مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

منصور الحلاج في بحثه عن الحقيقة

ان مراحل تكثيف الحِراكات الاجتماعية هي نفس مراحل توسع النشاطات الذهنية ايضا، ومثلما كل تحول ذهني من نتاج بحث اجتماعي، فهو نشاط مؤثر للغاية في التحرك والتغيير الاجتماعي وتنميطه ايضا.

تابعت الحِركات الاجتماعية التي ظهرت منذ بداية اعوام 800 والمستمرة بشمولية الى 1100، مسارا مشتركا مع الفعاليات الايديولوجية الموسعة في الاسلام. حيث تمكن العديد من العلماء والقادة الثوريين الشعبيين من تكوين انفسهم على مسار الحقيقة الاجتماعية في هذه الاعوام التي توصف كاعوام ابحاث فلسفية عميقة ضمن الاسلام في التاريخ. اي ظهر العشرات من القادة القادرين على تحليل وقيادة تغيير العالم حتى قبل ماركس بألف عام ليكونوا أهلا لائقين بهذه الارض. لم يسر الماركسيون على خطى تحليل وتغيير العالم فحسب، فكان منصور الحلاج ايضا من الشخصيات التاريخية التي حققت قوة التغيير في ذاتها.

استطاعت الحِراكات الاجتماعية التي ظهرت في الربع الاخير من اعوام 800 ان تضم الكثير من المهتمين والمعنيين بهذا الموضوع وخاصة في العراق المركز. لذا فقد توجه العديد من المفكرين  وخاصة من ايران، تركيا، ازربيجان، كردستان والكثير من انحاء الشرق الاوسط والعالم الى مركز العراق. حيث لعبت هذه المناطق الدور المركز للاكاديميات عبر بناء العديد من المدارس وخاصة بغداد التي لعبت دور مركز التعمق الاساس لها. وجاء اسم الكندي والجاحظ  من بين المفكرين والعلماء الاوائل في بغداد قبل عام 870، وتحولت التعاليم المتمخضة عن نقاشاتهم الى مدخل بحث رئيسي لعلماء التصوف. كذلك اعتبرت مدرسة المعتزلة من المراكز الاسلامية الهامة وعلى راسها بغداد. تعد مدرسة المعتزلة من المدارس الاولية في تلك المرحلة والتي الحقت ضربة ساحقة بالقدرية عبر تعاليمها وابرزت ارادة الانسان بالقول “العبد خالق افعاله”. تحولت مدرسة التصوف الى مدرسة بكل معنى الكلمة بـ ظنون المصري في مركز مصر وبلغت اوج معناها بـ جنيد البغدادي في بغداد. الى جانب طليعة مدرسة بغداد التصوفية للمدارس في عهدها، فكانت مدرسة هامة جدا من حيث التاثير وقيادة التيارات التصوفية التي تلتها والى راهننا. اي يمكننا القول بان الربع الاخير من اعوام 800 اكثر الاعوام التي عاشت فيها الحِراكات الاجتماعية والفكرية بشكل كثيف في الاسلام.

وجاء ميلاد منصور الحلاج تزامنا مع نفس هذا التاريخ في قرية “تور” القريبة من بيزا في ايران بداية عام 858، اما اسمه بالكامل فهو “حسين بن منصور الحلاج البيزاوي”، وسمي بالحلاج نسبة الى مهنة ابيه وفق ما يروى. وكما هو معلوم ان جده محمد كان زردشتيا، إلا ان المصادر تشير الى ان والديه كانا مسلمين. اي انه فتح عينيه في عائلة مسلمة ولكن تنحدر باصولها الدينية الى الديانة الزردشية. حيث اهتم بالمواضيع الدينية منذ الطفولة اشد اهتمام، وكعائلة كان لها جهود مضنية في سبيل معرفة الاسلام، اثار هذا الوضع اهتمام غالبية محيطه وخاصة فيما يتعلق بتحليلاته حول القرآن الكريم.

دفع اهتمامه هذا الى التعليم بجانب علماء الدين في ذاك العهد، وبدأ بتلقي الدروس على يد “سهل بن عبدالله التستري” في مدينة الاهواز وهو في السادس عشر من عمره. وهنا دارت المناقشات حول القران الكريم والاحاديث على مر عامين بالكامل، وبه بدات تتعمق افكاره التصوفية. حيث اثار اهتمام الكثيرين بتقيماته حول القران الكريم في المكان الذي تلقى اولى دروسه. ومن ثم ترك الحلاج الاهواز لينتقل الى البصرة وذلك بسبب موت التستري وفق اراء البعض ونفيه الى البصرة وفق البعض الاخر عام 883. ثم بدأ بتلقي الدروس في البصرة على يد امر المكي الذي كان من احد تلامذة الامام البخاري. دار اكثر نقاشاته مع المكي حول واجبات وفرائض السنة، وهنا بلغ معنى الاستغفار والتوبة، كما اقتنع في هذه المرحلة ايضا بان التصوف يمر بالترابط المتين مع القران الكريم والسنة. وبالاصل فان قصده من ذلك هو وجوب احياء حقيقة الاسلام البدائي وعلى اسس شريعة النبي محمد”ص”، وبذلك تكون السنة النبوية هي كامل الشرائع الاسلامية. يبدو هنا بان الحلاج اقتنع بان هناك ابتعاد عن جوهر الاسلام الذي نادى به النبي محمد “ص”، لانه بدأ يتاكد بوجود تحريف في الاسلام اثناء العهد العباسي. كانت حركة الزنج قد وصلت الى القمة في هذا التاريخ تحديدا. كما اتضح له بان ممارسات وحقوق الخليفة العباسي لا علاقة له بالعالم الروحاني. وهذا بدوره ما ميز الحلاج عن متصوفين عهده.

اما المعلم الثالث والاهم للحلاج فكان جنيد البغدادي المعروف كرئيسا للمدرسة الصوفية في بغداد. حيث تتلمذ الحلاج على يد البغدادي عام 885 وانضم الى محاوراته ومنقاشاته، كما لاقى فرصة التعرف والنقاش مع اهل التصوف في مجلس جنيد المعروف كمجلس التصوف من امثال”ابن عطاء” و”الشبلي”. اكتسب الحلاج طابع شخصيته الخاص في هذا المجلس، وبدا ينظر الى الصوفية بوجهة نظر مغايرة، وقد برز ذلك من خلال رمي العباءة الصوفية الكلاسيكية. تزامن وجود الحلاج في البصرة مع قمع حركة الزنج في جنوب العراق لتترك مكانها لحركة القرامطة الاكثر شمولية. اعتمدت الحركة القرمطية على السرية في نهجها، لذا فحتى وان لم يكن بحوزتنا مصادر تؤكد على وجود علاقة الحلاج مع حركة القرامطة التي فتحت السبيل امام اعدامه، إلا ان مفهومه في التصوف ونشاطاته تشير الى وجود علاقته مع هذه الحركة بشكل من الاشكال.

كان الحلاج متزوجا في هذه المرحلة وأباَ لابنة وثلاث بنين. كما تنقلت الكثير من المصادر بان زواجه هذا كان سببا في تصدي العديد من الصوفيين له في البصرة، إلا انه من الواضح استحالة تناول الوقائع التاريخية كهذه بمستقل عن المواقف السياسية والايديولوجية. يكمن وراء نقاط اختلافاته الظاهرية هذه تمايزات سياسية وايديولوجية اعمق، وتعبر هذه التمايزات عن حقيقة تاريخية هامة. اي يمكننا القول بان استيائهم الحقيقي من الحلاج كان بسبب مواقفه السياسية والايديولوجية وما الزواج إلا ذريعة لا غير. اضطر الحلاج الى ترك البصرة على اثر ذلك، إلا ان ما دون بخصوص هذه المرحلة تعبر بوضوح عن انشقاقه واصراره في ذلك.

ادى الحلاج مناسك حجته الاولى عام 903، وسميت الفترة التي قضاها في مكة بفترة الانزواء. حيث يقال بانه عزل نفسه عن الاكل والشرب ليفكر عميقا بجانب حجرة في الكعبة طوال عام باكمله. وبدا الحلاج في هذه المرحلة اهتمامه بالرضاية “القضاء على الرغبات النفسية” والاتقاف “العزل عن الاعمال الدنيوية”، لذا يمكننا ان نبين بان هذه المرحلة كانت نقطة انعطاف في حياته. من بعد طواف المكة استمر بحياته منعزلا عن الاعمال الدنيوية في مدينة التستري ما بين اعوام 903-905. تعتبر مرحلة تفكيره العميق في المكة مرحلة تعظيم فكره وفلسفته وشخصيته بعد انشقاقه عن مفهوم الصوفية الكلاسيكية. حتى وإن بدى وكأنه منعزلا عن الدنيا في مدينة التستري إلا ان هناك معطيات تفيد بانه اقام المجالس الشعبية وناقش من خلالها على النتائج والحقائق التي استخلصها من التصوف.

اما في اعوام 907 بدأ برحلة قصيرة لنشر ارائه، حيث طاف الخراسان وبلاد الفارس ومدن العراق والاهواز والكوم، وناقش مع الشعب ضمن اطار تعاليمه في هذه المناطق. اما ما يشد انتباهنا في هذا الموضوع هو ان المناطق التي طاف بها كانت مراكز للقرامطة في تلك الفترة، وخاصة في خراسان والاهواز، حيث كان تنظيم القرامطة فيهما قويا وموسعا كما هو معلوم. من بعد رحلته هذه زار الكعبة مرة اخرى، ثم رجع الى بغداد من بعد عودته من الحج ولكنه لم يمكث فيها طويلا.

بدأ الحلاج بعهد جديد في حياته، حيث ترك بغداد ليتوجه الى الهند وشرق تركيا لدعوة الشعوب الغير مسلمة الى الاسلام، ودعى  الهنديين في كشمير والاتراك في الماجين الى الاسلام وهو مرتدي زي عسكري، وفي مسيرته هذه وصل الى هوتن وتورفان. حيث استطاع ان يَسلم الكثيرين من المنتمين الى الطبقات الهندوسية، ويسمى هؤلاء المسلمين الى الان بـ “المنصوريين”. يدعى بانه اضاف التعاليم الهندوسية الساحرة الى رؤيته التصوفية، وبالاخص تم اتهامه في التشابه بين فناء في الله ويوغا الهند وتعلم السحر والشعوذة في الهند، إلا انه لا توجد معلومات اخرى بخصوص فترة مكوثه هناك، ولكن كما هو معلوم كثرت اصابع الاتهام ضده من بعد رجوعه من هناك. اراد الحلاج تطوير تنظيمه على مسار تعاليمه في مكة اثناء زيارته الثالثة للحج، إلا انه زاد الاستياء ضده رويدا رويدا. وعلى اثر ذلك اضطر الهرب الى الاهواز، ولكن اعتقل في مدينة السور بعد فترة لم تكن طويلة على اثر الاخبار عنه. يروى بان القوات العباسية القت القبض على الحلاج بحجة ايوائه للغرباء في بيته وعقد المجالس والمناقشة الى ساعات متاخرة من الليل حول اشياء خطيرة، ومن ثم أُتي به الى بغداد. نستنتج من هذا السرد بان الحلاج كان صاحب موقف تجاه القضايا الاجتماعية الى جانب الحقائق التي وصل اليها عبر التصوف، اما بشأن علاقاته مع الحركات الاجتماعية المختلفة، فلا يمكننا قول شيء تاكيدي لعدم وجود اية وثيقة شفهية او كتابية بهذا الشأن.

لم تتوقف نشاطات الحلاج حتى من بعد اعتقاله في سجن بغداد، وبقي على تواصل مع مناصريه إما عبر الرسائل او عبر اللقاءات المباشرة. كما اثر الحلاج على انتفاضة الحنبلي الذي نهض في مركز بغداد مباشرة وفق بعض المصادر. اعدم الحلاج بتاريخ 26 اذار922 في بغداد على اثر فتوة ابو عمر حمادي المالكي القدسي وبأمر من الخليفة العباسي المقتدر.

هناك سرود مختلفة بخصوص اعدام الحلاج، اما الهدف من تطبيق قرار اعدامه من بعد فترة سجن طويلة هو ان يكون عبرة لمناصريه وللشعوب المؤمنة به. هناك العديد من المصادر التي صورت مشهد اعدامه، حيث يُجلد بالسوط في البداية الى ان يُسلخ جلده، ومن ثم يأمرون الشعب برجمه، ثم يُبتر اطرافه ويُحرق جثمانه ويُرمى برمادها في نهر دجلة. قاوم الحلاج في كل مشهد من مشاهد تعذيبه ولم ينحني امامهم او يندم على اي شيء وفق العديد من الروايات، وكان على دراية تامة بان ما تعرض له من ممارسات على صلة وثيقة بسوية الحقيقة التي بلغها. وقد مثل ذلك بقوله:

نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ

وبِسَنَاعِزَّتِكَ نَسْتَضِئ

لِتُبْدِى لَنامَاشِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ

وأنْتَ الذِى فِى السَّماءِعَرْشُكَ

وأَنْتَ الذِى فىِ السَّمَاءِإلَه

وفِى الأرضِ إِلَه..

تَجَلَّى كَمَا تَشَاء

مِثْلَ تَجَلِّيكَ فىِ مَشِيئتِكَ كأَحْسنِ صُورَةٍ

والصُّورَةُ

هِىَ الرُّوحُ النَّاطِقَةُ

الذِى أفْرَدْتَهُ بالعلمِ (والبيَانِ) والقُدرَةِ

وهَؤَلاءَعِبَادُكَ

قَدْاجْتَمَعُوالِقَتْلِى تَعَصُّباً لدِينكَ

وتَقَرُّباً إليْكَ

فاغْفرْلَهُمْ !

فإنكَ لَوْكَشَفْتَ لَهُمْ مَاكَشَفْتَ لِى

لمافَعَلُوامافَعلُوا

ولَوْسَتَرْتَ عَنِّى مَاسَترْتَ عَنْهُمْ

لمالَقِيتُ مَالَقِيتُ

فَلَكَ التَّقْديرُفِيما تَفْعَلُ

ولَكَ التَّقْدِيرُفيِما تُرِيدُ

“حقيقة الحلاج “انا-الحق”الفناءُ في الله،النيرفانا،أنا الحق. هذه الحِكَمُ المُطلَقةُ ربما كَشَفَت عن الهدفِ الأساسيِّ لحياةِ الإنسانِ الاجتماعية، أوأنها أَظهَرَت للوسطِ اهتمامَها بالحياةِ الاجتماعية”.”عبدالله اوجلان”

منصور الحلاج كمتصوف كان من اكثر الشخصيات القريبة الى حقيقة المجتمع الكومينالي، وبذل جهود مضنية لادراك وتعريف المجتمعية وطبيعتها في عصره. كما كان للتقاليد الزردشتية تاثير بالغ في وصوله الى الحقيقة ضمن الاسلام. ياتي مفهومه “الثنائية” في تحليل “الله-الانسان” على رأس جوانبه الخاصة في التصوف وجعله مميزا عن الاخرين. يظهر قوة الروح المسماة بـ “الحلول” أي ” دخول الله في روح عباده، اي تحلي العباد بروح الله” كمفهوم يقضي على التمايز بين الله والانسان. ان الانسان والله اصحاب بنى لاهوتية “الله” وناسوتية “انسانية” وفق فكر الحلاج، اي ان “الله” إلهي وانساني في نفس الوقت. وكذلك الانسان فهو إلهي وبشري في نفس الوقت، وبسماته هذه فان الانسان والله شيئين غير مختلفين، والاثنين واحد. سعى الحلاج الى ضمان رجوع الفرد المعدوم امام الله الى ذاته واعطاء المعنى للجانب الالهي فيه. كما اشار الى المنبع الاصل في الانسان باشارته الى الجانب الالهي فيه، بهذه الطريقة بحث عن انبعاث ارادة الانسان المحطمة والمقموعة امام الحضارة المركزية.

كما تقرب بمفهومه هذا من “تعدد الالوهية” المنحدرة من جوهر الزردشتية. وشكل هذا الاساس في مفهوم “وحدة الوجود”. يبدو في هذا المفهوم بان الانسان والمجتمع بطبيعتهما وحدة متكاملة، وان الله قوة موجودة في الانسان والطبيعة ومقدس بهما. ان وحدة الوجود التي تحتوي على الانسان والله والكون هي الاساس. اما الحقيقي والموجود وفق الحلاج فهو “الاتحاد” و”الاكثرية”، والاحادية انعكاس لاشكال ونوعية مختلفة وهو “الله”، إلا ان الانسان والكون ليسا خارج هذه الاحادية بل بداخلها ويعادلها، لهذا فان قول الانسان “أنا الحق” صحيح ومفروض. ان الانسان إله يتكلم ويبحث ويفكر ويحب ويضحك ويحزن ويغضب. توجد كافة الصور الالهية في الانسان وكافة خصائص الانسان في الله وفي وحدة متكاملة مع الكون. الموت ليس حقيقي بل متغير وظاهري، لذا فان موت الشخص في حياته وحياته في مماته.  واراد الحلاج ابلاغ فكرته هذه للمجتمع بقوله:

اقتلوني يا ثقاتي فان في قتلي حياتي

ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

حتى وإن ذكر الكثيرين بان آراء الحلاج هذه جاءت على اثر تاثيره بالبوذية، إلا انه في الاصل يعبر عن المفهوم الزردشتي الاساس في التقرب من الانسان والطبيعة.

اراد البرفسور الدكتور “نيازي اوكتم” تناول الثلاثي الله-الطبيعة-الانسان وفق وجهة نظر الحلاج بقوله: ” يقبل مفهوم الحلاج الديني والالهي بان الله جوهر، ولدى تدفق القوة الالهية هذه يظهر نفسه ويخبأ صفاته. ان السماء والارض وجميع الكون وسطاَ لظهورالله، إلا ان ما يحيا في الكون ليس بمادة فحسب، بل مليء بالعقل والحب”. نرى في ذلك بان العلم الذي يدعي ويبذل جهود لتحليل الوجود بالكوانتوم لم يستطع التقرب من جوهر الحقيقة حتى بقدر المتصوفين في ذاك العصر. بمكان الانسان بلوغ مفهوم الكون الحي من خلال معرفة الذات، وهذا المفهوم اقرب الى الحقيقة. حينما ذكر الحلاج ذلك فانه فتح جبهة ضد الحضارة المركزية في عهده.

اعتمد مفهوم الحلاج الاخلاقي على الحب والاحترام في اساسه وضرورة الانضمام الى الحياة الاجتماعية على اسس علاقات انسانية واعية متبادلة وكل واحد جزء من الكل واعتماد العلاقات الاجتماعية على الحرية. كما عبر الحلاج عن غضب الانسان ضد العبودية باحسن الاشكال في قوله: ” الحرية الحقيقية في أن لا تعبد احدا غير الله”. وقد دافع الانسان عن فلسفة الحياة الحرة باراة حرة في مكان تواجد الحلاج، وخاصة ضد الخلافة العباسية التي فرضت نفسها على الشعب كالملك-الاله، ولم ينحصر ذلك في مكان تواجده فحسب، بل نشره في كافة الارجاء ايضا.

لم يضع الحلاج اي تمييز او فرق بين الناس في علاقاته الاجتماعية، وهذا ما ادى الى ضمان فرص التبادل وعقد العلاقات بسهولة مع الكثير من الشرائح الدينية المختلفة، مثلما كان موجودا لدى دعاة القرامطة. حيث تعامل مع المسيحي كمسيحي ومع اليهودي كيهودي. كما انه تعامل عن قرب مع الصابئيين، ولم يضع اي فرق بين الفئات الاجتماعية والعقائد الدينية والثقافات. حتى وان كان ذلك سببا في اتهامه كداعي قرمطي، إلا انه لم يبالي بهذه الاقاويل وشارك بتعالميه جميع الناس ومن كافة الفئات والشرائح. ولم يتعرض للاتهامات الكبيرة والتعذيب من جراء بلاغه الحقائق التي لا يستوعبها الشعب وفق ادعاء البعض، بل بسبب كشف وجه النظام الحقيقي للشعوب.

بقدر ما اهتم الحلاج بالتصوف فانه ولى اهتماما بالغا بالعلوم الفنية ايضا، وكان له اهتمام خاص بالعلم الكيمائي المعروف في عهده بالسيمياء. حتى وان اهتمامه هذا كان سببا في اتهامه بالسحر والشعوذة من قبل معاديه، لكنه اقر في بلوغ سر الحقيقة عبر توسيع بحثه عنها في كل مكان، وهذا ما كان السبب في ان يصفه مناصريه بـ ” حلال الاسرار”. اي كان الحلاج حلال جميع الاسرار والشخص الذي بلغ سر الحقيقة بالنسبة الى مناصريه ومحبيه. كما وهو معلوم فانه مؤلف كتاب “رسالة في الكيمياء” وطاسين الازل وكتاب بستان المعرفة”، الى جانب كتاب مُعد من رسائله وكتاباته.

لم يتراجع الحلاج في بحثه عن الحقيقة والدفاع عنها حتى في فترة سجنه، وتشير المصادر الى فترات متباينة بخصوص سجنه. إلا انه استمر بفكره الباطني حتى في ظروف اسره الى جانب الاهتمام بجميع المعتقلين من كل الفئات وتشجيعهم على الصواب. وبهذا ذاع صيت الحلاج وزاد حب واحترام الشعب له.

اصبح الحلاج من اكثر المهتمين في بحثهم عن الحقيقة واكثر المتعذبين في مسيرة بحثهم عنها في التاريخ على ارض الشرق الاوسط. ان بذل الجهود في سبيل بلوغ معنى الحياة واهدافها كان ابدا ودائما وظيفة للمضحين في كل مرحلة من مراحل التاريخ مهما كان الثمن غاليا، الى جانب آدائها بمزيد من اليقظة والمسؤولية الاجتماعية. وجد باستمرار رغبة البحث عن كشف ستار سر تكوين الطبيعة-الانسان-المجتمع حتى بالقليل لبلوغ هدف الحياة. ان معرفة الذات والمجتمع والطبيعة كان وعلى الدوام الشغل الشاغل لفكر الانسانية منذ اولى اشكالها والى اكثر البنى العلمية تعقيدا ومن الاسئلة الاولى التي بحث عن اجوبتها. لدى بحث الانسان عن تعريف الوجود الذي يفتح السبيل امام معرفة الذات، فانه ضمن مصادر لتعريف وجود الحقيقة بقدر ما تعرف على ذاته. ان الانحرافات التي تسببتها وجود الحضارة المركزية لاعاقة هذا البحث، اصبحت السبب في تجذره. ان تغريب الانسان عن نفسه وعن المجتمع والطبيعة الذي تسببته الحضارة الدولتية المركزية في بنية الذهنية اصبح السبب في بحثه عن ذاته والاتحاد مع طبيعته ومجتمعه. حيث لعبت جميع ميادين النشاطات الفكرية دور المركز لهذا البحث.

حتى وإن استخدمت قوى الحضارة دينها وعقائدها كأداة للتستر على انظمتها الاستعمارية القمعية في الشرق الاوسط مع ظهور الاسلام، لكنه بقي الاسم والعنوان لكشف واحياء الحقيقة المراد اتخاذها من يد القوى الاجتماعية الكومينالية وبنفس الوسائل. ومنصور الحلاج معروف بآلامه ومدى الجهود الذي بذلها في سبيل تعريف مجتمعيته واعطائها المعنى في عهده.  كان الحلاج المنبع للحِركات الاجتماعية لفك المجتمع من قيود السلطة، وما سجنه وتعرضه للآلام الشديدة على يد السلطة إلا خير دليل على ذلك.

التاريخ بنفسه شاهد ودليل في إن جهوده وآلامه في سبيل القيم الاجتماعية الكومينالية لم يذهب هدراً، فهناك جريان البحث عن حقيقة الحضارة الديمقراطية كنهر متدفق من دون انقطاع الى راهننا كمثل سباق العلم تلوح من يد الى اخر، لتكون البديل بالنسبة الى الشعوب الخارجة عن الحضارة الدولتية.

كاتب

التعليقات مغلقة.