مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الخيارات المطروحة بين العيش المشترك والتقسيم

نور الدين عمر

نور الدين عمر
نور الدين عمر

رغم أنّ الفيدرالية المشتقّة من اللاتينية هي ككلمة وكمعنى تعني “الاتحاد”، إلّا أنّ أنّها تحوّلت في أدبيات وإعلام الأنظمة الشمولية والدكتاتورية إلى كلمة مرادفة للانفصال والتقسيم، وتفكيك البلدان. فمن أجل الاحتفاظ بسلطتهم وجبروتهم وطغيانهم على رقاب الشعوب تعمّدت ماكينتهم الإعلامية والسلطوية وخاصة في الدول وبلدان الشرق الأوسط على تشويه حقيقة الفيدرالية، وتمّ وصفها وكأنّها مشروع أو جزء من مؤامرة استعمارية وصهيونية وإمبريالية لتقسيم الوطن.
في البلدان الأربعة التي احتلت واغتصبت كوردستان (تركيا وإيران والعراق وسوريا) منذ بدايات القرن العشرين، بفعل الاتّفاقيات الدولية والتقسيمات التي حصلت بعد الحرب العالمية الأولى وبالضد من رغبة وإرادة الشعب الكردي، ينظر إلى مطالب الكورد المشروعة ليس فقط مطلب الفيدرالية، بل أيّ مطلب سياسي بما فيها مطلب الحكم الذاتي أو حتى مجرّد المطالبة بالحقوق الثقافية، على أنّه مشروع للانفصال .
فتهمة الانفصال ملازمة للكورد في الإعلام والأدبيات التابعة لسلطة الشمولية، حيث انتقلت عدوى السلطة إلى أدبيات وإعلام المعارضة أيضاً، وبأغلب تياراتها القومية والدينية والليبرالية. فبدون أيّ دليل أو إثبات يتم اتهام الكورد بالسعي إلى تقسيم وتفكيك البلدان. إنّها تهمة في صالح السلطة الشمولية، والهدف الأساسي منها استمرار التحكم بخلق تناقضات وصراعات عرقية ما بين المكوّنات، واتّهام مكون بالسعي لتقسيم البلد وشيطنته وخلق حالة بين الجماهير، و كأنّ الخطر الحقيقي ليس من الطغيان والجبروت والدكتاتورية، بل الخطر الحقيقي هو من مكون يسعى إلى التقسيم، ولأنّ المعارضة لم تستطع التحرّر من ذهنية السلطة فهي الأخرى روّجت لهذه التُّهمة، بل أحيانا تجاوزت السلطة في اتهاماتها العنصرية التي لا تستند إلى أي دليل. ومن المفارقات العجيبة في الحالة السورية مثلاً؛ أنّ النّظام المعروف بدكتاتوريته أظهر استعداده لمناقشة كلّ القضايا؛ بما فيها الفيدرالية، لكن قوى المعارضة السورية العنصرية بما فيهم الإسلاميون والقوميون ودعاة الفكر الديمقراطي رفضوا رفضاً قاطعاً أي مناقشة بالفيدرالية واعتبروها مشروع تقسيم.
تهمة الانفصال ليست جديدة، وتهمة الارتباط مع الخارج جاهزة في كل وقت ضدّ أيّة شخصية أو حركة كوردية لها مطالب، أو تكون في وضع مؤثّر بالسلطة أو قريبة من السلطة .فـ ” حسني الزعيم” هو أحد الشخصيات الكوردية التي استلمت رئاسة الدولة في سوريا بعد الاستقلال. لكنّه أُزيح عن سُدّة الحكم، وكانت التهمة والتي ما يزال يروّج لها ودون تقديم أيّ إثبات أو دليل على أنّه كان يعمل على تقسيم سوريا، ويتعامل مع قوى خارجية، لا أحد يعلم حتى الآن ماهي هذه القوى التي كان يتعامل معها حسني الزعيم؟! أو ماهية مشروعه الانفصالي المزعوم، على الرغم من أنّ حسني الزعيم هو من أصول كوردية، وقد لا يعترف بكورديته مطلقاً، وليس له أيّ مشروع يخص الكورد، ولم يكن همّه سوى محصوراً بالسلطة والرئاسة، لكنّه ولأنّه كوردي وإن كان لا يعرف ربما اللغة الكوردية فهو انفصالي وعميل لجهات خارجية .
إنها تربية وثقافة الدولة القوموية التي ترفض كلّ ما هو يخالفها وتنكر حقيقة الأمم والشعوب. وكما أكّد المفكر أوجلان في مرافعته؛ (مانيفستو الحضارة الديمقراطية أزمة المدنية و حل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط المجلد الرابع): “فالدولتية القومية العربية والتركية والفارسية تفرض مسح كردستان من الوجود والتضحية بالكرد”.
الفيدرالية أو الاتّحادية هي اتّحاد اختياري بين ولايات أو دول أو أقاليم، تختلف قوميّاً أو عرقيّاً أو تختلف بالديانة أو باللغة أو بالثقافة، يتمّ فيها تنظيم الصلاحيات بين الحكومة الاتّحادية وحكومات الإقاليم والمقاطعات.
أو بتعبير آخر الفيدرالية هو نظام شراكة بين قوميات وأعراق مختلفة، يتمّ توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم وباتّفاق بين المكوّنات الشريكة على أسس يحفظ حقوق الجميع بشكل عادل و ديمقراطيّ.
أكبر دول العالم كثافة بالسكان، وكبراً بالمساحة هي دول ذات نظام فيدرالي كالولايات المتّحدة الأمريكية وكندا وروسيا. يمكن اعتبار أن حوالي 40% من دول العالم نظامها فيدرالي. لكن الفيدرالية وحدها لا تحدّد جوهر النظام القائم، فربما تجد دولاً فيدرالية شكلاً لكنها بالمضمون دولٌ مركزية ودكتاتورية، وهي تستخدم كلمة الاتحادية أو الفيدرالية لتستّر على الدكتاتورية.
نجد الأصول النظرية للنظام الفيدرالي أو الفيدرالية في كتابات الفيلسوف ورجل الدين الألماني جوهان ألتيزيوس (1557-1638) حول التنظيم السياسي في إطار اتحادي تضامني. وضمَّن ألتيزيوس أفكارَه بشأن النظام التضامني في كتاب صدر عام 1603 وحمل عنوان “السياسة: عرض منهجي ومعزز بنماذج شاهدة ومقارنة”.
بيد أنّ الدولة الفيدرالية كما هي معروفة اليوم قامت لأوّل مرّة بموجب دستور الولايات المتّحدة الأميركية الصادر في 1787″ .
ما هو الفرق بين الفيدرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي والإدارة الذاتية؟
الكونفدرالية تعني اتحاد، لكن بين دولتين أو أكثر تجمعهما مصالح مشتركة ويتمّ تحديد نوع العلاقة حسب اتّفاق الدول المؤسسة للكونفدرالية في الاتّحاد الكونفدرالي يحتفظ كلّ دولة بسيادتها وسياستها الخاصة، فهي اتحاد لدول مستقلة تفوض بعض الصلاحيات لهيئات مشتركة ومتفقة عليها بين أعضاء الكونفدرالية. لكنّ طريقة وشكل الإدارة المتّفق عليها تخضع لظروف وعوامل القوة والتحكم أحيانا. ففي الاتحاد الأوروبي الذي يشكّل اتحاداً كونفدراليّاً متساوية الحقوق والصلاحيات بين دول ذات سيادة، لكن دول ذات مستوى اقتصادي عال تتحكّم بالاتحاد لها كلمةُ الفصل في النهاية بالنسبة للقضايا المصيرية التي تهمّ الاتحاد ككلّ، ومع ذلك يعتبر الاتحاد الأوروبي نموذجاً للتعايش المشترك بين دول لها كامل السيادة، وتستطيع أيّة دولة الانفصال عن الاتحاد متى شاء؟
وكانت بريطانية آخر بلد اختار سكّانه الانفصال عن الاتحاد الأوروبي دون أيّة ضغوطات أوربية لمنع حدوث ذلك. لكنّ هناك اتّحادات كونفدرالية بالاسم فقط كالاتحاد السوفيتي سابقاً، التي كانت اتحاداً كونفدرالياً بالاسم، لكنّها في الحقيقة كانت دولة مركزية متشدّدة.
أمّا الحكم الذاتي فهو نظام سياسيّ يحصل فيه إقليم ما أو عدة أقاليم ومناطق من المركز على صلاحيات واسعة لتسيير أمورها.
بالنسبة للإدارة الذاتية فهو مصطلح يخصّ روجافا نوعاً ما، وهو يمكن اعتباره جمعاً بين الفيدرالية والحكم الذاتيّ. فكاسم قريب من الحكم الذاتي لكنّه فعليّاً يقترب من الفيدرالية أكثر. الإدارة الذاتية هو حكم كلّ مكون لنفسه ضمن مقاطعة تسيّر أمورها عبر شراكة سياسية لكافة المكونات الموجودة.
الإدارة الذاتية هو نموذج ونظرية لحل القضية الكردية وقضية المكونات الأخرى في الشرق الأوسط طرحه المفكر أوجلان في كتبه ومرافعاته وأثبتت عملياً قدرتها على التطوير والنجاح في روجافا وشمال سوريا.
بالنسبة للقضية الكردية ككل، وفي البلدان الأربعة تنحصر مطالب الكورد حتى الآن في الحصول على حقوقهم دون تقسيم أيّ بلد، وحتى في إقليم كردستان الجنوبية التوجه العام هو البقاء ضمن عراق فيدرالي، لكن بشراكة حقيقية مع المركز في إدارة شؤون البلد ككل.
وفي سوريا ذلك البلد متعدّد الطوائف والأعراق والمذاهب والمتداخل نوعاً ما، فإنّ التقسيم لن يكون حلاً، بل سيكون خسارة للجميع بما فيهم الكورد. فالتقسيم يعني خلق كيانات ضعيفة متصارعة لا وزن ولا قيمة لها بين دول العالم. وعمليّاً ولأن الكورد تُلازمهم دائماً تهمة الانفصال من السلطة والمعارضة على حد سواء؛ فإنّنا نقول: لا إمكانيات أصلاً لقيام دولة كوردية في سوريا، الكورد سيكونون أقوياء بالشراكة الحقيقية مع كافة المكوّنات السورية الأخرى. وهذا هو خيار الشعب الكوردي عامة. وبالعودة إلى المجلد الرابع من (مانيفستو الحضارة الديمقراطية) يقول المفكر أوجالان: “لا يمكن الرد على حصار إبادة ثلاثية (العربيّة والتركيّة والفارسية) كهذه بدويلة قومية كردية صغرى … فالدرس التاريخيّ الذي يجب استنباطه من هذه المفارقة التاريخية، هو إشراك كافة شعوب المنطقة، وعلى رأسها الأمم المجاورة، في حل عصري ديمقراطي، من خلال الكيانات السياسية الديمقراطية.” إذاً ليس فقط لصعوبة قيام كيان كردي مستقل، بل لأنّ الكورد يُفضّلون خيار الأخوّة والعيش المشترك، باعتبارها عامل قوة لجميع الأمم والمكوّنات بعكس التقسيم والانفصال الذي يخلق كيانات قوموية متصارعة ضعيفة.
مشروع الفيدرالية أو النظام الاتحادي المتضمن إدارات ذاتية للمقاطعات والأقاليم، والذي يمثّل الشراكة بين كافة المكونات، هو الحلّ الأمثل ليس فقط للكورد؛ بل لكل المكونات السورية الأخرى. وليس فقط في الشمال السوري بل لكل سوريا.
مشروع الفيدرالية أو النظام الاتحادي ليس مشروع انفصال كما يروّج لها أصحاب النهج القوموي الشوفينيّ. بل هو مشروع وحدوي حقيقي ينقذ سوريا من التقسيم، وكذلك يخلّصها من الدكتاتورية والطغيان. طبعاً الفيدرالية وحدها لن تخلق بلداً نموذجيّاً، بل الأهم هو نظامها الديمقراطي ودستورها أو عقدها الاجتماعي الذي يحمي حرية الرأي والتعبير ويعترف بحقوق كل المكونات على قاعدة العدالة والمساواة وعدم تهميش أيّ مكوّن حتى وإن كان أقلّيّة صغيرة.
الصراع في سوريا لن ينتهي إلا باعتراف السلطة والمعارضة بأهمية الحلّ الديمقراطي في دولة اتحادية لامركزية. ويتحمّل اليوم القوى التي تعارض الحل الديمقراطي مسؤولية كل هذا القتل والدمار. وعاجلاً أم آجلاً فالحلّ الديمقراطي الذي يروّج له على أنه مشروع انفصال سيفرض نفسه كحل واقعي و حقيقي لهذه الأزمة.

كاتب

التعليقات مغلقة.