مجلة فكرية سياسية ثقافية تعنى بشؤون الشرق الأوسط

آفاق السياسة الديمقراطية في ظل الثورات الشعبية

 نيروز عثمان      

ان تناول السياسة الديمقراطية هام لحل القضايا الاجتماعية المتفاقمة في الشرق الاوسط، لأنها الوسيلة الافضل في هذه المرحلة التاريخية. ومن اهم القضايا التي تحتاج الى حلاً ديمقراطياً هي قضية المرأة، العائلة، الشبيبة، الاقليات، الاديان، المذاهب والطوائف. ان معالجة هذه القضايا الى جانب القضايا الاقتصادية والسياسية والاخلاقية من اهم المشاهد التي تقف امامنا في هذه المرحلة المسماة بالحرب العالمية الثالثة المتمحورة في الشرق الاوسط. إذ بات واضحا وخاصة بعد انتفاضة الحركات الشعبية في عموم بلداننا بأن سياسة الدولة القومية والتي تعتبر من ركائز الحداثة الراسمالية تقف حجرة عثرة امام تطبيق سياسة ديمقراطية يعبر فيها المجتمع عن حرياته. لذا فان سياسة الدولة القومية تتسبب في تفاقم الازمات وبالتالي الى احتقان تنتهي بظهور حركات شعبية مثلما نجده في واقعنا. ان نهوض الثورات عبر سياسة ديمقراطية سيكون كفيلا بحل القضايا الاجتماعية، كون المجتمع سيتمكن من ادارة نفسه بنفسه. ستتمكن الحقائق الاجتماعية من الانبعاث والنهوض في ظل السياسة الديمقراطية، لذا فان حلها سيكون دافعا قويا لحل القضايا التي ذكرناه آنفاً.

من المعلوم بان جميع القضايا التي كانت ولاتزال المجتمعات تعانيها في الشرق الاوسط قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية واخلاقية بالدرجة الاولى، ولكن ينبغي هنا تناول دور السياسة المتبعة في تصعيد وتيرة استفحال هذه القضايا، حيث لا يمكن لاحد ان  يغض النظر عن سياسة الدولة القومية في ادارة المجتمع. حيث استولت على قيم المجتمع وسعت الى تحطيم ارادته وعزله عن ممارسة السياسة، لان السياسة باءت من فن الدولة بدل المجتمع بعد ظهور المجتمع الطبقي الهرمي وتوغل نظام الحداثة الراسمالية على يد الدولة القومية. ما يمكن لنا تناوله هنا هو صلة القضايا الاجتماعية بعدم تطبيق سياسة ديمقراطية بديلة عن سياسة الدولة القومية. ولكن قبل التطرق الى هذه الصلة نود ان نلخص واقع المجتمع في الشرق الاوسط ومدى تحجيمه وتقزيمه وتحويل قضاياه الى عقد لا تنفك تحت ظل سياسة الدولة القومية والنظام الراسمالي. اذن، فماهي القضايا الاجتماعية التي تعانيها المجتمعات في الشرق الاوسط؟

عندما نلقي نظرة على الواقع الاجتماعي للشعوب الشرقية وبالاخص نوعية علاقاتها وقواسمها المشتركة من قيم تاريخية وثقافية ودينية واخلاقية، فأول ما سنتلامسه هو التاريخ والحضارة المشتركة وخاصة للشعب الكردي والعربي والارمني والسرياني والفارسي والتركي، حيث تكون هذا التاريخ بمزيد من النضال والكفاح الاخوي المشترك، ولم تكتفي الشعوب الى هذا الحد فحسب، فقد تصدت للغزوات الخارجية جنباً الى جنب والكثير من المعارك المشهورة في التاريخ تشهد على هذه الحقيقة، فمثلا معركة تشالديران التي تعبر عن وحدة الشعور الكردي والتركي. وهذا بدوره يدل على صداقة واخوة الشعوب التي كانت كنهج حياة حاكمة في المنطقة، اي انه لم يكن هناك عداء جذري حاكم، بل كان الحب والاحترام المتبادل والاعتراف بالاخر وبكل قيمه العقائدية هو الكامن في جوهر المجتمعات. حيث كانت المجتمعات تعيش بعاداتها وتقاليدها وفق حقائقها الاجتماعية التراثية التي لاتزال حية ونابضة في صميم الشرق، كما شاهدناه في الحركات الشعبية التي بدأت بنيران جسد الشاب التونسي ابو عزيزي.

لاحياء وترسيخ هذه الحقيقة التاريخية والاجتماعية مجددا ينبغي شل جميع انواع النزعات والنعرات القومية والطائفية التي ترسخت بعدما توغلت الانظمة القومية الى مسامات وخلايا مجتمعاتنا عبر سياسة الحداثة الراسمالية التي كانت الدافع لها، وحولت هذه الحقائق الى آداة لحروب وصراعات دموية لا تعرف الهدوء الى يومنا الراهن. ولكن لسد الطريق امام هذه السياسة ينبغي تعبئة المجتمع بوعي سياسي واخلاقي حتى يتمكن من ممارسة سياسة ديمقراطية قادرة على الحد من ممارسات الدولة القومية. كون السياسة تحول الى مصطلح مكسوٍ برداء القذارة والحيل والمؤامرات مع ظهور المجتمع الطبقي الهرمي والمتمثل في الدولة القومية اليوم.

لذا اصبحت السياسة في نظر المجتمع فن الخداع والكذب والحيلة، لانها تحولت الى فن للدولة. وكاد المجتمع ان يثق بان السياسة عمل الدولة وليس من عمله، إلا إن الحقيقة عكس ذلك تماما، كون السياسة هو فن ادارة المجتمع نفسه بنفسه، ولايمكن للنظام الدولتي أن يمارس سياسة ديمقراطية، لانها تنكر المجتمع وتتعامل معه معاملة القطيع. لاعادة النظر في المغالطات الموجودة بحق مصطلح السياسة مثلما يقولون بأن السياسة قذرة، ينبغي اولاً ان يمتلك المجتمع وعياً سياسياً واخلاقياً عبر ممارسة السياسة الديمقراطية. لبزوغ فجر الديمقراطية من جديد هناك حاجة ماسة الى تطبيق سياسة ديمقراطية بارادة المجتمع حتى يستطيع تلبية اعماله على احسن وجه ويقرر مصيره بنفسه. وقد نوه قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” الى دور السياسة الديمقراطية في بناء مجتمع اخلاقي وسياسي في جميع مرافعاته، كما إنه توقف على موضوع سياسة الدولة القومية ومدى دورها في اعاقة حل نظام ديمقراطي في المجتمع الشرقي. ان المخرج من الأزمات الاجتماعية هو تحقيق سياسة ديمقراطية لاعادة كل ما فقده المجتمع من قيم تحت ظل السياسة الدولتية العنصرية الشوفينية. وكمبدأ من مبادئ السياسة الديمقراطية هو الاعتراف بالآخر، وإذا ما تحلينا بهذا المفهوم سنكون قد قطعنا شوطاً كبيراً صوب دمقرطة الشرق الاوسط.

اما الجانب الاخر من القضية فتكمن في التعصب الذهني والدوغمائية الموجودة في البنية الاجتماعية والتي تؤدي بدورها الى نزاعات وصراعات لا تجني الشعوب من ورائها سوى مزيدا من الويلات واستنزاف الدماء كمثل جميع الصراعات المذهبية والطائفية التي لا تخدم سوى مصالح الانظمة الدولتية السلطوية. ان تحليل نتائج هذه القضية تحتاج الى دراسة وتحري سليم في واقعنا الحالي، حتى نتمكن من تحقيق سياسة ديمقراطية تضمن تعايشا سلميا.

ومن اهم القضايا التي تعانيها مجتمعاتنا تحويل الدين الى آداة سياسية بيد الدولة السلطوية واستغلالها لمصلحة فئة طبقية معينة. ان المجتمع الشرقي من المجتمعات الغنية بقواها المعنوية النابعة من تاريخه العقائدي العريق، حيث شكل أرضه منبع ظهور جميع العقائد والاديان، وهذا ما يدل على انه مجتمع معنوي وروحي ومؤمن بروحانية قيمه الاجتماعية. ولكن من بعد استغلال روحه وعقائده ومقدساته في سبيل حروب دموية لم يجني الشرق منها سوى المزيد من النزعات الطائفية والدينية والمذهبية. ان قضية النزاع هذا يشكل اهم القضايا التي نعانيها في راهننا، كون التعصب الديني والقومي لا يتكافئ مع خصائص المجتمع في الشرق الاوسط، نرى بان حدة التوتر بين الاطياف المتنازعة بهذين النزعتين تنهك بالبنية الاجتماعية وتجعله ساحة لصراع دموي جراء النظام المركزي الذي لا يقبل بالاخر ولايعترف بالعقائد الاجتماعية التي تمثل روحه الحي.

والسؤال الهام هنا كيف يمكننا ان نتحرر من براثين هذا التعصب وكيف سنتمكن من الحد لهذا الصراع إذا ما لم نتبع سياسة ديمقراطية! وبما ان السياسة الديمقراطية هو شكل الاعتراف بكافة العقائد والاديان وممارسة الشعائر والطقوس بحرية، لذا فبمكان الكل ان يمارس عاداته وتقاليده الدينية من دون سطو احد على اخر. وكثيرا ما صادفنا وجود الكنيسة والجامع في شارع واحد في العديد من بلدننا الاوسطية. كما يجب تحرير الدين من يد السلطة لانه تحول الى آلة بيدها وتستغلها بافظع الاشكال في خدمة مصالحها كما في الاسلام السياسي المعتدل الذي يقوده الحكومة التركية بقيادة رجب طيب اردوغان. كما ان هذا النوع من الصراع لا يخدم المصالح الوطنية ولا الاقليمية بل تصبح عماد لتطبيق النهج الراسمالي الذي يسعى جاهدا الى ترسيخ نظامه عبر هذه الثغرة.

علينا ان نتصف بصورة واقعية في تطلعنا الى ما يجري في شوارعنا والتحري فيما وراء الستار، فهل يمكننا ان نوجه اصبع الاتهام نحو المتصفين بالارهاب او الذين يرتكبون الجرائم باسم حماية الدين والعقيدة او باسم مناهضة النظام فحسب، ام علينا أن نصل الى مربط الفرس اي الى المنبع الحقيقي من وراء هذه الجرائم التي ترتكب يومياً والذي يكمن في الذهنية الدولتية التعصبية التي تدفع الشعوب نحو التعارك والنزاع تحت اسماء عديدة. لكننا متأكدين بان الاديان والعقائد الانسانية تهدف الى تعايش سلمي حر وحياة اجتماعية مشتركة تعتمد على سياسة ديمقراطية لا تقدم الانسان فيها ضحية مآرب والشرق الاوسط بغنى عنها.

ان المشهد العراقي والسوري من اكثر المشاهد الدالة على الصراع الطائفي والمذهبي. وان تركيز الصراع في هذين الساحتين ايضا موضوع جدل اخر. فكما نعلم بان للعراق وسوريا تاريخ قديم قدم الحضارة الانسانية وتمثل موزاييك الشعوب بثقافاتها وتعددياتها، الى جانب وجود ثروات طبيعية غنية تمكنهما من العيش برفاهية وحل قضية البطالة والفقر والجوع. لكننا نرى بان الشعب في هذين البلدين تحول الى اكثر الشعوب الفقيرة والمتنازعة بعدما كان السلم والاخوة شعارها، مثلما كان عليه مدينتي حلب وكركوك. ان المدينتين مشهورتين بغناهما الثقافي والمادي ولكنهما تحولا الى بؤرة للصراع والنزاع.

كما ان هناك محاولة في تحول الصراع الموجود في سوريا والعراق الى صراع كردي وعربي، إلا ان حقيقتها غير ذلك، لانه صراع لاجل تحقيق مصالح القوى الدولتية والعالمية. حيث تتربص عيون الراسمالية في بترول كركوك وموقع حلب التجاري كما هو معروف تاريخيا. يبدو لنا من هذا المثال ايضا بان السياسة المتبعة سياسة لا تخدم مصالح المجتمع بل تخدم مصالح نخبة تسلطية فردانية بقيادة النظام الراسمالي العالمي. وجميع مخططاتها تتمحور في كيفية نهب القيم المادية والمعنوية، حتى يمكننا تسمية الصراع الموجود في هذه البلاد صراع بين قوى الحداثة الراسمالية والحداثة الديمقراطية. ان نظام الدولة القومية نظام يعادي مفهوم الامة الديمقراطية المبنية على اسس التعايش المشترك وفق وحدة واحترام المبادئ العقائدية والدينية والثقافية للشعوب. وعلى حد تعبير قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”: ان الدولة القومية تنتج الازمة ولا تقوم بحلها “. وهذه هي السياسة التي  يتم تطبيقها حالياً وذلك لتضيق الطوق على المجتمع وتعميق الازمات الموجودة.

بمكاننا تحقيق الامة الديمقراطية وتخطي الصراع والمأزق الحالي من خلال تطبيق سياسة ديمقراطية. اي ان الخطوة الهامة في دمقرطة الشرق الاوسط هو مدى  تناول هذا المصطلح بشكل سليم ذهنياً، فما زال هناك من ينتظرون الديمقراطية من النظام الدولتي ويتوقعون ان يحقق هذا النظام الديمقراطية. لا يمكن للدولة ان تاتي بالديمقراطية لانها تتحكم بالمجتمع عبر سياسة دولتية لا ديمقراطية ولا تعطي اي اعتبار لارادة المجتمع حتى وإن صبغت العملية الديمقراطية وفق مفاهيم الحريات الفردانية او عبر اجهزة مؤسساتية لا تخدم سوى اجهزة الدولة كالعملية الانتخابية الشكلية وغيرها. فحتى اليوم بعض القوى المعارضة والاحزاب السياسية لم تتخلص من مفهوم سياسة السلطة او السياسة الدولتية، وهذا بدوره يغذي سياسة النظام ولا يضعفها. تعتمد سياسة الدولة على السلطة الاحادية النمط اما السياسة الديمقراطية فتعتمد على التعددية والتنوع، ومنه يكون المجتمع هو صاحب حق القرار بحق نفسه وفي جميع شؤونه، اي تكون الادارة بيده وليس بيد قوى لا تعطيه اي اعتبار. وبدون سياسة ديمقراطية لا يمكننا تحقيق امة ديمقراطية تشمل كافة الاقليات والاقوام والشعوب تحت ظل نظام الكونفدرالية الديمقراطية.

” النزوعُ نحو القومويةِ والدولةِ القومية، والذي أُوقِظَ وأُجِّجَ بين صفوفِ مجتمعاتِ الشرقِ الأوسطِ في غضونِ القرنَين الأخيرَين، لَم يُؤَدِّ إلى حلِّ القضايا الوطنيةِ كما يُزعَم، بل بالعكس، يَؤولُ إلى تفاقُمِها كالتيهورِ والتِحافِها جميعَ الأنسجةِ الاجتماعية. فرأسُ المالِ يَفرضُ حربَ الدولتيةِ القوميةِ التدميريةَ بدلاً من التنافسِ الإيجابيّ. وما وضعُ الحربِ المُعاشُ في البنى الداخليةِ للمجتمعاتِ وفي علاقاتِها الخارجية، سوى باعثاً أولياً على وضعِ القضيةِ والأزمةِ والفوضى. ولن يَكُونَ عسيراً تشخيصُ هذه الحقيقة، بمجردِ رصدِ التجاربِ المُخاضةِ في كافةِ القضايا الوطنيةِ للمنطقة”_عبدالله اوجلان

ان الكفاح السياسي الذي يخوضه الشعب الكردي في غرب كردستان وسوريا لاجل تحقيق ادارة ذاتية ديمقراطية هو نموذج لسياسية ديمقراطية، ولولاها لمَ تمكن الشعب الكردي من تحقيق مطالبه بطرق ديمقراطية سلمية من جهة. ومن جهة اخرى فان هذا الكفاح يتمتع بقدرة التحول الى كفاح ديمقراطي تعددي مشترك على اسس مبادئ الدفاع المشروع. يمكن للشعب الارمني والاشوري والسرياني الذي يواجه خطر الابادة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية أن يتصدى لسياسة الانكار والابادة عن طريق السياسة الديمقراطية، وان تساهم هذه الشعوب في بناء النظام الكونفدرالي الديمقراطي في سوريا الى جانب الشعب الكردي الذي يؤسس اليوم نظامه الديمقراطي لادارة نفسه بنفسه، ويبني مجالسه الشعبية والمحلية. الى جانب ذلك هناك قوات الدفاع المشروعة التي تصد كافة الهجمات التي تستهدف الشعب الكردي والاقليات الاخرى، وتدافع عن الشعب بدون تمييز في عرقه ولغته، ومقاومة سري كانية كانت مثلاً حقيقيا في ذلك. ان وحدة الشعب الكردي والعربي والارمني والاشوري تحت ظل النظام الديمقراطي سيضمن أمن سوريا وبالتالي المنطقة ايضا. كما سينعكس هذا النموذج الاولي على كفاح الثورات العربية التي تسعى الى اسقاط النظام الدولتي الحالي وبناء نظام المجتمع الديمقراطي لاحياء المجتمع السياسي والاخلاقي في ظل الامة الديمقراطية في الشرق الاوسط

كاتب

التعليقات مغلقة.