مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

إشكالية “السُلطة في الإسلام، ودور الفقه السلفي في تشكّل العقل المسلم وتشويه الإسلام

يمام العمري

تحاولُ الورقةُ تسليطَ الضوء على منظور العقل المسلم والتلقي الذي أحاط به إلى درجة السيطرة والبرمجة التي تم ممارستها من قبل الفقه السلفي السائد، والذي استطاع التغلغلَ في الذاكرة الجمعية للمسلم. حيث تقوم الورقةُ بإضاءة إلى هذا الدور تحديداً, باحثة في منبع الإشكالية ودور ” السلطة السياسية ” التي لها الصدارةُ في تشويه العقل المسلم والإسلام عموماً

 

قد يرى البعضُ أنّ الطرحَ ” إصلاحي ” أي من داخل المفهوم, ولا تسعى أو تشير إلى تجاوزه, مطالباً أو متسائلاً عن الطرح ” الثوري ” أي بنقض ” النص ” بذاته وتجاوزه, حيث أنّ الجدلَ لا يتوقف ويُسلّم بحقيقة  مطلقة ” بل يجب مناقشتها, وتلك وجهة نظر حق, ولكن زعزعةُ أركان العقلية السائدة وتفكيك الربط بين النص والتاريخ والممارسة في العموم هو الهدفُ التحضيري لمرحلة مناقشة ” النص ” , المطلوب هو إيقاظ الوعي وتحضيره قبل مناقشة ” النص ” في مرحلة معينة, حيث دلتِ التجاربُ أنّ الثوريةَ لم تشكل سوى ” راديكالية ” عدائية اتجاه أيّ طرحٍ من خارج المؤسسة, وخارج المفهوم .

لقد جاء الغربُ في مطلع القرن الماضي بعد أن كانت الأمة قد تهيأت لاستقباله طويلاً بكل أسباب الوهن والموات, حيث دفقة الحيوية الهائلة والعريضة التي انبثقت من ينابيع النصر الأولى قد تم سحقها إلى حدٍّ بعيد تحت مطارق الاستبداد والقهر, وكانت شريعةُ التوحيد الصافية والبسيطة المستمدة أساساً من النص الخالص قد شابها قدرٌ كبير من الكدر, فتضاءلت منها مساحةُ الحقّ خلفَ ركام من الأساطير والخزعبلات والصوفية وأقوال الرجال, وكانت مفرداتٌ كثيرة من مباهج القيم العليا كالحرية والعدالة والعلم والحضارة وحمل أمانة الخير إلى هذه البشرية  قد خفَّ وهجها في ذاكرة الوعي العام. وعموما كان التاريخ  أي منظومة الفكر الفقهية التي أفرزها بشكل مباشر وغير مباشر قهر الأنظمة الحاكمة, قد فرغ من تشكيل المنظومة, العقل – نفسية للأمة وصياغتها وتلوينها بكل ما يمكن أن يصدرعن القهر .

 

وإذا كان  التاريخُ  هو” مفتاح ” العقل, فإن ” السلطة ” هي مفتاح التاريخ .

تلك السلطةُ لعبت بشكلٍ مباشر دوراً جبروتيا  طاغياً في تشكيل العقل, ليس فقط العقل السياسي الإسلامي  بل العقل الجمعي الإسلامي العام, هذا ما تحاول الورقة الإضاءة عليه ” إشكالية السلطة ” هذه الإشكالية التي تكمن خلفَ معظم المعضلات التي تثخنُ جسدَ الحضارة الإسلامية في الجراح, على مستوى العقيدة والفكر والعلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع , وعلى مستوى السيكيولوجيا والفنّ والجمال .

 

إن تاريخَ السلطة قد أورثَ للعقل المسلم خضوعاً شبهَ كلي ” للحكومة ” بالمعنى المطلق, وسلطةَ التاريخ قد أورثته خضوعاً شبه كلي ” للماضي ” بالمعنى المطلق كذلك .

إن التاريخَ السياسي للمسلمين من ناحية, والطرح الراهن للإسلاميين من ناحية أخرى, هما ناحيتان متلازمتان تلازم العلة بالمعلول, قد فشلا معاً في إبراز حقيقة الإسلام وعرض وجهه الحقيقي  ذلك الذي يقدمه النص الخالص بريئا من بصمة الجغرافيا والتاريخ.  فاذا كان الإسلامُ حقاً هو المنهاج الموضوعي الواسع لحكم الحياة, فإن سؤالاً لابدّ أن يثارَ على النحو التالي : أيُّ إسلامٍ هذا الذي يمثل هذا المنهاج, هل هو إسلام الوحي المبني على النص الخالص, حيث تتسّع دائرة المباح وتتقلص دائرة الإلزام , ويرتفع سقف التكاليف فوق فضاءٍ واسع من الحرية واحترام دور العقل الإنساني, دون أن ينقص ذلك من حرارة الإيمان شيئا ؟

أم هو إسلام الفقه الذي تقدمهُ المنظومة السلفية مبنياً على التاريخ حيث تنقبض دائرة المباح, وتتسع دائرة الإلزام ويتسع التوجس من العقل والحرية, دون أن يزيدَ ذلك من حرارة الإيمان شيئا ؟

على ضوء الطرح الأخير للإسلام الذي يقدم اليوم إلى العالم، لابد أن نعترفَ بشيء من التقدير, حيال المخاوف التي تبديها قوى مختلفة من الإسلام ونظام الحكم في الدولة الذي يروج, لأن من شأن هذا النظام في الحقيقة أن يثير جملة من التداعيات المُستهجَنة التي تستحضر معاني القهر والاستبداد ونفي العقل والحرية .

حيث ما يروَّج عن أنه ” الدين الإسلامي ” لا يستدعي إلا ضرباً من الانقسام في صميم الضمير الفردي،  فأيُّ دين لا ينجح في استيعاب المظهر الجماعي للوجود البشري لن يكون من شأنه إلا أن يولد ذلك وأكثر .

هذا النموذج للنظام الإسلامي الذي ساد منذ عصور أدى إلى :

1 – خلط في خصوص الإسلام بين ” النص ” و ” التاريخ ” مما عرّض الإسلام لجميع أنواع النقض بسبب التاريخ السياسي للمسلمين, الذي هو في حقيقته ليس مرادفاً موضوعيا للإسلام, لأن الإسلامَ في النهاية ليس شيئا آخر سوى النص .

2 – خلط في خصوص السلطة بين ” الشكل ” و ” الموضوع ” فأسقطت الأدلة النصية والتاريخية التي تنفي الإلزام بشكل معين من أشكال السلطة , على منهاج السلطة الموضوعي ذاته, فانتقلت بذلك من القول ” بعدم وجوب الشكل ” إلى القول ” بعدم وجوب المنهاج ” أو “عدم  وجود المنهاج ” .

ذكرُ تلكَ النقطتين ضرورة لما يقتضيه البحثُ لفكّ الاشتباك بين إلزامية النص وإلزامية التاريخ من جهة،  وبين وضعية الشكل ووضعية المنهاج من جهة ثانية .

ولأن العقلَ الإسلامي بشقيه السلفي والراهن , ” هما في الحقيقة عقل طولي واحد ” , يعاني هذا الخطأ في الخلط بين الشكل والموضوع , والنص والتاريخ, لابد من المحاولة في فك ذلك الارتباط والاشتباك والخلط, عبر طرح منهجي وموضوعي دقيق .

” هل في الإسلام أحكامٌ ملزمة تعينُ شكلَ الحكومة, أو تشيرُ إلى هيكل النظام السياسي في الدولة ؟ ” هذا هو السؤال الذي تُعقد له الصدارة , ضمن أسئلة أخرى عن تكوين السلطة من الناحية العضوية التي ظلت منذ نشأتها تشير إلى الطابع الإشكالي للمسألة  ولاتزال حتى اليوم معلقة بغير جواب .

وهو سؤال كما تدل صيغته الإجمالية – محوري ومركب , لا سبيلَ إلى كلمة سواء فيه حتى يضبط لدينا على نحو محدد : مفهوم الإسلام  , ومفهوم الإلزام, ومفهوم الشكل .

أولا – مفهوم الإسلام :

ما الإسلام الذي نبحث عن أحكامَ ملزمة فيه ؟

هل هو إسلام ” النص ” أم هو إسلام ” التاريخ ” .

وذلك أنّ فجوةَ الفصام التي وقعت بين النص والتاريخ بلغت من العمق والطول مبلغَ الحديث عن إسلامين اثنين:

أولهما إسلام ” النص ” الثابت بالوحي كتاباً أو سنة, وهو دون غيره مقصود الإسلام في منطوق التساؤل المطروح . وثانيهما : إسلام الواقع التاريخي المتمثل أولا في أنظمة الحكم المتعاقبة, التي قامت على أرض الإسلام وانتسبت إليه مع استثناءات طفيفة – لا بسبب من التمثل الموضوعي لقيمه ومبادئه, وإنما بسبب الراية الإسمية التي ظلت مرفوعة به ردحاً من الزمن،  والمتمثل كذلك في قواعد الفقه الاجتهادي التي تصح نسبتها إلى أصحابها ولا يحظر إسنادها إلى تراث الأمة ومحيطها الحضاري العام, وليس لها بعد ذلك أن تكون مصدراً أبديا متمتعاً بقداسة الوحي أو فرضية النصوص, لاسيما أنّ هذه القواعد لم تكن في معظمها أكثر من انعكاس لاحق على الواقع الذي فرضه الحكام, معبرة عنه وشارحة له, وإنها غالباً ما اكتفت حياله بمهمة الشرح والتبرير, وتقاعست عن سائر وظائفها التي تؤهلها لسبق الواقع وتوجيهه, وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. وأنها تتحمل بسبب ذلك كله جانباً من تبعة المسؤولية عن الخلل المبكر والمزمن التي مُنيت به هذه الأمة في صميمها منذ قديمها. .

لقد اختلطَ التاريخُ بالنصوص, واختلطَ الفقهُ بالشريعة, وعمّ الخلطُ جميعَ الأطراف بما في ذلك إسلاميون مجتهدون ينتمون بالميلاد إلى العقل الجمعي المسلم الذي شكله التاريخُ بأكثر مما صاغه النص, انتهى بهم الأمر إلى الدفاع عما حسبوه ” نظام الحكم ” الثابت أو الملزم في الإسلام.  إن المسألةَ في إيجاز هي أنّ النصوصَ تُلزِم بينما التاريخُ لا يُلزِم . فما الإلزام ؟

ثانيا – مفهوم الإلزام :

يعدُّ مفهومُ الإلزام حجرَ الزاوية في بناء العملية التشريعية والفقهية بوجه عام, إذ أنّ موضوعَها هو ” الحكم ” ووظيفتَها هي بيانُ التكليف .

هذا المفهومُ لم يحظَ بالقدر اللازم من الحضور والاحتفاء في ” الحس ” الفقهي السلفي, لاسيما في الممارسة التطبيقية أي في الفقه الفرعي, وبوجهٍ خاص في قضية ” السلطة ” مما ترك بصماته بالضرورة على العقل الجمعي المسلم في شتى مناحيه ( باعتبار هذا العقل هو عقلٌ فقهي تربّى بصفة أساسية على يد المنظومة الفقهية المتوارثة منذ عصر التدوين, مما حدا بالبعض إلى وصف الحضارة الإسلامية في مجموعها بأنها حضارة ” فقه ” في مقابل ما توصَف به الحضارة اليونانية بأنها حضارة ” عقل ” , والحضارة الغربية المعاصرة بأنها حضارة ” علم وتقنية “, وهو ما يتجلى بالقطع في نوع من أنواع الاهتزاز المنطقي قد يصل إلى حدّ التناقض في أبنية الفقه المطروحة داخلياً وخارجيا  نتيجة لتذبذب الحكم وتردده بين الوجوب والإباحة بشقيها من ناحية, وبين الحرمة والإباحة من ناحية أخرى, وهي الحالة التي تنشأ بالضرورة عن غياب الضبط, وتعبّر عن نفسها بأعراض مرضية من التسيب والسيولة العقلية تسمح للشيء كما تسمح لنقيضه أن يكون حكم الإسلام في المسألة, سواء كان مُلزماً أو غير مُلزِم .

إن الحكمَ الملزمَ في صيغة محكمة, هو الحكم الوارد في ” النصوص ” أي في الكتاب والسنة الصحيحة, على وجه الجزم بالوجوب أو الحرمة بالمعنى الأصولي المعروف, دون غيرهما من دلالات الندب أو الكراهة أي الحكم الذي ورد ” بأمر ” جازم يترتب على تركه ” الإثم “, أو جاء ” بنهي ” جازم يترتب على فعله الإثم؛ وماعدا ذلك فهو واقع حتماً في دائرة المباح .

العمدة في بيان ذلك بعد الدليل الكلي المستمد من قوانين العقل, ومن أسس التوحيد القاضية بأن التشريعَ منحصرٌ في الله تعالى, هو نصٌ صريح صحيح للنبي “ص” يقول : ( ذروني ما تركتكم, فإنما هلكَ من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وما نهيتكم عن شيء فدعوه . )

يرى ابنُ حزم بأنّ هذا الحديثَ قد جمع جميعَ أحكام الدين أولها عن آخرها , ففيه أنّ ماسكتَ عنه فلم يؤمر به ولا نُهي عنه فهو مباح, وليس حراماً أو فرضاً، فالشريعةُ كلها إما فرضُ يُعصى من تركه, وإما حرامٌ يعصى من فعله, إما مباحٌ لا يعصى من فعله ولا من تركه. وهذا المباح ثلاث أقسام : إما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصى من تركه, إما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصى من فعله, وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه, ولا يعصى من فعله ولا من تركه . قال تعالى ” خلق لكم ما في الأرض جميعاً “, وقال : ” وقد فصّل لكم ما حُرم عليكم “, فصح أن كل شيء حلال إلا ما فُصّل تحريمه في القرآن والسنة .

يمثل ابنُ حزم نموذجاً استثنائياً وراقياً لحالة قدرة العقل المسلم على النفاذ من دائرة السلفية التاريخية, التي زاحمت ” النص ” في كثير من صلاحياته, وقدّرَ لها بعد ذلك أن تشكل البنية الفقهية للعقل الإسلامي  بكاملها على وجه التقريب.  فقد جاء ابنُ حزم بعد اكتمال المنظومة الفكرية الفقهية لهذه السلفية واستتباب سلطانها, والأمر الذي فعله ابنُ حزم هو تأكيده الحاسم على ما يسمى ” مفهوم الإلزام ” والدور والذي يلعبه في دائرة ” المباح “, إذا كان ” مفهوم الإلزام ” يعني أنّ الحجية في الإسلام ليست سوى ” النص الخالص ” كتابا أو سنة وهي ليست سوى الأمر الجازم أو النهي الجازم وجوبا أو حرمة, وأن عدم النص هو في ذاته ” نص ” في دائرة المباح, فإن ذلك يؤدي بالضرورة بأن الأحكام في الإسلام لا تخرج عن دائرتين اثنتين:  دائرة المباح أولا, ودائرة الإلزام ثانيا , وبقدر ما تضيق الثانية تتسع الأولى, وبقدر ما تتسع تضيق .

تدلُّ النصوصُ على أنّ توسيعَ دائرة الإلزام ليس من مقصودات الشريعة، بل أن العكس هو الصحيح؛ بمعنى أن الشريعة تقصد إلى توسيع دائرة المباح  وتشدد النكير على من يضيقها, كحديث النبي (ص) في الصحيحين

” إن أعظمَ المسلمين في المسلمين جرماً, من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم عليهم, فحُرِّم عليهم من أجل مسألته ”

لأن في هذ التحريم تضييقاً لدائرة المباح أو دائرة الرحمة على حدّ النبي (ص) في تعبيره وقوله : ” إنّ الله َفرض فرائض فلا تضيعوها , ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها, وعفا عن أشياءَ رحمةً بكم لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها “.  إذن فقد كانت دائرة المباح عرضةً للتقليص, حتى في عصر الرسالة, عصر نزول الوحي وتكوّن الشريعة, وهو ما تدل عليه النصوصُ الواردة آنفا من خلال الصيغ المغلطة للتحذير من كثرة سؤالهم , وقد كان في زمن النبي ( ص ) ما يكفل ضبطَ المسألة ووضعها في نصابها, مما يؤدي بالضرورة إلى القول ” بأن فاعلية هذه النصوص وتحذيراتها ” منصرفة في الحقيقة إلى العصور التالية .

تم الإفتئاتُ على دائرة المباح على يد العقلية الفقهية التي أنتجتها تلك العصور التالية, حيث تعاملت معها متقمصة دورَ الشريعة والمالك , فعكفت عليها تملؤها بركامات من الأحكام بطريقة تعادل من الناحية الموضوعية طريقة ” كثرة السؤال ” التي استهجنها الإسلام, وتنتج في النهاية نتاجها ذاتها في تقليص الدائرة . عندما تم ” تدوين ” هذه الأحكام , كان أن جاورت ” النص ” واكتسبت مع الصيرورة التاريخية, وبسبب من هذا الجوار أضحت مرجعية شبه مستقلة تبرر في بعض الأحيان الخروج على إلزامية النص ذاتها .

في إشارة سريعة إلى موقف الفقه السلفي في مجموعه, في قضية رئيسية من قضايا السلطة المتعلقة بالحاكم, هل يجب عزله للفسق أو للظلم أو الفساد ؟ نرى أحدَ التيارات الأساسية من مدرسة الحديث بقيادة الحنابلة يقرر بأنه” لا يجب خلعه سواء كان الفسق متعلقا بأفعال الجوارح وهو ارتكاب المحظورات ” كأخذ الأموال , وضرب الأبشار , وتعطيل الحدود , ” أو كان متعلقا بالاعتقاد ” , ونرى الأشاعرة يقولون على لسان الباقلاني ” إن حدوثَ الفسق في الإمام بعد العقد له لا يُوجِب خلعَه , وإن كان مما لو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له ” , وأيضا النسفي وهو من الماترتدية , يقرر أن الحاكم لا يعزَل بالفسق أي الخروج عن طاعة الله , والجور أي الظلم على عباد الله, لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين . و ” السلف ” كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم ” .

المثال وتفسيره, يرتد كما هو واضح إلى مرجعية تاريخية بطرفيها الأنظمة الحاكمة والقواعد الفقهية, حيث يصبح ” السلف ”  مصدراً للتشريع بما يخالف الشريعة, ففعل ” السلف ” المتمثل هنا في الانقياد للأنظمة الفاسدة هو ” دليل ” الحكم بجواز الانقياد . ومعنى ذلك – وهو مكمن الخطر – أننا بإزاء ” حكم ” ينتمي إلى دائرة التشريع والفقه, بما في ذلك إيحاءات النسب إلى الشريعة, وامتداد الأثر في الزمان . ولسنا بإزاء ” رأي ” يدخل في نطاق التحليل والتفكير مما قد ينتمي الى العلوم السياسية والاجتماعية وغيرها, أو يدخل في التفسير لضرورة واقعية في إطار ومحصورة في زمانها .

نحن حيالَ حالة ينتقل فيها الحكم على يد الفقه السلفي من دائرة ” الإلزام ” إلى دائرة ” المباح ” انصياعاً إلى مرجعية تاريخية, مما قد يستدعي الحالة العكسية حيث ينتقل الحكم من دائرة ” المباح ” إلى دائرة ” الإلزام ”

في رأي القاضي عبد الجبار, وهو من المعتزلة الذين وفقاً لمنهجهم العقلي وخياراتهم الفكرية بما في ذلك ما كان ينتظر منهم مزيد من الاحتفاء في مفهوم الإلزام ومنهجية الضبط بوجه عام . حين يعرض لقضية جواز خلع الحاكم من غير حدث أو من غير فسق أو عجز . مما يمكن من خلاله طرح وإثارة التساؤل التالي : هل يجوز أن تحدد للحكم فترة زمنية بعينها , كأربع سنوات أو خمس أو غيرها, بحيث تنقضي المدة بعدها بصرف النظر عن أداء الحاكم خلالها من حيث العدالة والقدرة, يقول : بأن الشرع قد ” أوجب ” , ( كما نلاحظ تعبير الوجوب ) في الإمام أنه لا يخلع إلا عن فسق, فلقد ” ثبت في الشرع في الإمامة أنّ الخلعَ والإزالة لا تجوز من غير حدث. وأن خلعه لا يجوز مع السلامة, لإجماعهم على ذلك ” .

السؤال من أين جاء هذا ” الوجوب ” ؟ هل من أمر جازم، أو نهي جازم  ثابت جاء في الكتاب أو السنة ؟

يقدم القاضي دليله على النحو التالي : ” لأنهم اختلفوا في أيام عثمان على قولين لا ثالث لهما, إما من يقول إنه أحدث ما يوجب خلعه, وإما من يقول لم يحدث حدثاً فلا يجوز خلعه, فما خرج من هذين القولين فهو باطل باتفاق “, والسؤال هو عن ” أيام عثمان ” هل يصح لها أن تصير ” مصدراً للتشريع ” يلزمنا إلى درجة ” الوجوب ” . ومن أولئك الذين اختلفوا أيام عثمان ؟  هل هم متشرعون في دائرة المباح لزمانهم وأمتهم , وهذا مفهوم مقبول, أم هم مشرعون للأمة على امتداد آجالها وأجيالها على وجه الحتم والالزام. فمن أعطاهم هذا الحق, ومن وهبهم العصمة وعلمهم غيب الزمان ؟ ثم أن ” أيام عثمان ” هي النموذج المثالي الأول في تاريخ المسلمين, لحالة الفرقة والاختلاف, ببصمتها التي ماتزال بارزة في عقل الأمة وبنيتها الفكرية, بعد أن أفرغت من عملها على مستوى الجغرافيا والتاريخ السياسيين, هنا ينتقل الحكم على يد الفقه السلفي بمعناه الزمني من ” دائرة المباح ” حيث لا نصَّ يمنع من خلع الحاكم مع السلامة بما في ذلك إنهاء حكمه بشكل دوري بتحديد مدة ولاية إلى ” دائرة الالزام ” حيث يحظر علينا ذلك, لا لشيء إلا لأنّ الفريقين ( الذين أحدهما قتلة عثمان وفي الآخر مروان بن الحكم ) اقتصروا في خلافهم على قولين لا ثالث لهما .

من خلال هذا الضبط التمثيلي المجمل ” لمفهوم الإلزام ” تبرز على الفور أهمية  الحضور الدائم الذي ينبغي أن يكون له في محيط العملية التشريعية , كما يبرز حجم الخطر الذي ينشأ عن ضعف الإحساس به على مستوى ” الشعور الفقهي ” مما يؤدي إلى تداخل الدائرتين ” المباح والإلزام ” , والخلط بينهما , أو النقل من إحداهما إلى الأخرى،  ويكون غالباً على حساب دائرة المباح بحكم أنها الدائرة الخالية, لاسيما كالقضية لتي نحن في صددها, قضية ” نظام الحكم ” بسبب أنها في معظمها تقع داخل دائرة المباح من جهة, وبحكم ما تنطوي عليه من مقابلة ضرورية, صريحة أو ضمنية  لفكرة الحرية من جهة أخرى .

الخطرُ الناجم عن إغفال الضبط لا يعبر عن كماليات ميتافيزيقية يراد إشباعها, بل عن ضروريات عقلية يستحيل إهمالها وأخطر ما فيه هو تعلقه بمقتضى التوحيد الإسلامي ذاته, لأنه حين ينتقل الحكمُ من ” دائرة المباح ” إلى ” دائرة الإلزام ”  أو العكس, فمعنى ذلك أن غيرَ الله تعالى هو الذي يلزم, وهو الذي يبيح, إضافة إلى ذلك هاجس الخوف المزمن على ” دائرة الحرية ” تلك التي طال هتكها منذ البواكير على يد الأنظمة الحاكمة وحتى اليوم، وطال إهمالها على يد العقل الفقهي السلفي في مجموعه, فلم توضع بعد في موضعها الصحيح من سلم الأولوية في الإسلام  على مستوى السياسة أو مستوى العقل جميعاً .

هذه هي الأهمية الإجرائية لمفهوم الإلزام باعتبارها أداة منهاجية رئيسية .

ثالثا – مفهوم الشكل :

تنبع أهمية التفرقة بين ” الهيكل الشكلي ” للسلطة, وبين المحتوى الموضوعي في أن لكل منهما طبيعته الخاصة من حيث العلاقة بالنصوص .

فبينما أسهبت النصوص كثيراً فيما يتعلق بمضمون الحكم ومنهاجه, بحيث يمكن القول بأنّ النصوصَ جميعها هي ” مضمون الحكم ومنهاجه ” , بينما بالمقابل اكثرت بالسكوت عن شكل الحكومة وتركيبها, الذي هو بذاته كان من إشارات النصوص بإحالته إلى ” دائرة المباح “, لقد ترتب على ذلك أن صار الهيكلُ الشكلي للسلطة كجزء من ” دائرة المباح “, عُرضةً لتيارات الفقه السلفي التي تراكمت على تلك الدائرة إبانَ عصر التدوين وما بعده, حتى كادت تملأها, وهو ما أدى إلى نتائجَ خاطئة ناجمة عن تكريس الخلط بين الشكل والمضمون في تصور العقل الإسلامي المعاصر, حيث يخلط العصرُ الإسلامي المعاصر بين ” المحتوى الموضوعي ” لمفهوم الخلافة الذي يعني في الإسلام وجوب أن تنشأ حكومة تمارس الحكم بمنهاج الإسلام, وبين ” نسق شكلي ” بعينه يمكن أن تتمثل فيه الحكومة بالشكل المناسب لها ضمن وضعها .

يمكن لنا في ضوء ما سبق طرحُ أسئلة من جديد . .

هل في نصوص القرآن والسنة أجوبة آمرة على التالي :

مَن الحاكم ؟

كيف يسند إليه منصب الحكم ؟

هل سمي في النصوص إلى آخر الزمن, أم أن اختياره من صلاحية الأمة ” الشعب ” ؟

مَن مِن الأمة سيختار كلها أم بعضها ؟

كيف يسمى ؟ كيف يختار ؟

إلى متى تسري صلاحية الاختيار ؟

هل إلى الأبد كما تذهب إلى ذلك المذاهب الفقهية السلفية في مجموعها ؟

أم من الممكن تحديدها بمدة زمنية بعينها, كمذهب المدارس المعاصرة في الفقه الدستوري ؟

إن بنيان السلطة الذي يتوزع في الدولة الحديثة يتوزع بين عدد من المؤسسات وفي أحيان كثيرة حول منصب واحد, وهو منصب الحاكم الفرد, وهو ما يفتح المجال أمام موجة أخرى من الأسئلة تتركز عن هذه المؤسسات والأجهزة, هل يمكن لها أن تجد مكاناً في نسق إسلامي للحكم ؟ هل يمكن أن تنشأ هذه المؤسسات متمتعة بكينونة مستقلة مستمدة من خارج سلطة الرئيس الحاكم, بحيث يكون لها أن تمارسَ أدوارا مختلفة أخرى إلى جانب دور الحاكم في عملية الحكم،  بما يجعلها جزءاً أصيلاً من بنيان الحكومة لا مجرد تابع في حاشية الحاكم . وإن كان الأمر كذلك, فما هي هذه المؤسسات ؟ وما علاقة كل منها بالأخرى , وما علاقتها بالحاكم الرئيس .

صيغة الطرح السابق للأسئلة قد جاءت بطابع ” استئذاني ” , هل يمكن أن تجد لها مكانا ؟

وذلك بسبب الطابع الشمولي المرسخ والمصمت للحكومة, كما يعبر عنه تاريخ الأنظمة السياسية, والتبعية التاريخية الفقهية لتلك الأنظمة السياسية , حيث لم تعرف تلك المؤسسات ولم يسمح حتى بطرح تلك الأسئلة بسبب الخلط العام بين النص والتاريخ والذي أثّر على العقل المسلم وتركيبه العقلي والسيكيولوجي إلى حد التقديس لنماذج الفقه السلفي, بل وأثرت تلك القدسية على العقل الإسلامي المعاصر الذي يعاني كما يمكن أن نطلق عليه ” عقدة التوجّس ” حيال ” العصر ” الذي ينظر إليه من منطلق ” عقد أخرى ” على أنه مرادف موضوعي للحضارة الغربية السائدة وما تحمله من قيم أهمها ” الديمقراطية ” وما تحويه من حرية في تحديد شكل الحكم , تلك الحرية التي تم التعتيم عنها من قبل الفقه السلفي والتي توجد في لبّ الإسلام .

لقد سكتَ القرآنُ والسنة عن تناول شكل السلطة في الإسلام، أي أنها لم تشكَّل من خلال النص, وإنما تشكلت من خلال التاريخ, ليس ذلك فحسب, بل إن تاريخ السلطة من خلال ” التنصيص السياسي ” قد لعب دوراً جزئياً في تشكيل النص .

ومن ثم فإن الدور الطاغي الذي لعبه التاريخ السياسي في تشكيل العقل المسلم لا يتأتى فحسب من جهة تنحية النص بل أيضا من  جهة المساهمة في إنشائه وتكوينه . وهو ما يضعنا أمام ضرب من التداخل العضوي المعقد بين النص والتاريخ في خصوص مسألة السلطة وعلاقتها بهذا العقل .

فمنذ دوّنت النصوص, لاسيما السنة في كتب مستقلة كمتون سردية صرف , بغير إشارات إلى سياقات الواقع التي كانت تلابسها في لحظات التلقي الأولى أو في ظروف التدوين المتأخرة, والعقل الإسلامي يتعاطاها كتشريعات مطلقة وكاملة الكينونة ليست في حاجة إلى مساعدة خارجية حتى تعمل وتنتج، وهو ما ظل يؤدي إلى التعثر في فجوات منطقية تحول باستمرار دون الوصول إلى فهم كامل للنصوص سواء في ذاتها أو في علاقاتها البينية .

في ضوء ذلك نحن أمام معضلاتٍ جمّة لامجال للتخلص منها إلا بهدم تلك المنظومة الفقهية التي تشكلت منذ ما يقارب الألف ومئة عام وشكلت الذاكرة الجمعية للعقل المسلم حتى أفرغت الإسلام من محتواه الحقيقي وجعلته دينَ إقصاء وتحريم, بدل أن يكون بجوهره الحقيقي دين تبشير ورحمة.  تلك المعضلة لا يمكن فكّها دون إعادة النظر بكل التاريخ المكتوب عبر مجموعة من النقاط :

أولا : قراءة في العقل الفقهي وآلية تشكيله والكيفية التي استطاع من خلالها أن يحتلّ مكان النصّ ويقومَ بتأويله بما يتوافق مع الظروف المحيطة وخدمة للسلطة السياسية التي جاورها وعايشها.  وهنا تجدر الإشارة إلى دور ” الشافعي ” الذي وضع وأطّرَ تلك القواعد الفقهية التي جعلها صلبة بما يكفي لتنالَ تلك القدسية وكيفية إغلاق أيّ بابٍ للاجتهاد الفكري خارج منظومة ما يسمى ” أهل السنة والجماعة ” وتحديداً  ” الجماعة ” التي تكرست تاريخياً ولعبت دورَ ” الابن الشرعي ” الوحيد لتفسير النصوص , وقبول الأحاديث ووضع قواعد علم الحديث وغيره واعتباره في كثير من الأحيان مساوياً للنصّ، وفي بعضها الآخر أشد أهمية منه .

ثانيا : البحثُ في المنظومة الفقهية السلفية بعقل تشكيكي على أنها منظومة غير نصية أي أن النص لم ينفرد في تشكيلها بل أتت من منظومة مفارقة للنص, وقد تكون متاخمة له, كالإجماع والقياس .

حيث يقررُ الشافعي في خصوص الإجماع أنّ ” موضوعه ” يكون من المسكوت عنه ” ليس فيه نص حكم الله, ولم يحكوه عن النبي ” فيسند الشافعي الإجماع مباشرة إلى الذين أجمعوا, أي إلى الناس, مقرراً في صراحة أنه يقول ” بما قالوا اتباعا له ” أي أن مصدرية الإجماع باعتراف الشافعي مصدرية غير نصية, باعتبار أنّ ” النصّ ” هو من عند الله قرآنا أو سنة .

ثالثا : النظر في التيارات اللاسلفية والتي حاولت جاهدةً تفعيلَ دور العقل ضمن حدود النص والسنة والتي لم تظفر قطّ بعضوية أو رضى أهل السنة والجماعة, وتم محاربتها ودثرها من التاريخ مع مرجعياتها وما أنشأته من أفكار, حتى ترسّخَ في العقل المسلم أنه لا يوجد إلا تلك المنظومة الفقهية والممثلة الحقيقية للإسلام وشكلت عقليته, كمدرسة ابن حزم, والمعتزلة, وابن رشد وغيرهم .

رابعا : البحث في ” الحرية الإنسانية ” التي تمتلك أساساً ” نصيا قرآنيا ” وإعادة إحيائها بعدما تم الجور عليها إلى درجة وصلت إلى الإلغاء بسبب دور المنظومة السلفية في الاجتهاد في تفسير الجبرية والحتمية من الله لخلقه, مستعينين بذلك بنصوص لم يرد منها إلا ترسيخ تلك الجبرية وقمع الحرية .

خامسا : لابدّ من دراسة التأويل السياسي للنص ومحيطه التاريخي وتحديداً لقضية ” الحكم ” حيث تثير قراءة

” القرآن ” في لحظته الأولى, قضية ” السكوت ” التام عن تسمية الحاكم أو التوصية له, كما سكت عن تعيين نظام للحكم أو شكل للحكومة .

حيث قامتِ المنظومةُ الفقهية بتوظيف بعض الروايات ” المنسوبة ” إلى السنة توظيفاً دلالياً مناقضاً للسكوت القرآني, عن طريق أحاديث الآحاد ” التي هي في باب السياسة بوجه خاص ليست ظنية فحسب ” بل ” مظنونة أيضا ” حيث ذهبت النظريةُ السنية في الخلافة إلى أن الانتماء إلى ” قريش ” مستدلين بحديث من الآحاد رغم وجود  قوله تعالى : ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” وحديث من السنة الصحيحة الشارحة للقرآن ” لا فضل لعربي على عجمي, ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى ” .

سادسا : العودة إلى دراسة السنة وتصفيتها من قواعدها التي تم وضعها على يد المنظومة السلفية والبحث عن أدوات بديلة عن المنهج المتبع , والبحث في مصداقية الأحاديث الحقيقية والموضوعة وتحديداً التنصيص في العصر الأموي, والعصر العباسي, وأحاديث الفتن في صحيح بخاري ومسلم, وأحاديث القرشية والاستخلاف.

قائمة المراجع :

1 –   شاخت وبورزوث: تراث الاسلام

2 –   برتراند باديه: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الاسلام

3 – عبد الجواد ياسين: السلطة في الاسلام

4 – محمد ضياء الدين الريس: الاسلام والخلافة في العصر الحديث

5 – ابن حزم: المحلى – الإحكام في أصول الأحكام

6 – الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة

7 – التفتازاني: شرح العقائد النسفية

8 – القاضي عبد الجبار بن أحمد: المغني في أبواب التوحيد والعدل

9 – أبو يعلى – الباقلاني

10 – جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء

11 – ابن خلدون: المقدمة

12 – جورج طرابيشي: من اسلام القرآن الى اسلام الحديث

13 – الشافي محمد بن إدريس: الرسالة, تحقيق أحمد شاكر – دار الكتب العلمية في بيروت

14 – محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي

15 – أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين

16 – أبو حامد الغزالي: المستصفى

كاتب

التعليقات مغلقة.