مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

عفرين تدفعُ ثمنَ الاتفاقات الدولية

فادي عاكوم

فادي عاكوم
فادي عاكوم

بات من الواضح أنّ منطقةَ الشمال السوري بل سوريا بشكل عام مقبلة على وضع المراحل النهائية لسيناريو بدء إنهاء الملف من خلال اقتسام الكعكة وتهدئة الأمور بناءً على أسس وضعتها اتفاقات علنية وأخرى سرية، وبات أيضًا من الواضح أن النظام التركي لم يقطع علاقاته مع الجانب السوري، إن كان ذلك بشكل مباشر أو من خلال وساطة كل من روسيا وإيران، ويبدو واضحًا أيضًا أن تركيا القلقة دائمًا من القوى الكردية في الشمال السوري خصوصًا بعد تعاظم قوتها ودورها في محاربة الإرهاب وتحولها إلى رأس حربة معترف به دوليًا، التقت مع التوجهات السورية الحكومية في هذا الخصوص، فتم إطلاق عملية غصن الزيتون تحت حجة مواجهة “الإرهابيين” حسب ادعاءات أردوغان وتأمين حدود تركيا، وانكشفت الخطة بالتمام والكمال مع تسريب قبول ورغبة الجانب السوري الحكومي بدعم المناطق الكردية وإرسال “قوى شعبية” لدعم صمود الأهالي في عفرين، وهي عبارة سياسية لتخفيف حدة مقولة دخول الجيش السوري، وبالتالي أمنت تركيا حدودها من خلال اتفاقات جارية مع دمشق، وأعادت دمشق تواجدها وهيبتها على الحدود الدولية.

وقد سبق العملية الأردوغانية حملة تحريض طائفية وقومية بغيضة، وهذه الحملة اشتركت فيها الآلة الإعلامية التركية والقطرية ومعها للأسف مجموعة كبيرة من النشطاء السوريين التابعين لتركيا وقطر، فأفرزت شقًا بين العرب والكورد، وصورت الكرد بأنهم من الكفار الذين يريدون التخلص من الوجود العربي في شمال سوريا والتخلص من المسلمين تحديدًا، وذلك ضمن خطة ممنهجة يتبعها أردوغان لتصوير نفسه حامي المسلمين في تركيا وسوريا والعالم، وقد وقع في الفخ السوريون قبل الأتراك وظهرت النتيجة على الأرض بتجاوزات ما يسمى بالجيش الحر ضد المدنيين والعزل، أما الداخل التركي فهو مقبل دون أدنى شك على توتر كبير مع اقتراب موعد الانتخابات خلال العام المقبل، ومن الطبيعي أن يلجأ أردوغان لكل الأساليب المتاحة لتحويل الأنظار عن العزلة التي باتت تطوق تركيا رغم التحالفات الظاهرية مع بعض الدول، مع الإشارة إلى أن النفوذ الإيراني بدأ يظهر في السياسة التركية وهو أمر سيكون السيف المسلط على أردوغان خلال الفترة المقبلة، ولن يكون لمغامرته في سوريا أي تأثير عندها بسبب فقدانه لجميع أوراقه السياسية والتحريضية .

ويؤكد مراقبون في المنطقة أن التحرك العسكري التركي يتلاقى مع التحركات السورية المدعومة من روسيا وإيران، حيث دخلت الفرق العسكرية التركية إلى نقاط عديدة من ريفي محافظتي إدلب وحلب، تحت ستارة نقاط مراقبة لحماية مناطق خفض التصعيد، وجرى هذا الدخول بهدوء مريب بعيدًا عن البروباغندا الإعلامية وفي مناطق كانت في السابق عصية على الأتراك، وبات واضحًا أيضًا أن هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) طرف أساسي في هذه المعادلة الجديدة، حيث قامت الهيئة بتنظيف ريفي إدلب وحماة من التنظيمات المسلحة الخارجة عن الاتفاقات الجديدة، وانسحبت من الكثير من المناطق ليدخلها الجيش السوري والأتراك، فأمنت لنفسها وجودًا مرحليًا قد يستمر خلال المرحلة المقبلة إذا لم تظهر مفاجآت جديدة تطيح بأحلام الإرهابيين بالبقاء خلال المرحلة المقبلة السياسية في سوريا، خصوصًا وأن بعض التنظيمات لا تزال متواجدة في إدلب وحلب كحركة نور الدين الزنكي وحركة أحرار الشام.

 

وينبع الإصرار التركي بالتدخل في سوريا من إصرار تركيا على قطع الطريق أمام الدول العربية خصوصًا مصر والمملكة العربية السعودية وإمكانية وجود أي دور لهما في المستقبل السياسي، خصوصًا بعد نجاح الدبلوماسية المصرية بإرساء وقف النار بريف دمشق وضم العديد من القرى والبلدات إلى مناطق خفض التصعيد، وهنا أدخلت تركيا نفسها في مغامرة جديدة بالمواجهة مع مصر باعتراضها سفن لشركات دولية كانت تبحث عن الغاز في المياه رغم مخاطر هذه الخطوة واحتمال صدور رد فعل مصري قاسي جدًا، فالأسباب الكامنة وراء اعتراض البحرية التركية للسفن المتوجهة للتنقيب عن الغاز المصري كثيرة، ومتشعبة ومرتبطة بأكثر من ملف سياسي وعسكري واقتصادي، رغم كون اتساع رقعة التوتر ضعيفة جدًا، فهذا التحرك يأتي لصرف النظر عن المجازر التي تقوم بها الآلة العسكرية التركية في سوريا وتحديدًا في منطقة عفرين، بعد ثبوت توجيه الصواريخ والغارات باتجاه المدنيين العزل في المنطقة وغالبيتهم من المزارعين غير المسلحين، وذلك مع استمرار الحملة التركية التي بدأت منذ شهور، كما من شأن هذه العملية أن تبعد أنظار الأتراك إلى الخسائر الكبيرة التي يتكبدها الجيش التركي في السلاح والعتاد والجنود والضباط بسبب الضربات المتتالية التي يتعرض لها، بعد أن وقع في مصيدة المدافعين عن منطقة عفرين، حتى وصلت الأمور إلى اسقاط طائرتين مروحتين وطائرة مسلحة دون طيار، والعديد من الدبابات وناقلات الجند، وهذه الخسائر من شأنها أن تثير الشارع التركي إلى درجة كبيرة كون الخسائر كبيرة وتحصل خارج الأراضي التركية، وضعف الحجج التي أطلقها أردوغان بابعاد الإرهابيين وما شابه من حجج واهية.

كما أن التحرك البحري التركي له أبعاد اقتصادية استراتيجية، فمصر بدأت بالتحول التدريجي إلى دولة مصدرة لمادة الغاز، وهذا ما يدخلها في نادي الدول الكبيرة والمؤثرة على القرارات الاقتصادية والسياسية عالميًا، وهو ما لا تريده تركيا، كون خروج المارد المصري من القمقم من شأنه أن يعزل القزم التركي ويسحب منه ملفات عديدة تحاول تركيا بشتى الوسائل الحفاظ عليها، ومنها قرار الحرب والسلم في المنطقة والتوسع والانتشار في بعض الثغرات في سوريا والسودان وليبيا، وبعض الدول الشرق أوسطية والأفريقية الأخرى، وبالتالي فإن أي مشاكل تحدث للسفن التي تتولى التنقيب والبحث قد يدفع الشركات التابعة لها بالانسحاب من العملية مما يفقد مصر هذه الميزة، أي أن الأمر هو تهديد صريح للشركات البترولية العالمية، وهذا رهان خاطئ من قبل أردوغان، إذ أن الأمر يخضع لحسابات الربح والخسارة، وكثيرة هي الدول المعنية في الملف والتي ستجني هي أيضًا الكثير من الأرباح مقابل البحث والتنقيب وتقديم المساعدة اللوجستية للجانب المصري، وبالنتيجة فإن مقاومة هذا التدخل السافر التركي ستأتي ليس فقط من قبل مصر بل من قبل الدول التي تتبع لها الشركات النفطية العالمية.

 

كما أن من أسباب الجنون البحري التركي محاولة تشتيت جهود الجيش المصري عن المعركة الأساسية التي يخوضها في سيناء، فالجميع يعلم أن المجموعات الإرهابية في هذه المنطقة تتلقى الدعم المالي واللوجستي من قطر وتركيا وأطراف أخرى، والإجهاز عليها يفقد تركيا ورقة تتلاعب بها من وقت لآخر، ليس فقط في مصر بل في سوريا وبشكل أساسي بعد ثبوت حركة تنقل الإرهابيين بين سيناء وسوريا، وبالتالي فإن محاولة التشتيت هذه هي محاولة تركية للحفاظ على الورقة التي أصبحت خاسرة، خصوصًا وأن جهوزية الجيش المصري بكامل أسلحته (البرية والبحرية والجوية) تسمح وتتيح له خوض أكثر من جبهة وهذا ما يحصل فعليًا على الأرض.

 

كاتب

التعليقات مغلقة.