مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

دور المرأة في بناء الأمة الديمقراطية

حسين شاويش

حسين شاويش
حسين شاويش

الامة الديمقراطية كمفهوم ومصطلح يستند إلى فلسفة الحضارة الديمقراطية ونظرية بناء المجتمع الديمقراطي السياسي والأخلاقي الذي يختلف جذرياً عن مفهوم الأمة القومية الذي يستند إلى الحضارة الطبقية الدولتية وفكرة بناء الدولة القومية الشوفينية.

كما أن مشروع الأمة الديمقراطية يستند إلى التقاليد والأخلاقيات الاجتماعية للمجتمع الطبيعي الذي استطاع قيادة الثورة الزراعية_ القروية “النيولوتية” الأولى في تاريخ البشرية قبل ظهور مؤسسة الدولة بآلاف السنين. هذه التقاليد والأخلاقيات الاجتماعية المتمثلة في الصداقة والجيرة والتعاون والتشاركية الإجتماعية والإنسجام مع الطبيعة، استمرت بوجودها من خلال مقاومة المجموعات والأقوام البشرية التي رفضت العبودية للدولة وقاومت هيمنتها منذ ظهورها كمؤسسة وحتى راهننا، وما زالت هذه المقاومة مستمرة في الثورات الاجتماعية والحركات الإحتجاجية الداعية الى الحرية والديمقراطية.

الأمة الديمقراطية كمصطلح يعني الامة التي استطاعت تنظيم نفسها أو إنشاء نفسها عن طريق المنظمات والإتحادات الإجتماعية المدنية التي تستند على الادارات الذاتية المحلية وبآليات الادارة الديمقراطية. بمعنى آخر، هي الامة التي وصلت الى مستوى مجتمع استطاع تنظيم كل شرائحه ومكوناته الاجتماعية والثقافية وحتى المذهبية والدينية والعرقية والعشائرية عن طريق المنظمات والاتحادات الديمقراطية، ذلك المجتمع الذي وصل الى مستوى إدارة نفسه بنفسه بشكلٍ مستقل عن الدولة وبآلية الادارة الذاتية الديمقراطية، والذي يستطيع الدفاع عن نفسه ضد هيمنة الدولة بكل الوسائل الديمقراطية السلمية أولاً وبالوسائل غير السلمية إذا اقتضى الأمر ذلك!

الامة الديمقراطية تؤمن بمبدأ “الوحدة في التنوع” على عكس الامة القومية الدولتية التي تكرس فكرة، اللغة الواحدة، الثقافة الواحدة والهوية الواحدة أو الاحادية النمط التي ترفض التنوع والتعدد الطبيعي للمجموعات البشرية والاجتماعية!

كما هو معلوم بأن علم الاجتماع الحديث الذي تحول الى آداة لشرعنة الدولة القومية وبالتالي الامة القومية، عمل دائماً على تعتيم مصطلح الامة الديمقراطية أو تهميشه وأقصائه بشكلٍ مقصود لغايات معروفة متمثلة في فرض هيمنة الحداثة الرأسمالية وأداتها الرئيسية المتمثلة في الدولة القومية على المجتمع البشري خدمةُ للإحتكارات العالمية ونظامها الاستغلالي.

على الرغم من وجود مثل هذا التحريف والتهميش والتعتيم، فأن الامة الديمقراطية كمشروع دَخَلَ في جدول أعمال كثير من المجتمعات بعد افلاس الدولة القومية والأمة القومية وحجم الدمار والخراب الناجم عن الحروب التي سببتها الدولة القومية ونظريتها القائمة على الامة القومية الشوفينية والفاشية!

دخلت الامة القومية في جدول أعمال المجتمعات كبديل عن الأمة القومية الشوفينية وكما دخلت الادارة الذاتية الديمقراطية كتعبير عملي عن الامة الديمقراطية في جدول أعمال المجتمعات كبديل عن الدولة القومية ذات الطابع الأستبدادي والفاشي.

ــ آفاق الأمة الديمقراطية ودور المرأة!

 

الأمة الديمقراطية هي روح الإدارة الديمقراطية الذاتية للمجتمع بينما الإدارة الذاتية هي جسدها وبدنها وتمثيلها العملي حسب تعبير قائد الشعب الكردي “عبدالله أوجلان” والذي قام بشرحها بشكل مفصل في مرافعته الأخيرة والمسماة بـ”القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”.

آفاق وأبعاد الأمة الديمقراطية تجمع فيما بين الجانب الثقافي والأجتماعي والأقتصادي والسياسي والحقوقي والدفاعي لبناء المجتمع الديمقراطي الذي هو هدف هذا المشروع في نهاية الأمر! بمعنى آخر، الهدف الأساسي لهذا المشروع هو الوصول الى الحياة الإجتماعية الحرة الندية القائمة على مبدأ المساواة فيما بين الجنسين كما هو الحال فيما بين جميع المكونات والأطياف التي تؤلف جميع وحدات النسيج الأجتماعي لهذه الأمة. فالأمة التي استطاعت الوصول الى تحقيق أجواء المساواة بين المرأة والرجل، هي أمة ديمقراطية بدون أدنى شكٍ، لأن هذه المسألة هي جوهر وزبدة موضوع الحياة الإجتماعية الحرة البعيدة عن كل أنواع العبوديات الثقافية والإقتصادية والسياسية و ما شابه ذلك!

بما أن المرأة هي أقدم وأول وأكثر أمة مضطهدة ومقهورة في تاريخ المجتمع الإنساني، فأن قضية تحررها هو جوهر حل كل القضايا الإجتماعية الأخرى، “حرية المجتمع تمر عبر حرية المرأة”، من هذا المنطلق علينا ان ندرك بأن نجاح مشروع الأمة الديمقراطية الذي يهدف إلى بناء مجتمع حر وديمقراطي مرهون بمدى مشاركة المرأة بطاقتها وقوتها الذاتية وتنظيماتها في عملية بناء هذ الأمة، وبالتالي في عملية تحقيق الإدارة الذاتية الديمقراطية على أرض الواقع، بحكم وضعها المأساوي وحجم وعمق العبودية المفروضة عليها من قبل مؤسسة الدولة ذات الطابع الذكوري، تعتبر قوة وطاقة رائدة في عملية بناء الإدارات الذاتية الديمقراطية. بما ان الدولة القومية ترتكز تاريخياً على العبودية الأجتماعية التي بدأت بعبودية المرأة، فأن نقطة الأنطلاق في عملية التحرر من هذه الدولة ستبدأ بتحرر المرأة أولاً وليس ثانياً!!

بما أن الدولة ذكورية بطبيعتها، فأن طبيعة المجتمع أنثوي ويمثل طابع المرأة الحرة. الدولة القومية حولت المجتمع الى أنثى عبدة بعد أن كرست عبودية المرأة أكثر من كل أشكال الدولة عبر التاريخ. مقولة هتلر “المجتمع مثل الأنثى الزوجة”هي أسطع تعبير عن هذه الحقيقة والطبيعة الوحشية والدموية التي حولت المجتمع الى قطيع.

على ضوء هذه المعطيات كلها، أن المرأة هي القوة الريادية للأدارة الذاتية الديمقراطية، فكلما تمكنت المرأة من المشاركة بطبيعتها وخصوصيتها في بناء المجالس الشعبية والأكاديميات السياسية والتعاونيات الإجتماعية، كلما تمكنت هذه الإدارة من تمثيل حقيقة المجتمع ومصالحه وإدارته وإرادته بشكل جوهري.

 

الى جانب البعد الثقافي والسياسي والأقتصادي والحقوقي للأمة الديمقراطية ومشروعها العملي المتمثل في الإدارة الذاتية فأن البعد الإجتماعي يمس دور المرأة وتحررها ومساواتها مع الرجل بشكل مباشر. لأننا لا نستطيع أن نتصور حياة حرة ومجتمع سياسي_ أخلاقي في ظل العبودية المتجذرة المكرسة على المرأة. لأن حرية الرجل ووصوله الى حياة حرة وتحريره من دور “أنثى” الدولة القومية، مرتبط تماماً بدور المرأة الريادي في بناء المجتمع.

بناء العلاقات الإجتماعية الحرة فيما بين الأفراد وبناء العلاقات العائليةعلى أساس ديمقراطي، من الشروط الأساسية في عملية بناء المجتمع الديمقراطي، مثل هذه العلاقات تتحقق فقط في أجواء وصول المرأة الى مستوى لعب دورها في عملية بناء الإدارة الديمقراطية الأجتماعية.

كل الثورات التي أخفقت في الوصول الى الحرية الحقيقة على الرغم من التضحيات والمقاومات الكبيرة، كانت بعيدة عن فهم قضية دور المرأة الريادي في سياق العملية الثورية. لأن الثورة تعني بناء المجتمع وليس الدولة، بمعنى آخر تعني بناء العلاقات الأجتماعية الحرة بآلية المؤسسات الديمقراطية الذاتية للمجتمع وإداراتها، ولكن كل الثورات السابقة انحرفت عن هذا الهدف وحاولت تقليد الثورة المضادة المتمثلة في مؤسسة الدولة. فالثورة الأجتماعية الأولى (الثورة الزراعية _القروية ) قادتها المرأة الأم وخدمت البشرية بمؤسساتها الإجتماعية الطبيعية والعفوية حتى هذه اللحظة، بينما الثورة المضادة المتمثلة في ظهور الدولة قبل الآن بخمسة آلاف عام، أوصلت الأنسانية الى نقطة الإنهيار على أرضية تكريس عبودية المرأة.

الأمة الديمقراطية كمشروع لبناء المجتمع الديمقراطي بآلية الإدارة الذاتية المستقلة عن الدولة، هو مشروع اعادة المجتمع الى طبيعته الأصلية عبر لعب المرأة لدورها الطبيعي والريادي في بناء العلاقات الاجتماعية الطبيعية وتحرير البشرية من سرطان مؤسسة الدولة ولوياثانها (وحشها) العصري المسمى بالدولة القومية.

علينا ان نرفع صوتنا عالياً أكثر من أي وقتٍ مضى، لكي نقول لا للدولة القومية الذكورية ولا للأمة القومية البطرياركية، نعم للإدارة الديمقراطية الأجتماعية الذاتية، نعم للأمة الديمقراطية التي تلعب فيها الآلهة الأم لدورها الطبيعي المقدس.

كاتب

التعليقات مغلقة.