مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

جرائم الحرب التركية في عفرين

مصطفى عبدي

مصطفى عبدي
مصطفى عبدي

تواصل الدولة التركية حربها على مدينة عفرين مستخدمة في ذلك سلاح الجو والمدفعية والدبابات وقرابة ثلاثة آلاف من جنودها وفرق المشاة، بالإضافة إلى عشر فصائل من ميليشيات المعارضة السورية، ويبلغ مجموع تعدادهم بحسب تصريحات من قادتهم 25 ألفا.

الحرب خلفت حتى يومها السادس عشر لا أقل من 155 قتيلاً من المدنيين وأكثر من 320 مصاب نتيجة عمليات القصف العشوائي المستمر على قرى المدنيين.

 

يبرر القادة الأتراك أن حربهم على عفرين هي “دفاع عن النفس” تجري وفق مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وقد قبلت دول كثيرة، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة، هذا التبرير، وأشارت إلى المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا، ولكن طالبتها بوقف التصعيد. موقفهم الضعيف والمتردد دفع تركية إلى زيادة العنف واستخدام سلاح الجو والمدفعية حيث فسرت ذلك الموقف بأنه دعم لحربها المفتوحة ضد الكرد.

 

هل تجري الحرب التركية وفق مواثيق الأمم المتحدة؟

 

نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة:

 

“ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص من الحق الطبيعي للدول -أعضاء “الأمم المتحدة-  فرادى أو جماعات، في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة عليها,  وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، ومن التدابير التي يتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس أن تبلغ المجلس فورا، وألا تؤثر هذه التدابير بأي حال على ما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة – من أحكام هذا الميثاق ومن الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يراه ضروريا من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدوليين أو إعادته إلى نصابه.”

 

يكرر القادة الأتراك أن حملتهم العسكرية ضد وحدات حماية الشعب في عفرين شمالي سوريا، مشروعة وفق هذه المادة. لكن تركيا لم تبلغ مجلس الأمن بشنها لأي عمل عسكري خارج حدودها، ويستهدف قوات عسكرية شريكة للتحالف الدولي في محاربة تنظيم داعش. لم تبلغها لا قبل ولا أثناء العمل العسكري. كما وإن وحدات حماية الشعب لم تقم بشن أي هجمات ضد تركيا، لا من عفرين، ولا من أي مدينة حدودية على طول الحدود السورية التركية، كما وأنها التزمت دائما ومنذ تأسيسها في العام 2012 حماية المدن الكردية، ونشرت عدة بيانات تدعو فيه تركية إلى الحوار، وأنها ملتزمة بالحفاظ على أمن الحدود المشتركة التي تتجاوز 350  كم.  كما وأن تركيا وبحسب نفس المادة 51 ، كان عليها أن تبلغ مجلس الأمن بالخروقات والتهديدات المزعومة، وهو ما لم يتحقق طيلة السنوات الخمس أو الست السابقة كون لا توجد أي خروقات.

 

بالمقابل فإن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوحت منذ بداية التعاون الأمريكي مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية أنها ضد هذا التحالف، وهددت مراراً بشن هجمات على مدينة تل أبيض، ومنبج وكوباني والحسكة، كما وأنها قصف عدة أهداف حدودية بالأسلحة الثقيلة.

أردوغان قبل أقل من أسبوع من حملته على عفرين هدد في إحدى مؤتمراته الحزبية بـ “سحق وحدات حماية الشعب إن لم تسلم عفرين”. وقال أيضا تعليقاً على تصريحات أمريكية عن إنشاء “قوة حدودية لحماية أمن المناطق المحررة في شمال سوريا”: “سندمر هذا الجيش الإرهابي في مهده”. كما وأنه اتهم الولايات المتحدة بأنها تحاول فتح ممر يتيح ربط المناطق الكردية بالبحر الأبيض المتوسط، وإن الأمريكان لديهم خطة لتقسيم سوريا وإقامة دولة كردية شمال سوريا.

الإعلام التركي الرسمي أشار مراراً أن الحرب التركية في عفرين – وصفوها بالمقدسة- هي استمرار لمعركة جرت في العام 1920 ضد الفرنسيين والبريطانيين، وهي لاستعادة هذه المدينة وضمها إلى تركيا كونها جزء من تركية حسب “الميثاق الوطني” (بالتركية العثمانية “ميثاق ملّي”)، ولا سيما وأن الفرق العثمانية ترافق الجيش التركي رافعين أعلامهم وشعاراتهم القومية.

 

كل تلك التصريحات وغيرها، تؤكد أن العمليات العسكرية التركية هي هجوم مسلح وعدوان ومحاولة لاحتلال مدينة آمنة، ظلت طيلة سنوات الحرب السورية ملاذا لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين. وأن التذرع بأن العدوان هو لحماية الأمن القومي، أو دفاع عن النفس هو غير صحيح بالمطلق، على العكس تماما فتركيا اليوم من تهدد لا بل وتقصف وتقتل الأطفال وتدمر القرى وتستخدم آلاف الجهاديين لغزو عفرين.

 

 

استهداف المدنيين، التغيير الديمغرافي:

 

أعداد الضحايا من المدنيين في ارتفاع نتيجة القصف العشوائي للمدينة والقرى، وهو القصف الذي تستهدف تركية منه إزاحة السكان نحو المناطق الداخلية في حلب أو حتى فتح ممرات لهم للتوجه إلى تركيا. وهي سياسة ظلت تركية تتبعها ضد المناطق الكردية في داخل أراضيها منذ 35 عاما، حيث قامت بتدمير آلاف القرى وتهجير مئات الآلاف من سكانها الكرد، من المناطق الحدود باتجاه المدن الكبيرة.

القادة الأتراك أعلنوا أن هدفهم الثاني من الحرب على عفرين هو إعادة 3.5 مليون لاجئ سوري من تركيا وإسكانهم في تلك المنطقة التي وصفوها بأنها ستكون “آمنة” بالمقابل الحكومة السورية المؤقتة التابعة إلى المعارضة السورية في عنتاب قالت إنهم قاموا بتجهيز آلاف المخيمات لاستقبال قرابة نصف مليون من سكان عفرين، هذا الأمر يوضح تماما أن تركيا تسعى بالفعل لإحداث تغيير ديمغرافي شمال سوريا لن يتوقف بالطبع عند عفرين وإنما سيمتد إلى طول حدودها حتى منبج وكوباني وتل أبيض ورأس العين حتى الحدود العراقية، في محاولة لإعادة إحياء مشروع الحزام العربي المشؤوم لكن بنكهة تركية هذه المرة، خاصة وإنها طبقت ذات السياسية في ما يسمى بمناطق درع الفرات، حيث تم تهجير آلاف الكرد من جرابلس والباب واعزاز تحت تهديد الاعتقال ومصادرة الممتلكات.

 

بطبيعة الحال فإن سير العملية العسكرية التركية لا يفي بأي من المعايير الدولية المتعلقة بالحرب، ويمكن اعتبار عملياتها العسكرية جريمة حرب ضد الإنسانية، ولعل “نظام روما الأساسي كان واضحا هنا في هذا التوصيف من حيث أن وجّه الهجمات عمداً ضد السكان المدنيين الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية، يعتبر جريمة حرب. وهو ما ثبت من خلال مواصلة الطائرات التركية قصف المناطق المدنية في عفرين، أفاد الهلال الأحمر الكردي أنه حتى 4 شباط، قتل 155مدنيا وأصيب 300 آخرون بجروح متفاوتة غالبها بتر في الأطراف. كما وأن المذيعة في قناة TRT التركية الرسمية توغبا دالكيليتش اعترفت أكثر من مرة ضمن فقرة إخبارية عن أن القوات التركية تشن هجمات على المدنيين من خلال القصف الذي يتسبب في قتل المدنيين في عفرين. وذلك نقلا عن مراسلهم بولندت جولجو أوغلوا.  ولعل قيام تركية بتجربة طائراتها من دون طيار في الاستخدام الحربي في عفرين يعطي دليلاً كافياً على مدى الاستهتار بحياة المدنيين، هذا كله عدا عن الحقد الواضح من خلال لجوء كبار قادة الجيش والحكومة وبينهم الرئيس أردوغان بكتابة أسمائهم أو رسائل التشفي على الصواريخ التي تقتل أطفال ونساء عفرين. هذا عدا عن عشرات الفيديوهات التي يتم نشرها من قبل الميليشيات المرافقة للجيش التركي وعناصر الجيش والتي تظهر تعذيب المدنيين، والتمثيل بالجثث وتقطيعهم وتصوير ذلك. ومشاهد ينشرها السكان المحليون عن تدمير منازلهم والقصف المستمر والعشوائي وكل ذلك يعتبر جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي.

 

 

الملكية الثقافية:

 

قد لا يشكل موت المدنيين وتدمير المدن أهمية بالنسبة للمجتمع الدولي، لكن ما حدث في عفرين تجاوز ذلك، حيث يتم استهداف المواقع التاريخية بشكل متعمد. حيث توجد أربع مواقع أثرية لاقت نصيبها من القصف التركي الجوي على عفرين وهي “تلة عندارا والمواقع الأثرية في نبي هوري المصنفين على قائمة “اليونسكو”، وقريتي كوبلة وعلبيسكة التي يتواجد فيهما العديد من الكنائس الأثرية. حيث تنص مبادئ القانون الدولي العرفي على أنه “يجب إيلاء عناية خاصة في العمليات العسكرية لتجنب الأضرار التي لحقت بالمعالم التاريخية ما لم تكن أهدافا عسكرية [و] ممتلكات ذات أهمية كبيرة للتراث الثقافي لكل يجب ألا يكون الناس هدفا للهجوم إلا إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك “. وقد دمر القصف التركي ما يقدر بنحو 65 في المائة من المعبد الحثي في ​​عين دارة، وهو موقع ثقافي عمره 3500 سنة، والعديد من الآثار التاريخية الأخرى. وهذا الهجوم على المواقع الأثرية وتدميرها لا يختلف بأي حال عن ما كانت تقوم به داعش من تدمير للآثار والمعابد الدينية.

 

 

استخدام الأسلحة المحظورة:

تشير تقارير عديدة إلى أن تركيا تستخدم أسلحة محظورة دولياً في قصف مدينة عفرين. وأكدت قيادات قوات سوريا الديمقراطية ومصادر محلية أن تركيا تستخدم النابالم ضد المدنيين، ويقول الأطباء في مستشفى أرفين في عفرين أنهم شاهدوا “حروقا غير طبيعية” على جثث المدنيين الذين قتلوا في راجو.

كما وإن مصادر محلية أخرى أشارت إلى وجود أعراض لاستخدام الغاز والذخائر العنقودية. وهو ما يتطلب تشكيل لجنة دولية لمتابعة هذه المزاعم خاصة وأن تركيا والميليشات التي تدعمها سبق وأن استخدمتها في استهداف حي الشيخ مقصود الكردي في حلب واعترفت بذلك أمام وسائل الإعلام على خلفية قيام إحدى مجموعاتهم بالخطأ بنشر فيديو توثق الاستهداف.

 

نفوق الثروة الحيوانية:

 

بلغ عدد رؤوس الماشية التي نُفقت جراء الهجمات التركية على مقاطعة عفرين  أكثر من 30 ألف، كما إنه ما يقارب ثمانية آلاف هكتار من مساحة الأراضي الزراعية باقية دون اعتناء وزراعة، أثر استهداف طائرات جيش الاحتلال التركي وإرهابيّه المدنيين وممتلكاتهم.

 

لم يسلم من قصف الاحتلال التركي على إقليم عفرين لا بشر ولا شجر ولا حجر، وكانت للثروة الحيوانية والزراعية نصيب من الضرر أيضا. كما إن الأهالي لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم الزراعية نظراً لقربها من الحدود التي يشهد اشتباكات حادة، ما يؤدي إلى عدم الاعتناء بالزرع.

 

الثروة الحيوانية، والزراعية:

 

القصف التركي الجوي لم يقتصر فقط على منازل المدنيين والمراكز الصحية والتعليمية والخدمية في عفرين، فقد تسبب في إلحاق أضرار كبيرة بالحيوانات الداجنة حيث تضررت نسبة كبيرة من الأغنام والماعز العائدة لأهالي تلك القرى.

إحصائية أولية من مديرية الزراعية أشارت إلى نفوق ما يزيد عن 200 بقرة، وحوالي 35 ألف رأس من الغنم والماعز في كل من منطقة راجو، شيه، بلبلة، شرا وشيراوا، وتدمير 5 مداجن ونفوق كامل الدواجن نتيجة القصف الجوي.

بالنسبة للزراعة تضررت نسبة هائلة من الخضروات والنباتات، حيث تضرر ما يقارب ثمانية آلاف هكتار من المساحات الزراعية الحدودية وحتى عمق 5 كم وخاصة في منطقة جندريسه، حيث تزرع فيها الخضروات المبكرة بشكلٍ كثيف، كم وتوقفت الزراعة في البيوت البلاستيكية حيث كانت عفرين سلة المناطق المحاصرة في حلب وإدلب وحمص وحماة طيلة السنوات الأربع الاخيرة، وكانت تحقق نوعاً من الاكتفاء الزراعي خلالها.

 

يجب على المجتمع الدولي التحرك:

جميع الدول الفاعلة في الشأن السوري لاسيما الولايات المتحدة وروسيا يجب أن تتخذ خطوات فورية لوقف الحرب التركية، ووقف تواطئهم في جرائم الحرب التي ترتكبها تركيا ضد المدنيين في عفرين، وآخرها كانت جريمة التمثيل بجثة المقاتلة الكردية آرين كوباني وغيرها من الجرائم الكثيرة.

مؤكد أنه لم يكن لتركيا أن تنفذ هجماتها لولا الضوء الأخضر الروسي وفتح المجال الجوي السوري أمام الطائرات التركية. هذه الطائرات تشتريها تركيا من الولايات المتحدة وهي الشريك المفترض لوحدات حماية الشعب في الحملة الدولية على داعش. يجب على صناع السياسة في الولايات المتحدة أن يوقفوا توريد السلاح إلى تركيا ويدققوا في مبيعات الأسلحة في المستقبل – وعلى جميع الحكومات الأخرى التي تستخدم معداتها العسكرية في العمليات التركية أن تفعل الشيء نفسه ولا سيما ألمانيا. يتعين على الدول التي تعمل بالفعل كشركاء لقوات سوريا الديمقراطية على الأرض في سوريا – وخاصة الولايات المتحدة وروسيا – أن تقدم على مساعدتهم في عفرين بدلاً من محاولة عكس مسارها والتعاون مع أردوغان. لا أقل من 15 % من قادة ومقاتلي قوات سوريا الديمقراطية هم من عفرين، وشاركوا بفعالية في حملة تحرير الرقة من تنظيم داعش، ولعبوا دوراً محوريا في سير المعارك ولا زالوا مشاركين في الحملة في ريف دير الزور.

على المدى الطويل، يجب على الدول والمنظمات الدولية أن تبدأ عملية المساءلة القانونية عن جرائم تركيا في عفرين. وإحالة ملفات انتهاكاتها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ليس من شك أن تركيا ارتكبت جرائم ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في عفرين. الصور ومقاطع الفيديو والشهادات من سكان المنطقة الذين يشهدون على الجرائم يوميا من خلال القصف العشوائي متاحة بحرية ويمكن البدء بجمع الأدلة لإحالة تركيا إلى الجنايات الدولية. وهنا يأتي دور شعوب تلك الدول بالضغط على حكوماتها للقيام بذلك.

الحرب التركية على عفرين هي مثال واضح على جرائم ضد الإنسانية، وفق منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية. وإذا كان العالم يؤمن بالفعل بقيم مؤسساته، فإنه سيسمي هذه الجرائم على ما هي عليه، ويعمل على وقفها، ويضمن المساءلة.

 

كاتب

التعليقات مغلقة.