مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

دور السياسة الديمقراطية في بناء الامة الديمقراطية

الهام احمد

الهام احمد
الهام احمد

لاستوعاب دور السياسة الديمقراطية في بناء الامة الديمقراطية، ينبغي اولا ادراك ماهية السياسة وكيفية استخدامها من قبل النظام المركزي الى راهننا. عُرفت السياسة كعملية ترويض في القاموس اليوناني، ومنها أصبحت السياسة من عمل الساسة في مراكز الدولة التي جردت المجتمع من آليات الحفاظ على ذاته وإدارة نفسه بنفسه. بعدما تحولت السياسة الى عمل الدولة، فانها استولت على زمام مبادرة ادارة المجتمع والتي يمكننا تسميته على حد تعبير قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” بـ “هندسة المجتمع” الى فئة طبقية دولتية بأساليب الضغط والترهيب والتغريب. لذا فمن الطبيعي أن يعاني المجتمع تحت ظل الانظمة الهرمية تحطيماً ارادياً، ولكن هذا لا يعني بأن المجتمع رضخ للمطالب السياسية وممارساتها بالكامل، حيث أن بقايا المجتمع الطبيعي من قواعد الأخلاق والمعتقدات والروابط الاجتماعية التي تحولت إلى تابوهات مع مرور الزمن، شكلت قاعدة اساسية في حفاظ المجتمع على التلاحم وروح المقاومة في مواجهة حالات الضغط والانكار المطبق من قبل النظام الحاكم. وبسبب فصل السياسة عن المجتمع، فانها انحرفت عن مسارها كميدان اجتماعي اداري رئيسي، لذا نرى بان المجتمعات البعيدة عن ممارسة السياسة الديمقراطية معرضة لظهور ديكتاتوريات قد تؤدي بها الى الحضيض باسم السياسة المركزية. ان السياسة فن ادارة المجتمع، أي عندما يمارس المجتمع السياسة هذا يعني بأنه يدير نفسه بنفسه، وهذا حق مشروع ديمقراطي يحق لكل شعب ممارسته.

للسياسة الديمقراطية علاقة وثيقة بالأخلاق، وإذا ما انفصلت السياسة عن الأخلاق ستتحول الى وسيلة لتحقيق مآرب النظام الحاكم. مثلا، في اوروبا تنادي الانظمة بالحرية وممارسة السياسة في أعلى سويات الديمقراطية، لكنها لم تترك مجالاً للمجتمع كي يعبر عن ذاته ويدير نفسه بنفسه وحتى جعلت منه وجوداً عاطلاً يعتمد على الدولة في جميع اموره. لهذا فإنه بات غير مقتدر على تأمين معيشته وتفعيل دوره في ادنى مجالات الحياة من دون الدولة، حيث يعتمد عليها في المأكل والمشرب والمأوى وكأنه لا يمكنه العيش من دونها. حيث باءت الدولة تفكر وتعمل بدلا عنه وما يقع عليه هو تنفيذ متطلباتها والعمل في دوائرها كخادم مطيع. يبدو وكأن الدولة خادمة مطيعة للمجتمع ولكن المسألة عكس ذلك تماما، لان السياسة من عمل المجتمع وليس الدولة، وفي حال العكس يتحول المجتمع الى مجتمع خامل فكرياً وروحياً ووجدانياً ومستهلك في نفس الوقت مثلما نحن عليه. وهكذا مجتمع لا يمكنه أن يكون حرأ ولن يتمكن من تحقيق الديمقراطية الحقة باعتباره مجتمع مستعبد. ان هذه المجتمعات الغارقة في بحر الفردانية تحت اسم الحرية مجتمعات مفروغة معنويا وروابطها الاجتماعية مفكوكة متشتتة، لان الفردانية والرغبات الشخصية تصبح السيد في مسيرة الفرد والحاكمة في جميع الميادين الاجتماعية وذلك باسم الحرية الفردية. يتم انكار المجتمع وتفتيته بهذه النزعة. حيث يستخدم النظام الراسمالي مبدأ الليبرالية في ترويض الفرد والمجتمع الغربي ويهاجم به المجتمعات الشرقية ايضا.

ان المجتمعات الشرقية التي تخبطت في الظلام بعدما انتقلت مركز الحضارة إلى الغرب، انكمشت على نفسها وتقوقعت تحت عناوين عديدة ومنها الدين، لتكتفي بانظمة دولتية مركزية تحولت فيما بعد إلى ديكتاتوريات في الشرق الاوسط. أنُكر إرادة الفرد تحت حكم العشيرة والعائلة والدولة، أما العلاقات الاجتماعية فقد حافظت على وجودها التقليدي صوناً لقواعد الدين التي أصبحت هي أيضا وسيلة  للوصول إلى السلطة على يد القوموية المتمثلة في القوميات الحاكمة في الشرق الاوسط كالتركية والعربية والفارسية. لذا نرى بان كافة القيم الاجتماعية صارت اسيرة للنعرات وعلى راسها الدين الذي تحول الى كارثة بعدما تحول الى آداة سياسة السلطة الحاكمة.

انطلاقا من ما ذكرناه، انحرمت المجتمعات الغربية والشرقية من ممارسة السياسة بعد ظهور النظام الدولتي المركز. وحتى ان المجتمعات الشرقية تفتقد الى مؤسسات ومنظمات مدنية لان كل شيء يدور في فلك الدولة. لذا نستطيع القول بان المجتمع بقي عرضة لممارسات النظام الدولتي من دون ان يمتلك حقه في الدفاع عن حقوقه وحرياته. وهذا هو من احد الاسباب الرئيسية التي تواجهها المعارضة اليوم في تنظيم وادارة نفسها والاعتماد على قواها الذاتية في الشرق الاوسط. ان صورة ثورات الشرق الاوسط تتحول الى نسخة مصدرة خارجياً، وذلك لفقدان النظام البديل، وحتى ان كان لها بعض المواقف المناهضة ولكنها غير قادرة على تلبية مطالب الشعوب في الديمقراطية، لانه وفي الحقيقة تعتمد البعض من هذه القوى على الدعم الخارجي وتحاول تطبيق مشاريعها على ارض الواقع. لكل ذلك علاقة وثيقة بسوية وعي وتنظيم المجتمعات.

ان سياسة التجزئة التي يلجأ اليها النظام العالمي والقوى الخارجية للاستيلاء على الشرق الاوسط ونهب منجزات شعبه ليست جديدة. حيث رسمت حدود الدول القومية وجُزأت جغرافية الشرق الاوسط الى دول ودويلات وتأججت النعرات القومية والطائفية والعنصرية وطالما كانت الانظمة الحاكمة يد مساعدة او شريكة وقوة تنفيذ لهذه السياسة، وذلك بهدف خدمة مصالح النظام الراسمالي الحاكم. لا تعاني المجتمعات في الشرق الاسط من تجزئة وضعف سياسي فحسب بل تعاني من انحطاط اخلاقي وابادة ثقافية تحت ظل السياسة القوموية التي رسختها النظام الراسمالي العالمي. لذا نرى بان التفرقة والعنصرية والطائفية في اوج تطورها، وإذا ما تطلعنا الى اي بلد من بلداننا سنرى هذه الحقيقة المأساوية اليوم. اي

تسعى القوى العالمية المهيمنة الى تحويل الغنى والتعددية الموجودة في لبنتنا الى آداة نزاع ودمار ضد قيم حضارتنا الديمقراطية 

. وهذا بالضبط ما حدث للشعب الكردي والعربي، حيث تم تقسيم الامة العربية إلى دول قومية ذات حدود سياسية و جغرافية تفصل بينها أسلاك وذهنية وقواعد دولتية أدت احياناً الى نشوب معارك والشعب العربي بغنى عنها. لقد حلل قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” هذه القضية وشخّصها بكل شفافية في مجلداته التي كتبها في سجن إمرالي، وذلك لبلوغ مفهوم امة ديمقراطية في الشرق الاوسط.

الأمة الديمقراطية لا تعطي اعتبارا ولا تعترف بالحدود السياسية المرسومة بين الدول، كما أنها لا تمس تلك الحدود أيضا ولا تعاديها، بل ان الاتحاد الثقافي والتاريخي هو الأساس في تشكيل الامة الديمقراطية، والسياسة الديمقراطية هي القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها مفهوم الامة الديمقراطية لما لها من دور في إعادة بناء المجتمع الديمقراطي. مثلما ذكرنا آنفا، أن الدولة تحتكر السياسة لصالح السلطة المركزية وتدعي بأنها تمارس السياسة والدبلوماسية لخدمة المجتمع، إلا أن الحقيقة تشير الى عكس ذلك، اي ان الدولة تمارس سياسة معادية للمجتمع حتى تتحكم به وتشرعن كافة ممارستها في خدمة الدولة القومية. الدولة تتحكم بالمجتمع وتمنعه من ادارة نفسه بنفسه. بما أن السياسة هي فن إدارة المجتمع، فعلى المجتمع ان يمارس السياسة ويكون صاحب الكلمة والقرار بحق نفسه. أي أن المجتمع القادر على مناقشة مشاكله وقضاياه الأساسية وإيجاد الحلول اللازمة لها سيكون مجتمعا حرا لا محال، ولهذا علاقة مباشرة بسوية وعي وثقافة ذاك المجتمع. فالمجتمع الذي شرب من كأس ثقافة النظام السلطوي وأنكر ذاته لا يمكنه أن يحدد احتياجاته الأساسية أيضا، وسيكون مجتمعا مغتربا عن حقائقه التاريخية وحتى بمكانه الافراط بها في اية فرصة من دون ان يرف له جفن، لان الذهنية السلطوية لا تعترف بشيء سوى مصالحها. كما ان عدم وجود الوعي التاريخي في مجتمع ما يؤدي به الى العبودية وهنا لا يمكن للعبد ان يقرر مصيره بشكل سليم، بل يحتاج وعلى الدوام الى من يأمره ويقرر مصيره بدلا عنه، وحتى لا يمكنه درء المخاطر والدفاع عن نفسه. حيث شاهدنا المقابر الجماعية التي دفنت فيها حواشي الملوك معهم ظناً بالجنة الموعودة. لذا فان المجتمع المحروم من الوعي التاريخي مجتمع غير قادر على الاجابة على سؤال كيف ولماذا العيش؟.

لا يمكننا اعتبار المجتمعات الشرقية ولا الغربية مجتمعات حرة حتى وان كانت هناك مقاييس مختلفة بهذا الخصوص، إلا ان ممارسة السياسة والتي تعني ادارة المجتمع نفسه بنفسه من المقاييس الاولية لمجتمع حر واخلاقي. ولكن نجد بان مجتمعاتنا تحت سيطرة سياسة الحكومات المركزية، ولكن هذا لا يعني بانها لا تستطيع خلق نظاما بديلا تحافظ من خلاله على قيمها الاخلاقية والثقافية والاجتماعية والتي من خلالها تستطيع ان تدير نفسها بحرية مطلقة. فما زال قيم الحضارة الديمقراطية قائمة في لبنتنا الاجتماعية وهناك الكثير من الامثلة الدالة على ذلك. حيث شاهدنا روحا وقرارا شعبيا موحدا ومشتركا في الحركات الشعبية في عموم بلدان الشرق الاوسط والذي كان بمثابة تحطيم جدار الخوف والعزلة المترسبة منذ ظهور النظام الدولتي. الى جانب وجود الثقة والاحترام المتبادل بين الاقوام والاقليات والقبائل والعشائر في العديد من المناطق، وحتى انها تستنفر بكامل قواها في سبيل حماية ارضهم وقيمهم بروح مشتركة. ان كل ذلك سيشكل الارضية الخصبة لتنشيط سياسة ديمقراطية في الشرق الاوسط.

تحتاج السياسة الديمقراطية الى وعي تاريخي وثقافي واجتماعي، ودراسة سليمة للمجتمع الطبيعي المتمحور حول ثقافة الالهة الام، لان المجتمع الامومي يعتبر أول تجمع إنساني سادت فيه العدالة والمساواة، وكانت الجماعة هي مصدر القرار في كل ما تقوم عليه. كما كانت كافة النشاطات تخدم ادامة حياة الانسان بالالتحام مع الطبيعية، عكس ما يسعى اليه النظام الراسمالي الذي يفتك بالانسان والطبيعة. انقلب كل شيء الى عكسه تحت ظل النظام السلطوي المركز في المجتمع، فما نراه الآن في سوريا نموذج واضح عن فلتان المارد من القارورة. حيث هناك انتهاك بحقوق الانسان وبعرضه من دون رادع، وحتى لا يمكن للشعب العزل الدفاع عن نفسه باية وسيلة ضد كل ما يرتكب بحقه من مجازر وانتهاكات من قبل النظام السلطوي والقوى الخارجية التي لا تجد مصالحها سوى في المزيد من إراقة الدماء لاطالة عمرها الى حين اخر. حيث اضطر الشعب الى الهجرة وترك ارضه ووطنه الذي تحول الى بؤرة الموت. لذا فهناك حاجة ماسة الى تنظيم جماهيري شعبي موحد وموقف سياسي مشترك لاعاقة كل ما يحصل على ارض الواقع في الشارع السوري المتشتت الان.

ان خير مثال يحتذى به الجميع هو بناء نظام ديمقراطي وادارة ذاتية عبر ممارسة سياسة ديمقراطية كما يسعى اليه الشعب الكردي في سوريا، كون بناء نظام بهذا النمط سيحقق دمقرطة سوريا ايضا. للشعب الكردي في غرب كردستان اليوم موقف سياسي ديمقراطي جعل الكل يحسب له الحسبان بعدما كانت سياسة الانكار والقمع من احدى اهم الوسائل المطبقة بحقه. لذا لن يتردد هذا الشعب في تقديم التضحيات لاجل الحصول على هويته واثبات وجوده ككيان حر وعبر سياسة ديمقراطية بعيدة عن التحكم بالاخرين او انكار وجودهم، بالعكس فهو يدافع عن اراضيه وشرفه وقيمه بقوته الذاتية ودون الاعتماد على اية قوى اخرى. كما انه أسس وحدات الدفاع المشروع التي تعتبر من دواعي السياسة الديمقراطية واثبت قدرته على حماية نفسه والدفاع عنها تحت اصعب الظروف وفي اخطر المراحل التاريخية التي تمر بها منطقتنا في الراهن.

ان المجتمع صاحب القرار والتطبيق في ظل الادارة الذاتية الديمقراطية، على عكس النظام الدولتي الذي يتخذ القرار ويفرضه على الشعب من دون ان يكون له اي راي. حيث يشارك الكل برأيه في اي أمر يتعلق بحياة ومصير المجتمع عبر ممارسة سياسة ديمقراطية والتي بدورها تؤدي الى تحقيق امة ديمقراطية. وهنا للمراة دور هام في تطبيق هذا النظام، لانها من اكثر العناصر الحيوية في تحقيق العملية الديمقراطية وحتى مقياس اولي من المقاييس الديمقراطية. لذا يجب ان تكون المراة من اكثر الفئات الفعالة في العملية الديمقراطية ومن اكثر المشاركين في كافة المجالات الحياتية، لان دور المراة يحدد من سوية الديمقراطية الموجودة في أي بلد او مجتمع كان. ومن دون انضمام المراة الى الميدان السياسي لا يمكن ان تتم العملية الديمقراطية بنجاح. كون النظام الدولتي من اكثر الانظمة التي تاجرت بهذه القضية وحولت المراة الى آداة تبضع لصالح الاحتكارات والربح الاعظم. وقد اثبتت المراة جدارتها في ريادة الثورات الشعبية في الشرق الاوسط، وهذا بدوره يؤكد قدرتها على ممارسة السياسة الديمقراطية بعيد عن الصبغة الذكورية. ان أكثر الأنظمة التي ادعت الحرية والديمقراطية فتحت ابواب تسلع المراة والتجارة بروحها وبدنها الى حد الفظاعة. يتم استخدام المراة في السياسة التسلطية الدولتية بابشع الوسائل لدرجة استرجالها، واستخدام حتى المؤسسات النسوية في خدمة مصالح الدولة وعجلة تسير باحتكاراتها. لذا نرى بأن المراة محاصرة من كل النواحي وتعاني الويل تحت ظل الانظمة الدموية ومحرومة من جميع حقوقها حتى في ابسط الامور الحياتية، كما شاهدناه في الدساتير المزعم بانها جديدة في بعض البلدان العربية مثل تونس والسعودية ومصر.

ان مشاركة المراة في الميادين الحياتية بايعاز من الرجل او بنمط الذهنية الذكورية لا تعبر عن جوهر المراة، بل ينبغي ان يكون انضمامها بارادة ووعي حر بعيد عن سيطرة الرجل. حيث نرى الكثير من النسوة اللواتي شاركن في النشاطات السياسية والاجتماعية الاخرى ولكن ليست هي العقل المدبر ولا تمثل قوة التنفيذ فيها، بل تتحول الى مجرد آداة في تطبيق سياسة النظام الحاكم لاغير. لذا على المراة التحلي بوعي سياسي اعتمادا على ثقافة الالهة الام، حتى لا تبقى عرضة لممارسات عَزلتها عن جوهرها، ومن هذه الممارسات قتلها على مقصلات النظام كما حدث بعد انتصار الثورة في الكثير من البلدان مثل فرنسا وروسيا وامريكا وانكلترا وذلك لطلبها في الانضمام الى السياسة وادارة شؤون المجتمع.

ان عزل المرأة عن السياسة يعني عزل المجتمع عن إرادته وقراره السياسي، حيث يؤكد قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” في احدى مجلداته بعنوان “سوسيولوجيا الحرية” على أن المرأة هي أفضل من تمارس السياسة، فهي تدير شؤون المنزل وتربي أطفالها وتُأمن حاجات المنزل على أكمل وجه، وستكون الموجهة للأمة الديمقراطية، فالمجتمع الحر يعني المجتمع السياسي الأخلاقي. ونحن في منطقة الشرق الأوسط باعتبارنا نعيش كأمم على هذه الأرض وشركاء مع الشعوب الاخرى القاطنة في المنطقة لا بد لنا من بناء الامة الديمقراطية كي تتحقق الحرية على هذه الأرض.

كاتب

التعليقات مغلقة.