مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

 المرأة في الأديان القديمة (بين العقيدة المجتمعية والأديان السلطوية)

هجار شكر 

في هذه المقالة لن يتمّ التطرّق إلى تفاصيل نظرة الأديان إلى المرأة، ولكن سوف يتم تقسيم الأديان إلى قسمين وبعدها توضيح مكانة المرأة في كلا الدينين – إذا صح التعبير- وما تتفق فيه الأديان السلطوية في نظرتها وأهدافها حول المرأة.

للحديث عن المرأة والدين يتحتمُ علينا بدايةً معرفة ماهية الدين وأصله، وذلك لكون هذا المصطلح كغيره من المصطلحات التي قد تمّ التلاعبُ بها وسرقتها من قبل النظام السلطوي بعد الانقلاب الأسود الذي حدث في التاريخ البشري الذي غيّرَ مسارَ البشرية إلى كيانٍ منقطع عن الطبيعة، حيث تم إدخاله في ضياع وتدهور لا قرارَ له.

إنّ المجتمعَ البشري عاش ملايين السنين وهو لا يتصور وجوداً خارج الطبيعة، بل أكثر من ذلك فعدم تقديسه للطبيعة أو القيام بأنشطة وسلوكيات خارج الضرورة الحياتية لم يكن لها وجود في ذهنيته, فهو ابنُ الطبيعة ووجوده من وجودها ولا تصوّرَ آخر موجود في حياته الفكرية والمعاشية.

وكذلك فإن الفردَ وجدَ نفسه ضمن مجتمع, فلا وجودَ بدون مجتمعه, لذلك فإن الحفاظَ على وجود المجتمع هو حفاظٌ على نفسه وبني جنسه من مجموعته التي يحيا فيها. وبالتالي فإن كل التصرفات والمقاييس والمعايير التي تؤكد وحدة الجماعة ومشاعيتها وتشاركيتها وصونها تعتبر من الأمور الواجب الإيمان بها واتباعها. وبالعكس فإن التصوراتِ والتصرفات والسلوكيات التي تضرّ بوحدة الجماعة وحمايتها والعلاقات المشاعية فيها فتعتبر مما يجب تجنبها. وبذلك ينشأ عالمُ المقدّسات والأخلاق في المجتمع. وهذا يقودنا إلى عالم الطوطم، فالطوطم في حقيقته – كما يؤكد المفكر عبد الله أوجلان– هو أول نظام اصطلاحي تجريدي والنظام الاجتماعي القائل هو عبارة عن دين الطوطم، وبذلك يشكل التقديس الأول ونظام المحرمات (المسلمات) الأول. وبالتالي تم الوصول إلى أول نظام للأخلاق, لأن الجميعَ يؤمن بأن الحياةَ مستحيلةٌ من الكلان (أول جماعة بشرية) لذلك فإن وجودها المجتمعي مقدس, ومن هنا نعلم سبب قوة وأصالة العقيدة الدينية, فالدين هو الصياغة الأولى للوعي المجتمعي. ومع الزمن شيئاً فشيئاً يصبح عقيدة متصلبة ودوغمائية. بهذا الشكل والصياغة يعتبر الدينُ المنبعَ الأولَ لأشكال الذاكرة والتقاليد والأعراف الجذرية والأخلاق الأساسية في المجتمع.

أين هي المرأة من كل هذا؟ إن المرأةَ بحكم إنجاب الأطفال ورعايتهم تتطوّرُ لديها مهاراتُ مراقبة الطبيعة التي ترى فيها الحياة لتأمين ضروريات الأطفال، حيث تحقق الإنجازات العظيمة في التاريخ البشري والتي تتمثل في اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوانات وصناعة الأدوات، إضافة إلى تطور شكل اللغة من الإشاراتية إلى الرمزية, كل ذلك جعلَ المرأةَ تمثلُ روحَ المجتمع (الكلان) وجوهره وبالتالي تمثل قدسية العقيدة الطوطمية نفسها وبالتالي فقد صيرت المرأة الأم آلهة, وإن هذا جلي بما لا يدع مجالاً للشك في جميع الآثار التي تعود إلى هذه الفترة, حيث تذخر المنحوتات بتماثيلَ وصور الأمّ- الإلهة. كذلك فإن كون أغلب المصطلحات المهمة في تلك المرحلة تحمل خاصية أنثوية تعبر عن مدى مكانة المرأة وإبراز حقيقة وجودها المهم والمقدس في حياة الجماعات البشرية.

إن الرجلَ يعتبر ذا دورٍ ثانوي في هذا النظام, فمهمته الأساسية تقتضي الدفاع عن الجماعة ضد الأخطار المحدقة والقيام بالصيد خارج الجماعة, بالتالي لا يعتبر عنصراً في إدارة الجماعة وتنظيمها. حتى وجوده كأب لم يظهر إلا بعد الانقلاب السلطوي، فالأطفال منسوبون إلى الأم أما الأب فغير معروف، وقرابة الرجل للأطفال إنما تتأتى بحسب قرابته من الأم (الخال,…).

إن الجماعةَ تحيا بذهنية أنثوية والتي فحواها التشاركية والمشاعية. إن الأم -حتى الآن وبعد هذه المراحل السلطوية- ماتزال تحافظ على هذه الخصائص، فالأم تعمل بدون مقابل ودائماً تعتبر مصلحة البيت فوق اهتماماتها الشخصية.

هذه العقيدة ككل إنجازات المرأة والمجتمع تم استغلالها من قبل الراهب ليخدمَ هدفه في سرقة الجماعة لتصبح مُلكهُ وتحت سلطته، فعمد على تلقيح العقيدة الطوطمية بمفهوم إلهٍ خلقَ الكونَ وينظمه. فتوصل إلى إيجاد “دين” جديد يتمثل باستغلال القدسية الموجودة في دين الطوطم مع استبداله بإله خارج منظومة الجماعة.

إن الرجلَ القابع خارج دائرة النور في الجماعة والبعيد عنها عكسُ المرأة-الأم التي تعايشُ حياةَ الجماعة, قد عزى إدارة الجماعة إلى إله خارج إطار الجماعة والمتمثل بذاته هو, حيث أن المتكلمَ باسم الإله هو الكاهنُ الرجل الذي ينقل تعاليمَ وشريعة الربّ إلى العبيد(المنتجين للمحاصيل الزراعية) وهو من سيوزعها بحسب إرادة الإله.

لذلك يفهم كيف أن الأديانَ بعد الانقلاب السلطوي وحتى الآن ترددُ نفسَ الحجّة لتبرير مسألة أن تكون المعايير والقوانين التي تنظم العلاقات بين البشر، وهي إن البشرَ مخطئون وقليلو العلم ومتسمون بالجهل ومكبلون بمصالحهم وأهوائهم، فهم غير قادرين على معرفة مصلحتهم الفعلية ولذلك وجب للشارع أن يكون خارج الجهل والهوى والخطأ أي غير إنسان والأنسب أن يكون الإله نفسه بعلمه المطلق وخلوه من الأخطاء علاوة على علمه بمصلحة البشر لأنه خلقهم.

عند تجاوز معضلة استثمار القدسية ليخدم هدفه, تتبدى أمام الراهب–الرجل مشكلة أخرى وتتمثل في المرأة نفسها. إن مشروعه معرّضٌ للفشل ما لم يستطع تجاوز المرأة, لكون المرأة تمثل المنظومةَ المجتمعية فهي روحها وحاميتها المقدسة. فلذلك عمد إلى إيجاد خطة للحط من شأنها والنيل من قدسيتها، وكان المشروع هو “دُور البغاء”.

إن الأهدافَ والاستثمارات الأخرى لهذه الخلايا من مثل صيد الرجال من أجل السيطرة عليهم وغيرها, إنما تؤتى نتائجها بعد تحقيق إذلال المرأة وإخضاعها.

إن جميعَ الأديان السلطوية تحمل ذات النَفس لهذه العقيدة المستحدثة، وهي اعتبار المرأة ذات صفات وخصائص أدنى من الرجل.

بدراسة فاحصة لنظرة الأديان السلطوية فإننا نستطيع وضعَ خطٍّ بياني لموقفها تجاه المرأة مع بعض الشذوذ في بعضها في فترات معينة. تشكل مواقف المرحلة الأولى من الانقلاب أكثر المواقف راديكالية وعداوة وتشويهاً للمرأة، وذلك لكونها عاصرت المرأة كذهنية مقدسة في المنظومة المجتمعية، فكان لابد أن يكون الهجوم بمستوى هذه القدسية لتستطيع كسرَ قدسيتها ومكانتها في المجتمع. لذلك تذخر الأساطير السومرية بذلك. ينتقل هذا الميراثُ إلى الأديان اللاحقة، ولكن بسب المقاومة التي أبدتها المرأة والمجتمع على السواء فإننا نلاحظ بعض المواقف أقل حدة (بعض الأدبيات الزردشتية والمسيحية والإسلام) بل أن تكون حتى بعضها تقدس المرأة حتى( بعض المذاهب الباطنية المسيحية والإسلامية).

ومع ولوج المراحل القريبة وبالأخص الرأسمالية فإن المسار ينقلب ليشهد مواقف تعيد للأذهان المواقف السومرية ولكن مع فارق شكلي وهو أن المواقف السومرية واضحة في ذلك, أما الرأسمالية فإنها وتحت اسم تحرير المرأة استغلت المرأة في الدعاية والمؤامرات ودسائسها وبصورة أبشع من المرحلة الأولى.

إن مستوى الانحطاط الفكري في الأديان السلطوية فيما يتعلق بالمرأة وإن نحى أن يأخذ منحاً ليناً بالمقارنة مع بداية نشأتها إبان فترة الانقلاب, ولكن هذا لا يعني أن بعضها لم يحمل مواقف متطرفة بل إن المنحى العام ظل يرتكز على دين الراهب – الرجل في فترة النشوء بل في بعضها كانت أكثر تطرفاً. يمكننا توضيح ذلك في بعض الأمثلة.

بالرغم مما ينتشر في بعض الأدبيات الإسلامية من الاعتراف بالمرأة ككيان مستقل وإقرار بعضاً من حقوقها, فإننا بالنظر إلى بعض ما طرحه كرؤيا لجوهرها أو حقوقها نرى الإسلامَ قد تجاوزَ الفكرَ السومري الراديكالي.

إن إي من الأديان السابقة للإسلام بدءاً من العقيدة السومرية ومروراً بالأديان الأخرى مهما بلغ نظرتها الدونية للمرأة, فإنها لم تصل إلى حد إنكار حقيقة أن المرأة واهبة الحياة بولادتها للأطفال فهي رمز حفظ الجنس البشري وتكاثره. إن القرآن بصريح العبارة يسحب هذه السمة من المرأة ويعتبرها فقط كحرث(أرض محروثة معدة للبذار) يحضن بذرة الرجل, فلا علاقة للمرأة بجوهر البذرة بل فقط تغذيها في رحمها كحاضنة كما الأرض تغذي البذرة لتنتش وتكبر.

(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم…) (المؤمنون \ 223)

(فلينظر الإنسان مما خلق. خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب) (الطارق\5-7) (الماء الدافق هي النطفة, لكون القرآن ذكر ذلك في غير موضع وهي ماء الرجل, ولكون الدفق من صفات ماء الرجل لا المرأة)[1]

إذاً فكحصيلة لهذه النظرة فإن الذكر والأنثى كلاهما من الرجل لأنه فقط مصدر للبذرة:

(وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى. من نطفة إذا تمنى) (النجم \45- 46).

كآخر مراحل السلطة تتربع الرأسمالية على أكثر الأيديولوجيات استغلالاً وللمرأة واستخفافاً بها. إن الرأسمالية وتحت اسم تحرير المرأة والتي هي من منتجات النهضة الأوربية والتي سرقتها الرأسمالية واستغلتها لترسيخ سلطتها والتخلص من الإقطاعية. إن أحد أهم أركان الرأسمالية هي الشيآنية التي تعني أن كل ما هو موجود هي أشياء يمكن الاستفادة منها والمتاجرة بها وذلك بدون وجود وازع أخلاقي. والمرأة تدخل ضمن هذا التعريف بل هي الأداة الأكثر رواجاً في تحقيق مآرب الرأسمالية, سواء في صرف نظر المرأة الى أمور أخرى غير مهمتها الأساسية والتي تتمثل في إدارة المجتمع بإلهائها بأمور الشكل والموضة والجنس, أو استخدامها كأداة جنسية للابتزاز والتجارة أو أداة دعائية رخيصة لتسويق منتجاتها. وهذا كله إلهاء للمرأة والمجتمع من بعدها بحيث تبتعد عن ما يخطط أو يمارسه النظام السلطوي في سرقة المجتمع وترسيخ هيمنته على حساب حرية المجتمع.

[1] يراجع في تفسيرها “إعلام الموقعين” (1/145-146) – ابن القيم الجوزية

كاتب

التعليقات مغلقة.