مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

افتتاحية العدد 28: الثقافة في حلبة الابادة

هيئة التحرير
سعت الشعوب للحفاظ على وجودها عبر احياء هويتها الثقافية التي تعتبر ثمرة جميع قيمها الاجتماعية المنشأة على مر التاريخ، بالرغم من تعرض هذه القيم للكثير من هجمات الحداثة الرأسمالية التي بلغت ذروتها في عصرنا. وما التمردات الشعبية ورد فعلها في العقود الاخيرة ولا سيما في منطقة الشرق الاوسط إلا تعبير عن استيائها تجاه ما يمارسه هذا النظام ضد القيم المادية والمعنوية للمجتمعات تحت ستار الحداثة. تفقد الحقيقة معناها على ارض ترتكب فيها ابشع انواع الابادات باستمرار ولاسيما الابادة الثقافية التي يتعرض لها مجتمعنا الاوسطي تحت القصف الحداثوي الرأسمالي في القرنين الاخيرين. لم ينجو اي شعب، اقلية، مجموعة عقائدية ودينية من هذه السياسة الممنهجة التي تتخذ من القضاء على الغنى الثقافي لمنطقتنا نهجاً لتوطيد نظامها القائم على التنميط. لم يستطع النظام الرأسمالي الفوز بالقضاء على الثقافات الحية التي تسير في عروق الشعوب بالإنكار والتصفية والتهميش، كون الثقافة تعتبر انعكاساً لجوهر وحقيقة مجتمع يمد بجذوره الى عمق التاريخ. واستهداف الثقافة بالابادات لم يكن ناجماً من فراغ، بل له اسبابه العديدة، حيث يأتي الترويج للثقافة المزيفة والاستغراب على رأس هذه الاسباب حتى يبقى المجتمع في حالة من الاغتراب عن كيانه كوجود اجتماعي وانساني قدم الكثير للخلاص من هذا المستنقع الذي يوشك على غرقه بالفردانية والتسلط والاغتراب.نال الشعب الكردي اكبر الحصص من الابادة الثقافية في الشرق الاوسط، وذلك لتعرض جميع مقوماته كشعب الى الانكار والامحاء وبقي محروما من ممارسة جميع نشاطاته كوجود اجتماعي، رغم الغنى الثقافي الذي يتحلى به كشعب وأمة، الى درجة اصبح الكردي يخجل من كردياديته وكل ما يمد الى اصله وتاريخه وكأنه قدره المحتوم. وكذلك تعرضت اقوام واقليات اخرى الى مثل هذه الابادة ومازالت تتنفس الصعداء في سبيل احياء تراثها بطابعها وخاصة بعد الحراك الشعبي في الشرق الاوسط والذي وصفه قائد الشعب الكردي عبدالله اوجلان بالحرب العالمية الثالثة. ربما حالت الشعوب الى نقطة الصفر بسبب ما فرض عليه النظام الدولتي من ثقافة، وفقد تحت ظله طابع المجتمع الطبيعي المتآلف والداعي دوما الى التعايش بسلم وحرية. لذا لم يكن محض صدفة قيام الشعب الكردي في روجافا بالدفاع عن قيمه الثقافية عبر ثورة ديمقراطية، لذا فان كفاحه ضد قوى الارهاب التي تعتبر من القوى المبيدة لثقافة الشعوب في مساحة تميزت بأغنى الثقافات تاريخياً يعتبر ثورة لاحياء ثقافة الشعوب وليس الشعب الكردي فحسب. ان بناء الشعب الكردي ادارة ذاتية ديمقراطية كان اول تجربة استطاعت جميع المكونات تنظيم نفسها بحرية بعيدا عن الذهنية الدولتية التي انتهكت بثقافته قسرا على مر سنين طوال. تعتبر ثورة روجافا ثورة ضد الابادة الثقافية وذلك لاتخاذها النهج الديمقراطي اساسا في جميع الميادين الحياتية. حتى وإن غير النظام الرأسمالي اوجه ممارساته التي لا تعبر سوى عن افراغ الجوهر بالتغريب والتهميش، إلا ان النتائج الميدانية لهذه الممارسات ظهرت بكل شفافية، والشعب الكردي شاهد على هذه الحقيقة عن قرب وذلك من خلال ما تمارسه قوى الارهاب المتمثل بـ «داعش»، هذه الممارسات التي لم يشهده عصر الجاهلية، اي تفوق جاهلية الرأسمالية بمشهدها الفظيع كافة انواع الرجعيات في عصر تسميه بالحداثة.

كاتب

التعليقات مغلقة.