مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

في مفهوم الاقتصادوية

عبد الله أوجلان

عبدالله أوجلان
عبدالله أوجلان

من أهمِّ قضايا الكائنِ الحيِّ هو تأمينُ الاقتصادِ أو مستلزماتِ الحياةِ المادية. الاقتصادُ ضرورةٌ لأجلِ تَحَقُّقِ التطورِ الطبيعي. فنظامُ الكائن الحي يُؤَمِّنُ استمراريتَه من خلال المواد التي يحتاجها ويحصلُ عليها من الوسطِ الخارجيّ، ثم يُطرِئُ عليها التغييرَ عن طريق التفاعلات الكيماوية، فيُحَوِّلُها إلى موادّ تتناسبُ ونظامَ الهضمِ لديه. إنه قانونٌ كونيّ. فالتطورُ الطبيعيُّ يُؤَمِّنُ سيرورةَ الحياةِ بالتنوعِ والاختلاف. فهو يتَّبِع أو يُمَكِّنُ مِن وجودِ توازنٍ معيَّنٍ على الدوام، في سبيلِ الحدِّ من التكاثرِ المفرطِ لنوعٍ ما من الكائناتِ الحية، وإعاقةِ استيلائِه على الأنواعِ الأخرى؛ كي لا يتَسَبَّب بالتالي في إفنائها. فالتكاثرُ المفرطُ للفئران، وبالتالي قضاؤها على النباتات، قد أُعاقَه التطورُ الطبيعيُّ بوساطةِ الأفاعي. وكذا سَلَكَ العمليةَ نفسَها بِسَدِّ الطريقِ أمامَ التكاثرِ المفرطِ للأغنام والماعزِ وكافةِ أنواعِ المواشي، والتمكينِ من سيرورتِها واستمرارِ تطورِ نوعِها؛ وذلك بتحقيقِ توازنِها مع الحيواناتِ المفترسةِ آكلةِ اللحوم. أما فيما يتعلق بالتساؤل: ولِمَ يَفعَلُ التطورُ الطبيعيُّ هذا؟، فيمكن الردُّ عليه بالنظرِ إلى النتائجِ الناجمةِ عنه. فحسبَ رأيي، إنّ العلةَ الأوليةَ في ذلك تَعُودُ إلى تأمينِ رُقِيِّ وديمومةِ نظامِ الكائناتِ الحية. فَهل يُسَمَّى ذلك بِوَحشيةِ الطبيعة، أم عدالتِها؟ هذا موضوعُ نقاشٍ آخر. كذا، هل هذا حصيلةُ ذكاءٍ عميق، أم له علاقةٌ بالبدائية؟ أينبغي إدراجه في الإطارِ الميتافيزيقي أم لا؟ إنها أمورٌ قَيِّمة، حسبَ رأيي، وتتعلقُ بالشؤونِ الكونيةِ التي ينبغي التفكيرُ فيها بذكاءٍ تحليلي. كما ويمكن ربطُها بعلمِ الوجودِ أيضاً.

أَهَمُّ جوابٍ يمكن إعطاؤه على هذا السؤال هو قيامُ التطورِ الطبيعي بالرصدِ الدائمِ للمهارةِ والمقدرة. وبمعنى من المعاني، فكأنّ الكونَ يَرصُدُ نزوعَه، ويُبَيِّنُ ميولَه إلى الكفاءةِ والكمالِ ضمن تدفقِ الزمان. وإلا، فكيف لنا إيضاحُ التطورِ الطبيعيِّ المرتقي إلى حالةِ الإنسان، وكذلك إلى حالةِ المجتمعِ البشري الضيقِ النطاق؟ فلو عَجَّ الوسطُ دائماً بالأُسُودِ أو قطعانِ المواشي، تَعوثُ فيه فساداً وتستولي عليه؛ لَما أَمكَنَ استمرارُ الحياةِ وتطوُّرُها.

إنّ التطورَ الطبيعيَّ المذهلَ الذي وصلَ إلى مستوى الإنسان، قد أفسحَ المجالَ أمام ظهورِ ما يسمى بالضميرِ والأخلاق. وما معنى ذلك؟ معناه الرحمةُ والعدالة! يمكن التعبير عن مضمونِ هذا المبدأِ على النحوِ التالي: “لو كان الفكرُ أحادياً، لاستطاعَ الحَمَلُ والذئبُ العيشَ معاً”. وهنا أيضاً تَتَسَتَّرُ الكونية. أَوَيُمكِن أنْ يَكُونَ الحَمَلُ والذئبُ أَخَوَين؟ أجل، لقد بَرهَنَت ممارسةُ الإنسانِ على إمكانيةِ ذلك. أي أنّ التفكيرَ والعملَ على استحالةِ أنْ يَكُونَ الإنسانُ ذئبَ أخيه الإنسان (مبدأ الوحشية في الرأسمالية)، هو هدفٌ اضطراريٌّ لا مفرَّ منه لكينونةِ الإنسان. بَيْدَ أنَّ جِدّ الذئبِ والحَمَلِ كان نفسَه في وقتٍ ما، ومِن ثَمَّ حصلَ التباينُ والانفصال. فَلِمَ لا يَتَّجِهُ كِلاهما مجدداً صوبَ وحدةٍ أخويةٍ بأقلِّ تقدير؟ إنّ هذا ممكنٌ نظرياً على الأقل، ولَطالما نصادفُ أمثلةً دالّةً عليه.

إني أتطرقُ إلى هذه الأمورِ لتبيينِ مدى عدمِ جدوى أنْ تنطلقَ الرأسماليةُ في نشوئِها وولادتِها من بعضِ الأمثلةِ المحدودةِ جداً، التي نلاحظها في التطورِ الطبيعي، والتي قد تُعتَبَرُ وحشية. والأهمّ من ذلك: هل سندَعُ جانباً أمثلةَ النشوءِ التي مَهَّدَت الطريقَ أمام مسيرةِ التطورِ الطبيعيّ، ابتداءً من الطحالبِ البحريةِ البدائيةِ إلى الطحالبِ البرية، ومنها إلى الأشجارِ الضخمةِ الفارعة، وكذا إلى النظامِ الحيوانيِّ الغنيِّ جداً بالحيواناتِ المتغذية على النبات (الحيواناتِ التي لا تفترس بعضها بعضاً)؟ وهل سنتّخذُ من أمثلةِ النشوءِ التي يمكننا نعتها بسرطانِ التطورِ الطبيعيِّ قدوةً يُحتَذى بها لأجلِ حياةِ الإنسان! إني مرغَمٌ على تبيانِ هذه الأمورِ كإيضاحٍ تمهيديّ، للإشارةِ إلى أنه لا مكانَ في سياقِ التطورِ الطبيعيِّ للأحداثِ التي تُثبِتُ صحةَ نظرياتِ ولادةِ الرأسمالية، بما في ذلك المبدأُ المقلوبُ الذي ينصُّ على التضخيمِ الدائمِ لجيشِ العاطلين عن العمل، بغرضِ الإرغامِ على العملِ بأُجورٍ متدنية.

إنّ القولَ باستمرارِ النوع البشري في وجودِه على أساسِ المجتمعية، واحتوائِه كلَّ مراحلِ التطورِ الطبيعي في بنيتِه، وتَحَوُّلها إلى ممارسة؛ إنما هو تشخيصٌ بيولوجي. وإذا عَمِلنا على تفسيرِ العِلمِ دون إصابتِه بِعَدوى دينِ الوضعية، فعلينا الإدراكُ يقيناً أنّ هذا أيضاً تشخيصٌ رائع.

قبلَ كلِّ شيء، عليَّ التشديدُ على إمكانيةِ وجودِ جذورِ مثلِ هذا النمطِ من التطوراتِ ضمن سياقِ التطورِ الطبيعي، وإن بحدود؛ وأنه بمقدورنا نعتها ضمنَ التطورِ الطبيعي للإنسانِ (كنوعٍ حيّ) بضربٍ من ضروبِ المَرَض أو الشذوذ أو البقايا الحيثية (أَكلُ لحومِ البشر مثلاً). علاوةً على ضرورةِ استيعابِنا بكلِّ جلاءٍ أنّ مثلَ هذا النمطِ غيرُ موجودٍ ضمن السياقِ الاعتياديِّ المُتَّزِنِ والمتناغمِ للتطورِ الطبيعي. كما أنّ القولَ باستحالةِ إنشاءِ نظامٍ اجتماعيٍّ (الطبيعة الثانية) بالاستفادةِ من خصائصِ البقايا الحيثيةِ في المدنيةِ عموماً وفي طورِها الرأسماليِّ خصيصاً، هو ليس مجرد تشخيصٍ وحسب (وهذه مَهَمَّةٌ تقعُ على عاتقِ الأكاديميين الأخِصّائيين). بل ومن المهمِّ في الوقتِ نفسِه تفسيرُه أساساً على أنه المبدأُ الركنُ للحياة. وفي حالِ العكس، نَكُونُ قد حَرَّفنا وشَوَّهنا شروحَنا الاجتماعيةَ منذ البداية.

تستندُ شروحُ فرناند بروديل بشأنِ ولادةِ الرأسماليةِ إلى قوةِ ملاحظةٍ ثاقبةٍ وشاملة، وإلى قدرةٍ عاليةٍ على المقارنة. فضلاً عن أنه يسلطُ النورَ على قضيةِ الأسلوب، أثناءَ قيامِه بتكريسِ شروحِه ضمن إطارٍ متكاملٍ فيما يتعلقُ بالتاريخِ والمجتمعِ والسلطةِ والمدنيةِ والثقافةِ والأحداثِ المكانية. إنه مُحتاطٌ وحَذِرٌ إزاء المقارَباتِ الوضعيةِ للأمور. أما كارل ماركس، فقد كان يُصِرُّ على الزعمِ بجعلِ الاقتصادِ علماً بذاتِه، وذلك مِن خلالِ اتخاذِه من العِلمِ الوضعيِّ أساساً، متأثراً في ذلك ومن الأعماقِ بحركةِ التنوير؛ ومع الأخذِ بعينِ الاعتبارِ النصيبَ الملحوظَ لِعلمِ الاجتماعِ في ذلك، كونه لا يزالُ في مرحلةِ الحَبْوِ والزحف. فالجزمُ العلميُّ والتقدمُ على خطٍّ مستقيمٍ قد عَلِقَ في الأذهانِ منذ أَمَدٍ سحيق، تماماً كما “البَسملة”. وبينما سَعَت الرومانسيةُ إلى هَدمِ هذا المنهاج، انزَلَقَت على النقيض من ذلك في انحرافِ الإرادية، لتَتَسَبَّبَ بزيادةِ وطأةِ الأزماتِ الذهنيةِ أكثر. حيث لا يتم تطويرُ مواقفِ نيتشه التي يغلبُ عليها الذكاءُ النسبيُّ والحلزونيُّ والعاطفي. وتَعُوثُ الليبراليةُ وتَصُولُ في الأرضِ ضمن هذه البلبلةِ والعربدةِ الذهنية. وبينما تَعمَلُ الرأسماليةُ على تحويلِ العلومِ الفيزيائية (بما فيها الكيمياء والرياضيات والبيولوجيا) إلى فلسفة، أو بالأحرى إلى دينٍ عن طريقِ الوضعية؛ فهي بالمقابل تَقُومُ بتحويلِ الواقعِ الاجتماعيِّ أيضاً إلى فلسفةٍ أو دينٍ عن طريقِ الليبرالية، وبنفسِ الاتجاه. ومع إحرازِها النجاحَ في الصراعِ الأيديولوجيِّ أيضاً بالتأسيسِ على ذلك، يَتَبَدّى وكأنّ النظامَ أضحى كونياً مع حلولِ القرنِ التاسعِ عشر. في حين أنه كان قد أُحرِزَ النصرُ في الحربِ الاقتصاديةِ قبل ذلك. لِنسهبْ في شرحِ هذه الانتقاداتِ والشروح.

لَطالما بَحَثَت المجموعاتُ في أذهانِها عن الأشياءِ التي تلبي حاجاتِها الماديةَ في رغبةٍ منها لتطويرِها. وكانت همومُها الأوليةُ مُنصَبّةً على تأمينِ الغذاءِ والمأوى والتكاثرِ والحماية. ولتلبيةِ متطلباتِها من هذه الحاجاتِ الأساسية، اكتَفَت المجموعاتُ الأولى بما تَجِدُه من قُوت، وسكنَت في الكهوفِ والمغارات، وأَمَّنَت حمايةً أفضل لنفسِها على تخومِ البحيراتِ ووسطَ الغابات، واعتَرَفَت بأولويةِ منزلةِ الأمِّ المنجبة. ومع مرورِ الزمن، تدخلُ مزاوَلةُ الصيدِ أيضاً في الأجندة. فدافعُ تأمينِ الحماية، والرغبةُ في التغذي على اللحومِ قد أدَّيا إلى تطويرِ هذه الثقافة. لكن، وابتداءً من مرحلةٍ معينةٍ من المجتمعية، بالمقدورِ ملاحظةُ التوترِ والحزازيات، وبالتالي تصاعُدِ سياقاتٍ مختلفةٍ من التطورِ الثقافيِّ بين المرأةِ المهتمةِ أساساً بجمعِ الثمارِ والرجلِ الذي احتَرَفَ مهنةَ الصيدِ بالأكثر. وبناءً على التطورِ الأحاديِّ الجانبِ لدى كلٍّ منهما، تتعززُ رويداً رويداً ثقافةُ “الرجلِ الأسد” من جهة، بينما تتكرسُ في الجهةِ الثانيةِ ثقافةُ “المرأةِ البقرة”. وهكذا تُوضَعُ لبناتُ أُولى المفاهيمِ الاقتصاديةِ المتباينة. تَبلُغُ ثقافةُ المرأةِ ذروتَها في العصرِ النيوليتي. كما إنّ الغنى الوفيرَ لشتى أنواعِ النباتِ والحيوانِ الذي ظهرَ بعدَ العصرِ الجليديِّ الأخير، أي ابتداءً من أعوامِ 15000 ق.م، وخاصةً على حوافِّ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس؛ قد مَهَّدَ السبيلَ لتصورِ حياةٍ أَشبَهُ ما تَكُونُ بالجنة. هذا التطورُ الاجتماعيُّ البارز، سيستمرُ في وجودِه كنهرٍ رئيسيّ، مع تَبَدُّلِه ضمن سياقِ التاريخِ المكتوبِ والمدنية؛ لِيَترُكَ بصماتِه على العولمةِ في يومنا الراهن. وما المستجداتُ المعتمِدَةُ على المجموعاتِ اللغويةِ التي بلغَت يومَنا الراهن، سوى ثمرة من ثمارِ ذاك العصر.

الأمرُ الوحيدُ المهمُّ الذي يمكنُ قولُه بشأنِ الرأسماليةِ خلال هذه المرحلةِ التاريخيةِ الطويلةِ للبشرية، هو أنّ ثقافةَ الصيدِ قد حَوَّلَت الرجلَ شيئاً فشيئاً إلى حاكمٍ مهيمن. وحسبَما تَمَّ تشخيصُه، فالثقافةُ النيوليتيةُ الراسخةُ في أعوامِ 10 آلاف ق.م يَغلبُ عليها طابعُ المرأة. فالخروجُ في مرحلةِ القطفِ والجمعِ من الكهوف، والاستقرارُ بالقربِ منها في الأكواخِ الشبيهةِ بالخِيام، وزرعُ البذورِ النباتيةِ وإكثارُها؛ كلُّ ذلك قد أفضى مع الزمنِ إلى الثورةِ الزراعيةِ والقروية. ومن خلالِ المُعطياتِ التي دلّت عليها جميعُ التنقيباتِ والحفرياتِ الأركولوجيةِ الجاريةِ في راهننا، نلاحظُ أنّ هذه الثقافةَ تَطَوَّرَت بالأرجحِ في جميعِ أصقاعِ ميزوبوتاميا العليا، وبالأخصِّ في القوسِ الداخليِّ لسلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس (ثقافةُ منطقةِ برادوست، غرزان، أمانوس والسفوحُ الداخليةُ لجبالِ طوروس الوسطى، نوالا جوري، جايونو، جمي خالان). وكان فائضُ الإنتاج يُدَّخَر، وإن بنطاقٍ محدود جدًّا.

يمكن إرجاعُ الاقتصادِ من حيث المضمون، لا الاصطلاح، إلى هذا النمطِ من الادّخار، والذي ربما يحصلُ لأولِ مرة. فمثلما هو معلوم، فإنّ مفردةَ “أكو–نوموس eko-nomos” تَعني في اليونانية “قانون العائلة، أو قانون السلالة”. فقد وُلِدَ الاقتصادُ حصيلةَ نشوءِ العوائلِ الزراعيةِ الأولى المستقرةِ بالتمحورِ حولَ المرأة، والوصولِ إلى إمكانيةِ الاحتفاظِ بالغِلال، وتخزينها وإن بنطاقٍ محدود جدًّا؛ وفي مقدمتِها تلك الغِلالُ التي لا تتلفُ ولا تهترئُ بسهولة. لكنّ هذا الادخارَ ليس لأجلِ التجارةِ أو العرضِ في السوق، بل لأجلِ العائلة. يبدو أنّ هذا هو الاقتصادُ الإنسانيُّ طابعاً والحقيقيُّ مضموناً. فقد تَمَّ تلافي أنْ يَصِيرَ التكديسُ عامِلَ خطرٍ يهددُ بالطمعِ والجشع، وذلك عبر رواجِ ثقافةِ العطايا والهدايا بكثرةٍ في جميعِ الأرجاء. ويبدو أنّ مبدأَ “المال يُعَلِّمُ الطمع” يتأتى من تلك الحقبة. إنّ ثقافةَ العطايا شكلٌ اقتصاديٌّ مهمّ، ويتواءمُ مع نَسَقِ وتناغُمِ تَطَوُّرِ الإنسانِ لأقصى الحدود.

 

هذا ويمكن ابتداءُ ثقافةِ القرابين من هذه الحقبة. ومن المفهومِ أنْ نُلاحِظَ تَطَوُّرَ مصطلحِ الإلهِ كنتيجةٍ للتقديرِ الذي تُكِنُّه المجموعاتُ حيال هوياتِها، وتبجيلِها إياها، وكأولِ تعبيرٍ عن امتنانِها إزاءَ العطاءِ المتزايد. فالعطاءُ يقتضي الحمدَ والشكران. ونظراً لاستنادِه في منبعِه إلى التطورِ التدريجيِّ الحاصلِ في نمطِ التجمع، فإنّ إضفاءَ الهويةِ على الجماعة، والسموَّ بها، والدعاءَ والعبادةَ والخشوع، وتقديمَها على أنها التقدمُ المتصاعدُ للعالَمِ الذهني؛ كلُّ ذلك يُشَكِّلُ عناصرَ ثقافيةً على عُرىً وثيقةٍ وغائرةٍ مع الثورةِ الزراعية. وتُؤَكِّدُ اللُّقى الأثريةُ صحةَ هذا الرأيِ على نحوٍ صارخ. وبشكلٍ ملموسٍ أكثر، فمصطلحا “الإلهة–الأمّ” و”الأمّ المقدسة” البارزان هما عامِلان مؤثِّران في تأكيدِ صحةِ ذلك. وأشكالُ المرأةِ الواسعةُ الانتشارِ تأتي في مقدمةِ المؤثِّرات التي تُبَرهِنُ صوابَ هذه الحقيقة.

لكنّ الخطرَ الذي طالما كان مُهاباً قد حَلَّ لاحقاً. فعندما أصبحَ استهلاكُ فائضِ الإنتاجِ المتزايدِ مع التقدمِ الذهنيِّ وتراكُمِ التجربةِ أمراً عسيراً عن طريقِ مبادلتِه بالعطايا، يَقُومُ الرَّجُلُ الصيادُ المتأهبُ كعادتِه بالتفكيرِ في التجارةِ بهذه الكمياتِ الزائدة، ويُعَزِّزُ ذلك ضمن ثقافتِه إلى جانبِ مهنتِه الأصلية. فتَراكُمُ الغلالِ المختلفةِ المكدَّسةِ في مناطقَ مختلفةٍ قد فَرَضَ بِدءَ الظاهرةِ المسماةِ بالتجارة. فماهيةُ تبادلِ الحاجةِ من الغلالِ على نحوٍ أفضل، قد وَلَّدَت التجارةَ والتُّجَّارَ كمهنةٍ أو كثاني تقسيمٍ اجتماعيٍّ بارزٍ للعمل. وتتم شرعنتُها، وإن بوَجَلٍ واستحياء. ذلك أنّ الغِلالَ المنقولةَ تُنَمِّي معها تقسيمَ العمل، والذي يُمَكِّنُ بدورِه من تأمينِ إنتاجٍ أفضل وحياةٍ أغنى. عندما تتضاعَفُ الغلالُ والنسيجُ في طرفٍ ما، وتتواجدُ مكامنُ المعدنِ بوفرةٍ في طرفٍ آخر، تغدو التجارةُ أمراً قَيِّماً وذا أهمية.

يشيرُ التاريخُ إلى انتشارِ التجارةِ بدءاً من أعوامِ 4000 ق.م. حيث نعثرُ على مستوطناتٍ تجاريةٍ منتشرةٍ بالارتباطِ مع الحضارةِ القائمةِ في ميزوبوتاميا السفلى حولَ مدينةِ أوروك، التي هي أولُ دولةِ مدينة (4000 – 3000 ق.م)، وكذلك على طولِ الخطِّ من عيلام الواقعةِ في جنوبِ غربي إيران إلى المناطقِ المعروفةِ اليوم بـ ألازغ Elazığ وملاطية في ميزوبوتاميا العليا. وهكذا تُفتَح مصاريعُ أُولى أبوابِ الاستعمار. إننا نشاهدُ قبل ذلك وجودَ استيطانِ العُبَيدي (ثقافةُ آل عُبَيد الأبويةُ البطرياركيةُ الأولى الملاحَظةُ قبلَ نشوءِ الدولة) كثقافةٍ مهيمنةٍ قبلَ عهدِ أوروك (5000 – 4000 ق.م). يتداخلُ نشوءُ الاستيطانِ والتجارةِ معاً. فمقابلَ الأوعيةِ والصحونِ الفخاريةِ ومنتجاتِ النسيج، كان يتمُّ نقلُ المعادنِ والأخشابِ على الأغلب. وتَتَشَكَّلُ السوقُ مع نشوءِ التجارةِ وظهورِ التُّجّار، وتَتَحَوَّلُ مراكزُ تقديمِ العطايا والقرابين رويداً رويداً إلى أسواق. وهنا يمكننا تسميةُ التاجرِ الذي يتفردُ بوضعِ السعر البدائيِّ لقِيَمِ سلعِ المناطقِ المختلفةِ بـ”الرأسماليِّ البدائي”. ذلك أنه، وبفضلِ إمكانيةِ تحديدِ الأسعار، ينجحُ في تكديسِ سلعٍ عَجِزَ سابقوه عن مُراكمتِها.

عليَّ التنويهُ ثانيةً إلى أنّ تبادلَ السلعِ وازديادَ نفوذِ التجارةِ قد مهَّدا الطريقَ لظهورِ مرحلةِ التَّبَضُّعِ لأولِ مرة. لَم يتم الانتقالُ بعدُ مِن اقتصادِ العطايا إلى المقايضة، حيث لا تزالُ قيمةُ الاستخدامِ هي الأساس بالنسبةِ للمجتمع. وقيمةُ الاستخدامِ تَعني تلبيةَ السلعةِ لحاجةٍ ما. وهذه هي القيمةُ الأصليةُ بالنسبةِ إلى الإنسان. إنّ المقايضةَ اصطلاحٌ يَكثرُ حولَه الجدل، ومن الأهميةِ بمكان صياغةُ تعريفٍ صائبٍ لها. فحسبَ رأيي، إنّ إجلاسَ الكدحِ في أساسِ المقايضةِ موضوعُ جدالٍ وسِجال، بما في ذلك تحليلُ ماركس بشأنِ هذا الموضوعِ أيضاً. ذلك أنّ المقايضة تحتوي في ثناياها جانبَ المضارَبةِ دائماً، سواءٌ عُرِّفَت بالكدحِ المجرَّدِ أم العينيّ. لِنَفتَرِضْ أنّ أولَ تاجرٍ من أوروك قد هَمَّ لاستبدالِ الصحونِ الفخاريةِ بالأحجارِ والمعادنِ في إحدى المستوطناتِ على ضفافِ نهرِ الفرات. ولدى التساؤلِ عمَّن سيُبادِر أولاً إلى تحديدِ قيمةِ التبادل، فقد يُقالُ: إنّها ستُحَدَّدُ بموجبِ درجةِ الاحتياجِ المتبادَلِ أولاً، ومدى مبادرةِ التاجرِ ثانياً. فإذا كانت درجةُ الطلبِ عالية، فسيَكُونُ بمقدورِ التاجرِ تَسعيرُ بضاعتِه كما يشاء. فبدلاً من استبدالِ واحدةٍ باثنتين، يُمكِنُه، وبكلِّ سهولة، استبدالُ واحدةٍ بأربعة؛ ذلك أنه ما من مؤثرٍ يمكنه صدُّه أو ردعُه عن ذلك إلا ضميرُه، أو بالأحرى قُوَّتُه. إذن، والحالُ هذه، أين يبقى دورُ الكدح؟

لا أنفي دورَ عامِلِ الكدحِ كلياً هنا، ولكني أصرُّ على أنه ليس المُحَدِّدَ ولا الأساسَ هنا. ويمكن ملاحظةُ هذا الأمرِ في جميعِ عملياتِ تبادلِ السلعِ على طولِ التاريخ. قد يتحققُ التبادلُ بما يكاد يعادلُ قيمةَ الكدحِ في بعضِ الأوقات، وذلك ارتباطاً بالمنافسةِ الحرةِ المُتَّبَعَةِ في بيعِ وشراءِ السلع. إلا أنه تبادلٌ بين الكدحِ والقيمة، وغالباً ما يسري على الصعيدِ النظريِّ فقط. أما المُعَيِّنُ في الواقعِ العملي، فهي المُضارَبة. وفي بعضِ الحالات يتراكمُ تكديسُ البضائعِ بشكلٍ مفرط، فتَنخَفِضُ قيمتُها إلى ما تحتِ الصفر. وفي الحالاتِ التي تقتضي كدحاً إضافياً لأجلِ استهلاكِ تلك البضائع، يتبدى للعيان أنّ الكدحَ ليس بقسطاسٍ مُعَيِّنٍ هنا، باعتبارِ أننا لن نستطيعَ القولَ أنّ قيمةَ الكدحِ قد انعدَمَت. كما أنّ مقدرةَ التاجرِ المحظوظِ في خلقِ العَوَزِ والفاقةِ أو الزيادةِ والتَّرَف مُعَيِّنةٌ أيضاً. بَيْدَ أنّ البضائعَ تُنتَجُ ببضائعَ أخرى. وكلُّ بضاعةٍ قد أُنتِجَت حصيلةَ تراكمِ كدحِ وخبرةِ الآلافِ من الكادحين المجهولين على مَرِّ السياقِ التاريخي. إذن، أيةُ آليةٍ سوف تَفي الثمنَ الذي يستحقُّه أصحابُ الكدحِ الجامد هؤلاء؟ وعندما نُضِيفُ إلى ذلك حصةَ الحِرَفِيِّين المبدعين، بل وحتى جميعَ الأنشطةِ الاجتماعيةِ اللازمة؛ فسنجدُ أنه مِن غيرِ الممكنِ وجودُ سِعرٍ ثمينٍ لنوعِ الكدحِ المسمى بالكدحِ الحيويّ، ومن غيرِ الممكنِ بالتالي تحديدُ سعرٍ له.

هنا يَتَّضِحُ عيبُ وزيفُ الاقتصادِ السياسيِّ الإنكليزي. فمن المعلومِ أنّ إنكلترا وهولندا هما أولُ بلدَين أحرزَت الرأسماليةُ فيهما نجاحَها كنظام. فلكي تُضفى الشرعيةُ على الرأسمالية، تَكُونُ الحاجةُ إلى ذريعةٍ نظريةٍ شرطاً أولياً. ونخصُّ بالذكرِ الأهميةَ القصوى لصياغةِ نظريةٍ معقولةٍ ومقبولةٍ لأجلِ طمسِ حقيقةِ ظاهرةِ ربحِ المضاربة. وهنا، فإنّ مَهَمَّةَ طرحِ نسخةٍ جديدةٍ من السردِ الميثولوجيِّ المماثلِ لدينِ تُجّارِ أوروك الأوائل، قد وَقَعَت على عاتقِ مَن يُسَمَّون بعلماءِ الاقتصادِ السياسيِّ ظاهرياً، والذين ما هم ضمنياً سوى مبتكرو الدينِ الجديدِ للرأسمالية. أي أنّ ما صِيغَ وأُنشِئَ ليس اقتصاداً سياسياً، بل ظهرَ تدريجياً دينٌ جديدٌ بكلِّ حِلَّتِه: بكتابِه المقدَّسِ ومذاهبِه المتفرعة، مثلما هي الحالُ في كل دين. إنّ الاقتصادَ السياسيَّ قد صِيغَ بغرضِ إخفاءِ الطابعِ المضارِبِ للرأسمالية (تكديس البضائعِ لأجلِ التلاعب بالأسعار، والاستفادة من الفوارق الإقليمية والمناطقية)، والذي يفوق النهبَ والسلبَ الذي قامَ به الأربعون حرامي المتمرسون بأضعافٍ مضاعفة. إنه الإنجازُ الأكثر زيفاً ونهباً، والذي ابتكره الذكاءُ التصوريّ. ونظريةُ قيمةِ الكدحِ في هذا الشأنِ هي أداةُ اصطيادٍ سديدة، لا غير. وفعلاً، يَمتَلِكُني الفضولُ في معرفةِ كيفيةِ انتقائِها. إني على قناعةٍ بأنّ الدافعَ الأوليَّ وراء ذلك، هو إلهاءُ الكادحين. فحتى شخصٌ مثلُ كارل ماركس لَم يتمالكْ نفسَه من المشاركةِ في وضعِ الطُّعمِ في فخِّ الاصطياد. تَختَلِجُني الآلامُ المريرةُ عندما أُوَجِّهُ هذا الانتقادَ إليه. إلا أنّ الإعرابَ عن شكوكِنا وظنونِنا، هو مِن دواعي احترامِنا للعِلم كحدٍّ أدنى.

وإنْ عَمِلْنا على شرحِ هذه النقاطِ أكثر، يمكننا قولُ ما يلي:

نصادفُ حصولَ النقلةِ التجاريةِ الثانيةِ الكبرى في المجرى التاريخيِّ متمثلةً في المستوطناتِ الآشورية، اعتباراً من أعوامِ 2000 ق.م. وباستطاعتِنا القولُ: إنّه ما مِن استبداديةٍ شَيَّدَت صرحَ مدنيتِها بالاعتمادِ على التجارةِ والمستوطناتِ التجارية، بقدرِ ما هي الحالُ في آشور (سوف أتناولُ روابطَ الرأسماليةِ مع السلطةِ في الفصولِ اللاحقة). إنّ آشور هي أولُ قوةٍ زاولَت التجارةَ ورسَّخَت مستوطناتِها بأرقى مستوياتِها في عهدِها (2000 – 600 ق.م)، بالغةً بها أبعاداً عالمية (حسب عولمة ذاك العصر). وبالرغمِ من المهارةِ القصوى التي تميزَ بها التجارُ الفينيقيون، الذين اعتمدوا على المدنيةِ المصريةِ في شؤونِ التجارةِ والاستيطانِ خلال الحقبةِ عينِها على وجهِ التقريب؛ إلا أنهم ظلوا في المرتبةِ الثانيةِ في هذا المضمار. وفي جوارِ إنكلترا، فإنّ هولندا والبرتغال أيضاً قد نهبَتا كمّاً هائلاً لا يُصَدَّقُ من القِيَم، وذلك كقوتَين قامَتا على التجارةِ المشحونةِ بأعتى أشكالِ الطغيانِ والجبروت. ولدى البحثِ والتنقيبِ في تاريخِ الغنى الآشوريِّ والفينيقيِّ المتداخلِ مع التجارةِ والطغيان، فسيَكُونُ بالإمكانِ استشفافُ كونِهما أفضلَ مثالَين حذَت حذوَهما المستوطناتُ الأوروبية (إسبانيا، البرتغال، هولندا، إنكلترا، فرنسا، وبلجيكا، وغيرها). فلَطالما يَعتَدُّ الآشوريون ويفتخرون ببناءِ جدرانِ الأسوارِ والقلاعِ من جماجمِ البشر. ولا تفتأُ أخلاقُ وثقافةُ الحياةِ تلك، والتي أَسَّسُوها على دعائمِ النهبِ والسلب، تَكبُتُ أنفاسَ لبنان والعراق، اللذَين لا ينجوان بنفسَيهما من أنْ يَكُونا ساحةَ الحروب الأكثر ضراوة. وكذا، لَم يَكُن عبثاً هدمُ قرطاجة (المستوطَنةُ التجاريةُ الفينيقية) على يدِ الجمهوريةِ الرومانية، عندما سوَّتها بالأرضِ وصَيَّرَتها حقلاً زراعياً. كما لَم يَقُمْ الميديون عبثاً بتدميرِ نينوى شرَّ تدمير (612 ق.م)، وتحويلِها إلى أطلالٍ وخراب.

ينبغي الانتباه إلى المدنياتِ التجارية. حيث يأتي التجارُ وأَمنُ مستوطناتِهم، أو بالأحرى حمايةُ مصالحهم، في مقدمةِ الأسبابِ الأوليةِ وراءَ نشوبِ الحروبِ وتأسيسِ الدول على مَرِّ التاريخ. والكلُّ على يقينٍ بأنّ الأسبابَ الجوهريةَ للحروبِ التي لا تزال مندلعةً اليوم في الشرقِ الأوسط، تَعُودُ إلى تجارةِ البترول (لَكَم هو مؤسفٌ أنها ابتدأَت بإشعالِ فتيلِ أُولى الحروبِ التجارية لِتَبقى تَخُوضُها حتى اليوم بأكثرِ أشكالِها ضراوة. واسمُ “العراق” يَنحَدِرُ من مفردةِ “أوروك”). ويمكننا سردُ الكثيرِ من الأمثلةِ الأخرى، ولكنْ، لا داعي لذلك.

مرةً أخرى نلاحظُ دورَ التجارةِ في الريادةِ أثناء التوجهِ قُدُماً صوبَ الرأسمالية، ونرصدُ انتقالَ مركزِ المدنيةِ إلى أوروبا. تُعِيدُ التجارةُ ومدنيةُ التجارِ ذات المركزِ الشرقِ أوسطي إنجازَ نقلتِها مع ظهورِ الإسلامِ في العصورِ الوسطى. فحصيلةَ المنافسةِ المتناميةِ بين خديجة بالذاتِ وبمَعِيّةِ عاملِها محمد الذي أصبحَ زوجها فيما بعد، وبين التجارِ والمُرابين اليهود والتجارِ السريانيين ذوي الأصولِ الآشورية؛ فإنهما يلجآن إلى العنفِ في بناءِ أرضيةِ المدنيةِ التجارية المعتمدةِ على مكة والمدينة. وتشهدُ مدائنُ الشرقِ الأوسط القديمِ فترةَ انتعاشٍ مرةً أخرى، بالتفافِها حولَ التجارةِ تحت غطاءِ الدينِ الإسلامي. ومع انهزامِ البيزنطيين والساسانيين، يُقِيمُون شبكةً من المدائن والأسواقِ الكبرى، وفي مقدمتِها حلب، بغداد، القاهرة، ودمشق. وتزدهرُ شبكةُ التجارةِ لِتَكُونَ عالميةً بامتدادِها على طولِ الخطِّ مِن الصينِ إلى المحيطِ الأطلسي، ومنه إلى أندونيزيا ومقاطعاتِ أفريقيا. وتنتشرُ أسواقُ المالِ والبضائعِ بشكلٍ واسع، لِيَحظى اليهودُ والأرمنُ والسريانُ بمكتسباتٍ ماليةٍ عظمى.

ترتكزُ الحضارةُ الأوروبيةُ إلى هذا الإرثِ بشكلٍ كلي. حيث يَشهَدُ التاريخُ على أنّ ثقافةَ التجارة، التي أَنجَزَت نقلةً أخرى على يدِ التجارِ المسلمين في الشرقِ الأوسط، قد انتَقَلَت إلى أوروبا اعتباراً من القرنِ الثالثِ عشر بريادةِ المدينتَين الإيطاليتَين جنوى وفلورنسا. ويُعزى السببُ الأوليُّ في غِنى هاتَين المدينتَين إلى المالِ والتجارة، إذ تَرُودان التجارةَ فيما بين أوروبا والشرقِ الأوسط حتى حلولِ القرنِ السادسِ عشر. ولَربما هي المرةُ الأولى في التاريخ، والتي تُحَقِّقان فيها نجاحاً متواضعاً للرأسماليةِ على مستوى المدينة، سواءٌ على الصعيدِ الاصطلاحيِّ أو الميدانيّ. وللقرصنةِ الرائجةِ في البحرِ المتوسط، وكذلك لاحتكارِ الأسعارِ بين ضفّتَيه الشرقيةِ والغربيةِ دورٌ رئيسيٌّ في ذلك. فضلاً عن أنّ المضارَبةَ تتنامى تماشياً مع ذلك في ظلِّ الاستبدادِ والطغيان. وحينما تُفضي التجارةُ إلى رأسِ المال، ويفضي رأسُ المالِ إلى المدينة، والمدينةُ إلى السوق، والسوقُ إلى اتساعِ آفاقِ المضاربة؛ حينها يَكُونُ فجرُ المدنيةِ الرأسماليةِ قد بَزَغ.

وقد شُوهِدَ نموذجٌ مصغَّرٌ مِن هذه المرحلةِ في عصرِ أثينا–روما الكلاسيكي (500 ق.م – 500 م). أما سببُ عدمِ بلوغِ انتصارِ رأسِ المالِ في ذاك العصر، فيَعُودُ إلى رَجَحَانِ كفةِ الزراعة، وخروجِهم من الحروبِ الدينيةِ مهزومين. في حين أنّ التجربةَ الناجحةَ للرأسماليةِ في دولِ المدائنِ الإيطالية، والتي شوهِدَت في أعوامِ 1300 – 1600، لَم تتأخر عن الانتشارِ بسرعةٍ صوبَ شمالِ وشمالِ غربي أوروبا. بينما كانت الرأسماليةُ قد دَخَلَت إسبانيا قبلَها. أما المسافاتُ التي قطعَها التجارُ ومهنةُ التجارةِ خلال مسيرةٍ ليست بالقصيرة، فقد دفعَتهم ابتداءً من القرنِ السادسِ عشر، ولأولِ مرة، إلى تخطي آفاقِ المدن، والبدءِ بإنجازِ المكاسبِ على صعيدِ البلدان.

وهكذا تَشَكَّلت سوقٌ على النطاقِ العالمي، وبُسِطَت الهيمنةُ الاستعماريةُ على أفريقيا وأمريكا، وهُمِّشَت الإمبراطوريةُ العثمانية، ليتمَّ الوصولُ إلى الهندِ والصينِ عن طريقِ المحيطِ الأطلسي وجنوبِ أفريقيا. كما تَسَارَع انتشارُ حركةِ التمدنِ في أرجاءِ أوروبا. ولأولِ مرةٍ شَرَعَت المدنُ تَجهَدُ للتغلبِ على الزراعة. وتَحَوَّلَت المَلَكياتُ الإقطاعيةُ إلى دولٍ مونارشيةٍ عصرية. أما الدولةُ العثمانيةُ التي تُعَدُّ آخِرَ إمبراطوريةٍ إسلامية، فتكبدَت الهزيمةَ تِلوَ الأخرى. كما أنّ النهضة كانت بدأت من إيطاليا أيضاً في القرنِ الرابعِ عشر، لتنتشر منها إلى عمومِ أوروبا. في حين أنّ حركةَ الإصلاحِ الديني تَكَلَّلَت بالنجاحِ في البلدان الشماليةِ من أوروبا. ولأولِ مرةٍ تَخبُو شعلةُ عصرِ الحروبِ الدينية. والأهمُّ من ذلك انتقالُ كلِّ القِيَمِ الثقافيةِ والحضاريةِ إلى أوروبا مِن الصين، الهند، بلادِ الإسلام، بل وحتى من أفريقيا وأمريكا؛ لتنشأ الدولةُ العصرية من جهة، وتُولَد القوميات من الجهةِ الأخرى.

إذن، عندما تتوجهُ الرأسماليةُ نحو النصر، فإنها تَستَنِدُ في ذلك إلى هكذا تاريخٍ وثقافةٍ وإرثٍ تجاريٍّ ومدنيةٍ ونفوذٍ سياسيٍّ وتكامُلٍ عالميٍّ معروضٍ للمزاودة. فهل يُمكِنُ التوجهُ نحوَ الاقتصادِ الرأسمالي، دون نضوجِ هذه الظروفِ التمهيدية، ودون الاعتمادِ عليها؟ بل دعكَ مِن مدى إمكانيةِ ذلك، فهل يمكن تَصَوُّرُ وجودِ رأسِ المالِ حينها؟ لقد خطَت المدنيةُ خطوتَها الأولى في ميزوبوتاميا السفلى مع بدءِ حركةِ التمدنِ والتمايزِ الطبقي والتدولِ في مدينةِ أوروك، وخطَت خطوتَها الثانيةَ العملاقةَ مع بدءِ التجارةِ والتمدنِ في فينيقيا وإيونيا. أما خطوتُها الثالثةُ الكبرى، فخطَتها في الأراضي التي شهدَت توفُّرَ ونضوجَ جميعِ الشروطِ الآنفةِ الذكر بأفضلِ حالاتِها في كلٍّ من إيطاليا وهولندا وإنكلترا؛ حيث تجسَّدَت في انتصارِ الاقتصادِ الرأسماليّ، الذي انتشرَ في كافةِ أرجاءِ العالمِ بناءً على حركةِ التجارةِ والتمدنِ العظيمة، باعتبارِه عابراً للأسواقِ ومضاداً لها. وهذا هو الواقعُ الذي لا نزالُ نشهدُه اليوم بزعامةِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية.

عندما يُصِرّ فرناند بروديل على “أنّ الاقتصادَ الرأسماليَّ مضادٌّ للسوق، وأنه شَكلٌ اقتصاديٌّ يعتمِدُ على الاحتكارِ المضارِبِ المتَحَكِّمِ بالأسعارِ في مجالِ التجارةِ الكبرى”؛ فإنه بذلك يَكُونُ أقربَ من كارل ماركس إلى الحقيقةِ فيما يخصُّ الواقعَ الذي يسمى بالاقتصاد.

إننا نشاهد من خلالِ مِرآةِ التاريخ نوعاً أو شكلاً من النشاطِ الاقتصاديِّ وقد تحول إلى سلطة، وطوَّرَ السوقَ في بنيتِه إلى أقصى الحدود، وباشَرَ في التحكمِ بالريفِ تدريجياً وفي توجيهِه من المدينة، في ظلِّ أجواءٍ من الرقيِّ الاجتماعيِّ الذي انحطت فيه منزلةُ الروابطِ الدينية والضوابطِ الأخلاقيةِ إلى الدرجةِ الثانية؛ ليستوليَ على السلعِ المتكدِّسة اعتماداً على النهب والسلب الدقيق المُغلَّف بالأيديولوجيا. لا ريبَ في أنّ انعكاسَ الاستيلاءِ بشكلِه الجديد هذا على الأسعارِ الدائرةِ في السوقِ بموجبِ العرضِ والطلب، وانعكاسَ الأسعار بدورها بوساطةِ المال؛ يُعَدُّ تطوراً عظيماً نسبةً إلى المراحلِ القديمة؛ وقد أدى إلى اكتسابِ موهبةِ التلاعبِ الماهر. وبدلاً من المراباةِ والصِّرافةِ بأشكالها الأولى، قَطَعَت البنوكُ والسنداتُ والأوراقُ النقديةُ ونظامُ الائتمانِ والتسليفِ والمحاسبةُ والشركاتُ أشواطاً ملحوظة؛ لِتَغدُوَ المواضيعَ الأوليةَ المؤلِّفةَ لعِلمِ الحالِ الاقتصاديِّ في العصرِ الحديث. ما يَنقُصُ هنا هو الإيضاحُ العلميّ، وهو ما سَعَى إلى تأسيسِه المختصون بالاقتصادِ السياسيِّ من الإنكليزِ داخل الموطنِ الأمِّ للرأسمالية. ولو أنّ الأمرَ تَبَدّى وكأنه مفارقةٌ وتناقض، إلا إنّ مناهضيهم الاشتراكيين الذين استمالوهم إلى صفِّهم بعد ذلك، وفي مقدمتِهم كارل ماركس، قد عملوا على الحذوِ حذوَهم لاحقاً.

عندما يشرعُ نظامُ النهبِ والسلب، والذي يسمى بالاقتصادِ الرأسماليّ، باستعمارِ كلِّ المجتمعاتِ المتواجدةِ في العالَمَين القديمِ والحديث، وإعادةِ استعبادِها مجدداً، ويَقُومُ بربطِ كلِّ قُدُراتِ وامتيازاتِ القوةِ بذاتِه (بوساطةِ الإقراضِ والتسليفِ الذي هو شكلٌ لاغتصابِ الدولِ القائمة)، ويَخُوضُ أكثرَ حروبِ التاريخِ دموية، ويتلاعبُ على بنيةِ المجتمعِ بكلِّ ما يستطيعُ إليه سبيلاً بغيةَ انتزاعِ المصادقةِ على هيمنتِه وشرعنتِها؛ عندما يَفعَلُ نظامُ النهبِ كلَّ هذا، فحسبَ رأيي، إنّ كارل ماركس (الذي أَعلَنَ عن ذاك النظامِ على أنه نظامٌ ثوريٌّ نسبةً إلى المجتمعِ القديم) وأتباعَه ومَن حذا حذوَهم مِن المدارسِ الفكرية، لم يَقُوموا بإنشاءِ أيِّ عِلم. فمؤلَّفُ “رأس المال” هو الكتابُ الأكثر معاناةً للنواقصِ تجاه رأسِ المال، وبالتالي الأكثر قابليةً لتفسيرِه على منوالٍ خاطئ. أنا لا أَتَّهِمُ ماركس هنا، بل أَقتَصِرُ على الإشارةِ إلى افتقادِ كتابِه للأبعادِ المتعلقةِ بالتاريخِ والدولةِ والثورةِ والديمقراطية، وإلى عدمِ تناولِها ضمنه. أما بالنسبةِ للمتنورين الأوروبيين الذين يدّعون أنهم “علمويون” للغاية بِحُكمِ تكوينِهم البنيويّ، وانطلاقاً من موقعِهم الموضوعيِّ دون وعيٍ أو قصدٍ منهم؛ فإنهم لَم يَصُوغوا ببحوثِهم ودراساتِهم المرتكزةِ إلى كتابِ “رأس المال” عِلماً أو أيديولوجيةً مبنيةً على مناهَضةِ الرأسماليةِ باسمِ الشرائحِ المُسَمّاة بـ”الكادحين”. أما الليبراليةُ المنتَبِهةُ بكلِّ يقظةٍ لنواقصِهم تلك، أي لتحليلاتِهم حولَ رأس المال، فقد استفادَت بشكلٍ حاذقٍ منها في الإعلانِ عن ثوريةِ الرأسماليةِ منذ ولادتِها. وبطبيعةِ الحال، فقد اعتمدَت لاحقاً على قوةِ الأيديولوجيةِ الحداثويةِ والدولةِ القوميةِ والصناعوية، لاستهدافِ الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان، ثم النظامِ الاشتراكيِّ المشيَّدِ بما في ذلك روسيا والصين، وأخيراً استهدافِ الأنظمةِ التحرريةِ الوطنية؛ وصهرِها جميعاً في بوتقتِها، منتصرةً بذلك في الصراعِ الطبقيِّ الذي خاضَ هؤلاء نضالاتٍ عظيمةً في سبيلِه. ثمة هزيمةٌ نكراء واضحةٌ تَكَبَّدَتها تلك التياراتُ الثلاثةُ تجاه الرأسمالية. لكنْ، كَم هو مؤسفٌ أنه لَم يُقَدَّم أيُّ نقدٍ ذاتيٍّ صريحٍ وحاسمٍ في هذا المضمار إلى الآن.

ثمة عبارةٌ تَقول: يَسري حُكمُ العِلمِ عاجلاً أو آجلاً. من هنا، فلو كانت تلك التحليلاتُ علميةً فِعلاً بشأنِ تناولِها للرأسمالية، التي تُعتَبَرُ حرباً مفتوحةً ضد الطبقةِ العاملةِ أولاً وضد المجتمعِ وتاريخِه ثانياً؛ لَمَا انهزم أولئك المتنورون إلى هذه الدرجةِ حيال النظامِ المضادِّ لهم، بل والأنكى أنه لَمَا أَنفَقُوا إرثَهم بهذا الثمنِ البخس. لِنَعمَلْ على صياغةِ تعريفٍ أفضل للحقيقةِ المُسَمّاةِ بـ”الاقتصادِ الرأسمالي”، وتحليلِها ضمن وظائفِها. لا أرى داعياً لشرحِ اللغةِ الاقتصاديةِ الرائجةِ ومفرداتِها المعنيةِ بتراكمِ رأسِ المال، وعلى رأسِها: فائضُ الإنتاج، فائضُ القيمة، القيمةُ والكدح، الأجر، الربح، السعر، الاحتكار، السوقُ والمال. وانطلاقاً من مقاربتي، فسأدعُ جانباً هذه المواضيعَ التي تناولَتها بحوثٌ ودراساتٌ يَعُزُّ على المرءِ حصرُها، محافظاً على بساطتِها ووضوحِها؛ وسأستمرُّ في التركيزِ على المؤثراتِ الأساسيةِ التي تقتضي الشرح؛ مع التبيان بأني لن أترددَ في تناولِ تلك المواضيعِ أيضاً بقدرِ ما تقتضيه الحاجة.

إنّ اصطلاحاتٍ من قبيلِ الربح–الأَجر على الصعيدِ الاقتصاديّ، والبرجوازيِّ–البروليتاري على الصعيدِ الاجتماعيّ، تُعتَبَر أولَ خطوةٍ لإضفاءِ الطابعِ العلميِّ على الطرازِ الوضعيِّ لنظامٍ يَصهَرُ في بوتقتِه كلَّ الإرثِ التاريخيِّ للبشريةِ الممزَّقةِ إرباً إرباً على يدِ الرأسمالية، لِيَعُمَّ في نهايةِ المطافِ أرجاءَ المعمورةِ عبر وحشيتِه المروعةِ في الإباداتِ الجماعيةِ والنووية. أما القولُ بأنّ العنصرَ المُسَمّى بالبروليتاريِّ يخلقُ القيمةَ بمفردِه عن طريقِ كدحِه، وأنّ المستثمِرَ الذي هو أَشبَهُ بمالِكِ ذلك البروليتاري، يأتي ليَجنِيَ الربحَ من تلك القيمةِ الكدحيةِ مقابلَ المالِ والوسائلِ الأخرى، وطرحُ هذا الأمرِ على أنه تشخيصٌ علمي؛ فهو أساسُ المقارباتِ الاقتصادوية. ويبدو أنّ هذا بِعَينِه المفهومُ المُسَمّى بالاختزالِ الاقتصادي. فمجردُ التفكيرِ بصياغةِ تعريفٍ للقيمةِ على هذا المنوالِ المعزولِ إلى هذه الدرجةِ عن التاريخِ والمجتمعِ والقدراتِ السياسية، إنما هو مشحونٌ بالإشكالياتِ العويصة. فحتى لو قُمنا بتأليهِ الفردِ باعتبارِه مستثمِراً أو عامِلاً؛ فهما لن يَقدِرا على تكوينِ القِيمة بذاك المفهوم. ذلك أنّ الماهيةَ التاريخيةَ والاجتماعيةَ للقِيَمِ الاقتصاديةِ واضحةٌ وضوحَ النهار. وبالأصل، فاعتبارُ المقايضةِ عيباً في البدايات، وتقديمُ الفوائضِ على شكلِ عطايا، إنما ينبع من معاني القدسيةِ المُضفاةِ على القيمة. فحتى الآن، ما مِن مزارعٍ يَقول “أنا أنتجتُ”، بل يقول “أُشَغِّل أملاكَ الأجداد، وأنالُ نصيبي”. بل ويقول “الحمدُ لله على نعمتِه”، ليُعَبِّرَ بذلك عما يُدركُه من موضوعِ المنبعِ العينِ بلغةٍ بسيطةٍ للغاية، ولكنها أسمى وأثمنُ من لغةِ الذين يزعمون أنهم “علمويون”.

وإلا، كيف يمكننا تعريفُ بَدَلِ الكدحِ الذي تَبذلُه أُمٌّ تَحمِلُ البروليتاريَّ في بطنِها تسعةَ أشهر، وتَجتَرُّ آلامَ ألفِ مشقةٍ ومشقةٍ إلى أنْ تَجعَلَ منه يداً عاملةً فاعلة؟ كيف سنُحَدِّدُ نصيبَ أصحابِ أدواتِ الإنتاجِ المصنوعة بزخمِ الخبراتِ المتبقيةِ من آلافِ السنين، والتي يَنهَبُها المستثمِرُ بكلِّ نَهَمٍ وجشع؟ علينا ألا ننسى أنه ما مِن أداةِ إنتاجٍ قيمتُها تعادلُ سعرَها المطروحَ في السوق. ذلك أنّ مجردَ اختراعِ التجهيزاتِ التقنيةِ فحسب من أجلِ أيِّ معملٍ كان، ليس سوى ثمرةُ الإبداعِ المتراكمِ بجهودِ آلافِ المخترعين. فكيف يمكننا تحديدُ قيمةِ الكدح لدى هؤلاء؟ ولِمَن سندفعُ الثمن؟ أَيمكن عدم التفكيرِ بنصيبهم الاجتماعي، إلا في حالِ رفضِ الأخلاقِ ونبذِها كليَّاً؟ وهل اقتسامُ هذه القِيَمِ التاريخيةِ الاجتماعيةِ بين شخصَين اثنَين فقط يتناسب والعدالة؟ بَيْدَ أنّ لهذَين الشخصَين عوائلُهم وأوساطُهم الاجتماعية. أَليس لتلك العوائلِ والأوساطِ الاجتماعيةِ التي تحمي هذَين الشخصَين وتدافع عنهما أيُّ حقٍّ عليهما؟ يمكننا الإكثار من الأسئلةِ الأكثر حرجاً وحساسية، لكنّ هذا كافٍ لإظهارِ مدى إشكاليةِ وعُسرِ ثنائيةِ الربحِ – الأجر.

لِنَعقدْ العلاقةَ هذه المرة بين أصحابِ الربحِ وأصحابِ الأجر على شكلِ البرجوازيِّ والبروليتاري. فالزعمُ بأن هاتَين الطبقتَين قد وَلَّدَتا المجتمعَ الجديدَ تجاه المجتمعِ القديم كطبقتَين ثوريتَين، كَم يتناسبُ فِعلاً مع الحقائق؟ إذ ما مِن مقابلٍ لهذا التحالفِ في التاريخ. ثم إنّ الأمثلةَ التي تؤكدُ صحةَ تضادِّهما تجاه بعضِهما البعض بِحُكمِ الصراعِ الأساسيِّ بينهما، نادرةٌ لدرجةٍ لا يُمكِنُها أنْ تَكُونَ مُعَيِّنةً من جهةِ كونِها مرحلةَ صراعٍ جذري. وما حصلَ هو استمرارٌ لتقاليدِ الصراعِ القديمِ، ليس إلا. ما يَبرزُ هنا، وما يُشاهَدُ في الحياةِ العملية، هو الشَّبَهُ بين منزلةِ العامِلِ بالنسبةِ إلى البرجوازيِّ ومنزلةِ العبدِ الذي يُعَدُّ جزءاً ملحقاً بجسدِ فرعون. إذ، ما مِن عمليةٍ ناجحةٍ قامَ بها العبيدُ تجاه أسيادِهم على مَرِّ التاريخ. وحتى سبارتاكوس، الذي طالما يُشار إليه كمثالٍ بارز، لم يكن سوى متمرداً متطلعاً إلى أنْ يَكُونَ هو الآخر سيداً في نهايةِ المطاف. وكلنا على عِلمٍ أنه لم يَكُنْ لديه أيُّ برنامجٍ آخر.

علينا ألا ننسى أنّ علاقةَ ربِّ العمل–العاملِ المستقاةَ من إرثِ علاقةِ العبدِ–السيد الممتدةِ لآلافِ السنين، تَنُمُّ عن أواصرَ وشيجةٍ وموثوقةٍ بألف رابطٍ ورابط، بحيث ما مِن تمرداتٍ جذريةٍ أو نجاحاتٍ كاسحةٍ أحرزَها العمالُ تجاه أربابِ العمل، اللهم إلا بعض الأمثلةِ الاستثنائية. بل رَجَحَت كفةُ التبعيةِ لِرَبِّ العملِ بنسبةٍ ساحقةٍ في أساسِ سياقها. أما الحوادثُ المُسَمّاةُ بِتَمَرُّدِ العمال، فنشاهدُ أنها قد نَشَبَت بالأغلب على يدِ أشباهِ القرويين، والمناهضين للبطالة. وتلك التمرداتُ على صِلةٍ وطيدةٍ بالتأثيراتِ الاجتماعيةِ العامة، والتي تنعكس بدورِها على علاقةِ ربِّ العمل–العامل. بل والأهمُّ من ذلك، فإنّ تَمَرُّدَ العامِلِ على رَبِّ العملِ ليس بصراعِ المطالبةِ بِحَقِّه (كنا بيَّنّا أنها معضلةٌ عويصة)، بل هو مقاومةٌ تجاه التحولِ البروليتاري، وكفاحٌ تجاهَ كونِه عاملاً أو عاطلاً عن العمل. إنّ رفضَ التحول إلى بروليتاريا أو إلى عامل، ورفضَ البطالةِ هي كفاحاتٌ اجتماعيةٌ أخلاقيةٌ أسمى معنى. علينا عدم تبجيلِ العبدِ والقنِّ والعامِلِ على الإطلاق، باعتبارِهم مضطهَدين. بل، وعلى النقيض، فالعلاقة والعملية التي ينبغي تبجيلُها، يُمكِنُ صياغتها على شاكلةِ اللاعبوديةِ واللااسترقاقِ واللاعمالية. أما الاعترافُ بالأسيادِ وتعريفُهم، ومن ثَمَّ عرضُ الاقتراحِ على خَدَمِهِم بخوضِ الكفاحِ ضدّهم، فهو النزوعُ المشتَرَكُ لشتى أنواعِ الانتهازية. هذه هي الذهنياتُ التي لَطالما أَفرَغَت الكفاحاتِ في سبيلِ الحقِّ والكدحِ مِن مضمونِها طيلةَ سياقِ التاريخ. وباختصار، مِن غيرِ الممكنِ صياغةُ سوسيولوجيا قَيِّمة، ولا تطويرُ كفاحٍ اجتماعيٍّ ناجحٍ من خلالِ تلك المصطلحاتِ “العِلميةِ” الأولى! وأُشَدِّدُ على أنه عندما نَذكُرُ هذه الأمور، فنحن لا ننكرُ الكدحَ والقيمةَ والربحَ والطبقة، بل نسعى لإيضاحِ عدمِ صوابِ نمطِ استخدامِ هذه المصطلحاتِ في إنشاءِ العِلم. إني أَوَدُّ توضيحَ أنّ عِلمَ الاجتماعِ قد أُنشِئَ على منوالٍ غلط.

يَقتَصِرُ مكانُ الرأسماليةِ ضمن الحياةِ الاقتصاديةِ للمجتمع على المستوياتِ العليا. وهي تعتمدُ في بداياتها على قيامِ التاجرِ الكبيرِ بمُراكمةِ رأسِ المال عن طريقِ التحكمِ بأسعارِ الاحتكارِ الدائرةِ في السوق. ورأسُ المال، حسبَ تعريفِه، هو القيمةُ النقديةُ المتعاظمةُ ذاتياً وباستمرار. ونخصُّ بالذكرِ تسريبُ التراكماتِ القِيَمِيّةِ الكبرى في التجارةِ الدائرةِ بين الأسواقِ البعيدةِ عن بعضِها البعض، والتي تختلفُ أسعارُها عن بعضِها بعضاً بفوارق ليست بالقليلة. السبيلُ الثاني لتعاظمِ رأسِ المال، هو القروض المُقَدَّمةُ للدولةِ لتمويلِها مقابل الفوائدِ والالتزامات. أما المجالاتُ والأوقاتُ الأخرى الهامةُ التي يتضخمُ فيها رأسُ المالِ ويتورم، فهي تصنيعُ المعادن وفتراتُ العَوَز والفاقة وأوقاتُ الحروب. وإلى جانبِ التجارة، قد يَحتَلُّ مكانَه في الزراعةِ والصناعةِ والمواصلات، عندما يَكُونُ ذلك مُربِحاً. ومع الثورةِ الصناعية يَغدو القطاعُ الصناعيُّ مِن أهمِّ المجالاتِ التي تدرُّ الربح. حيث يتلاعبُ الرأسماليون في كلتا المرحلتَين بنسبةِ العرضِ والطلب، سعياً لتحديدِ نسبةِ الإنتاجِ والاستهلاكِ على السواء. وبمقدارِ تحكمهم فإنهم يُزيدون من نسبةِ الربحِ لديهم. من هنا، وبينما كانت التجارةُ الكبرى والصناعةُ ميدانَين للربحِ في فترتَي بدايةِ الرأسماليةِ ونضوجِها، فإنّ الحقلَ الذي يطغى ثقلُه في مجالِ الربحِ في راهننا، هو القطاعُ الماليّ. تساهمُ النقودُ والسنداتُ والبنوكُ والائتمان والتسليف، والتي تُعَدُّ وسائل ماليةً رئيسية، في تسريعِ نموِّ الاقتصادِ الرأسماليّ، وتؤدي إلى اختصارِ الدورةِ الزمنيةِ للربح، وتكثيفِها، وتوسيعِ نطاقها. وهكذا تَتَشَكَّلُ فقاعاتٌ كبرى من المضارَبةِ في مجالاتِ الربح. وهكذا أيضاً تَغدو مراحلُ الأزمةِ جزءاً لا يتجزأُ من هذا الاقتصاد.

أما الأساليبُ الأخرى التي تُوَرِّمُ الربح، فهي تخفيضُ الأجورِ عبر زيادةِ البطالة، والاستثماراتُ المتجهةُ صوبَ البلدان ذاتِ الأيدي العاملةِ الرخيصة. وفي المحصلة، فإنّ هذا الشكلَ من الاقتصاد، والذي يَستقي مشاربَه من ثقافةِ التجارةِ وثقافةِ الصيدِ الغائرةِ في القِدَم، وينتهزُ فرصةَ التقدمِ باكتسابِ مقدرةِ وكفاءةِ التلاعبِ بالأسعار، ويخترِقُ حصارَ الرقابةِ الاجتماعيةِ عن طريقِ التهاونِ في الأخلاقِ والدين، والذي قُيِّدَ إلى السلطةِ عبرَ الديون، ويتنامى بتوطيدِ احتكارِه على السوق؛ إنّ هذا الشكلَ الاقتصاديَّ لا يُمكِنُ إلا أنْ يصبحَ اقتصادَ النهبِ والسلبِ في نهايةِ المآل. كما إنّ إحكامَ قبضتِه على الصناعةِ بهدفِ الربح، وعملَه أساساً وفق تحديدِ بنيةِ الإنتاجِ والاستهلاكِ بموجبِ نسبةِ الربح، وتحميلَ البنيةِ الاجتماعيةِ والبيئةِ الطبيعيةِ أعباءً تَفُوقُ طاقاتِها، وما يتمخضُ عن ذلك من أزماتٍ وانهيارٍ وتفسخٍ واهتراء؛ كلُّ ذلك إنما هي ظواهرٌ تُصاحِبُه منذ لحظةِ ولادته. لا شكَّ في أنّ الرأسماليةَ لا تُشَكِّلُ الاقتصادَ برمتِه. فلا التجارةُ والزراعةُ والصناعة، ولا تداوُلُ الأموالِ والتقنياتُ والأسواقُ من اختراعِ الرأسمالية. بل، وبالعكس، إنها المؤسساتُ الاجتماعيةُ والاقتصاديةُ الأساسيةُ المتعرضةُ لممارساتِ الرأسماليةِ في الاستغلالِ والنهبِ والسلبِ بأفظعِ الأشكال. وتتحددُ معالمُها بالتاريخِ والحضارة، لتتداخلَ في مسارِها مع السياسة.

هكذا أَكُونُ قد عملتُ على إيضاحِ كونِ الاقتصادويةِ مفهوماً ونزعةً فكريةً تُزَوِّرُ الحقيقةَ المعنيةَ بتعريفِ الاقتصادِ الرأسماليّ وتُشَوِّهُها بنسبةٍ كبرى. كما أني على قناعةٍ بقيامي بتسليطِ النورِ على التعريفِ السليمِ لها بالخطوطِ العريضة، وأني عَمِلتُ على هدى تلك الانتقاداتِ على تفسيرِها –ولو بنبذةٍ موجزة-  عبر عقدِ روابطِها مع التاريخِ والمجتمعِ والسياسةِ والحضارةِ والثقافة.

كاتب

التعليقات مغلقة.