مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

التغييرُ الديموغرافيّ أحدُ أسلحة العقلية الدولتية

التغييرُ الديموغرافيّ أحدُ أسلحة العقلية الدولتية
محمد أرسلان علي

ليس من الخطأ وصفُ منطقة الشرق الأوسط بمنطقة البراكين والزلازل النشطة والتي تخمد أحياناً وتثور أحاييناً أخرى، والنقطة الخلافية التي قد نقع فيها هي أنَّ البراكين والزلازل تكون أسبابها محصورة في باطن الأرض وهي من العوامل الطبيعية للتفاعلات والحركات التي تتم بعيداً عن التدخل البشري بشكل مباشر، لكن ما يحصل في الشرق الأوسط من حروب ودمار وخراب وقتل هو من فعل الإنسان وتدخله المباشر في هذه العمليات. لكن تبقى النتيجة في الحالتين هي واحدة في التدمير والخراب والموت للإنسان وما يرتبط به من ذكريات عاشها على بقعة جغرافية معينة.

التوصيف الدقيق لما نعيشه الآن عملية صعبة للغاية بسبب تشابك الأسباب وتداخلها مع بعضها البعض وتعقيد حلَّها عن طريق القوى الفاعلة فيما نعيشه بكل جوانبه الحياتية.

بداية الألفية الثالثة التي نعيشها الآن لا تختلف كثيراً عمَّا عاشه آباؤنا وأجدادنا في بداية الألفية الثانية وما تبعها من حرب عالمية أولى وثانية، وكذلك لا تختلف عن الألفية الأولى عما عاشه الإنسان من قتل وتدمير وخراب لأهداف واحدة وإن اختلفت المسميات والمصطلحات، كلٌ حسب زمانه ومكانه والأدوات المستخدمة في كل مرحلة.

التاريخ يتحفنا بالكثير من الأحداث التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط والتي تعتبر مراحل فاصلة وهامة لما لها تأثير مباشر على شعوب المنطقة بشكل مباشر وعلى المناطق الأخرى بشكل غير مباشر. هذا التأثير نابع من أهمية المنطقة جغرافياً والتي تعتبر مركزاً لمن يريد التحكم بالفروع. فإذا كانت منطقة الشرق الأوسط هي قلب العالم، فإن جغرافية ميزوبوتاميا تُعتبر كذلك هي قلب الشرق الأوسط، ومن يتحكم في ميزوبوتاميا وكأنه يتحكم بالعالم أسره.

الأسباب كثيرة طبعاً إن تم البحث فيها والتدقيق وخاصة أنها المنطقة الرحم للثقافة الإنسانية والتي منها بدأت أولى مراحل التحول البشري نحو الحضارة الثقافية وبناء القرى وما تبعه بعد ذلك من ثورة في اللغة والكتابة والزراعة والصناعة والتي كانت بداية تحول العقل البشري من الجمود والسير البطيء نحو الثورة الفكرية وتحكمه بالطبيعة.

من هنا ندرك أهمية هذه المنطقة ولماذا تتجه الأعين إليها وتحاول بكل ما في وسعها للسيطرة عليها وتطويعها لأطماعها ومصالحها. وما نعيشه اليوم من حروب مدمرة وقتل بالجملة وتغيير ديموغرافي ما هو إلا تكرار لما عاشته نفس الجغرافيا ونفس الشعوب على مرّ التاريخ.

الحرب في سوريا أو على سوريا وكذلك في العراق هي نفسها الحرب التي شهدتها نفس الجغرافيا قبل آلاف السنين والتي تشكلت بموجبها أولى الإمبراطوريات في العالم ألا وهي الامبراطورية الأكادية. وتوالت الأحداث بنفس الأساليب القمعية والتدميرية تحت حجة القضاء على الموجود القديم وإحلال الجديد مكانه، وكأن التاريخ يسير بهذا الشكل وتقديمه للعالم على أنه التطور والأفضل وفرضه على الشعوب الأصلية وكأنه الحقيقة التي ينبغي القبول بها والتعايش معها وكأن شيئاً لم يحدث. إنها العقلية القدرية التي أرادوها كي يحققون أهدافهم في السلب والنهب والقضاء على ثقافة الشعوب والشعوب بحد ذاتها، لأنهم –أي الشعوب- ما هم إلا أدوات يتم استخدامها وقت الحاجة ورميها بعد ذلك في المزابل.

العقلية السلطوية الإقصائية الممتدة من آلاف السنين ما زالت مستمرة حتى راهننا وبأسماء مختلفة، ولكن المنطق هو لم يتغير حتى الآن، وإن دخلنا الألفية الثالثة لكننا ما زلنا نعيش مرحلة توحش الإنسان على أخيه الإنسان. فللحاكم والأمير والقائد والرئيس مطلق الحرية في قتل من يريد وتهجير من يراهم خونة وكفرة وكل من لا يطيعه، كل ذلك يتم باسم الله والدين لأنه هو من يمثل الله على الأرض.

ما يحدث الآن في سوريا على وجه الخصوص والمنطقة عامة هي جرائم ترتكب بحق البشرية تحت صمت القبور لكل المؤسسات المدّعية للشرعية الدولية. وليس غريباً أن تبقى هذه المؤسسات صامتة لأنها بالأساس هي من مفرزات الحرب العالمية الثانية التي وضعها وشكلها المنتصرون في الحرب، وتم تفصيل كل تلك القوانين وفق مصالحهم وأطماعهم ورفعها ككرت أحمر حينما تقتضي المصالح. منذ سنوات سبع والحرب مستمرة على هذه الجغرافيا والتي تحولت إلى جحيم بالنسبة لكافة الشعوب التي كانت يوماً ما تحلم بالكرامة والحرية.

ومن خلال متابعة سير الأحداث في سوريا والمعارك التي جرت بين كافة الأطراف إن كانت من النظام والقوى المتحالفة معه، أو من المعارضة بكل مسمياتها والمرتبطة بأجندات اقليمية ودولية، نرى أنَّ الفوضى هي سيدة الموقف والجغرافيا ولا أحد يعرف ما تخبئه الأيام القادمة.

في معنى التغيير الديموغرافي:

لا بدَّ لنا – لمعرفة ما جرى في سوريا خلال الأزمة المستمرة منذ سبع سنوات- من أن نعطي بعض التعريفات معناها الحقيقي بعيداً عن التأويلات السياسية التي تقوم بها بعض الجهات لأغراض ومصالح تعنيها بالدرجة الأولى، وكي ندرك أنه هناك حرب مصطلحات غير حقيقية يتم تمريرها عبر وسائل الإعلام لإقناعهم بأن من يقومون به يصب في خدمتهم وبذلك يوهمون الشعب ويجبرونه على مواصلة حياته ضمن القطيع لا يفقه شيئاً مما يحصل حوله.

  • الديموغرافية: تعني دراسة الخصائص السكانية لرقعة جغرافية معينة من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدلات نسبية، مثل: الولادة، والوفاة، والفئة العمرية، والمرحلة الدراسية، والقوم، والجنس، والدين.
  • اللجوء: عملية مغادرة البلاد بغرض الحماية بسبب الحرب، أو الاضطهاد السياسي أو القومي أو الديني أو بفعل الكوارث الطبيعية.
  • النزوح: عملية مغادرة المسكن الأصلي لمكان آخر ضمن حدود البلاد بغرض الحماية لنفس أسباب اللجوء.
  • الاستيطان: عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.
  • التهجير الجماعي: ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر. ويكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل. ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم.
  • الإبادة الجماعية: هي الجرائم المرتكبة بسبق نيّة وترصد بغرض التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو قومية أو دينية إمّا من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق ضرر جسدي أو نفسي جسيم بحقهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف عيش قاهرة، أو فرض تدابير تحول دون تكاثرهم، أو من خلال نقل أطفال الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.
  • جريمة حرب: هي كل جريمة جنائية بحق الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي، والناتجة عن سياسة أو أوامر من القيادة والتي وفرت الحرب ظروف ارتكابها.
  • المجموعة الإثنية/الملّية: مجموعة سكانية تتميّز بنسق ثقافي أو انتماء قومي ويضمّ عادة اللغة والدين.

الآن بمقدورنا أن نُدرك بأن ما يجري في سوريا هو مخالف لكل المواثيق والقوانين الدولية والتي تقوم به وتطبقه القوى المتصارعة في سوريا إن كانت إيران أو روسيا أو أمريكا أو تركيا وحتى النظام، الكل يُطبق خطة التقسيم وكلٌ وفق مشروعه ومخططه ولكل هدفه الخاص به. والضحية الأولى والأخيرة هي شعوب سوريا التي كانت ومنذ اليوم الأول هي الضحية وما زالت تدفع الثمن كي تنتفخ بطون جامعي الثروة من أمراء وسماسرة الحروب.

كلمات أربع لا غير وهي الحصار، ثم القصف، وبعد ذلك تجويع فترحيل. كلمات أربع تختصر استراتيجية النظام السوري وحلفائه وإيران وروسيا ومعهم تركيا منذ العام 2013م. والهدف بات واضحاً: تغيير الديموغرافيا السورية. وتحديداً ديموغرافية المدن الرئيسية في “سوريا المفيدة” والمناطق المحاذية للحدود اللبنانية وكذلك الحدود السورية التركية وخاصة بعد احتلال تركيا لمدينة عفرين وجرابلس واعزاز والباب وجلب كل المرتزقة إليها بعد اتفاقات وتفاهمات بين هذه الدول والتي سُميت زوراُ بالدول الضامنة لخفض التصعيد.

 

أولى مدن التغيير الديموغرافي

مدينة القصير المحاذية للحدود اللبنانية ولمدينة حمص – الاستراتيجية، كانت أوّل تجربة في هذا الإطار. في العام 2013 حاصرتها قوات النظام ومقاتلون من “حزب الله”. فقد انسحب مقاتلو المعارضة السورية بعد معارك ضارية وحصار استمر أسابيع. خرجوا مع عائلاتهم. فرغت المدينة من سكّانها.

التجربة الثانية كانت في مدينة حمص نفسها – عاصمة “الثورة” السورية. هنا الموقع الجغرافي استراتيجي. حمص هي التقاطع الأساسي في البلاد. فهي التي تصل العاصمة بالمدن الشمالية. وهي التي تصل الداخل السوري بالساحل. والأهم أنها المدينة التي تصل الساحل السوري ذا الغالبية العلوية بالشام. كما أنها المعبر الأساسي لأي خط نفط أو غاز يمتد من إيران حتى البحر المتوسط،  لذلك كانت حمص الهدف الأول للنظام وحلفائه.

بعد حمص عمل النظام وحلفاؤه على تأمين الطريق التي تصل بينها وبين العاصمة دمشق. في هذا الاطار تندرج معركة القلمون. هنا أيضاً برز المشروع التهجيري للسكان ليس الى الشمال السوري، إنما نحو الغرب في اتجاه لبنان حيث تقع مدينة عرسال السنّية. فقد لجأ العديد من المقاتلين والمدنيين الى جرود المدينة اللبنانية. ومنذ ذاك بدأت أزمة عرسال والمواجهات مع فصائل المعارضة التي أدّت إلى اختطاف عدد من العسكريين. بعضهم استشهد. بعضهم عاد. ولا يزال الأهالي ومعهم كل لبنان ينتظر عودة الباقين سالمين.

داريا، التي تبعد سبعة كيلومترات عن العاصمة، شهدت المصير نفسه بعد أربع سنوات من الحصار. خرج منها خمسة آلاف بين مدني وعسكري. علماً أن عدد سكان المدينة كان يبلغ حوالي ربع مليون نسمة. تم نقلهم الى شمال البلاد. كذلك مدينة مضايا القريبة من الزبداني، والمعضمية المحاذية لداريا ومطار المزة العسكري.

آخر محطة في استراتيجية الحصار والتجويع، فالترحيل كانت في حلب. ولكنها ليست الأخيرة على الجغرافيا السورية. نسبياً، لم يدم حصار القطاع الشرقي من ثاني المدن السورية طويلاً. فالروسي استعجل السيطرة عليه قبل تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مهامها في العشرين من الجاري. ونجح. والنتيجة خروج حوالي مليون نسمة من الأحياء الشرقية من “الشهباء”. تم نقلهم الى محافظة ادلب.

موجة النزوح من عفرين جاءت بعد القصف المكثف والممارسات اللاأخلاقية لجيش الاحتلال التركي بحق المدنيين وتم إجبار السكان الكرد في عفرين على التهجير تحت التهديد بتدمير قراهم والمدينة وبعدها تم توطين عوائل المرتزقة وجلب سكان الغوطة الشرقية والقلمون إليها بغية تغيير ديمغرافيتها عبر عملية  الاستيطان التي تُعرف على أنها عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

ما حصل في عفرين وقبلها في مناطق الشهباء لا يمكن نسيانه بتاتاً، لما كان له من آثار سلبية على شعب هذه الجغرافيا. تم ذلك تحت حجة محاربة الإرهاب في هذه المنطقة الممتدة من جرابلس وحتى الحدود الإدارية لمحافظة إدلب. حيث قام الاستعمار التركي باحتلال منطقة الشهباء في عملية سماها زوراً بـ “درع الفرات”، والتي سيطر خلالها على هذه المنطقة بموافقة روسيا وايران والنظام السوري، بهدف منع تواصل المقاطعات الكردية مع بعضها البعض كما صرح أردوغان الذي يعيش الفوبيا الكردية.

بالنسبة للدولة التركية ورئيسها أردوغان تعتبر القضية الكردية الهاجس الأول والأخير له وأنه بقمعها في شمالي كردستان يعتقد أنه سيضمن سلطته الرئاسية أعوام أخرى. لذلك يعمل كل ما في وسعه للقضاء على أي خطوة يُقدم عليها الكرد في أي مكان خشية أن يؤثر ذلك على الوضع في شمالي كردستان. لا يعلم أردوغان أن عجلة التاريخ التي تدور لا يمكن إيقافها بعصا السلطة والمصالح الشخصية، لأن للتاريخ أيضاً كلمته سيقولها حينما يكون الوقت.

فالتغيير الديموغرافي هو نفسه الإبادة الجماعية ولا يمكن التلاعب بالمصطلحات والتستر خلفها، لأن الإنسان بطبيعته مرتبط بالثقافة التاريخية التي هي من مفرزات الجغرافيا بحد ذاتها. التغيير الديموغرافي وإجبار السكان على ترك أرضهم يعني فيما يعنيه الابتعاد عن الذكريات والارتباط بالأرض والعمل والكدح الذي هو أساس بناء المنظومة الثقافية لأي شعب. واجتثاث وإبعاد الإنسان عن أرضه ووطنه أخطر من القتل، وربما أن هناك خطة الكل متفق عليها لتنفيذها وذلك لإسكان عوائل عربية وتركمانية وكتائب منسحبة من الغوطة الشرقية ودوما في بيوت أهالي عفرين الذين هربوا من القتل.

 

عفرين هي صراع بين أمّة الدولة وبين الأمة الديمقراطية

تقع عفرين في الشمال الغربي من الجغرافيا السورية وهي ملاصقة لشقيقتها السليبة لواء اسكندرون الذي تم تسليمه لتركيا وفق اتفاقيات سان ريمون بين فرنسا وتركيا مقابل ربط الجزيرة بسوريا. وعفرين منطقة تاريخية قديمة وعبرت من خلالها الكثير من الإمبراطوريات ولكنها بقيت لأهلها الأصليين الكرد الذي تشبثوا بأرضهم رغم كل الحروب التي شهدتها منطقتهم.

عفرين بعد أن أعلنت عن حريتها في 20 تموز/ يوليو بعد كوباني، لبست ثوبها الجديد ورجعت لأصحابها الحقيقيين كي يديرونها بأنفسهم بعيداً عن السلطة المركزية البعثية التي كانت تنهي خيرات هذه المنطقة كسائر المدن في الشمال السوري وروج آفا.

ومنذ ذلك الحين كشَّرت تركيا عن أنيابها وبمساعدة المرتزقة تم فرض الحصار عليها من كافة النواحي كي تستسلم وترضخ للشروط التركية. إلا أن الشعب في عفرين أبى أن يقبل الخنوع والاستسلام واستمر في محاربة الحصار بالإرادة المجتمعية وكان وما زال شعار الكرد في عفرين أن “المقاومة حياة” كما باقي المدن في روج آفا وشمالي سوريا.

فلسفة الأمة الديمقراطية التي تم قبولها وترسيمها كمبدأ للعيش في روج آفا عامة وعفرين على وجه الخصوص، جعل من هذه المدينة هدفاً لكل القوى المتصارعة بغية نشر الحرب الأهلية فيها وتدميرها وقتل الحياة فيها كباقي المدن الواقعة تحت سيطرة النظام أو المعارضة. إلا أن عفرين كانت منذ اليوم الأول المنطقة الآمنة نسبياً مقارنة بالمدن التي حولها ولهذا كانت الوجهة الأولى لكل من هرب والحرب والدمار والقتل، مما زاد عدد سكانها إلى الضعف نتيجة الاستقرار فيها.

ثقافة العيش المشترك كانت الغالبة على كل من يعيش في عفرين وكانت كسوريا المصغرة التي استقبلت الجميع بغض النظر عن القومية والدين والمذهب. أي أنها كانت الاستثناء من القاعدة العامة في سوريا. حيث في كل المدن السورية الخاضعة للنظام أو المعارضة كان الكل يقتل الكل على الهوية، إلا عفرين قلبت الآية رأساً على عقب. إذ، كان الكل يعيش مع الكل وهذا ما جعلها هدفاً للقوى الإقليمية والدولية التي تبحث عن الربح الأعظمي والذي لن يتوفر إلا من خلال إشعال فتيل الحرب والتدمير وبيع السلاح لكل الأطراف ولتستمر الحروب من جهة ولتنتعش مصانع السلاح من جهة أخرى.

عفرين رقعة سورية لها تاريخ قديم وآثار عريقة لذا فالمحتل يحاول بشتى أساليبه طمس المعالم التاريخية والاجتماعية لهذه المنطقة من خلال عملية التغيير الديمغرافي في عفرين، وتوطين العرب والتركمان في منازل الأهالي الأصليين يقتصر فقط على كونه هاجساً يثير مخاوف السكان بعدما أصبح واقعاً ودخل حيز التنفيذ بشكل فعلي. ووفقاً لمصادر محلية بمناطق متفرقة في عفرين فإن عملية التغيير الديمغرافي تجري فيها على أرض الواقع على قدم وساق.

 

اتفاق الغوطة عفرين

بدأ الاحتلال التركي لعفرين بعد اجتماع أستانة 8 والذي تم الاتفاق فيه بين الأطراف الثلاث “الضامنة” روسيا وإيران وتركيا على تسليم الغوطة الشرقية للنظام مقابل تسليم عفرين لتركيا. وعليه بدأت عمليات إجلاء الآلاف من مقاتلي فيلق الرحمن الموالي لتركيا وعوائلهم ومدنيين في الخامس والعشرين من آذار/ مارس 2018 من جنوب الغوطة الشرقية للتوجه إلى شمال غربي سوريا في محافظة إدلب. يأتي هذا بموجب اتفاق بين فيلق الرحمن والحكومة السورية بضمانة روسية يقضي بعدم تعرض المنسحبين من الغوطة للتفتيش من قبل القوات الحكومية.

من جانبه كشفت ميليشيا «فيلق الرحمن» أنها تتواصل مع تركيا وميليشيا «الجيش الحر»، لتوطين مسلحي غوطة دمشق الشرقية وعائلاتهم الذين تم ترحيلهم إلى إدلب، في منطقة عفرين التي احتلها النظام التركي.

وتحت ضغط الهزائم التي تلقتها ميليشيات الغوطة الشرقية على يد الجيش السوري، تم التوصل، الجمعة 23 آذار/ مارس 2018، إلى اتفاق يقضي بخروج مسلحي «فيلق الرحمن» الرافضين للتسوية من القطاع الأوسط للغوطة الشرقية (مدينتي عربين وزملكا وبلدة عين ترما) وحي جوبر الدمشقي.

وفيلق الرحمن، هو تحالف عسكري يتبع الجيش السوري الحر الموالي لتركيا، يتكون من عدة ألوية، وينضوي تحت رايته لواء البراء، لواء أبو موسى الأشعري، لواء شهداء الغوطة، تجمع جند العاصمة، كتائب أهل الشام، لواء هارون الرشيد، لواء القعقاع، لواء الحافظ الذهبي، لواء المهاجرين والأنصار، لواء عبد الله بن سلام، لواء أم القرى، لواء الصناديد، لواء أسود الله، لواء سيف الدين الدمشقي، الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، اللواء الأول في القابون وحي تشرين، كتيبة العاديات في الغوطة الغربية.

ووفق موقع “فيلق الرحمن” الإلكتروني، تأتي تمويل عملياته على دعم مجموعة أصدقاء سوريا المساندة للثورة، دون أن يذكر من هم أصدقاء الثورة السورية الذين يدعمون المليشيا المسلحة، ولكن بعد اتفاق الغوطة،  تشير التقارير إلى أن تركيا هي الدولة التي تقود وتنسق عمليات “فيلق الرحمن” في دمشق”.

ويوم 16 آب/ أغسطس 2017، وقعت في جنيف روسيا وفيلق الرحمن على اتفاق يقضي بانضمام الأخير إلى اتفاق إقامة مناطق خفض التصعيد بسوريا الذي تم التوصل إليه في مايو الماضي في أستانة عاصمة كازاخستان.

 

المشهد الأخير وفق تركيا

سعت تركيا إلى توطين عائلات ومقاتلي فيلق الرحمن في عفرين وحزام الحدود السورية التركية، من أجل كسر التركيبة الديمغرافية التاريخية لمناطق شمال سوريا، والتي يقطنها أغلبية كردية، لتغلب على الخصم التاريخي للأتراك وهم الكرد، عبر تغيير التركيبة الديمغرافية لمناطق الحزام الحدود لتركيا مع سوريا، أو ما يعرف بروج آفا، ويأتي توطين عائلات “فيلق الرحمن” وغيرها من الجماعات المسلحة لتضمن تركيا  السيطرة على مناطق الحزام الحدودي مع سوريا مستقبلاً.

ويتوافق المشروع الأردوغاني التركي الإيراني في سوريا، بأن التغيير الديمغرافي هو الحل الأفضل والأمثل في بقاء نفوذ البلدين داخل سوريا التي تعاني من ويلات الحرب وتدفع ثمن الصراع.

 

 

خاتمة

ربما أرادت القوى المتفقة على تهجير سكان عفرين في زرع الفتنة بين شعوب سوريا وخاصة العرب والكرد وإشعال فتنة الحرب بينهما في المستقبل، وهذا ما يريدونه بالضبط كي يسيطروا على كِلا الطرفين واخضاعهم لمصالح المركز. إلا أن هذه السياسة جربها الكثيرون غيرهم ولم تنجح حتى هذه اللحظة وخاصة في الجزيرة السورية. حيث ضخت تركيا والنظام السوري كل إمكاناتهما لإشعال فتيل الحرب الأهلية بين الكرد والعرب من جهة والكرد والسريان والآشور من جهة أخرى، إلا أن كافة محاولاتهما باءت بالفشل الكبير ولم يتوصلا للنتيجة التي أرادوها.

النظامين التركي والسوري يفكرون وفق منطق العقلية الدولتية والسلطوية الممتدة من آلاف السنين والتي تعتمد السياسة الإنكليزية أساساً لها وهي “فرق تسد”، ربما انطلت هذه السياسة على الجميع خلال القرن الماضي، ولكن الآن وفي القرن الحادي والعشرين تغيرت موازين القوى ولم يعد هناك صراع بين دول بقدر ما هو صراع بين الدول والشعوب التي تسعى لنيل حريتها.

الكرد الآن يحملون لواء العيش المشترك وأخوة الشعوب والتي أساسها فلسفة القائد عبد الله أوجلان في الأمة الديمقراطية البعيدة عن العقلية السلطوية والدولتية والتي تؤمن بأن منطقة الشرق الأوسط ليست مجموعة من الدول بقدر ما هي مجموعة من الثقافات المتعايشة مع بعضها البعض منذ آلاف السنين، وأنها ستستمر في ذلك وتحجم العقلية الدولتية والسلطوية التي تسعى وراء ربحها الأعظمي والتي أصبحت مسنناً صدئاً في ميكانيكا الرأسمالية.

سيفشل هذا الاعتداء كما فشل العدوان التركي في عفرين، لأن المقاومة مازالت مستمرة في عفرين والمجلس المدني المشكل من قبل تركيا سيلقى فشلاً ذريعاً لأنه لا يمثل أهالي عفرين واستمد شرعيته من حكومة أردوغان المحتلة بكل تأكيد وبالتزامن مع التغيير الديمغرافي.

 

معلومات لا بد منها:

قسّمت القوى الدولية المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى الشرق الأوسط وفقاً لمصالحها إلى كيانات هشة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديمغرافي، وعملت جاهدة ضمن إطار مسعاها للتحكم بهذه الدول على إيجاد تناقضات بين المكونات المجتمعية من خلال استقطاب طوائف محددة ومنحها امتيازات على حساب بقية المكونات، الأمر الذي أحدث تناقضاً في المصالح والتوجهات والتعريف الهوياتي ما بين هذه المكونات.

تمكنت القوى الوطنية في سوريا من نيل الاستقلال والتأسيس لدولة مركزية تعاقب على حكمها أنظمة مدنية وعسكرية كما شهدت حالة وحدة عابرة مع مصر، وصولاً إلى الانفصال وما تبعه من انقلاب البعث 1963، وعوضاً عن هوية جمعية عابرة للطوائف، عملت قيادات البعث وخاصة “اللجنة العسكرية” على استثارة الهوّيات الطائفية من جهة وتبني أطروحات ثقافية معادية للأكثرية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى صدامات دموية مع الأكثرية في عدة مناطق سوريَة في ستينيات القرن الماضي.

ومنذ أعوام الستينات وبعد الانفصال عمل النظام السوري على التغيير الديموغرافي بأساليب شتى وأشهرها ما يعرف بالحزام العربي في الشمال السوري والذي يبدأ من الحدود السورية العراقية ويمتد حتى عفرين ليشملها. وقدم هذه الدراسة محمد طلب هلال والتي كانت تحت اسم ” دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي  القومية، الاجتماعية، السياسية الملازم أول: محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية بالحسكة”. والتي كان من مفرزاتها توطين العرب الغمر في القرى الكردية بعد الاستيلاء على أراضيهم ومنها للعرب وذلك في عملية ممنهجة للتغيير الديموغرافي للمناطق الكردية والتي كان هدفها تغيير الكثافة السكانية للكرد كي لا يكونوا الأغلبية في مناطقهم ومحاربتهم عند أي تفكير في أي مشروع كردستاني.

هي نفس الأعوام التي قام بها أيضا النظام العراقي بعملية تغيير التركيبة السكانية لمدينة كركوك الكردية، والتي جلب فيها النظام العراقي العرب من الجنوب وإسكانهم في كركوك وتعريبها من أجل نفطها؛ والتي ما زالت حتى يومنا هذا نقطة اختلاف بين القوى العراقية سنية كانت أم شيعية مع الكرد حول هذه المدينة.

كاتب

التعليقات مغلقة.