مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

الامة الديمقراطية

زنار آمد
يتداول الشعب الكردي نظام الادارة الذاتية بكثرة ويسعى الى تطبيقه في راهننا، وذلك لاهمية هذا النظام في تحقيق الديمقراطية. اما بخصوص اهمية هذا النظام وفاعليته بالنسبة الى الامة الديمقراطية فقد اشار قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”: “إذا كانت الامة الديمقراطية روحا، فالادارة الذاتية هي الجسد”، كما اشار ايضا الى ان الادارة الذاتية الديمقراطية ستكون كجسد من دون روح بدون الامة الديمقراطية، اي انه شدد على مدى اهمية انشاء الامة الديمقراطية في تحقيق ادارة ذاتية ديمقراطية.
كما انه اشار الى مصطلح الامة في مرافعته بعنوان “الحداثة الراسمالية” بانه مصطلح “مبهم”، ان بيانه هذا هام للفت الانتباه الى ضرورة التشكيك في المعنى الذي اعطته الحداثة الراسمالية لهذا المصطلح. يبدو من الصعوبة البالغة ان تنجح الامة الديمقراطية في تحقيق تنظيمها وخاصة اثناء القيام بنشاطات الحداثة الديمقراطية، إذا لم يتم تقيم هذا المفهوم الذي اتخذته الراسمالية اساسا في القوموية التي تعتبر سندا ايديوجيا للدولة-القومية التي حددتها كبنية للدولة ولم توضع في المكان الذي تستحقه ذهنيا. لذا فبقدر تناول الامة ضمن اطار القيم الكومينالية وظروف تكوينه تاريخيا كشكل امة في ميدان التنظيم الاجتماعي، وتقيم دوره في التطور الاجتماعي تقيما صحيحا، فان تمركز الامة ضمن الحداثة الديمقراطية بشكل صحيح، تاتي في مقدمة المهام الفكرية، وكذلك فان تماسس الامة الديمقراطية اعتمادا على المجتمع الاخلاقي والسياسي الى جانب تلبية الوظائف العملية اليومية من مهام نضالنا الرئيسية.
ظروف تكوين الامة
الامة، نموذج او شكل اجتماعي مستقل عن الراسمالية في جوهره، حتى وان تم تناوله الى راهننا كاحد نتاج الحداثة الراسمالية، ولكن من سوء حظه تزامن مع تطور الراسمالية. لقد مرت الانسانية بمراحل اجتماعية مختلفة عبر التاريخ، ويعتبر كل شكل اجتماعي من هذه الاشكال هوية اجتماعية وكآداة للتعريف والتعارف. كان الكلان هو الشكل الاجتماعي الاول كما هو معلوم، وعاشت الانسانية فترة زمنية طويلة بهذا النموذج الاجتماعي، حيث يُعرف هذا الشكل الاجتماعي كجهود لتكوين المجتمع هويته. كما عرفت الجماعة نفسها مع الكلان، وحددت نظام علاقاتها سواء الداخلية او الخارجية مع الكلانات الاخرى، وهذا بدوره ما ادى الى ابراز اختلافها عنها. لذا فان جميع الاشكال الاجتماعية الاخرى التي ظهرت فيما بعد كانت ثمرة هذه الجهود. حتى وان أبدى كل شكل اجتماعي جديد خصائص التوسع والمخالطة، إلا ان جميعها كانت لاجل التعريف والتعارف، اي لاجل التوجه على مسار التطور. استمر البحث الموجود في المجتمع باستمرار عن الهوية الاجتماعية ليصل الى راهننا، ارتباطا مع تغيير عناصر اليات الانتاج والنهج، البنى الذهنية، التعداد السكاني، الظروف الجغرافية. ومثلما لم تمر الجماعات الانسانية بكافة الاشكال الاجتماعية بنفس السوية لهذه الاسباب، فلا يمكن الادعاء بان كل الجماعات مرت بجميع الاشكال الاجتماعية ايضا. ان كل مجتمع لم يعش الاشكال الاجتماعية التي مرت بها الجماعات الانسانية الى راهننا من كلان، قبيلة، عشيرة، قوم وقومية، وهذه حقيقة ملموسة. حيث عاش كل مجتمع شكلا اجتماعيا وفق ظروفه الخاصة وبسويات متباينة.
تكونت ظروف ميلاد الامة التي تعتبر نتيجة للاشكال الاجتماعية قبل الراسمالية بفترة طويلة. حيث اسست الشعوب في اوروبا سلطتها السياسية اعتمادا على البنى الكونفدرالية منذ انهيار روما. كما نظمت شعوب اوروبا نفسها على شكل بنى كونفدرالية ذاتية منذ البداية والى النهاية. حتى وان وجدت علاقات مرنة بين البنى الكونفدرالية هذه، إلا انها عبرت كل واحدة منها عن ادارة شعبية مستقلة. كانت هذه البنى هي الاساس في مرحلة تحول البنى الكونفدرالية الى امة. ان مستوى العلاقات الاجتماعية بين هذه البنى، يدل على تطور تدريجي كوني صوب التحول الى امة. وقد عبرت كل منها عن ارداتها السياسية في البنى الكونفدرالية. حيث سعت الامارات منذ قرن الثاني عشر اثناء حرب الدويلات في اوروبا الى توسع اجتماعي اعتمادا على هذه البنى بهدف ضمان تفوق بعضها على البعض. وكما كان مفهوم البحث في توسع سيادتها السياسية دارجا بالاغلب عبر اخضاع هذه البنى التي لم تكن قد اتخذت شكل امة بعد تحت سيادة الدولة. وتم استخدام مصطلح الامة لاول مرة من جانب الامير الانكليزي “هنري الاول” والامير الفرنسي “فيليب اغوستوس”، وقد بنوا مؤسسات عديدة بهدف الارتباط بالدولة القومية. كان تشكيل بنى الامم ضمن اطار الدولة محدودا بعمر الملك او الامير انذاك، إلا انها استمرت بتنظيمها الاجتماعي على شكل وحدات على مر مراحل طويلة من التاريخ. ولا يمكننا الحديث عن خضوع الامة لسيطرة الدولة بالكامل كسلطة سياسية في مرحلة الملوك التي استمرت طويلا. ومن المعلوم، بان الامم عاشت ضمن بنى كونفدرالية حرة الى مرحلة الدولة القومية والذي هو موديل الدولة للحداثة الراسمالية، ولكن ادى استيلاء الطبقات الراسمالية على السلطة وفرضها الدولة القومية على المجتمع الى انفصال الامم عن حياتها السياسية.
لقد استخدم وعي القوم بفاعلية في هذا التطور بسبب الدين الذي كان ايديولوجية العصور الوسطى. ان الكثير من البنى المعتمدة على وعي العشائر او القبائل التي كان الدين هوية لها في الكثير من المناطق، فتحت السبيل امام تكوين بنى دينية خاصة حتى تثبت تعددياتها، وما ظهور الكثير من التفرعات المعتمدة على المذاهب في المسيحية إلا ثمرة تلك المرحلة. ان مرحلة التحول الى امم وقوميات في اسبانيا وفرنسا وانكلترا والمانيا على علاقة قريبة مع هذه التطورات. حيث قاد مارتن لوثر في المانيا و الكالفينية في فرنسا هذه التطورات، كذلك ترجمة الانجيل الى اللغة الالمانية والفرنسية وبناء كنسية انكليكان في انكلترا وهولندا، كانت خطوات هامة تجاه تطور مفهوم الامة. تحول وعي العشائر والقبائل الى انشاء امة كبنية اطور مع هذه التمايزات في البنى الدينية.
لم يكن كل هذا التقارب والتضامن لوحده كافيا لتكوين الامة، لان التغيير والتطور الحاصل في السوق كان عنصرا هاما في هذا الموضوع، وكان من المنتظر ان يفتح الحكم السياسي المشترك في الميدان الاجتماعي اعتمادا على وعي العشائر والقبائل بدوره السبيل امام تشارك اقتصادي وتوسع “بمعنى شمل اكثر الشرائح الاجتماعية”. حيث تراجع الاقتصاد المحدود بالمعايير الاقطاعية رويدا رويدا، وتوسعت عملية البيع والشراء المعتمد على تدفق المال في العديد من المناطق السكنية المختلفة رويدا رويدا وبرزت السوق المشتركة. كما ان توسع السوق اصبح سببا في حدوث تغييرات جذرية في العلاقات الاجتماعية، وبدات تتحطم المقاييس المعتمدة على الاقطاعية والدين في العلاقات الاجتماعية بقدر الاقتصاد ايضا، ووسع المجتمع من نطاق علاقاته اكثر، وازداد اهمية المدن لتفوق على اهمية الريف، ليفقد الاخير اهميته رويدا رويدا. وكل هذا على علاقة وثيقة بالتطورات في السوق.
الموضوع الهام المستوجب تناوله بعناية هو الادعاء الموجود بان السوق من ابتكار البرجوازية. ان هذا الادعاء انكار الانتاج الاجتماعي والسوق الذي هو ثمرة هذا الانتاج، اما عكسه فسيكون المفهوم السليم بكل تاكيد. من الواضح بان فئة تجار الطبقة الوسطى التي اخفت نفسها ضمن السوق المتوسعة اعتمادا على العلاقات الاجتماعية، احتكرت السوق لتنهبه من بعد الاستيلاء عليه. كان السوق موجودا قبل الراسمالية كضرورة اساسية لجميع البنى الاجتماعية، وتكوَن كنتيجة طبيعية للانتاج الاجتماعي. ان المجتمع حتى في مرحلة الكلان كان يوزع الانتاج الفائض كهدية، واستمرت هذه النشاطات الى راهننا عبر الاجداد كما هو معلوم. وندرك من خلال الحفريات التي تسلط الضوء على اقدم المراحل التاريخية بوجود ميادين تبادل المنتوجات والمال اعتمادا على القيم المستهلكة بين المجموعات الاجتماعية، وكانت انسب الميادين للسوق، لم يكن هناك اية اثار لعناصر احتكارية واستعمارية. وابعد من ان يكون السوق ساحة للاحتكار والاستعمار، فقد لعب دوره كساحة لمشاركة النشاطات الاقتصادية في المجتمع، واعتمدت الامة على خاصية السوق هذه في مراحل تطورها.
ظهرت الامة كهوية اجتماعية متشكلة حول وعي القبيلة + الدين + الارادة السياسية المشتركة + السوق المشتركة من بعد كل هذا التطور والادخار والتراكم. اثناء التحري في جميع المكونات التي مهدت السبيل امام تطور الامة، نرى بان لا الدولة ولا الراسمالية “او اي نظام دولتي” ضرورة في هذا التكوين، بالعكس فقد وصلت الامة الى ظروف تكوينها الحر ضمن البنى والميادين الخارجة عن الدولة.
الدولة، الطبقة والامة
يتم تعريف الامة كاحد نتاج الطبقة البرجوازية الى راهننا، وبذلك كاد التفكير بهوية اجتماعية مستحيلا من دونها، وحتى عرفت البرجوازية كطليعة لهوية الامة الاجتماعية. حيث تحولت الامة الى هوية لطبقة واحدة من بعد ابتعادها عن دورها في تمثيل وتعريف المجتمع، وتم تعريف المكونات المتبقية من المجتمع عبر طبقة واحدة. تُرك ممثلية المجتمع بيد البرجوازية، اي بقي المجتمع عرضة لاستعمارية هذه الطبقة من دون حدود. وجدت البرجوازية من التصرف بالامة كحق شرعي لها لدى تكليفها بهذا الدور. تحققت الدولة القومية التي استخدمتها الطبقات الراسمالية كاداة للاستيلاء من خلال ارتباط الامة بالدولة. تعرضت الامم الى كافة انواع الاستعمار والقمع والابادة بين مسننات القوموية عبر الدولة القومية باجبار كل امة على بناء دولتها. وبذلك تحولت هوية الامة الى هوية عداء الجميع لبعضهم البعض ضمن دوغمائية دين قوموية الدولة القومية الصارمة. وفي الحقيقة استخدمت الطبقة البرجوازية النمط الاحادي كسلاح رئيسي لابادة الشعوب في مرحلة انشاء الامة التي ابرزت مجتمعية مبنية على اسس وحدة التعدديات بشمولية كهوية عليا. حيث لم يمارس اي شكل اجتماعي عرفه التاريخ من التعدديات الاخرى الموجودة بداخله الظلم والقمع بقدر البرجوازية، ولم يعادي اي جماعات خارجة عنه بقدر عدوانيتها. لدى خروج هوية الامة من كونها هوية المجتمع وتحولها الى هوية لطبقة واحدة، اضطر المجتمع الى خدمة مصالح تلك الطبقة بدل من مصالحه، وهذا بدوره ما تسبب في وقوع ابادات ومجازر وحشية لا تريد الانسانية مشاهدتها مرة اخرى. لا يمكننا تعريف هذا النظام الاستعماري القمعي ضد المجتمع كنموذج اجتماعي. عرف قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” هذا الوضع بـ “ابادة المجتمع”. بصريح العبارة، يتم ابادة المجتمع بيد المجتمع عبر الاستيلاء على الهوية الاجتماعية.
ان السبب الرئيسي في وجود الكثير من الحيل والالاعيب حول مفهوم الامة الى راهننا، يعود الى مساعي الطبقة الوسطى وفئة التجار التي لم تجد اي سند اجتماعي على مر التاريخ وحيلها عبر السوق للاستيلاء على السلطة، ويمكننا تسمية هذه الالاعيب والحيل بجهود الطبقة الوسطى لتكوين مسند لها.
كانت جميع الانظمة الدولتية التي عرفتها المجتمعات في تاريخها في سعي دائب لخلق مجتمعيتها، واستطاعت فرض تاثيرها على المجتمع بقدر تكوين مجتمعيتها، والهدف الحقيقي من ذلك كان اخضاع المجتمع الى سيطرة الدولة بالكامل، كما تطلعت الى جميع المجتمعات المتبقية خارج الدولة كخطر حيوي بالنسبة لها، إلا انه لا يمكننا القول بأن الدولة حققت نصرا نهائيا ضد المجتمع في اي مرحلة من مراحل التاريخ. فلا الملوك ـ الالهة ولا الملوك “ظل الله” كانوا قادرين على تدول المجتمع. اعاقت مقاومة القيم الكومينالية الاجتماعية هيمنة الدولة المطلقة على المجتمع باستمرار.
تسعى الطبقات الراسمالية كملوك العراة وممثلية الحضارة الدولتية في راهننا ايضا الى اندلاع حرب كهذه ضد المجتمع مع مرحلة التحول الى سلطة، اما هدف هذه الحرب فكان تحويل المجتمع باكمله الى ملك للدولة. ان ارتباط الامة التي تعتبر الوجود الطبيعي للمجتمع بالدولة في هذه النقطة، يعتبر انجازا جديدا للحضارة الدولتية. وبدفع المجتمع صوب السلطة كونت وحدة المجتمع _السلطة الافتراضية، دعت بذلك المجتمع الى تبني السلطة لتعده جزءا منها، إلا انها نفس السلطة التي ارتكبت اكبر المجازر بيد المجتمع ضده. وهذا لا يعبر عن شيء سوى جهود الطبقات المزيفة التي لا تملك اي سندا اجتماعيا للاختفاء ضمن الامة وشرعنة نفسها.
التضليل الايديولوجي هذا فرض كبراديغما حاكمة على الفلسفة والسياسة والايديولوجيا التي كافحت باسم القيم الاجتماعية في المجتمع. لم يكن هناك اي وجود لتوجيه الدولة في كفاح المجتمع اللادولتي الى حين المرحلة الراسمالية، ولكن كان هناك بحث دائمي عن بديل تحرر المجتمع اللادولتي. ادركت الاثنيات المقاومة ضد الحضارة الدولتية مبكرا بانها ستعيش حرا بقدر ابتعادها عن الدولة. كما حافظت البنى والفئات والطبقات الاجتماعية اللادولتية على تقاليد المجتمع الطبيعي بوقفتها البعيدة عن الدولة ذهنيا وجغرافيا. ونحن اليوم لو كنا نتحدث عن بديل خارج الدولة وعن حضارة كومينالية ديمقراطية، فهذا لاننا مديونين لمقاومة البنى والاشكال الاجتماعية اللادولتية. إلا ان الطبقات الراسمالية استهدفت القضاء على بديل المجتمع الحر عبر فرض الهيمنة البراديغمائية على المجتمع، وذلك من خلال قيد الطبقات والفئات المكافحة الحرة باسم المجتمع بسلاسل الدولة، وحتى قيادة هذه الطبقات والفئات لم تحلل هذه الذهنية بصواب وفشلت ضد الدولة في هذه النقطة.
ارتكبت اخطاء في مسيرة كفاح الاشتراكية بقيادة ماركس وانجلس وخاصة في موضوع الامة، لانهما تناولا الامة كنتاج الطبقة البراجوازية. ثم وصفت الاشتراكية بان حملات استيلاء الطبقة البرجوازية على السلطة كثورة ديمقراطية اكسبت الامم من خلالها طابعا ديمقراطيا من بعد تحريرها. كما ذكرنا اعلاه، ان تناول الامة بهذا الشكل يعني استلامها الى الطبقة البرجوازية هذه وتركها تحت رحمتها. حُكم على الامم بان تبقى مرتبطة ببنية الدولة القومية وفق مبدأ حق تقرير المصير. وقد بدى واضحا من خلال تشخصيات لينين السائر على خطى الماركسية بانه لم يتناول الامة خارج الدولة واعتبر الدولة القومية التي هي احدى اهم وسائل المجتمع الراسمالي الاستهلاكي آداة لا يمكن للحركات الوطنية الاستغناء عنه. مع تناول الامة كشكل اجتماعي اساسي قدمت مساهمات كبيرة من اليسار لشرعنة الراسمالية. حيث عرف قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” مركزها هذا بـ “المذهب الراسمالي اليساري”، اي لم يكن بمقدور الحركات الوطنية المناهضة للراسمالية ان تنقذ نفسها من التحول الى مذهب للراسمالية.
الامة، هوية اجتماعية ديمقراطية
من الضرورة اعادة تناول الامة على ضوء كل هذه التعاريف. ان اعادة بناء المجتمع باسم الامة عبر القيم الكومينالية واعتمادا على وحدات المجتمع الاخلاقية والسياسية كسبيل وحيد لافشال جميع المؤامرات المدبرة ضد الشعوب من اكبر المهام الثورية.
وهنا ينبغي اولا تعريف الامة كهوية، ان تعريف المجتمعية وجودها حاجة لا يمكن المفر منها كمثل جميع المكونات الموجودة في الطبيعة. لقد عرفت المجتمعات نفسها بهوية واحدة الى راهننا. ان الهوية تُعرف ذات المجتمع وقيمه المعنوية وعواطفه وافكاره وتكوين افراده وتعيين طريقة عيشه. لا يمكن ترك الهوية عرضة لهيمنة طبقة او شريحة اوزمرة. ان السبيل الوحيد لدمقرطة الهوية الاجتماعية هو تمثيلها لجميع فئات المجتمع والتعبير عن جميع عناصر تكوينه، وان يكون بمقدور الجميع اعطاء معنى لحياته بهذه الهوية ويلبي مستوجباتها. بمكاننا الحديث عن وجود دمقرطة الهوية بقدر ما تستطيع جميع مكونات المجتمع التعبير عن نفسها بحرية.
ستتطور صياغة الامة بقدر شمولية الهوية الاجتماعية ومدى ضمانها فرص التشارك مثلما تم استوعابه من الظروف التي مهدت السبيل لتطور الامة. بتعبير اخر، ان وحدة التعدديات على اسس الحرية هي الظروف الاولية لتعبير الامة الديمقراطية عن الروح الاجتماعية. ويعبر هذا عن عكس مرحلة انشاء الامة التي تُسندها الراسمالية على النزعة القومية عبر مجموعة اثنية واحدة. ان اساس انشاء الامة الديمقراطية هو انشاء الامة بغنى التعدديات وليس بالنمط الاحادي. وقد اشار قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” في مرافعته بعنوان “سوسيولوجيا الحرية” الى كيفية تشكيل نموذج الامة الديمقراطية الانسب لطبيعة المجتمع بقوله:
السبيلُ الثاني في التحولِ إلى أمة يتحققُ بتحويلِ المجموعات المتمايزة أو المتشابهةِ في اللغةِ والثقافة إلى مجتمعٍ ديمقراطيٍّ ضمن نطاقِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي، وذلك على أساسِ السياسةِ الديمقراطية. وفي هذا التحولِ إلى أمة، تَحتلُّ جميعُ القبائلِ والعشائر والأقوامِ وحتى العوائل مكانَها كمُكَوِّناتٍ قائمةٍ بذاتها ضمن المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي، ناقِلةً غِناها في لَهَجاتِها وثقافاتِها إلى الأمةِ الجديدة. وفي هذه الأمةِ الجديدة، لا مكانَ بتاتاً لطغيانِ أو هيمنةِ طابعِ مجموعةٍ أثنيةٍ، أو مذهب، أو عقيدة، أو أيديولوجيةٍ ما بمفردِها. ذلك أنّ التركيبةَ الجديدةَ الأغنى هي تلك التي تتحققُ طوعياً. بل وحتى بمقدورِ العديد من المجموعات اللغويةِ والثقافية المختلفة العيشَ كمجتمعاتٍ ديمقراطيةٍ على شكلِ وحدةٍ Birim عُليا مشتَرَكةٍ لجميعِ الأمم، وكهويةِ أمةِ الأمم بوساطةِ السياسةِ الديمقراطية نفسها. هذا هو الطريقُ المناسب للطبيعةِ الاجتماعية.
بالطبع ان هذا يفرض وبالضرورة قيام ثورة ذهنية، ولهذا يجب انهيار البنى الذهنية الابوية المتمحورة حول الهرمية والدولة والسلطة التي شكلتها الحضارة الدولتية في المجتمع الى راهننا، وتكوين براديغما التحرر الجنسوي الاكولوجي الديمقراطي بدل براديغما الهيمنة المعتمدة على هذه الذهنية. يجب ان تكون الثورة الذهنية من اهم المواضيع في انشاء الامة الديمقراطية. بدون التخلص من البنية الذهنية الدولتية السلطوية وترسيخ الذهنية الكومينالية الديمقراطية بدلا عنها، لا يمكن تحقيق مجتمعية جديدة ولا ضمان تماسس الامة الديمقراطية.
من السذاجة الاعتقاد بتحقيق ثورة ذهنية من حال نفسها. فلا يمكن لاية ذهنية ان تكون حاكمة من دون ضمان مؤسساتها التعليمية. لذا فان النشاطات التعليمية اعتمادا على البراديغما الجديدة من بين اوائل وظائف انشاء الامة الديمقراطية. ان التعليم من بين اهم نشاطات تكوين المجتمع نفسه، ان البراديغما المتشكلة جديدا بالتعليم في المجتمع، ستضمن تكوين بنية اجتماعية مسالمة مع مكوناتها وافرادها ومع الطبيعة ايضا. سيتمكن المجتمع من تكوين بنيته الذهنية بالجهود التعليمية وبناء مراكزه بدءا من المراكز اللغوية، الدينية، الثقافية، السياسية والى المراكز التعليمية والرياضية، وستكون المؤسسات الجديدة هذه ميادين تعليم اساسية لتوعية المجتمع في نفس الوقت، وهذا هام وضروري لانشاء الامة الديمقراطية.
هناك بعض المعايير الاساسية لدى تكوين المجتمعية نفسها على شكل الامة الديمقراطية بالاستناد على البراديغما الجديدة، ويمكننا تعداد البعض منها على الشكل التالي:
1- ان يكون للكل حق اتخاذ القرار والتنفيذ قولا وعملا، ويسود المجتمع حياة كومينالية مشتركة على اساس الطواعية الى جانب ضمان انضمام جميع الوحدات انضماما طوعيا ضمن نطاق شكل المجتمع الاخلاقي والسياسي عبر تحرير المجتمع من جميع براثين البنى الهرمية النابعة من السلطة.
2- يجب ضمان انضمام المراة بدورها الريادي الى الحياة الاجتماعية بخصائصها البناءة والابداعية اليقظة معتمدا على التوازن بين الذكاء العاطفي والتحليلي عبر انهيار البنى الابوية الجنسوية المتكونة على الاغلب بالذكاء التحليلي.
3- ان يسود المجتمع نهج حياة اكولوجية والعيش بتناغم مع الطبيعة والشعور بالمسؤولية تجاهها عبر انهاء جميع النزعات التحكمية التي مهدت السبيل امام تهميش الطبيعة والتطلع اليها كمجرد شيء.
4- الاعتراف بحرية جميع الاثنيات والاديان والعقائد واللغات المتباينة وضمان تطورهم من بدل تهميشهم او ابادتهم، وتناول الجهود المبذولة في سبيل تحقيق حياة كريمة لهم كنشاطات ديمقراطية اولية.
5- يجب اتخاذ تقسيم العمل الاجتماعي المعتمد على العناية والمهارة والحاجة اساسا، ورفض البنى التصنيفية المتمخضة عن السلطة من طبقات واصناف وزمر بكافة انواعه في المجتمع، وتشجيع انضمام كل فرد الى الحياة الاجتماعية والانتاج والتنظيم ضمن هذا النطاق.
الامة، الاخلاق والسياسة
يمكننا تعداد عناوين اخرى وتوسيعها بفروعات اكثر، أما تحقيق هذه الظروف فمرتبط بانشاء الامة اعتمادا على وحدة المجتمع الاخلاقي والسياسي. ولا يمكن الحديث عن تحقيق الامة الديمقراطية بدون اعتماد جميع البنى الاجتماعية سواء أكانت صغيرة ام كبيرة على وحدة المجتمع الاخلاقي والسياسي كما ونوعا. ان الامة التي لا تعتمد على المجتمع الاخلاقي والسياسي الذي وصفه القائد بـ “حال المجتمع الطبيعي” لا يمكنها مقاومة وتصدي الحداثة الراسمالية، فاما ستخدمها باسوء الاشكال او ستكون محكومة بالفناء. ان المجتمع الاخلاقي والسياسي الذي يعبر عن نفسه كمجتمعية قادرة على تعيين قوانينها وتنفيذه، هو السبيل الوحيد لتحقيق ذاته وفرض سيادة الحضارة الديمقراطية. يمكن بناء المجتمع الاخلاقي والسياسي من خلال تلبية جميع الوحدات التي تشكل الامة مهامها الفكرية والاخلاقية والسياسية.
ان المهام الفكرية التي تاتي في مقدمة الجهود الرامية الى بناء حكم الحضارة الديمقراطية تماثل جميع النشاطات المسيرة ضمن نطاق الثورة الذهنية التي ذكرناه اعلاه، ويجب تناول جميع النشاطات الرامية الى اظهار بنية المجتمع الطبيعي ومنها النشاطات الاجتماعية والتاريخية والايديولوجية والسياسية والاقتصادية ضمن نطاق هذه المهمة. لذا فان للاكاديميات دور هام لتسيير هذه الاعمال، ومكان لانبعاث الروح الاجتماعية بالوعي الذي سيكسبه للمجتمع على اساس انشاء الامة الديمقراطية، وهذا هو السبب الكامن وراء اصرار قيادتنا في بناء الاكاديميات.
ان البعد الاخلاقي والسياسي يعبر عن تحديد جميع القواعد المتعلقة بنشاطات المجتمع وكيفية ادارة اعماله وتلبية وظائفه. كيف يمكن للوحدات الاجتماعية التي تشكل الامة ان تسير اعمالها وعلى اية اسس، وكيف ستتعامل مع الطبيعة وعلى اية اسس يمكنها الاستمرار بعلاقاتها الداخلية، ان بيان كل ذلك متعلق تماما بالبعد الاخلاقي والسياسي للمجتمع. وعندما عرف قيادتنا الاخلاق على انها: ” تعريفُنا للطبيعةِ الاجتماعيةِ بالطبيعةِ المشحونةِ على الأغلب بالذكاءِ المرنِ قد يُسَلِّطُ الضوءَ على الموضوع. المَقصودُ بالذكاءِ المرنِ هو القيامُ بالعَمَلِ من خلالِ الفِكر. فالعلاقةُ بين التفكيرِ والعملِ ستتضمنُ قاعدةً ما بالضرورة. ذلك أنّ كيفيةِ وجوبِ إنجازِ العملِ بِحَدِّ ذاتِها تعني القاعدة. هذه الممارسةُ الأولى بشأنِ العملِ يُمكِننا تحديدَها كأولِ قاعدةٍ أخلاقية. أما مَرامُنا من العمل، فهو شتى أنواعِ النشاطاتِ الاجتماعية. فكلُّ ممارسةٍ عَمل، بدءاً من الأكلِ إلى النوم، ومن السير إلى الحصولِ على القوت، ومن مصادَقةِ الحيواناتِ أو مصارَعتها، ومن العنايةِ بالنباتِ إلى صيدِ السمك. أما هذا العمل، فلا يمكن إنجاحَه دون قاعدة. أما الفشل، فيعني موتَ المجتمع” فانه من الواضح تحدث عن نشاطات تكوين جميع قوانين حياة المجتمع. وعن السياسة يقول: ” المجتمعُ ظاهرةٌ أو طبيعةٌ سياسية، تماماً مثلما الحالُ في الأخلاقِ أيضاً. إنه سياسيٌّ بوصفِه طبيعةً اجتماعية، لا بمعنى نشاطاتِ الدولةِ الرسميةِ حسبَما يُعتَقَد. فإنْ كانت وظيفةُ الأخلاقِ ممارسةَ أفضلِ الأعمال، فوظيفةُ السياسةِ وإيجادُ أفضلِ الأعمال. إذا ما انتَبَهنا، فالسياسةُ تَحمِلُ البُعدَ الأخلاقيّ، بل وما يتعدّاه أيضاً. فإيجادُ الأعمالِ الحسنةِ ليس سهلاً. بل يتطلب معرفةَ الأعمالِ على خيرِ وجه، أي يتطلبُ المعرفةَ والعلم، إلى جانبِ أنه يقتضي الإيجادَ، أي البحث.
ان المقصود هنا من الاعمال الحسنة هي تلبية حاجات المجتمع الضرورية وكل ما يتعلق بحياته عموما، لذا فان السياسة تعني جميع النشاطات المسيرة بخصوص مسالة الحرية والمساواة والديمقراطية التي تعتبر من المواضيع الاجتماعية الحياتية. والاهم هو تعيين المجتمع قواعده في هذه المواضيع. ان السياسة تعني ايضا ميدان تعيين حاجات المجتمع واختيار الافضل. ان الميادين التي تتكون فيها العقل والروح الاجتماعي المشترك هي نفسها ميادين الاخلاق والسياسة.
يمكننا تعريف الامة الديمقراطية على انها اخلاقية وسياسية عندما تحدد وحداتها كل ما يتعلق بحياتها من قوانين وتنفذه. ان تعيين المجتمع بنفسه جميع نشاطاته الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية، التعليمية وحتى الرياضية وادارتها بانضمام طوعي بدل القوانين المفروضة قسرا على المجتمع تحت اسم الحقوق والاحكام الادارية في الانظمة الدولتية التي تشكلت خارج المجتمع هو الاساس في اعادة بناء المجتمع على اسس الديمقراطية. وستضمن كل وحدة غنى الامة بنقل خصائصها الذاتية وثقافتها الى الامة الجديدة، ولن يكون لوجود مفهوم احادي النمط او هيمنة طبقة او معتقد او اثنية على اخرى في المجتمع ضمن الامة الجديدة. وبمكان امة بهذا الشكل ان تكسب طابعا ديمقراطيا يعبر فيه الكل عن هويته ليمهد السبيل لروح اجتماعية.
المشاعة او الكومين هو النموذج التنظيمي الافضل لتنشيط وحدات الامة الديمقراطية، وحتى بمقدور كافة الفئات والشرائح الاجتماعية بدءا من الطبقات والمجموعات المهنية ومن النساء الى الشباب والوحدات الاجتماعية الاخرى تنظيم نفسها على شكل مشاعات في الاحياء والقرى والمدن اعتمادا على المجتمع الاخلاقي والسياسي. ان تنظيم الكومين تتكون من اكثر الوحدات الديمقراطية التي تلبي المجتمع فيها اعماله بنفسه. عندما تكون المشاعات المعتمدة على القوة والكفاءة الذاتية هي نموذج تنظيم الوحدات التي تشكل الامة، فان الادارة الذاتية هي نموذج التنظيم الاساس لتحرير نفسها من الدولة وانهاء الاسكان الاجباري الذي تفرضه الدولة على الامة. ان اكثر الميادين الحرة لانشاء الامة الديمقراطية وتموقعها ضد الدولة هي ميدان الادارة الذاتية الديمقراطية. ان الادارة الذاتية الديمقراطية في عصر الحداثة التي فرضت الدولة نفسها فيها على جميع المجتمعات هي عنوان النظام الذي اكتسبته روح الامة الديمقراطية تجاه الدولة. وبمكان الامة ضمان وجودها من خلال تحويل روح الديمقراطية الذي خلقته في بنيتها الى شكل نظام الادارة الذاتية ضد الدولة.
ان النموذج الاساس الذي يدعو الدولة الى رعاية الديمقراطية هو نموذج الادارة الذاتية الديمقراطية كما نشاهده في الكثير من انحاء العالم في راهننا، كما يحافظ هذا النموذج على اهميته اكثر في كردستان والشرق الاوسط المتضرران من بنية الدولة القومية التي مهدت السبيل امام اصابات بنيوية فيهما. ان النموذج الحقيقي الذي يمكنه اعاقة المنازعات والمشاحنات التي تسببه الدولة القومية في جغرافيا عاشت فيها الثقافات والاثنيات ضمنيا وجنبا الى جنب على مر الاف الاعوام ومعايشة كل الثقافات مع بعضها البعض باحترام متبادل هو نموذج الادارة الذاتية الديمقراطية. إذا كانت الامة الديمقراطية هي عنوان بناء حياة مشتركة لجميع الشعوب والثقافات والمعتقدات، فان الادارة الذاتية الديمقراطية هي عنوان الدفاع عنها ضد الدولة.

كاتب

التعليقات مغلقة.