مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

فخّ نظرية الدولة القومية، وحلّ الأمة الديمقراطية

لزكين إبراهيم

لزكين ابراهيم
لزكين ابراهيم

بات مفهومُ الدولة القومية الحديثة مثارَ الجدل في النظرية السياسة وعلوم السياسة، حتى هنا في الشرق بعيداً عن أوروبا التاريخية. وفي هذا الموضوع دائماً ما تثار العديد من الأسئلة من قبيل ما هي الدولة؟ وكيف نشأت؟ وما الضرورة إليها؟ وهل الدولة الحديثة التي نحيا في رحابها الآن كانت التطور “الطبيعي” لشكل نظام الحكم المتعارف عليه، وماذا قدمت الدولة القومية لأوربا لتقدمها لشعوب الشرق؟ وإلى أين أوصلت المنطقة، وما البديل عن هذه النظرية التي لم تخلق سوى الحروب والتناحر والتنافر؟.

قبل الخوض في الإجابة على تلك الأسئلة، علينا أولاً أن نعرف من أين وكيف نشأت نظرية الدولة القومية والأسباب التي دعت لولادتها.

كيف ومتى ظهرت نظرية الدولة القومية في الغرب؟

يعود ظهورُ الدولة القومية بملامحها الأولى تاريخياً إلى أوروبا، بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث بدأ الأمر بثورة شعبية ضد الحكم الطائفي التقليدي في دولة صغيرة، وسرعان ما انقسمت دول المنطقة بحسب المذهب أحيانا، وبحسب المصالح وإرادات الهيمنة غالبا، إلى معسكرين: أحدهما يدعم ثوّار المذهب الجديد، والآخر يدعم الأنظمة التقليدية. إنها حرب الثلاثين عاماً التي اعتركت أوروبا المتنازعة على ميراث الإمبراطورية الرومانية المقدسة (معظم أراضي ألمانيا حاليا) بين البروتستانت والكاثوليك، أو بين فرنسا وآل هابسبورغ (حكام بروسيا).

لم تنته الحربُ ذات القناعِ الديني، والسياسيُ الباطنِ، إلا في مقاطعة ويستفاليا عام 1648 عندما اجتمع المتنازعون ورسموا، خريطة جديدة لأوروبا، لا تعرف التقسيمات الدينية، بقدر ما تقر المصالح القومية للدول. من هنا تحوّلت الممالك المقدسة الحاكمة باسم الله وبالتحالف مع الكنيسة إلى دول حديثة قومية، تحارب باسم الوطن وفي سبيل سيادته.

وهكذا بدأ هذا الشكل السياسي المُجدد الذي نطلق عليه الدولة الحديثة أو الدولة القومية في الظهور والتبلور خلال القرون الأربعة الماضية على الساحة الأوروبية, والتي كانت تعني أن يتخذ كل مجموعة من الأعراق وأصحاب اللغات المتشابهة أرضاً ويعينوا لها حدوداً وتصبح بذلك دولتهم التي لا يُغير عليها أحد ولا يشاركهم فيها أحد. والتي اعتمدت في تنظيمها على نظام ملكي مطلق, وجيش وطني عام, ونظام ضريبي موحد، ومن خلال ما عرف بنظرية العقد الاجتماعي نسفت الحق الطبيعي للمجتمع والشعوب، وأصبح كل شيئ مفصل على يد الدولة ويلبسونها على شكل قوانين تخدم بالدرجة الأولى هيمنة السلطة على المجتمع الذي جرد من إرادته وأصبع عبداً حديثاً ينصاع لكل ماتمليه عليه الدولة.

وعليه تحوّل الولاءُ من الدين إلى القومية، والتي تعني في مفهومها الوعي الجماعي بالانتماء إلى هوية معينة ولغة مخصوصة وثقافة محددة. وهذا يأخذنا إلى إلقاء الضوء على مسألة في غاية الأهمية في إطار معالجة مفهوم الدولة القومية، وهي مسألة الولاء التي هي نتاج للانتماء، والذي ينبني عليه الاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل ما يدين الإنسان بالولاء له، لذلك عندما يصبح الإنسان منتمياً إلى جماعة ما فهو يكون على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل تلك الجماعة. وينتج عن ذلك ما يمكن أن يطلق عليه اسم “النزعة القومية، وهي أيديلوجيات ثقافية وسياسية للحداثة، وأداة حاسمة لتحقيق الدولة أو السلطة الحاكمة فيها أهدافها وغاياتها عن طريق اللعب على وتر مشاعر الأفراد “القومية” المستعدين للتضحية من أجل الحفاظ على الدولة.

وبذلك تكون الدولة القومية الحديثة أخرجت الشعوب من ظلم وديكتاتورية حكم الكنيسة والملوك، ووضعتهم هذه المرة تحت رحمة الحكام الجدد أصحاب السلطة في الدولة، أي أنها أحدثت تغييراً شكلياً في المجتمع وبدّلت الولاءَ فقط، فبينما كان ولاؤهم للدين أصبح الآن للقومية وبدل طاعة الكنيسة تحولوا إلى طاعة حكام الدولة، تغيرت شكل السطة والدكتاتور، وبقي الشعب عبداً وتابعاً وأداة يتم التحكم فيه عبر أجهزة الدولة ولكن بشكل حضاري قليلاً.

وعليه نستطيع القول بكل ثقة بأن القومية أصبحت الدين الجديد، ومن خلالها تم تقديس الدولة ورفع ” الدولة القومية ” فوق كل القيم.

تأثيرات الدولة القومية على الغرب والحروب الدموية

كان خيرُ منفّذ للوصية القومية للثورة الفرنسية نابليون؛ الذي غزت جيوشه الشعبية القارةَ الأوروبية من أقصاها إلي أقصاها من أجل أن تنشر فيها أفكار الثورة، وفي مقدمتها فكرة الأمة المتجانسة.

ولم يفلح نابليون في محصلة الحساب إلا في أن يستثيرَ في كل مكان من أوروبا شعوراً قومياً مضاداً ومعادياً لفرنسا نفسها. وفي الواقع أنه منذ عهد الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، حدث تداخل خطير بالنتائج بين مفهومي الوطنية والقومية. فالوطنية تكاد تعادل شعوراً طبيعياً لدى الإنسان بحبه للأرض ولذويه. ولكنّ القوميةَ بالمقابل شعورٌ اصطناعي يقوم أساساً على كراهية الآخرين، وكراهية الآخرين ترجمتها الحربُ.

الدولة القومية بتعبير آخر، ما قامت قائمتها ولا تحددت حدودها، في معظم الحالات، إلا بالحرب. فانكلترا هي بنت الحرب الطويلة الأمد والمتعددة الفصول ضد الاسكتلنديين والولزيين. وفرنسا الحالية هي وريثة حروب الثورة. والولايات المتحدة تولدت من الحرب ضد الانكليز أولاً، والإسبان ثانياً، والهنود الأميركيين ثالثاً. وألمانيا الحالية رسمتها خريطة الحروب البسماركية.

ولأن هذه الخريطة لم تشمل جميع الشعوب ذات الأصل الجرماني في هولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا وفرنسا (الالزاس – اللورين) وبولونيا وأوكرانيا، فكان نتاجها قيام ألمانيا النازية، التي مثلت النموذج الأكثر تطرفاً للدولة القومية، وأولعت بها شرارة الحرب العالمية الثانية التي مثلت أكبر مقبرة جماعية للشعوب في تاريخ البشرية بنحو خمسين مليون قتيل.

تصدير تجربة الدولة القومية إلى الشرق

وحيث امتدت عدوى فكرة الأمة خارج أوروبا كان مخاض ربيبتها، الدولة القومية، وبروزها في الشرق، وهنا يمكننا أن نرى ثلاثة نماذج تاريخية للدولة القومية خارج أوروبا وهي: النموذج التركي والنموذج الباكستاني والنموذج الإسرائيلي.

فتركيا القومية الكمالية ما قامت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات فحسب، بل كذلك على فكرة (النقاء القومي)، مما استدعي تصفية عدة قوميات كبيرة تعيش ضمن حدود الدولة التركية، إما عن طريق الإبادة الجماعية، وإما عن طريق التهجير السكاني القسري أو الصهر. وعلى هذا النحو تم تحقيق المجتمع التركي النقي بالتخلص من مليون نسمة من الأرمن وثلاثة ملايين من اليونانيين الذين كانت تركيا موطنهم التقليدي منذ آلاف السنين، بالإضافة إلى اتّباع كافة طرق التصفية السابقة بحق الشعب الكردي الذي يُعتبرُ من أصعب القومات التي يمكن إبادتها، فاتبعت تركيا ضدها أساليبَ المجازر والإبادة الجسدية، بالإضافة إلى التهجير والصهر.

وقد كان المثال القومي الباكستاني أكثر شناعة بعد. فهو لم يؤدي إلى تقسيم الهند فحسب، مع أنها كانت موجودة ككيان حضاري منذ أزمنة لا تعيها الذاكرة، بل إن تداخل العامل القومي والعامل الديني أديا أيضاً إلي مذابح جماعية وعمليات تهجير سكاني مكثفة تمخضت عن أربعة ملايين قتيل وخمسة ملايين مهجر، وهذا كله مع بقاء صفحة الحرب مفتوحة بين الشقيقين العدوين من خلال صراع الحدود على إقليم كشمير.

لكن النموذج الإسرائيلي للدولة القومية يبقي هو الأكثر تطرفاً من نوعه. فحتى مطلع القرن العشرين لم يكن لهذه الدولة القومية من وجود إلا في أذهان بعض المثقفين من اليهود الأوروبيين الذين اعتنقوا الإيديولوجيا الصهيونية، التي هي بدورها نموذج تام لإيديولوجيا تخلط ما هو قومي بما هو ديني وتؤسس الدين نفسه في قومية. وقد اقتضي تحقيق هذه الدولة القومية تشريد مليون فلسطيني ومصادرة أراضيهم ومساكنهم وممتلكاتهم، ثم خوض ثلاث حروب متتالية ضد الدول العربية كسبتها كلها إسرائيل، وأدت في كل مرة إلي توسيع حدودها. واليوم تتواصل الحرب ضد السكان الفلسطينيين، وهناك في أوساط المتطرفين من القوميين والمتدينين اليهود، من يرفع شعار رمي العرب في البحر مثلما كان العرب أنفسهم قد رفعوا، لسنين طويلة، شعار رمي اليهود في البحر.

وعليه يمكننا تعريف الدولة القومية بهذا الشكل “إنه لا يشبه حكمها أية أحكام أخرى، لأنها من أكثر الأشكال السلطوية تطوراً وذات بعد أكبر مما تحمله من معانٍ في راهننا. تشكلت الدولة القوموية على أساس الفاشية وتحكمت الرأسمالية الاحتكارية في الاقتصاد من خلال سلطة الدولة، وبذلك تمكنت من التنظيم والتوسع على كافة الأصعدة الاجتماعية”.

أما الفاشية فهي مستوى التنافس الذي تصل إليه الدولة القوموية في حربها ضد المجتمعات المستعمرة والقوى المضطهدة في الداخل والخارج، والفرق بين الفاشية والقوموية يشبه المرحلة الواقعة بين الحرب والسلام. ففي كلتا الحالتين يتم تصفية التيارات السياسية الأخرى. يتم بناء سلطة مركزية أحادية مثل مجتمع مركزي أحادي. يمثل المجتمع المركزي الأحادي السلطة المركزية الأحادية. كذلك تعبر الدولة الفاشية عن وحدة عظمى بين المجتمع المركزي الأحادي والدولة القائمة على الشعار الأساسي “وحدة اللغة، والوطن، والثقافة، والعلم والقومية. كما هو واضح من بنية هذا النظام بأنه لا يتقدم بالحل للمجتمع الطبيعي التعددي الاختلافي، بل على الأغلب يتسبب في ولادة مشاكل وأزمات عقيمة. تسمى هذه المرحلة بمرحلة السرطان الاجتماعي، فإما ستبلع المجتمع بأكلمه أو تبتر وترمى كسرطان اجتماعي.

تآكل تجربة الدولة القومية في الغرب والبحث عن بديل

اندفع النظامُ الدولتي ولأول مرة في التاريخ نحو الشرق الأوسط، وذلك لضرورة الحصول على الربح والحفاظ على أمنه. بكل تأكيد حتى تتحول كل قوة تحكمية سلطوية إلى قوة حاكمة وجدت من الضرورة بسط نفوذها على المنطقة، معتقدين من دونه بنقص كبير، حيث كان كذلك منذ عهد الأكاد، بابل ، آشور ، برس، اسكندر المكدوني ، الإمبراطورية الرومانية، الإمبراطورية العثمانية، الامبراطورية البريطانية وإلى الولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الراهن أيضا. فرضت كل قوى نظامها السياسي أثناء تدخلها في الشرق الأوسط بكل تاكيد.

فتدخلت الدولة القومية بعد تحفظها بالقوموية والليبرالية كأهم وسائلها الايديولوجية بقيادة انكلترا في الشرق الأوسط، بداية على شكل قوموية عام 1800، ومن ثم نظمت على شكل دويلات بعد الحرب العالمية الأولى، وبذلك تحولت إلى بلاء على كاهل شعوبه، حينذاك لم تكن ذات فعالية كبيرة، ولكن برزت فجأة كالفطر بين أعوام 1920 إلى 1950.

اتبعت انكلترا استراتيجية ” فرّق تسد” في الشرق الأوسط، وذلك حفاظاً على أمن مصالحها والحصول على الربح الأعظم فيه. ثم أسست نظاماً وفق مصالحها واختارت عدم الاستقرار كإحدى أهم الوسائل لبسط نفوذها بسهولة على المنطقة وإخضاعها للغرب. كان من أهم نتاج هذه السياسة تقسيم الوطن العربي إلى 22 دولة، وتجزئة الكرد إلى أربعة أجزاء، والتهاب شعلة نيران الصراع العربي – الإسرائيلي.

نريد هنا أن نسأل: حسب أية معاهدات تم تأسيس ورسم حدود الدولة القومية؟ هل كان على أساس اللغة المشتركة أم التاريخ المشترك أم جزء من الأرض التي تعيش عليها قومية واحدة؟ فإن تم أخذ القومية الواحدة أساسا في رسم خارطتها، فمن أين ظهرت 22 دولة عربية؟ قد يكون هناك احتمال صعوبة إدارة جغرافيا واسعة بهذا الحجم، ولكن تقسيمها إلى 22 دولة له مغزى آخر بكل تأكيد. كذلك، لماذا انقسمت الأراضي الكردستانية إلى أربعة أجزاء؟ إن هذه القضية في غاية الجدية أيضاً. عندما نذكر ذلك لا نقصد بأنه يجب أن يكون للكرد دولة قومية، لكن لا يقبل أحد الوضع الراهن لهذه القضية على الإطلاق، كونها بحاجة إلى الحل كضرورة حياتية في راهننا.

بقيت الدولة القومية في الشرق الأوسط ذات طابع تحكمي قمعي، لأنها لم تعتمد ومنذ تاسيسها على الاتفاق مع القوى السياسية المختلفة داخلياً وخارجياً، لكن في الغرب استندت على الاتفاق مع القوى السياسية الكبرى، لذا حملت طابعاً مختلفاً واستمرت بحكمها تحت ظل الليبرالية في الحاضر. تأسست انكلترا على هذه الشاكلة، وكذلك ألمانيا لم تكن بعيدة عن هذا الطابع بل كانت ضمن هذا الإطار تماماً،  ولكن الدول القومية في الشرق الأوسط كانت مغايرة، حيث حملت طابعاً تحكمياً قمعياً ضد شعوبها داخلياً، وخاضعة لانكلترا خارجياً، لذا لم تحرز على شكل خاص بها. كذلك لم تتلقَ الاستقرار يوماً بسبب انهيار السلطة وتغير الحدود. فُرض عدم الاستقرار كسياسة على الشرق الأوسط.

مفكرو الشرق لازالو متمسكين بنموذج الدولة القومية رغم كل مآسيها!

ورغم إن تطور مفهوم القومية بشكل متداخل مع مفهوم دولة الأمة في الشرق الأوسط قد جعلت من الشعوب التي تعيش مع بعضها بسلام ووئام منذ مئات وآلاف السنين في حالة من العداء، فمع دخول القومية إلى جغرافية الشرق الأوسط قد خلقت وضع العداء والقتال بين شعوب المنطقة .فالقوى الخارجية التي اتخذت الإعتماد على القوى القومية في المنطقة أساسا لها كالقومية التركية ـ العربية والفارسية واعتبرتها قوميات من الدرجة الأولى أما القومية الكردية اعتبرت من الدرجة الثانية بعد هذه القوميات، وعدم أخذ تاريخ الشرق الأوسط وقوى الشعوب في محمل الجد فترسيخ هذا التقليد أصبح علة فرضت على المجتمعات، فوراء تطور كل قومية هناك دولة غربية مخفية.

بما أن جغرافية الشرق الأوسط تمثل موازيكاً غنياً من الشعوب والأقليات لذا فالقوموية ألحقت الضرر بهذه الجغرافيا أكثر من غيرها بكثير.

ومن مفارقات هذا الزمن أن مفكري ومدّعي الوطنية اليوم تخطوا كل هذه القواعد وكل تاريخهم السابق ليحدثوننا يومياً عن الوطن والوطنية على أساس القطر ( البلد السياسي بالحدود المرسومة من الاستعمار كما كانوا يقولون) فأصبح اليوم الوطن هو سوريا والوطن هو مصر والوطن هو تركيا والعراق والسعودية… الخ، فهؤلاء المفكرين يقتاتون على مفرزات السلطة المتحكمة بالدولة، وبقاء الدولة يعني بقاءهم، ويُظهرون أنفسهم كمحاميين مدافعين عن الدولة وجغرافيتها المرسومة حديثاً، ويحاولون التصوير للشعوب على أنه بدون الدولة والسلطة لاوجود لهم أيضاً وسيتعرضون للإبادة والمجاعة، علماً أن العكسَ صحيح.

فمن مفارقات الساسة يديرون الدفة كما يشاؤون وتبقى الشعوب هي الضحية، فيتبعون سياسة إزدواجية المعايير، فتراهم مرة يذمون تلك الحدود المصطنعة حول دولتهم عندما يكون الحديث عن الاستعمار والتدخلات الأجنبية، ويتمسكون بها ويعتبرونها مقدسة عندما تطالب قومية أخرى داخل هذه الجغرافية بالاستقلال وإدارة أنفسهم، ويقولون لن نسمح بمساس وحدة أراضي الدولة!!.

الوطنية والقومية والشيوعية والعلمانية والليبرالية كلها انتماءاتٌ وضعيّة، أو بتعبير آخر نظريات انتماء وجدت لتكون بديلاً عن الانتماءات العقائدية التي سادت من قبل، وحاولت خلال القرن المنصرم تقديم نفسها كأنموذجات وبديل عن تلك الانتماءات العقائدية، و سوقت لنفسها عبر الأدب والشعر والموسيقا؛ مستغلة فترة العصور الوسطى السوداوية التي ساهمت فيها الكنيسة بتشويه الانتماء إلى الدين، فنجحت تلك النظريات بالتسويق لنفسها كبديل عن الانتماء للدين وحظيت بالإقبال واستغلها الساسة لتشكيل كيانات سياسية سلطوية تحت مسمى أوطان.

خلاصة القول إن الأمة، قد أدت وظيفتها، وهي لم تكن على الدوام وظيفة مشرفة. وقد آن الأوان لتغادر مسرح التاريخ. فمع بداية عصر العولمة لم يعد ثمة وجود لا لاقتصاد قومي محض، ولا لثقافة قومية محضة، ولا لقانون قومي محض، ولا لإعلام قومي محض – علماً بأن الإعلام من فضائيات تلفزيونية وشبكات إنترنت واتصالات هاتفية عبر الأقمار الاصطناعية، هو عصب عصر العولمة. وحدها ما زالت تحتفظ بطابعها القومي السلطة السياسية الفاعلة في إطار الدولة القومية. وهذه آن الأوان لتجاوزها.

فماهو البديل عن الدولة القومية لخلاص الشرق الأوسط؟

لم تصبح الدولة القومية -التي أشرنا إلى تاريخها بشكل موجز- حلاً حقيقياً لقضايا شعوب الشرق الأوسط، بالعكس رأينا بأنها ضاعفت من حجم مشاكله وأصبحت سبباً أساسياً في تعقيد قضاياه. إن الإصرار أكثر من ذلك يعني التبعية للخارج، لذا من الضرورة القصوى البحث عن البديل لهذا الورم السرطاني. إن تطوير الكونفدرالية الديمقراطية المستندة على أخوة الشعوب توجيهٌ هام لخلاص شعوب الشرق الأوسط. لا حاجة للشعوب إلى غرس العداوة فيما بينهم باسم القوموية، لأنهم المتضررون الوحيدون منها. فعلى سبيل المثال، قتل أكثر من مليون شخص في الحرب العراقية – الإيرانية. من كان المنتصر فيها؟ هل عادت بالفائدة على الشعبين في العراق وإيران، بالعكس لم يتعرضا سوى للإبادة والمذابح الجماعية والأسى، أما الرابحون فكانوا تجار الأسلحة والقوى الدولتية الغربية.

وفي يومنا الراهن تحاول بعض الأطراف الغربية اللعب على الوتر القوموي الكردي وحقنهم بمشاعر الانفصال والحنين لتشكيل الدولة القومية المستقلة. وإن هذه المحاولات ما زالت مستمرة في دغدغة العاطفة البسيطة للشعب الكردي، وبعدها تقوم نفس هذه الأطراف بتأليب الشعوب على بعضها وافتعال الاقتتال الداخلي فيما بين الشعوب تحت اسم الحفاظ على السيادة الوطنية. هي نفس اللعبة التي قامت بها الدول الغربية والرأسمالية التي لعبتها على الشعب السوداني، وفي النتيجة تم تقسيم السودان إلى شمالي وجنوبي والآن تعمل نفس هذه القوى على تقسيم الجنوب ثانية وإخراج دارفور وتقسيم المقسم وإعادة دوران رحى الحرب والدمار في بلد هو بالأساس مدمر يبحث عن لقمة العيش وكسرة الخبز في أروقة المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة، وهنا تكون الطامة الكبرى واللعبة القذرة التي رسمت ونفذت بأيدي الشعب نفسه والتي ستكون البلاء عليه قبل غيره.

هي نفس اللعبة يريدون لعبها على الكرد في اللعب بعواطفهم القوموية وجعلهم يحلمون بوطنهم القوموي المقدس، وزجّ الكرد في آتون حرب شرسة لا تعرف الرحمة، وبعد ذلك يقسمون المقسم ويشتتون ما هو مشتت بالأصل.

كثيراً مانسمع الإنسان الكردي البسيط يقول” لوكان لدينا دولة لما كنا في هذه الحالة المأساوية” ولكننا بنفس الوقت نسمع الإنسان العربي يقول” لدينا 23 دولة ولكن مع الأسف وضعنا مأساوي ولا نملك حتى حرية الكلام ضمن بيتنا”، نستنتج من هذا كله  بأن الشعوب العربية والكردية والفارسية والتركية والآشورية والسريانية …إلخ تنقصهم الديمقراطية وليس الدولة.

من المفيد الإشارة بمجيء زمن الكفاح والمبادرة حتى لا يتكرر هذا المشهد مرة أخرى. في الحقيقة حان وقت اجتماع العرب والكرد والترك والفرس على إعادة بناء نظامهم على أسس المساواة والأخوة، حتى لا تتكرر هذه المشاهد على مسرح التاريخ. هناك حاجة ماسة للثقافة الديمقراطية والنفاذ من القوموية المستوردة من الغرب ومنطق الدولة القوموية. بات ظاهر للعيان بأن شعوبَ الشرق الأوسط لم تعد تقبل بذهنية الدولة القوموية التهكمية داخلياً وخارجيا. انطلاقا من ذلك فإن استخدمت المنابع والمصادر الموجودة في الشرق الأوسط لمنفعة ومصالح الشعب ستكفي لتلبية كافة مستلزماته وحتى أكثر من ذلك.

نؤكد مرة أخرى على ضرورة بناء نظام كونفدرالي قائم على مصلحة الشعوب في إحياء الثقافة الديمقراطية النيولوتية خارج النظام الدولتي المتطفل على كاهل شعوب الشرق الأوسط، حتى يستطيعَ الشعبُ التعبيرَ عن نفسه بإرادة وهوية حرّة.

 

 

كاتب

التعليقات مغلقة.