرة الجماعية (الخروج) ومشهد الكاهن الأكبر هارون ذات شكلٍ قاسٍ أكثر من مشهد أحشويروش وإستير وظهور موسى. كما أن مشهد حزقيال مشهد طفولي في تركيبه الفني وتنفيذه ومليء بالاحترام والتأسي الديني، فلا يمكن أن يكون للفنان نفسه الذي رسم المشاهد الصلبة ومشهد الهجرة أو مشهد هارون وأصحابه. فالوصف الشاعري لظهور موسى، والسمة الحزينة في صور إيليا المتعاقبة تميزانهم عن مشهد الهجرة الجماعية (الخروج) وصورة هارون، وأعني بذلك الاختلاف الكبير بالحس الفني فيما بينهما. ورغم أن التقنية الفنية موَّحدة في جميع الرسومات إلا أن شخصيات الرسامين المختلفة التركيب أثراً عميقاً في الطابع العام للمشاهد المختلفة. ولهذا فليس هناك وحدة فنية في صور الكنيس.

ولا يمكن الكشف عن أي نوع من الوحدة في اختيار تسلسل المواضيع التي عرضها الرسامون المختلفون رغم أنه لم تستغرق الزينة وقتاً طويلاً للتنفيذ، إلا أنها لم تُنفذ وفق برنامج مدروس، وإنما حسب التقاليد أو رغبة القائمون على الكنيس. فالهدف العام من الرسوم هو عرض الكتب المقدسة بالصور وذلك ليتمكن المصلون من تصور بعض الحوادث التي ذكرتها النصوص وذلك لسهولة تفسيرها للعامة في الكنيس. فالشخصية العظيمة التي تعتبر وراء كل هذه السلسلة من الصور هي الإله يهوه والذي لا يظهر في الصور وإنما تظهر فقط يده مرسومة في العديد من المشاهد. ونستنتج من خلال هذه الصور بأن الحوادث صُورت بإرادته وطلباً منه. إلا أن اختيار المشاهد يبدو عشوائياً جداً، حيث أن ترتيب المشاهد لا يبدو وفق تسلسل زمني، فمشاهد الهجرة الجماعية (الخروج) وحلم يعقوب وصور سليمان مجاورة لبعضها البعض، كما أن مشهد إيليا قريباً من مشهد أحشويروش وإستير والتي هي بدورها مجاورة للمشهد الذي يُصوِّر طفولة موسى، وهكذا تباعاً حتى مشهد حزقيال، حيث أننا لا نستطيع أن نكتشف أي فكرة هي المسيطرة في المشاهد، ولكن من الممكن أن يكون وراء توزيع الصور شخصية رمزية.

من الواضح أن العديد من الصور لم يطلبها كبار القائمين على الكنيس وإنما من قبل المتبرعين الأغنياء وأصحاب النفوذ. وقد وُزعت هذه الصور ضمن مساحات معينة تبعاً لحماسة المتبرعين كما تراها إدارة الكنيس، وقد كلَّف كل منهم رسّامه الخاص. كما اختار المتبرعون مواضيعهم الخاصة وفقاً لميولهم. حيث أن هذه المواضيع تُطرح على إدارة الكنيس أو الكاهن فإما أن تُقبل أو تُرفض. ومما تجدر الإشارة إليه هو عدم تكرار الموضوع نفسه في الصور فقد استخدم الكاهن سيطرته على متابعة العمل. كما لم تكن هذه الأعمال مشابهة للرسوم والمنحوتات في الهند التي تكررت فيها المشاهد والمواضيع نفسها في المباني الدينية ومعابد الكهوف، وإنما كانت رغبة المشرفين على إدارة الكنيس في دورا وضع خطة للأعمال التزيينية (بمعنى آخر : توزيع الرسوم في أربع مناطق، مقام التوراة واللوح المركزي… الخ) لإنهاء الأعمال وفق مخططهم بأسرع ما يمكن، وقد أدى اندفاع اليهود في دور لتقديم ثرواتهم إلى إنجاز العمل بالكامل في وقت قصير جداً.

وإذا كان استنتاجي صحيحاً، فما حدث في الكنيس شبيهاً جداً بما حدث في معابد دورا، ما عدا أن الشخصيات المشكَّلة في الصور تتوافق مع الطابع العام للديانة اليهودية.

ولا يعتبر هنا تشابه أنظمة التزيين في المعابد الوثنية والكنيس أمراً جديداً. فهذا النظام من التزيين لم ينحصر في دورا وبلاد الرافدين فحسب بل نجده منتشراً في جميع أنحاء الهند والشرق الأقصى خلال الفترة الباكرة والمتأخرة، وهو في الأساس نظام الفن الشرقي بشكل عام. وهو نظام موغل بالقدم ومتجذر بعمق في التقاليد الفنية الأولى للشرق القديم ولا يوازيه بذلك أي فن في العالم، ومع ذلك فلا يعني ذلك افتقار الغرب لهذا الفن وخصوصاً في إيتروريا وإيطاليا.

( لقد استفادت المدينة من وجود ديانات عدة بداية بالإله بعل والآلهة السورية المحلية ثم اليونانية والفارسية والرومانية ومروراً باليهودية حيث تمتع اليهود بعيش كريم في هذه المدينة بعد سبيهم إلى بابل ثم المسيحية ، وما وجود هذه المعابد الكثيرة والأديان المتعددة إلا دليل على التعايش السلمي بين الأديان منذ فجر الحضارة . المترجم )

لكن الأكثر أهمية هو التشابه الكبير بين صور الكنيس وصور معابد دورا، وخصوصاً فيما يتعلق بالخلفيات وأسلوبها العام، وسأبدأ بالتشكيل الفني.

إن دراسة ألبسة الشخصيات في رسومات الكنيس تتطلب دراسة خاصة ومُفصلة لمعرفة أصل هذه الألبسة ولأي طراز تعود. ومن السهولة تمييز خمسة نماذج من أنواع الألبسة :

1 ـ اللباس السوري اليوناني، ذو لون أبيض مع ألوان مختلفة، وهو لباس استخدمه الأشخاص البارزون ذوو الأهمية الكبيرة، ولم يكن هذا اللباس مخصصاً فقط لليهود.

2 ـ ملوك رُسموا بألبسة فارسية، ومن المحتمل أنه لباس الملوك الفارسيين.

3 ـ هارون في مشهد رسمه مرتدياً عباءة طقوسية، رُسمت كما وُصفت في الكتب المقدسة.

4 ـ في مشهد الهجرة الجماعية (الخروج) نشاهد عامة الشعب باللباس السوري المخصص للعمال وهو لباس قصير مع حزام بدون أكمام وبدون بنطال.

5 ـ نوع من ألبسة الخدم وعامة الشعب في باقي صور الكنيس والتي من الصعب تحديد نوعية هذه الألبسة.

وأعتقد أن جميع الألبسة المذكورة هي ألبسة الطبقة العاملة أو معدلة عن الأزياء الإيرانية. حيث نجد الألبسة الإيرانية تتألف من البنطال الضيق والأحذية البسيطة، والأكمام الطويلة، والسترة المحزّمة وهي ألبسة مشابهة جداً لألبسة أفراد المجتمع التدمري في دورا.

أما ألبسة النساء وحليهن فإنها تتبع النمط نفسه تقريباً ولكن نلحظ فيها انتظاماً أكثر من ألبسة الرجال، فالنساء بشكل عام يرتدين اللباس السوري اليوناني وتتبع حليهن نفس هذا الطابع أيضاً. ومع ذلك فإننا نلاحظ بعض الميزات الإيرانية وخصوصاً في صورة إستير التي تبدو فيها شبيهة بتيشة والتي نجدها في أغلب الأحيان على النقود الفارسية، بشعرها المعقوص وخصل شعرها الجانبية المشابهة بشكل كبير الضفائر الإيرانية، وهذا النمط معروف لدى قُرَّاء الشاهنامة (الملحمة الفارسية) والمطّلعين على المخطوطات الفارسية.

وُجدت مثل هذه الأنواع المختلفة من الألبسة في صور الكنيس، وهي مشابهة جداً للألبسة التي استُعملت في تدمر بشكل عام. إلا أن هناك بعض الاختلاف، فالأزياء التي استُخدمت في الكنيس ذات نمط فريد. فاللباس الإيراني في الكنيس أقرب إلى اللباس الفارسي وذلك حسبما أشارت إليه بعض الصور والمنحوتات والنقوش النافرة في تدمر. وكذا الأمر ينطبق على الألبسة والحُلي النسائية بشكل عام. ويحتاج الموضوع هنا مقارنة أكثر تفصيلاً ودقة بين دورا وتدمر.

تبدو الأسلحة والتجهيزات الحربية في صور الكنيس موحدة، ولا أعتقد بأن صور هذه الأسلحة والمعدات تعود للضباط والجنود الرومان، فهي أسلحة تقليدية وشائعة كالدروع وتروس دورا الملونة، وعلى الأغلب فإنها تعود إلى الزي الرسمي للجنود الهلنستيين خلال الفترات الهلنستية الباكرة والمتأخرة أُعيد انتاجها على الأفاريز المشهورة في معبد أثينا في بيرغامون وصور النُصب الجنائزية في صيدا، ومنحوتات معبد أرتميس في مدينة ماغنيسيا، ومعبد هيكات (آلهة السحر والتعاويذ اليونانية ) في لاجينا. وبعض النقوش النافرة من الأناضول… الخ ولكن مع الأسف فإنه لا يوجد عمل شامل درس الأزياء الموحدة للجنود الهلنستيين في الفترة الهلنستية المبكرة والمتأخرة فيما لدينا من المصادر الأدبية والوثائق القديمة. وفي الوقت نفسه فإننا نلاحظ قوة العناصر الإيرانية في تمثيل المشاهد التي يظهر فيها الجنود، وألفت نظر القارئ إلى صورة معركة حجر المعونة المشابهة جداً لصورة المعركة الإيرانية. فمن الملاحظ أن المعركة تُظهر مبارزة بين قائدين على خيولهم بين جيشيهم في حين كانت شخصيات الجنود مجرد إضافات ملحقة بالصورة.

في الحقيقة ليس هناك مجال لإعطاء حتى مجرد تحليل سطحي للميزات الإثنوغرافية الأخرى في مشاهد الكنيس، كالأدوات المقدسة للمعابد. ولكن سأشرح قليلاً عن خلفيات الصور ذات المشاهد الطبيعية أو المعمارية. فهي تتطلب دراسة مقارنة متأنية فيما بين الهندسة المعمارية وخلفيات صور الكنيس مع لوحات بومبي، وقد قمت بإعداد بحث قبل عدة سنوات في مقارنة هذه الفنون. ومن المؤكد أن هناك تشابهاً بين المدينتين ولكنهما تختلفان في النقاط الرئيسة. وعلى الرغم من هذا فيجب علينا أن ندرك بأن الكنيس اعتمد قبل كل شيء على اليونانيين الأصليين ومن هنا نجد التشابه مع الصور الوثنية في دورا، فقد تم التركيز على العناصر المعمارية والمناظر الطبيعية في صور الكنيس أكثر من المعابد الوثنية.

إن رسوم المعابد تتكرر في خلفيات صور الكنيس مراراً ونجد ذلك في : صور السفينة في بلاد الفلسطينيين، هارون، نبع مريم، الهجرة الجماعية، أريحا. وجميع هذه المعابد من الطراز السوري اليوناني، هذا الطراز من المعابد الذي كان سائداً في الإمبراطورية الفارسية. أما في بعض الصور (هارون ونبع مريم) فهناك محاولة لدمج هذا الطراز السوري اليوناني مع تفاصيل المعابد المشتقة من المصادر الأدبية. فكل المعابد في الصور الهلنستية المشابهة رُسمت من الأعلى وذلك لعرض أهم أجزاء المعبد وأثاثه المقدس مع إهمال المنظور، وبهذا تبدو صور الكنيس مشابهة للنقوش الآشورية النافرة إلى حد ما أكثر من شبهها بالمناظر المعمارية اليونانية الرومانية ومناظر الطبيعة.

مثال آخر على هذه المعالجة المنهجية دون محاولة تحري الحقيقة في الانتاج نجده في محاولات قليلة لرسم مشهد طبيعي دون مبان أو تكون المباني تابعة له كما هو الحال في رسم صورة موسى في النيل والبحر الأحمر والأشجار. تلك الصورة هي من النمط الإيراني والذي ضمنته في كتابي سابقاً في قبر ستاتوف وقبور أخرى معاصرة له لهذا لنا أن نسأل إذا ما كانت رسوم المناظر الطبيعية في دورا قد اشتقت من أصول يونانية وإيرانية أم من أصول يونانية فقط.

أما بالنسبة للمباني فيتطلب هذا مقارنة دقيقة بين صور الكنيس والصور المكررة في المباني الهلنستية بالهند (أقصد من ناحية الأسلوب ونمط التصوير)، ولا أستطيع الإسهاب في هذه النقطة لأن ذلك وكما أسلفت يتطلب دراسة دقيقة. وإنما أُشير فقط إلى التشابهات فيما بين الهند وبلاد الرافدين والتي قد تعود إلى الإلهام اليوناني أو الإلهام اليوناني الفارسي المشترك، ومن المحتمل أنها تعود إلى النماذج الآشورية الأصلية.

والخلاصة فإن الخلفية الإثنوغرافية لصور الكنيس مشابهة بشكل كبير لمثيلاتها في المعابد الوثنية، ومع ذلك فإن العناصر اليونانية والسامية هي العناصر التي سادت في النهاية.

وعلى أية حال فإنه عند تحليل المنتجات الفنية ما يهم هو الأسلوب ومن الواضح في أسلوب صور الكنيس أنها معدلة عن أسلوب الرسوم الوثنية والمنحوتات في دورا. صحيح أن أسلوب صور الكنيس ذو ميزة أكثر حركة وحرية، وأقل تصلباً بكثير من الصور الوثنية اليونانية، ولكننا يجب أن لا نعطي الكثير من الأهمية لهذه المقاطع. إن التنوع الأعظم يكمن في الانطباع الذي تركه رسامي الكنيس في الصور والذي عالجوه بأسلوب فريد، وفي الحقيقة فإن الميزات الرئيسة متشابهة جداً لدرجة كبيرة بين الكنيس والمعابد الوثنية.

لا حاجة هنا إلى تكرار ما شرحته حول الأسلوب الفني بدورا وإنما أكتفي بالإشارة إلى أن الصور في الكنيس هي بالمجمل صور من الذاكرة كحال أغلب الصور في دورا، فصور دورا بشكل عام تفتقد للاهتمام بالجسد، وذات نوعية ثنائية الأبعاد، فالخطوط نفسها، والصور نفسها ذات الشكل الجبهي، وافتقاد الحركة (كبح الحركة وعدم التحكم بحرية الشخوص في مشهد المعركة)، وتشابه الخواص، والهندسة المعمارية، والتكرار الموحد نفسه في الوجوه، والتجميع البدائي نفسه للجماهير كالتي نجدها ـ على وجه المقارنة ـ في صورة اليهود الإثني عشر في مشهد الهجرة الجماعية مع الجنود الواقفين في صورة تضحية تيرينتيوس.

إن وحدة الوجوه في مئات المشاهد في الكنيس تتخلله محاولات لإدخال لمسة روحانية وأُشير بهذا الصدد إلى مشهد النبي الشاب الذي يُظهر التشريع المقدس. فرأسه معبِّر جداً ومليء بالحماسة الدينية وهذا مشابه جداً لرؤوس الكهنة في صورة كانون. فهذا المشهد (النبي الشاب) من أفضل اللوحات الجدارية في الكنيس لأنه يُرينا تأثير الفن اليوناني الروماني فيه، كما أنه مشابه لدرجة كبيرة للصور الشخصية في الفيوم، باستثناء أنه ليس صورة شخصية (من المحتمل كان المقصود من الرسم تصوير شخصيته)، لكن الفنان لم يجعل رأسه رأساً مثالياً، باستثناء روحانيته الشديدة والتي تبدو غريبة بالمقارنة مع صور الفيوم. أما فنان مشهد حزقيال كان أقل نجاحاً في رسمه، مع أنه كان المقصود إظهار رأس حزقيال في حالة حماسة دينية ونفس الحقيقة تنطبق على صورة إيليا في مشهد نزاعه مع كهنة بعل. ولكن الأمر يختلف في مشهد النبي المسن المصور كبطل ميت، ومحاطٍ بالنجوم، حيث يتضح هنا تأثير الفن المصري المتأخر.

إن أسلوب صور الكنيس مثير للإعجاب وذو طابع جوهري مختلف عن معابد دورا الوثنية، ولا يعود هذا لاختلاف الأسلوب فحسب وإنما تمثيل لاختلاف الغرض منها أيضاً. فالصور في المعابد ذات طابع طقوسي، فقد رسم الفنان مشاهد التضحية والصور الأسطورية النادرة كالتي نجدها في معبد الآلهة التدمرية (تكررت مرتين) ولا نعرف ما هو التفسير. فقد رُسم المشهد كحلقة متفردة، ثم تكرر هذا الرسم ضمن مشهد أسطوري على أحد دعامات الرواق المعمَّد في معبد بل بتدمر.

إن الجزء الأكبر من هذه المشاهد ذو طابع أسطوري وذلك على العكس من الصور في الكنيس، فهي محاولات لتصوير أحداث التوراة الأمر نفسه الذي نجده في الرسوم التوضيحية في الكتاب المقدس وسأترك لغيري من المطّلعين مسألة المقارنة بين التصويرين. وفي كل الأحوال فإن صور كنيس دورا تُعتبر أول محاولة لتصوير حوادث التوراة.

وهكذا فإن رسامي الكنيس واجهوا مشكلة لم يواجهها رسامو المعابد وهي في تصوير القصة، وكيفية نقل المعاني في المشاهد، وتجسيد الفكرة بشكل قصصي مستمر لبعض الأحداث التي ذُكرت تفاصيلها في الكتب المقدسة.

وهذه المشكلة التي واجهها رسامو الشرق الأقصى أيضاً لم تكن جديدة وكلها تعود إلى زمن بعيد، وليس باستطاعتي هنا تتبع تاريخ الطريقة القصصية في التصوير بالتفصيل، وبكل الأحوال فإنني ألفت نظر القرّاء لبعض الحقائق المعروفة. إن أول ما أشار لهذا هو السيد ويكخوف والذي أوجد طريقتين رئيسيتين لحل مشكلة الرواية التصويرية. إحداها كان فصل الرواية، والأخرى استمرارية الرواية. وتتعلق الأولى بسرد القصة وذلك من خلال نسخها على اللوحة أو المنحوتة مفردة كانت أو سلسلة من الأحداث ذات الأهمية الأكثر تميزاً في القصة، وبدون أي علاقة تربطهم فيما بينهم. وقد اعتمد هذه الطريقة الرسامون والنحاتون اليونانيون (مع بعض الاستثناءات)، أما الطريقة الأخرى وهي الطريقة المستمرة فقد تضمنت دمج المراحل المختلفة من القصة في صورة واحدة لكي تحمل فكرة القصة المستمرة أو الكاملة. وكثيراً ما تتكرر في هذه الطريقة صورة بطل المشهد مع تغير محيطه، وقصد الفنان في هذا تمكين المشاهد من متابعة القصة كما لو أنه يقرأ كتاباً أو مخطوطة. وقد اعتقد ويكخوف بأن أول من استعمل هذه الطريقة هم الرومان. فالنماذج الأولى ـ حسب ما يعتقد ـ تعود لبعض التوابيت الحجرية والنقوش التاريخية النافرة، وختام الأمثلة الأكثر تميزاً في النقوش النافرة من عمود تراجان. فقد اشتق ويكخوف استعمال الطريقة المستمرة في عرض الفن المسيحي من الفن الروماني كأفضل الرسوم المصورة في النقوش المزخرفة.

ولكن مشكلة أصل الطريقة المستمرة للرواية في الفن المسيحي تبدو معقدة أكثر بكثير مما يعتقد ويكخوف. فقبل الفترة الرومانية بمدة أطول ناضل فنانون كُثر في بلدان مختلفة لحل هذه المشكلة. وأُشير هنا إلى العديد من الفنانين في الشرق الذين سعوا لتصوير الكتب المقدسة وفق ديانتهم الخاصة والتي كانت تحدياً لحل مشكلة الرواية. كالفنانين الذين عملوا في خدمة الديانة البوذية والعديد من أتباع الديانات الخفية في الشرق الأدنى وفي جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.

ويكشف لنا الكنيس اليهودي بأن الفنانين الذين قاموا بخدمة الديانة اليهودية واجهوا المشكلة نفسها. ويتضح من خلال هذه الصور بأنهم تبنوا طرقاً مختلفة لحلها، وإحداها كانت طريقة الفصل فخذ مثلاً صورة صموئيل وهو يمسح داود بالزيت، أو صورة نبع مريم، أو صورة هارون الكبير مع مجموعة الكهنة. فهذه الصور أمثلة ممتازة من طريقة فصل الرواية.

وبكل الأحوال فالطريقة المستمرة هي الطريقة التي سادت في هذه الصور. فالرسوم المتعددة الأشكال هي طريقة استخدمها فنانو دورا لإيصال فكرة الاستمرارية، وكان هذا في الحركة والتوسيع والتقدم في سرد الحادثة. فصورة تضحية إيليا تسعى لأن تُرينا حدثين متزامنين ولنقل فكرة تطور الحدث في : إيليا يتضرع إلى الله، ونار تنزل من الأعلى لتلتهم الحيوان القرباني، الخدم يحملون ويصبون الماء، وفي ناحية أخرى انتظار كهنة بعل بدون جدوى لإيقاد النار بينما يهاجم الثعبان هيل. وفي الحقيقة إنه خليط غريب من طريقة الفصل والطريقة المستمرة.

إن مبادئ الطريقة المستمرة أكثر تفصيلاً في صورة السفينة بعقرون، وفي مركز أبراج السفينة. فالحوادث السابقة في أشدود نُقلت في صورة معبد داجون مع تماثيلها الدينية في لحظتين مختلفتين من القصة، ولكن السفينة مُثلت في عقرون. فما حدث هناك توحي به صورة الفلسطينيين الثلاثة، فنتيجة وجودها في عقرون رُبطت هذه السفينة بالعربة التي تجرها الأبقار، وتظهر الصورة استعداد السائق لسير العربة. فمن السهولة للمشاهد المطلع على التوراة أن يتصور تاريخ السفينة من وقت أسرها وحتى وقت إحضارها إلى أشدود.

[1] خيمة يتخذها اليهود هيكلاً متنقلاً (المترجم).

[2] أحد أنبياء العهد القديم (التوراتيون) (المترجم).

[3] امرأة يهودية جميلة وزوجة الملك الفارسي أحشويروش الأول، وهي التي أقنعت الملك مع ابن عمها مردخاي إلغاء فكرة إبادة اليهود في مملكته، والذي خطط لهذه الإبادة هامان كبير وزراء بلاد فارس وبدلاً من ذلك قام الملك بشتق هامان على المشنقة التي بُنيت لمردخاي. يتحدث كتاب إستير عن هذا الحدث في القرن الثاني قبل الميلاد (المترجم).

كاتب

التعليقات مغلقة.